رسالة المغرب الثقافية

حراك سينمائي وسجال حول محمد زفزاف

عبدالحق ميفراني

الفيلم الوثائقي، شاشة المرأة والفيلم المتوسطي القصير

احتضنت مدينة خريبكة النسخة الأولى للمهرجان الدولي للفيلم الوثائقي، لينضاف الى مهرجان السينما الافريقية التي دأبت المدينة على احتضانه. الدورة الأولى من هذا المهرجان احتفت بفلسطين. وعرفت مشاركة فاعلة للعديد من المخرجين {مشاركة ثلاثة عشر مخرجا يمثلون عشر بلدان هي السعودية ومصر وفلسطين ولبنان وسوريا والجزائر وفرنسا وبلجيكا وموريتانيا والمغرب البلد المنظم}. فعاليات الدورة الأولى للمهرجان الدولي للفيلم الوثائقي، نظمت تحت شعار: «الفيلم الوثائقي في خدمة قضايا التنمية»، من تنظيم جمعية المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بخريبكة، بدعم من المركز السينمائي المغربي والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية. وشهدت الدورة احتفاءا بالفيلم الوثائقي الفلسطيني، وبدولة فلسطين ضيفة شرف المهرجان، بمناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية.

وقد تبارت على جوائز المهرجان الرسمية، أحد عشرة فيلما هي: «العكاز» للمخرج عبد السلام شحادة من فلسطين، و"الدقة الرقمية في ترتيب المصحف الكريم" للمخرج إيهاب ممدوح من السعودية، و"الجواهر الثلاث" للمخرجين جمال الدين شرفي وسمير حميدي من الجزائر، و"صنيي العالم الصغير" للمخرج محمد إيدوم من موريتانيا، و«اللفيف» للمخرج عز الدين سعيد من مصر، و«خادمات للبيع» للمخرجة ديمة الجندي من لبنان، و«ملامح دمشقية» للمخرج ريمون بطرس من سوريا، و«من الرمل إلى الإسفلت» للمخرجين مرسيي لوسيل وعبد الرحمان أحمد سالم من فرنسا، و«في انتظار الثلج» للمخرج ياسين الإدريسي من المغرب، و«ساحة موسكو» للمخرج محمد بوهاري من بلجيكا، و«جدل» للمخرج فايق جراردة من فلسطين.
وقد ضمت لجنة التحكيم الخاصة بجائزة النقد، كلا من الناقدة ومديرة المهرجان الوطني لفيلم الهواة ضمير الياقوتي، والممثلة والمخرجة المغربية بشرى إيجورك، والكاتب الروائي عبد الكريم جويطي.. كما عرفت الدورة تنظيم ندوة تمحورت حول موضوع «الفيلم الوثائقي وقضايا العولمة»، بمشاركة المخرج القطري محمد بلحاج، والناقد إبراهيم المزدلي، والناقد ورئيس المركز المغربي للتربية على الصورة حمادي كيروم. الى جانب فقرة تكريم التي احتفت بالمهندس مصطفى بن امبارك مرجان، الذي قضى ما يربو عن 42 سنة في تصوير الأنباء المصورة المغربية والأفلام الوطنية والأجنبية، والدكتور محمد عتيق باري، رئيس أقدم ناد سينمائي بخريبكة. الدورة الأولى سعت "إلى نشر ثقافة الصورة بشكل عام، وثقافة الصورة الوثائقية بشكل خاص في خريبكة".

