تهدي (الكلمة) هذه القراءة المستبصرة المرهفة من شاعرة وناقدة مصرية قديرة لشاعرنا المرموق محمد صالح وهي تتمنى له الشفاء. وهي قراءة تكشف عن خصوبة تجربته الشعرية وفرادتها، وعن حساسية الناقدة / الشاعرة لمفرادتها المثقلة بالرؤى والدلالات.

قراءة في «لاشيء يدل» لمحمد صالح

فاطمة قنديل


محمد صالح واحد من الشعراء الذين يضعون مسألة تقسيم الشعراء إلى أجيال موضع ريبة. إنه – عمريا – ينتمي إلى جيل الستينيات في مصر، لكنه على مدى مسيرته الشعرية، وحتى الآن، بدا وكأنه لا ينتمي إلا إلى شيء واحد هو تمرده على مفهوم مسبق، حتى إن كان هو صانعه، للشعر، كأنه يعيد التفكير فيما يكتب وينقلب عليه، باحثا لا عن جوهر ثابت للشعر، بل عن الشعر في تحولاته وصخبه واحتدام معاركه وتغير رؤاه. لم يستكن في أي من دواوينه إلى رؤية ثابتة أو شكل ثابت، بل تنقل مع تطور حركة الشعر من شعر التفعيلة إلى قصيدة النثر، وظل داخل "قصيدة النثر" بمعناها المتعارف عليه، سكن إليها، وظل يبني بيته، شديد الخصوصية، على تخومها. ربما لهذا لم يختلف أي ممن يطلقون عليهم الأجيال الشعرية على احترام شاعريته،لأن الشعر الحقيقي من الممكن أن نختلف معه، اختلاف ذائقة، لا عليه.

أصدر محمد صالح خمسة دواوين شعرية: الوطن الجمر (1984) خط الزوال (1992)، صيد الفراشات (1996)، حياة عادية (2000)، مثل غربان سود (2005) وأخيرا أصدر ديوانه الأخير (لا شيء يدل) في مجلة (الكلمة) الالكترونية ثم أعاد نشره في جريدة أخبار الأدب في 19/10/2008 .

ينطوي الديوان الأخير على تسع عشرة مقطوعة متراوحة الأطوال، ومن يتصفح الديوان سيجد نفسه، للوهلة الأولى، أمام حال تذكر، تذكر الذات الشاعرة عالم القرية،الذي صار بعيدا الآن؛ عالم صغير منغلق على نفسه، يأخذ سمت الفردوس المفقود في الديوان، وطفولة لا يمكن أن تستعاد إلا عبر الذاكرة . النصوص هادئة هدوء سطح مياه النيل فوارة الأعماق، واللون الأخضر الذي يفتتح به فعل التذكر، وينسرب في الديوان كله، يبدو وكأنه يساهم في إضفاء هذه النبرة الهادئة على سريان الذاكرة، والقرية التي تستعاد بسيطة الملامح ـ كما نعرفها في الموروث الثقافي التقليدي عن القرى المصرية ـ لكن دلالة القرية التي نعرفها لا تلبث أن تصطدم بالعنوان "لاشيء يدل" وهو عنوان يجعلنا نعيد النظر في دلالة القرية التي نعرفها، وفي دلالة فعل التذكر أيضا.

إن العنوان "لا شيء يدل" قد يجعل القارئ يفكر في أنه لا شيء ذو دلالة، أو يفكر بأن "اللاشيء" هو الدال، ويضع نفي الدلالة بالمعنى الأول ميثاق قراءة – مبدئياـ بين القارئ والنص، فإذا كان البحث عن دلالة هو مقصد أية قراءة فإن العنوان لا يعد القارئ بتلبية هذا المقصد، وعلى القارئ أن يبحث عن مقصد آخر إذ يبدأ في قراءة النصوص، أو أن يضع في اعتباره الاحتمال الثاني: أن اللاشيء أو السلب هو الذي يدل ـ خاصة في مقام الخضرة والطبيعة، الأم الأولى التي تتلقى البذور والمطر ـ سأحاول أن أبني قراءتي على هذا الزعم الأخير ـ رغما عن العنوان ـ فالبحث عن الدلالة حق مشروع لجهد القراءة . نقرأ في النص الأول الذي عنوانه "أول الربيع":       

 حملته الخضرة الدانية على الذكرى

 كان ضحى

 كان الربع في أوله

 عندما حملها بين يديه

 وزرعها هناك

 مر وقت طويل إذن

 يمكنه بعد أسابيع

 أن يمد يده إليها ويأكل

في هذا المقتطف لا نجد أنفسنا أمام حال من السير المنطقي للأشياء، كما يحاول ظاهر المقطع أن يوهمنا، إن النتاج الطبيعي للإثمار في عالم القرية هو القطاف، غير أن القطاف هنا لا يبدو وكأنه نتيجة حتمية وإنما إمكانية (يمكنه بعد أسابيع)، ونحن لسنا موقنين هل ستتحول هذه الإمكانية إلى فعل أم لا، قد يمد هذا الجالس يده فيقطف الثمرة وقد لا يفعل، ولا ندري لماذا يجعلنا النص نتوجس من السير المنطقي للأشياء، هل لأن فعل القطاف هنا ليس فعلا ينتمي إلى عالم القرية، وإنما ينتمي إلى عالم آخر يخايلنا فيه فردوس قديم يمد فيه آدم يده إلى الثمرة المحرمة فيرتكب خطيئة الوجود الأولى؟ هل لهذا يصبح القطاف إمكانية لا حتمية؟ خوفا من أن يطرد هذا القاطف من فردوسه المزعوم؟!

تبدأ النصوص [بأول الربيع، وتنتثر دوال أنثوية تومئ للقارئ أن يتبعها: "عندما حملها بين ذراعيه"، "يمكنه بعد أسابيع"، "حملته الخضرة الدانية". الحمل ومرور الزمن شرطا القطاف، وشرطا الولادة، والتناقض الأساسي الذي يجعل القطاف إمكانية هو التناقض ما بين عنف القطاف، والطبيعة الأنثوية المرتبطة بالسلب، بالأرض، بفكرة تلقي البذور والحمل والميلاد، وهو لا يخلو من عنف أيضا، لكنه عنف المستقبل لا المقتحم، يفتتح الديوان بأنوثة كامنة، كأنه عبر الصفحات سينمو أمامنا مثل شجرة؛ وهل تدل الشجرة إلا على كونها شجرة؟!

الشجرة ذاكرة، جذور مطوية في أعماق الأرض‘ لا نعرف سرها، سر عذاب الأعماق الطويل كي تطلع من جوف الظلمة إلى نور الميلاد، ربما نلمس الأوراق لنتلمس رحلة البذور، رحلة الذاكرة، أو شيئا مما قد تبوح به.

يدلف النص إلى الذاكرة لا عبر ذكريات تهاجم الذات أو تقتحمها، بل بالذاكرة المحمولة على اللون الأخضر في هدوء يشبه حركة الأمواج الخفيفة وهي تلامس الشطآن، والهدوء في العودة إلى الذاكرة يشبه منطق الحمل، كما أشرت سابقا، في ضرورة التريث والتمهل وانتظار مرور الزمن، أعني أن الذاكرة بهذا المعنى لا تتجسد في نوستالجيا فحسب، بل في ميلاد جديد في آن. ولعل المألوف في التذكر هو أن يتذكر الإنسان المشهد بكامله ثم يستعيد تفاصيله، لكننا نقرأ في نص بعنوان: "لا شيء يدل":