وقد عادت الجائزة الكبرى للمهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بخريبكة، في دورته الأولى، للمخرجة اللبنانية ديما الجندي عن فيلمها " خادمات للبيع"، كما فاز الفيلم ذاته بجائزة لجنة تحكيم نقد الفيلم الوثائقي وكانت جائزة لجنة تحكيم المسابقة الرسمية من نصيب المخرج المغربي الشاب ياسين الإدريسي، الذي حاول في أول إنتاج إبداعي له بعنوان "في انتظار الثلج" توظيف الصورة في رصد الحياة اليومية لطفل ينحدر من أسرة فقيرة، من أجل التعبير عن حقيقة واقعه المأساوي بإحدى القرى النائية على مقربة من مدينة إفران. وفيما يخص جائزة مدينة خريبكة ، فقد عادت إلى فيلم "اللفيف" للمخرج المصري عز الدين سعيد. أما فلسطين، والتي كانت ضيف الشرف، فقد استهلت حفل التتويج برسالة وجهها اثنان من المبدعين السينمائيين حيث عبرا من خلال شريط فيديو عن أسفهما لعدم تمكنهما من حضور المهرجان بسبب الحصار المضروب على قطاع غزة..

أما مدينة سلا فقد احتضنت أنشطة الدورة الثالثة لمهرجانها الدولي لفيلم المرأة المنظم من طرف جمعية أبي رقراق،  المهرجان الذي رسخ هويته بنوعية تخصصه ويحاول مع توالي الدورات خلق تميزه وطنيا ودوليا. وتضمن برنامج، الدورة الثالثة، المسابقة الرسمية الخاصة بالأفلام الطويلة التي شارك فيها 12 فيلما من بينها 9 أفلام من تونس و البيرو و فلسطين و سوريا و مصر و بلجيكا و الصين و الولايات المتحدة الأمريكية و المغرب الممثل بفيلم "خربوشة" للمخرج حميد الزوغي، و 3 أفلام من إنتاج مشترك بين البوسنة و فرنسا و ألمانيا... ، و بين فرنسا و الماسيدوان، و بين بريطانيا و بلجيكا و إسبانيا و إيطاليا. وضمت لجنة التحكيم 7 نساء، هن، إيزولد بارث (ألمانيا) رئيسة، صولفييك أنسباش (إيسلندا)، ويامنة الشويخ (الجزائر)، ودانا شوند يلمايير (الولايات المتحدة)، وساندرين راي (فرنسا)، وعلا الشافعي (مصر)، وإيمان المصباحي (المغرب).
وبمناسبة الذكرى الخمسينية للسينما المغربية، نظم حفل التكريم، الذي خصصته الدورة الثالثة من المهرجان الدولي لفيلم المرأة بسلا، لعشر مخرجات مغربيات من بينهن { فريدة بورقية، وفريدة بليزيد، وإيمان المصباحي، ونرجس النجار، وزكية الطاهري، وليلى كيلاني، وياسمين قصاري،..}، بمناسبة مرور 30 سنة على أول فيلم نسائي مغربي.. وتم بهذه المناسبة عرض ستة أفلام مغربية هي «باب السما مفتوح» لفريدة بليزيد، « جنة الفقراء» لإيمان المصباحي، «الراكد» لياسمين قصاري، «انهض يا مغرب» لنرجس النجار، «طريق العيالات» لفريدة بورقية و "نامبر وان" لزكية الطاهري. كما اختار منظمو هذا المهرجان بعض الشخصيات التي اهتمت في أعمالها بالمرأة من بينها المغربية نعيمة السعودي والمخرجة و الناقدة السينمائية الفلسطينية علياء أراسوغلي و المخرج و المصور السينمائي ومدير الخزانة السينمائية سابقا السلاوي عبد الله بايحيى.

و تميزت الدورة الثالثة، التي استضافت السينما الفلسطينية كضيف شرف،  بعرض ستة أفلام مغربية قصيرة من إنجاز 6 مخرجات مغربيات، و عرض 18 فيلما قصيرا و طويلا لمخرجات فلسطينيات،