 ربما كانت هناك

 ربما كنا نصعد إليها

 على درج خشبي

 ينتهي بشرفة مكشوفة

 تبدأ من عندها الحقول

 وتمتد إلى آخر ما نرى

يبدو أن الذاكرة التي يوهمنا النص باستعادتها هي نوستالجيا خادعة ؛ إذ تسير، في تصوري، عكس منطق التذكر، نحن هنا نبدأ من التفاصيل ( الدرج الخشبي ـ الشرفة) لننتهي إلى المشهد الأكبر "الحقول"، آخر ما نرى"، أعني أننا نتحرك لا من الكل إلى الجزء، وإنما العكس، مما يجعلني أفكر في أننا لسنا أمام نوستالجيا تجاهد في استعادة صورة الماضي وإنما أمام بناء ذاكرة، أو محاولة صناعة ذاكرة، قد تغاير الذاكرة الفعلية التي عاشتها الذات في المكان، وتحاول أن تشبه شجرة تصعد من الجزء ـ البذرة إلى الكل ـ الأوراق، تساير منطق الطبيعة، أعني أننا أمام لعبة توهمنا بالتذكر لكنها لعبة نمو، نمو حلم يقظة طويل، يستصفي الذاكرة الفعلية من كل صراعاتها وقبحها وأزماتها وحتى جمالها، ذاكرة تتفتح عبر النصوص دون صراعات، بل في مشاهد تبدو أقرب إلى الصورة الفوتوغرافية، ربما لأنها لا تسكن في بيت القرية، بل في بيت اللغة، حسب هايدجر، وتستلهم ما حدثنا عنه جاستون باشلار في "جماليات المكان" عن غلبة غياب الصراع في بيوت الأدب في الشتاء. ولكن لماذا يكون على الذات الشاعرة أن توازي بين نصوصها وسلب الشجرة أو الطبيعة؟ هل هو الخوف من الزوال واللوذ المعروف للرومانتيكيين بالطبيعة كي يتغلبوا على ذلك الأسى الحاد بزوال حياة الإنسان؟ لا أظن.

في "سرعان ما يأتي الصيف" أتصور أننا ننتقل من الأنا الرومانتيكية إلى ما يمكن أن أسميه: الشاهد المحايد، نقرأ:

 تأتي الكراكات

 وتطهر مجرى النهر

 ........................

 لكننا سرعان ما ننسى في الصيف

 تأتي البلابل

 ...............

 لكنها سرعان ما تطير في الصيف

 ترفع الفتاتان أذيال ثيابهما

 ..............................

 لكنه سرعان ما يعتكر في الصيف.

تلعب العبارة التي تدل على المحو دورها كقرار موسيقي يعاود الظهور في نهاية كل مقطع، كأن المحو هو القرار والثبات تنويعات على نغمة المحو، كأننا إزاء غزل ونقض، يعيدنا إلى الأسطورة الشهيرة حيث بينلوبي تغزل نسيجها وتنقضه كي ترجيء الزمن في انتظار أوديسيوس (والاستعارة الشهيرة في الشعر العربي في الستينيات والسبعينيات، غير أن لهذا حديثا آخر) عبارات المحو في المقتطف ليست حديث أنا رومانتيكية تحكي عذابها من زوال الأشياء، وإنما تبدو الذات هنا كأنها شاهد محايد، يشهد تحولات الزمن (من وراء الزمن كالطبيعة الخالدة؟) دون تعاطف أو أسى، شاهد قد سلم بقانون البقاء والزوال، مثله مثل شجرة، كآلاف الأشجار التي تصعد من جوف الأرض، وتشهد صخب الزوال والبقاء، تحني فروعها لقانون الطبيعة.

سنرى هذا الشاهد المحايد في كيفية تعامل النصوص على المستوى التقني مع تحولات الحياة الكبرى، نقرأ في"سكة البحر":

                   على طول الطريق من البحر

                   تأتي جموع الصبايا

بجرار مرفوعة

..................

كمن أبي لأمي

وضع الجرة عن رأسها

و حملها إلى الدار

إن تحولات الحياة الكبرى: تحددْ المصائر، بدء السلالة بزواج الأب من الأم يتم عبر حذف جزء بسيط من المشهد المألوف والمتكرر، الصبايا الحاملات الجرار يمررن، ولاشيء يحدث سوى: " وضع الجرة عن رأسها " الدلالة هنا تشتغل عبر حذف جزء من المشهد واللعب بتقنية الحذف ينسجم مع تشذيب الشجرة، ونزع أوراقها، كي تنمو باقي الأوراق، هكذا تفتتح السلالة، وهكذا تنتقل الصبية حاملة الجرة من حياة إلى حياة، أو إلى إنتاج الحياة . هذا التعامل مع أحداث الحياة وتحولاتها المصيرية نراه أيضا في " النول والدولاب" غير أنه يستخدم تقنية أخرى هي تحويل الحدث الرئيسي، أو ما يفترض أنه رئيسي، إلى هامش السرد، في شيء أقرب إلى إحباط أفق توقع القارئ (حسب تعبير ياوس) بأن يوضع الحدث المفترض أنه رئيسي في صدارة النص، لكنه ما إن يوضع هناك حتى يتم العبور عليه، بوضعه: أولا في عبارة تقريرية باردة ثم نفض اليد منه، والحديث عن تبعاته لا عن حضوره المأساوي، نقرأ:

                             مات أبواي في الوباء

                             وهو دون العشرين

                             وجد أخي الأكبر نفسه أبا

                             حتى تبقى الدار مفتوحة

                             ترك أخي دراسته

                             و عمل على النول

                             كان النول لأبي

إن موت الأبوين الذي يتصدر النص، ويوهمنا أنه سيكون مركز الحكي، يتم تقديمه في عبارة تقريرية محايدة تماما، ثم يتم الانتقال إلى الأخ، ولكن بعد لعبة صغيرة: " وهو دون العشرين، وجد أخي الأكبر ... "حيث الحكي يسير عكس منطق الإخبار فعبر الضمير الغائب المعطوف (وهو) يتصل غياب الأخ بغياب الأبوين، ويتصل الموت الفعلي بالموت المعنوي، ويصل الأخ بالوباء الذي يمتد إلى السلالة، ثم يطالعنا بعدها تحديد لذلك ال (هو) الأخ الأكبر في عكس منطق الإخبار، الذي من المفترض أن يبدأ من المعلوم إلى المجهول، من المتعين إلى الضمير الغائب، والتحولات الكبرى في حياة الأخ الأكبر نفسه، الذي يبدو وكأنه على وشك أن يتصدر المشهد (ترك أخي دراسته وعمل على النول) يتم تقديمها بالحياد نفسه الذي افتتح به النص، ثم يزاح الأخ الأكبر ليحتل النول مركز الحكي، وفي لعبة تحولات المركز إلى هامش يتبدى الحكي نفسه موازيا لحركة النول، التي تنطوي على الغزل والنقض،على الموت والحياة، وعلى إرجاء المصير المحتوم.

في نص آخر هو "مديح الخالة" تأخذ لعبة التحولات ما بين المركز والهامش تجليا آخر، نقرأ:

                   كان لا يزال طفلا

                   عندما ماتت خالته

بعدها ينفض النص يده من هذه الخالة، التي لا نعرف عنها شيئاـ سوى أنها الخالة أى أحد فروع السلالة ـ ويتحول المركزـ موت الخالة الذي يتصدر النص إلى هامش ليحتل طقس العزاء مركز الحكي:                           وذهب مع أمه إلى هناك

                   ورأى الناس تبكي

                   وفي غمرة انفعالهم

                   بكى طفلي أيضا

                   وحمل معهم الجسد المسجى إلى هناك

                   .......................

                   ثم وقف بينهم والدموع في عينيه

                   يتلقى العزاء

                   ..................