عموما، عرفت فعاليات شاشة المرأة تقديم حوالي 50 شريطا سينمائيا، 12 في المسابقة الرسمية. بين القصير والطويل، لمجموعة من المخرجات المغربيات، كشريط "الراكد" لياسمين قصاري، و"نامبر وان" لزكية الطاهري، و"انهض يا مغرب" لنرجس النجار، و"باب السماء مفتوح" لفريدة بليزيد، و"طريق العيالات" لفريدة بورقية، و"جنة الفقراء" لإيمان المصباحي، و"الثوار الجدد" لبشرى إيجورك، و"الحفلة" لخديجة علمي، و"طرابق وشاشية" لسميرة الحيمر، و"شفت + حذف" لجيهان البحار، و"التفاحة" لكوثر دريد، والأشرطة الأخرى لمخرجات فلسطينيات، افتتحت في المهرجان بشريط "أميركا" للمخرجة شيرين دعيبس، وهو من إنتاج مشترك لفلسطين، وأميركا، وكندا، والكويت، وتلتها أشرطة عرضت في قاعة للمحاضرات بالمركب السينمائي الداوليز، احتفاء بالسينما الفلسطينية كضيفة شرف، ومن بين تلك الأفلام نذكر: "أربع أغنيات من أجل فلسطين" لندى الياسر، و"حبل الغسيل" لعلياء أراسوغلي، التي جرى تكريمها رفقة المخرجات المغربيات، ومنحت لها الشهدة الذهبية لمدينة سلا، و"25 كلمترا" لناهد عواد، و"العودة" لغادة طيراوي، و"صيف 85" لروان الفقيه، و"بيكفي ميشان الله" لسهى شومان،...

أما الأفلام التي شاركت في المسابقة الرسمية فهي: " ملامح نساء صينيات" للمخرجة الصينية يين ليشوان، و"الثلج" للمخرجة البوسنية عايدة بيجيك، و"خلطة فوزية" للمخرج المصري مجدي أحمد علي، و"إنه عالم حر" للمخرج البريطاني كين لوش، و"أنا من تيتوف فيلس" للمخرجة المقدونية تيانا ستروغار، و"خربوشة" للمخرج المغربي حميد الزوغي، و"حليب الخوف" للمخرجة البيروفية كلوديا يوسا، و"شطر محبة" للمخرجة التونسية كلثوم بروناز، و"ملح هذا البحر" للمخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر، و"ويندي ولوسي" للمخرجة الأميركية كيلي ريتشارد، و"حسيبة" للمخرج السوري ريمون بطرس، ثم "رومبا" سيناريو وإخراج: دومينيك ابل، وفيونا غوردون، وبرونو رومي.  

هذا الى جانب تنظيم ندوتين، الأولى حول الإنتاج السينمائي، شاركت فيها مجموعة من المنتجات من المغرب وفرنسا وبلجيكا وتمحورت حول مجموعة من القضايا المطروحة، من بينها: {ظاهرة المخرجة المنتجة، الإنتاج المشترك، وما يواجه من عوائق مالية وإدارية، المرأة المنتجة وكيفية التعامل معها من طرف الجهات المعنية، هل ممارسة مهنة منتج، يمكن التعاطي معها، في إطار مالي بحث يهدف إلى الربح، أم أنها أساسية في كل عمل إبداعي سينمائي} الندوة الثانية كانت حول السينما الفلسطينية ، ساهمت فيها بشكل أساسي المخرجة الفلسطينية علياء أرسو غلي، التي من خلال مداخلة في الموضوع تطرقت إلى وضعية السينما الفلسطينية وما يواجهه المخرجين والمخرجات من صعوبات وعراقيل في النهوض بهذه السينما، خاصة في ظل الحصار والقيود المفروض على تحركات السينمائيين وعرض إبداعاتهم خارج فلسطين.

وقد تمكن فيلم "حليب الخوف" من الحصول على الجائزة الكبرى في حفل اختتام الدورة الثالثة لمهرجان فيلم المرأة الدولي  بسلا، فقد شهدت قاعة هوليود ليلة يوم السبت 3 أكتوبر من الشهر الماضي، الإعلان عن جوائز الدورة الثالثة للمهرجان. فكانت الجائزة الكبرى من نصيب فيلم "حليب الخوف" من البيرو، وجائزة أحسن دور نسائي للممثلة المغربية هدى صدقي عن دورها في فيلم "خربوشة" للمخرج المغربي حميد زوغي، وجائزة أحسن دور رجالي للفنان المصري فتحي عبد الوهاب عن دوره في فيلم "خلطة فوزية"، والجائزة الخاصة للجنة التحكيم للفيلم الأمريكي "ويندي أند لوسي" جائزة أحسن سيناريو لفيلم "الثلج" وهو إنتاج مشترك بوسني وألماني وفرنسي وإيراني.

أما طنجة، فقد شهدت تنظيم المهرجان المتوسطي السابع للفيلم القصير، أيام 12 ـ 17 أكتوبر الماضي. وشهد حفل الافتتاح عرض شريط " الحافة " للمخرج المغربي فوزي بنسعيدي {رئيس لجنة التحكيم} الشريط المتوج ب23 جائزة  في مهرجانات عالمية، وترأس السينمائي المغربي فوزي بنسعيدي  لجنة تحكيم هذه الدورة والتي تكونت من بوعلام عزيبي {الجزائر}، حميد العيدوني ناقد أكاديمي يدرس السينما بكلية الآداب بجامعة عبد المالك السعدي بالمغرب ومدير مجموعة الأبحاث والدراسات السينمائية والسمعية البصرية، وماريان خوري  وهي جامعية مصرية، وباولا سطاراكيس وهي  جامعية من مواليد بروكسل ببلجيكا، وسلمى بركاش وهي جامعية مغربية مؤلفة ومخرجة سينمائية، ووليام أزيلا وهو منسق البرامج الثقافية بالقناة الإيطالية RAI .

واتسمت هذه الدورة  بمشاركة الفيلم الفلسطيني "شويش ، شويش"  من إخراج رياض دعيس وفيلم "غزة لندن" من إخراج ديمة حمدان، وفيلم "ليش صابرين" إخراج مؤيد العيان.وفيلم "أنا وعرفات" من إخراج مهدي فليفل. وهي أول مشاركة لأفلام فلسطينية في هذا المهرجان. وشارك في المسابقة الرسمية لهذه الدورة 58 شريطا قصيرا من 20دولة متوسطية {إسبانيا وفرنسا وإيطاليا والبرتغال واليونان وتركيا ومالطا وقبرص ، صيربيا ، سلوفينيا، سوريا، مصر، تونس}.

ويمنح مهرجان الفيلم المتوسطي القصير ثلاثة جوائز هي الجائزة الكبرى لطبنجة، وجائزة لجنة التحكيم، وجائزة السيناريو. المغرب، الذي شارك في المسابقة الرسمية بخمسة أفلام، أنتجت بين الدورة السابقة والحالية، وهي أفلام "التعيين"، لخليل ورضوان فاضل، و"ألو بيتزا"، لمراد الخوضي، و"المشهد الأخير"، لجيهان البحار، و"ليلة العرض" لمحمد العبداوي، و"بوبية"، لسامية الشرقاوي.
المهرجان المتوسطي للفيلم القصير بطنجة، أضحى "مناسبة لتبادل الأفكار بين السينمائيين المتوسطيين، كما أنه جسر لتحقيق العبور بالفن بين مختلف بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط"، وقد أعلنت لجنة التحكيم عن نتائجها إذ فاز بالجائزة الكبرى للمهرجان، الفيلم الفرنسي "لوصو دي دو فو" (قفزة مجنونين) لمخرجته أليكساندرا غرو دو سولا، وحصل الفيلم البرتغالي "كولد داي" (يوم بارد) لمخرجته كلوديا غيرجاو بجائزة لجنة التحكيم الخاصة للمهرجان، في حين عادت جائزة السيناريو للفيلم القبرصي- اليوناني "نوتيس" (إرشادات) لمخرجه كونستانتينوس يالوريدس..