                   وعندما عاد من هناك

                   كان طفلي أكبر

وإذا كانت الذات الشاعرة قد عبرت في النول والدولاب على الحدث الأكبر وهو موت الأيوين ليحتل النول وحركة الغزل والنقض المشهد، فإن موت الخالة تتم مجاوزته هنا عبر تقنية أخرى هي مركزية الطقس، طقس العزاء الذي يعجل بالنضوج، حيث الطقس كما يراه ميخائيل باختين يجسد نواة الموقف الكرنفالى من العالم ؛ مغزى التناوب والتبديل، الموت والتجدد، وتحرير الواقع من سلطة أي شكل من التمايز، وهذا ما نراه هنا فالطفل يصبح متلقيا للعزاء وإذ يشارك في الطقس ينتفي تراتب أكبر – أصغر، والطفل يعجل بنضجه الطقس، لأنه مثل حركة النول والدولاب غزل ونقض، وقبول بالحياة والموت، وتصد للموت عبر السمة المميزة للطقس وهي الخفة والانحياز إلى متعة اللحظة، التي تسم خروج الحياة عن طابعها الاعتيادي، كما يحدث في الكرنفال، وإذ يتم تهميش الموت في صالح الطقس، يتم إبعاد الثقل المصاحب للموت "وسمع عويل النسوة على البعد" لتتحرر فكرة الموت من الأسى، وتحيد عبر دمجها بخفة الكرنفال. هذا اللعب بقلب دلالة العزاء في ارتباطها بالموت إلى ارتباطها بالنضج لا يختلف، فيما أتصور، عن تنحية الأحداث الكبرى عن مركز الحكي، إنه ليس إحباطا لأفق توقع القارئ، كما أشرت من قبل فحسب، وإنما تنحية الارتباطات المسبقة للدوال بمدلولاتها كما نتوقعها، وقلب التراتب ما بين ما قد نتصور بافتراض مسبق أنه المركز ليحتل ما لا نتوقعه مركز الحكي، وليس هذا بعيدا عن العهد الذي قطعه الديوان مع القاريء منذ البداية، إذا جاز لي أن أقول إنه " لا شيء يدل " تلك الدلالة التي تعرفونها !

هذه اللعبة نراها بشكل آخر في نص " الشباك" يبدأ النص بتذكر الخال:

                   لكنني كلما تذكرت خالي

                   تذكرت شباك غرفته

                   الشباك العالي

إن الخال مثله مثل الخالة يتم تجاوز موتهما ليتم التركيز لا حركة النول، ولا على الاحتفاء بالطقس، وإنما على الشباك العالي، وأشياء الخال الباقية في الغرفة: " الطربوش القاني، العصا الأبنوس .." غير أن هذا المشهد الذي يبدو صامتا لا يلبث أن يجعلنا نتساءل عن تلك العين التي تنظر، فنراها تنظر من الشباك لا إلى الخارج كما هو مفترض، وإنما تنكفيء على نفسها إلى داخل الغرفة، مبطلة الوظيفة الفعلية للشباك، ليطل لا على الخارج كما نعرف وإنما على أشياء الخال القابعة في غرفته بعد موته، ألا تخايلنا هنا أصداء شعائرية أخرى تحتفي باستمرارالحياة بعد الموت، تمد بجذورها إلى الفراعنة، إلى المقابر الفرعونية التي توضع فيها حاجات الموتى حتى إذا ما نهضوا وجدوها أمامهم؟

زعمت في مفتتح هذه القراءة أن النصوص في هذا الديوان لا تستعيد الذاكرة الفعلية في المكان، وإنما تبني ذاكرة عبر حلم يقظة يمتد عبر النصوص، غير أن الذاكرة، مع الأسف أحيانا، لا تنبني في فراغ الشعر، أو فضائه، بمعزل عن الذاكرة الفعلية التي تنطوي في داخلنا كالبذرة التي أورقت هذه النصوص، قد تخلو الذاكرة حين ُنسكنها بيت الشعر من الصراع، لكنها ما كان لها أن تسكن هذا البيت إلا هربا من الصراع . لعل نص " الطفل " يبرر ما أزعمه نقرأ:

           عندما دعينا لرؤيته أول مرة

                   تمنينا نحن جديه

                   أن تكون له ملامح أبيه في طفولته

                   لكن الطفل كان صورة من أمه

                   .........

                   شعرنا بغصة وكأنه ليس طفلنا

                   .........