سجال حول تدريس "محاولة عيش" للكاتب الراحل محمد زفزاف

اعترضت صحيفة محسوبة على حزب أصولي مغربي على رواية الكاتب والروائي الراحل محمد زفزاف "محاولة عيش"، من أجل اتخاذها نصا تربويا {الرواية تدرس منذ 3 سنوات لتلاميذ السنة التاسعة من التعليم الإعدادي المغربي} الى جانب باقي النصوص. بالتركيز على المعايير الأخلاقية، إياها، مطالبة بمنع نص "محاولة عيش" من العيش والتعايش مع باقي النصوص الروائية في مخيلة أبناءنا وبناتنا.

الموقف الذي لم تستسغه العديد من الهيئات والمنظمات والأحزاب السياسية، واستنكرته بشدة، معربة عن قلق من التلويح مجددا ب"ثقافة المنع". وقد قامت صحيفة "الاتحاد الاشتراكي" بالدفاع عن الرواية وخصصت لذلك ملفا استكتبت فيه عددا من النقاد والباحثين والكتاب المغاربة، ورأت الصحيفة أن هجوم صحيفة التجديد على الرواية المشار إليها "يتأسس على معايير أخلاقية لا تستقيم بالضرورة مع المعايير الجمالية للأدب والتحليل الأدبي ولا مع الشرط البيداغوجي للعملية التربوية التي لا تستجيب للشرط العلمي الأكاديمي البعيد عن أية حسابات سياسية أو معايير أخلاقية. ذلك أن العملية التربوية، هي عملية معقدة، مركبة ومتداخلة، غايتها منح كل الإمكانيات للناشئة المغربية، من أجل امتلاك رؤية منفتحة عن العالم، وعن القيم وعن التعدد، مما يقوي من الملكة النقدية والتحليلية لهذه الأجيال المغربية.."

وننشره هنا تناولا لفصول هذا السجال من خلال الشهادات التالية:

الشاعر والناقد عبداللطيف الوراري:

عاد اسم الروائي المغربي محمد زفزاف (1945 ـ 2001) إلى الواجهة هذه الأيّام، ليس في سياق تكريمه وردّ الاعتبار لمجمل أعماله كواحدٍ من أهمّ كتّاب الرواية والقصة القصيرة، وأنبغهم وأنفذهم وعياً وخيالاً في تاريخ الأدب المغربي الحديث برمّته، فهذا ممّا لا يحدث أصلاً في بلدٍ يقتل نبغاءه ومثقّفيه الأدواء من كلّ ضرب، بل بعدما هاجمت صحيفة 'التجديد'، المقربة من حزب العدالة والتنمية الإسلامي المعارض، روايته "محاولة عيش"، وكتبت بصدر صفحتها الأولى، في عددها 2221 (25-27 شتنبر 2009 )، «استنكار اعتماد "رواية" لاأخلاقية لتلاميذ السنة التاسعة"، «تدور مجمل أحداثها في الحانات والبارات»، وأنّ بها «حياد اتجاه تعاطي الخمر والتدخين والزنا وعقوق الوالدين». وهكذا تبرِّر اعتراضها على الرواية،التي تم إقرارها منذ ثلاث سنوات في منهج السنة التاسعة من المرحلة الإعدادية، بأن مضامينها لا تتناسب مع المستوى التعليمي، وتتعارض مع القيم التربوية للمدرسة المغربية، فتساءلت: "ما الذي يُنتظر من متعلم في سن المراهقة، يُعرض أمامه نموذج خجول سلبي لا موقف له مثل شخصية بطل الرواية، ثم تمضي أحداث هذا العمل الأدبي التي تدور معظمها في الحانات والبارات، لتنتهي في الأخير إلى أن هذا البطل اكتشف ذاته واكتشف العالم من حوله من خلال علاقته الجنسية بمومس، بل تقدم له الرواية الاستسلام للخمر كحلّ للمشكلات النفسية التي تعترضه؟".   لكنّ ذلك التأويل الأخلاقي للرواية كعملٍ أدبيٍّ مخصوص، أثار آراءً رافضةً وغاضبة في أوساط الأدباء والمثقَّفين الذين رأوا في الأمر تضييقاً لحريّة الأدب وارتداداً جماليّاً صارخاً، معتبرين أنّ مقال الصحيفة سقط في خلط واضح بين الأدب والفن وبين الأخلاق المعيارية، كأنّ هذه المعايير أخلاقية تستقيم،بالضرورة، مع المعايير الجمالية للأدب وللتحليل الأدبي، أو حتى مع الشرط البيداغوجي للعملية التربوية الذي يفترض فيه أن يمنح ناشئة القراءة ملكة نقدية وتحليلية منفتحة وقادرة على امتلاك رؤية عن العالم في قيمه المتعدّدة، طالما أنّ الأدب يعبِّر في جوهره عن المهمّش واليومي المبتذل ممّا اختصّ أدب زفزاف، ولكن بمسافةٍ جماليّة وتخييليّة خاصّة، غير نمطيّة. وهو ما جعل البعض يرى في محاولة منع الرواية من التداول الدراسي "عودةً إلى محاكم التفتيش السيئة الذكر" أو في حكم "الغارة الإرهابية"، إذ تجسِّد موقفاً متخلّفاً ورجعيّاً من الإبداع الأدبي السردي القائم على التخيُّل والابتكار، وارتياد آفاق المجاز والاستعارة. وسخر البعض بقوله إنّ "رواية «محاولة عيش» لا تحاكي ما يقع في جزر الباهماس!"، بل تتحدّث بكلّ بساطة عن الواقع المغربي منذ الستينيات في تحوّلاته الاجتماعية المتسارعة، كما فعل نجيب محفوظ في مصر، وهنري ميللر في الولايات المتحدة الأمريكية. وهو ما فهمه البعض الآخر بأنّه "هجوم على الأدب المغربي بصفة عامة"، ممّا يضرب بكلّ مجهود للتصالح بين المنظومة التربوية وأدبها الوطني عرض الحائط. لكنّ أطرف الآراء ذلك الذي رأى في السجال الدائر حول رواية مقررة في برامج التعليم بمثابة خلاف حقيقي قد يعصف بالتقارب بين حزبي 'الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية' و'العدالة والتنمية' بحكم اختلاف مرجعيّتيْهما سياسيّاً.
وتذكّرنا محاولة منع الرواية من التداول في المدرسة المغربية بمواقف مماثلة حدثت لأعمال أدبيّة عربيّة مُنعت أو صودرت سواء من طرف السلطة السياسية أو الدينية، وتعرّض أصحابها في حياتهم لتضييقات محاولات بالقتل، من مثل روايات "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح و"أنا حرّة" لإحسان عبدالقدوس و"أولاد حارتنا" نجيب محفوظ و"الخبز الحافي" لمحمد شكري و"وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر، وليس آخرها "الأعمال الكاملة" لأنسي الحاج، بتهمة "المسّ بالذات الإلهية".  وبصرف النظر عن هذه المواقف والمواقف المضادة، فإنّ "محاولة عيش"، إحدى روايات محمد زفزاف الثماني إلى جانب ورايات "المرأة والورد 1972 و" أرصفة وجدران" 1974و"قبور في الماء" 1978 و"بيضة الديك" 1984 و"الثعلب الذي يظهر ويختفي" 1989، عدا مجموعاته القصصية الستّ، هي محاولة جريئة لفهم الواقع المغربي، ويمكن تصنيفها داخل الرواية الأطروحة أو roman à thèse بتعبير سوزان سليمان، التي وضعت نصب عينيها نقد ذلك الواقع بدل تمجيده وتكريسه.
تحكي الرواية عن شخصية البطل حميد الذي يعيش مع والديه المتسلّطين في البراريك (دور الصفيح). يُجبر على العمل بائعاً للصحف، ويتجول ليلاً في حانات المدينة التي يرتادها الجنود الأمريكيون، مستغلين فقر الفتيات القادمات من القرى المجاورة بحثاً عن عمل، بما في ذلك"غنُّو" التي خلصها من أحد الجنود، وأصبحت خليلته فيما بعد. يتعرّض للشتائم من الجميع. يجد الملاذ أحياناً عند اليهودية صاحبة المطعم الفخم الذي تسمح له بأكل بقايا الطعام. يملك "بركة" في الفناء بعد بلوغه الثامنة عشرة، فيتزوج وفق المراسم الشعبية المعتادة، ويتحول الاحتفال في النهاية إلى معركة، بعد أنّ يكتشف أن زوجته العرجاء لم تكن عذراء. يقاوم حميد ضغط الفقر والمجتمع في محاولة للعيش.. محاولة تريد أن تنجح مهما كانت الظروف المحيطة وضغوط الحياة. إنّها رواية الهامش التي ترصد معاناة الطبقة المسحوقة في المغرب، وتلتزم بالتعبير عن مشكلاتها المصيرية. ولو قُدّر للكاتب محمد زفزاف أن يحيا بيننا اليوم، لكان قد كتب رواياتٍ جديدة صادمة أكثر من "محاولة عيش" التي كتبها في أواسط الثمانينات، بالنظر إلى حركيّة الواقع المغربي المتحوِّل باستمرار، وهو ما يعمى عنه، على السواء، أصحاب القراءات المغرضة والمطمئنة وكتّاب الرواية المغاربة الّذين انصرف معظمهم إلى محكيّات ذاتية وفنطازية وتجريبيّة متهافتة..."

الناقد عبدالفتاح الحجمري: "الأدب ليس عقيدة..ومجاله ليس الإيمان"
"بصرف النظر عن خلفية محاولة منع رواية «محاولة عيش» لمحمد زفزاف، فإن "فكرة الأدب" في حد ذاتها لا ترجح هذا التعريف للأدب أو ذاك، لارتباطها، في المجمل، بخطابات فلسفية ونقدية عامة ومختلفة. كما أن الأدب يحمل في مضمراته هاجس محفز للتعبير عن المهمش، وعن الخارق، وعن اليومي المبتذل، ولكن بمسافة جمالية معينة.
إن التلميذ أو الطالب- في الحالة التي نناقشها الآن- يلتقي بالنص عن طريق المدرس، أي عن طريق وسيط. ومن الضروري الاهتمام بهذا الوسيط الذي ينبغي أن يجعل التلميذ مطلعا على كل أشكال الأدب، وعلى كل أصناف التعبير، إذ ليس لأحد الحق في أن يلقن التلميذ أدبا موجها. وإذا كان الأدب مازال يتمتع بقوة التأثير في المجتمع، فينبغي الدفاع بقوة عن التخلي عن أي نظرة أحادية تطمح إلى تسييجه بعقيدة معينة، أو إلى توجيه أذواقنا وسلوكنا نحوه.
إن تدريس الأدب في المدرسة أو الجامعة ينبغي أن يتم بالإصغاء إلى النصوص، وإلى الأفكار، مهما كانت صادمة، ومهما كانت مفتقدة للتناغم مع الواقع، لأن من شأن هذا الإصغاء أن يغذي التعدد والاختلاف، ويتيح التعرف أكثر على ما يحيط بنا من التباس، ومن هم، ومن غم.. لأن الثقافة لا تتشكل إلا عبر لغة الأدب وإحساس الأديب.
ثم إن الأدب ليس عقيدة، ومجاله ليس الإيمان. الأدب تربية وتكوين للوجدان، ومعرفة مشرعة على الممكن والمحتمل برؤية انتقادية ضد كل أنواع التصديق، ولا ينبغي أن يدرس الأدب كفكرة نمطية. ولذلك لابد من الدفاع عن التخييل، وأن نعلم التلميذ، لا أن يحب النص الأدبي، بل أن يسائله بقلق..

maroc@al-kalimah.com

alkalimah_maroc@yahoo.com