                   فيما كان الطفل في المهد

                   يستلقي في هدوء

                   و يتطلع إلينا

                   وكأنما يحدق في فراغ

                   فجأة رفس منامته وعرى قدميه

                   كانت له قدمان جميلتان

                   و كان له لدهشتنا

                   إصبع سادس نحيل

                   ينام على إصبعيه الصغيرين

                   تماما كما كان لجدته

                   و في الموضع ذاته حيث استأصلته

في هذا المقتطف تتخلى النصوص عن حيادها المزعوم لتلجأ إلى هذه العبارة التي تنم عن عاطفة واضحة " شعرنا بغصة "، الغصة منبعها البحث عن الذاكرة في صيغتها المعهودة: التشابه والاستمرار أو "الإرث"، والغصة نفسها ستنقلب إلى نقيضها عند العثور على هذا الإرث "انحنينا نقبلهما بامتنان/ واندفعنا نحتضن االطفل " غير أن الإرث إرث وهمي في الحقيقة، زائد، كالذاكرة الفعلية، يخلق وهم الاستمرار لكنه " إصبع سادس نحيل " سيستأصل بالضرورة كما استأصلته الجدة " في الموضع ذاته " وما الطفل الذي يحدق في الفراغ، ويتطلع إلينا في هدوء، إلا ذلك الطفل الذي يحدق إلى ماضيه المتجسد في الجدين، لكن الطفل يحدق في فراغين، فيما أتصور، فراغ حضور الماضي المتجسد فيهما من ناحية، وفراغ الاستئصال المحتوم للإصبع الزائد النحيل لذاكرة لابد أن توجد لنمحوها ونستأصلها عبر التمني، أو عبر حلم اليقظة الطويل . لكن هذه الذاكرة التي نحاول الهروب منها ستدهمنا لا محالة لا لشيء إلا لأننا لا يمكننا أن ننفلت منها، إنها نائمة في منامة الطفل " فجأة رفس منامته وعرى قدميه " وفي بذرة الشجرة الكامنة في الأعماق تدهمنا " فجأة " بعنف " الرفس " الذي يعري ويرفض، ولكنه يكشف عن الجذور والإرث، ووهم الاستمرار، وضرورة الاستئصال في الوقت نفسه، وليس الإصبع الزائد النحيل في هذا السياق سوى الوجه الآخر للوباء الذي مات به الأبوان وسرى إلى الأخ، وإذا كانت النصوص –عبر تقنياتها في بناء ذاكرة ساكنة السطح ـ قد أفلحت في إخفاء الغصة التي سكنت الذاكرة الفعلية، فإنها لم تستطع أن تفلت منها، كما لا تستطيع الشجرة اقتلاع جذورها دون اقتلاع حضورها نفسه . لعل هذا ما يجعل الإرث ينتقل من الجدة لا من الجد، من أصل الشجرة،من السلب، وتلقي البذور، وإيداعها الأعماق.

ما بين الحياة والموت، الذاكرة الفعلية وصناعة حلم اليقظة، تصل بنا رحلة النصوص إلى ختامها إلى "حياة أخرى " نقرأ:

                   لو حدث هكذا

                   يكون شيئا حسنا

                   تفتح الباب وتجدني

                   باب الشرفة مفتوح

                   ................

                   و أنا مستلق هناك

                   و ساقاي بطولهما على الطاولة

                   الكتاب في حجري

                   و إلى جواري سجائري

ليست الحياة الأخرى فيما وراء الحياة، وليس الفردوس المفقود سوى "حياة عادية"، هو الحلم بأن نعيش، فحسب، كما نريد، نستقبل الوجود ويقبلنا الوجود، الحياة البسيطة لشجرة تدفن رحلة جذورها المريرة في الأعماق، والأسئلة الكبرى للحياة والموت، حلم الحياة البسيطة لذلك الجالس الذي نفتح الباب ونجده في غرفة قد تكون غرفة الخال، الذي مضى أو الأبوين اللذين ماتا في الوباء، أو الخالة، أو حتى الإصبع السادس الزائد الذي لا مفر من استئصاله. فقط أن نحيا ذلك الانفلات للحظة، ربما تكون هي الدلالة ؛ من بين كل ما ظننا أن له دلالة ‘ انفلات الحلم والكرنفال، نجلس في بيت من بيوت الأدب " والكتاب في حجري " طفلا نهدهده دون صراع، شأن أي بيت من بيوت الكتابة، قد يكون كوخا، وبجواره شجرة، تشبهنا . ربما!