في رسالة نشرتها مجلة )فتاة الشرق( لمندوبها في فلسطين، يستعيد باب علامات فصلاً من تاريخ نضال النسويّة العربية في الأرض المحتلة، وفيه نتلمس ارتباط قضية تحرر المرأة الفلسطينيّة بالبعد الوطني، إضافة لصلته مع النسويّة الكونيّة لما لطبيعة العلاقة القائمة بين المهيمن والتابع من ارتباط بالمعنى البطرياركي أو الاستعماري.

نساء فلسطين.. نهضتهنَّ السياسية

أثير محمد على

أصدرت لبيبة هاشم (1882-1952) مجلتها "فتاة الشرق" الشهرية في مصر سنة 1906، واستمرت بالصدور حتى عام 1939، لذلك تعتبر من المجلات المثابرة في عالم الصحافة قبل انتصاف القرن العشرين. ولا نقول من المجلات النسائية لأن لبيبة هاشم في تعريفها لمجلتها حرصت على تغييب هذه الـ"نسائيّة" التي تقصر جمهورها على النساء فقط، والتي ميزت المجلات التي حررتها النساء بشكل عام، وهذا إن دلّ على شيئ فإنه يدل على أن لبيبة هاشم أرادت أن تتوجه بخطابها الأخلاقي التنويري إلى المجتمع ككل.

حبّرت لبيبة هاشم لمجلتها المقالات، وحررت الدراسات، ونشرت فيها خطبها التي كانت تلقيها في النوادي والجمعيات المختلفة، سواء في مصر أم في بلاد الشام. وفي عام 1911 اختيرت من قبل إدارة الجامعة المصرية لإلقاء محاضرات في التربية في صالة خصصت للطالبات، فكانت من أوائل المهتمات بالموضوع التعليمي والتربوي كركيزة أساسية للنسوية العربية، إضافة لأنها بعملها هذا تركت اسمها في تاريخ الحداثة العربية كأول امرأة محاضرة في المؤسسة الأكاديميّة الجامعيّة. كما ثابرت على تأريخ سير النساء الفاعلات في زمنها، من الثقافة العربية والغربية، فخصصت باب "شهيرات النساء" لهنَّ، كما تناولت المكانة الاجتماعية للمرأة التركية والأوربية والأميركية والأميركية اللاتينية، وترجمت وألفت أبحاثاً موسعة في التربية، والأخلاق، والعلوم نشرتها تباعاً في المجلة أو ملاحقها، قبل أن تجمعها لإصدارها في كتاب مستقل. كما نشرت في دوريتها أعمالها الأدبية في أجناس متنوعة.

انغمست مجلة )فتاة الشرق( وصاحبتها في تاريخ المرحلة وتحولاتها الكبرى والصغرى، فرصدت الأحداث التاريخية المؤثرة في زمنها وتفاعلت معها جدلياً، مما يمكن القول معه أن المجلة ترصد تطور صاحبتها الفكري والثقافي وتبدلات الانتماء السياسي من العثمانية إلى تأييد المرحلة الدستورية (1909)، فالانتماء لـ"العربية" ببعدها السياسي والثقافي، فاختيرت من قبل ساطع الحصري كأول مفتشة معارف خلال الحكومة الفيصلية سنة 1921 في دمشق، إلا أن معركة ميسلون (24 تموز 1921) ووقوع سوريا تحت الاستعمار الفرنسي أودت بمهمتها الرسمية هذه، ودفعتها لرحلة طويلة في أوربا وأميركا اللاتينية حتى وصلت إلى تشيلي، فأصدرت فيها مجلة "الشرق والغرب" لمدة عام قبل أن تعود إلى مصر سنة 1924، كي تتابع من جديد ناصية التحرير لـ"فتاة الشرق" والتي كانت تركت إدارتها لابنتها أليس أسعد داغر خلال فترة غيابها.

في جميع الأحوال، ومراحل حياة لبيبة هاشم دائماً كان التأكيد على مصريتها حاضر، رغم مسقط رأسها اللبناني، خاصة في صيغ الخطب والمقالات التي رامت منها إصلاح وضع المرأة في المجتمع المصري.

ومع نهاية عقد العشرينات وفي ثلاثينات القرن العشرين تأخذ مجلة "فتاة الشرق" بالاهتمام بالقضية الفلسطينية وتشرح للقراء "الصهيونية" وتنبه من خطر الهجرة اليهودية. ولباب علامات اخترنا رسالة نشرتها "فتاة الشرق" لمراسلها في فلسطين يطلعها على مجريات المؤتمر النسوي الأول، وإصرار النساء الأعضاء على تخطي قرار السلطة الاستعمارية حين لم يتنازلن عن حقهن بالتظاهر السلميّ.

لقارئ "الكلمة" نترك رسالة فلسطين عام 1929:

 

نساء فلسطين.. نهضتهنَّ السياسية

تألفت لجنة من فضليات النساء العربيات بفلسطين يوم 20 اكتوبر الماضي 1929 وقررت عقد مؤتمر عام للنظر في أمور الوطن والقضية الفلسطينيّة.

وبناء على هذا القرار دعون أترابهن للاجتماع في 27 اكتوبر، فلبت الدعوة نخب من السيدات والأوانس الراقيات، يربو عددهن على ثلاثمائة نفس، وقد وصف مكاتب الأهرام مؤتمرهن أجمل وصف، وقال أن المؤتمرات من السيدات والأوانس الراقيات المفكرات ومعظمهن ممن أحرزن الشهادات العلمية. وقد خطبت كثيرات منهن كل عن البلد المنتدبة عنه، باسطات حالة أوطانهنَّ المعذبة وقد ختمنَ كلامهنًّ بالقسم على أن يعملنَ في سبيل إنقاذ الوطن هنَّ والرجال جنباً إلى جنب.

وحان الموعد الذي عينه فخامة المندوب السامي لاستماع مطالب المؤتمر، فتألف من الحاضرات وفدٌ انتخب أعضاؤه من خيرة المؤتمرات علماً وتهذيباً واطلاعاً، واستقل السيارات إلى دار المندوب السامي حيث كان فخامته وحضرة الللادي عقيلته في انتظاره.

وقوبل الوفد من فخامته واللادي نشانسلور واستقبل استقبالاً حسناً جداً.

وتكلمت سيدة من أعضاء الوفد ما ملخصه قائلة:

هذا عمل تقوم به السيدات العربيات لأول مرة في تاريخ فلسطين وهنَّ الآن يضحينَ بكل شيئ ليساعدنَ رجالهنَّ في إنقاذ الوطن من مصائبه وتخليصه من آلامه، وهنَّ يطلبنَ:

1-  إلغاء وعد بلفور الذي هو أساس الكوارث وسبب إهراق الدماء البرئية في فلسطين.

2-   إلغاء الهجرة اليهودية.

3-  إلغاء قانون العقوبات المشتركة.

4-  تنحية المستر بنتويش الصهيوني المتحيز لليهود في عمله.

وأخيراً لفت الوفد نظر فخامة المندوب السامي إلى المعاملة السيئة التي يعامل بها مسجونو العرب بخلاف مسجوني اليهود، وإلى وجوب التحقيق في مسألة المستر فرل والمستر بيلي وما قاما به من الفظاعة في جلد الطلبة الأبرياء في نابلس، وقد احتج الوفد على ما عملته الحكومة من إنفاق 10 آلاف جنيه على منكوبي اليهود دون أن تنفق على منكوبي العرب شيئاً.

وقد أبدت اللادي تشانسلور نحوهنَّ عطفاً عظيماً، وشعوراً قوياً ووعد فخامة المندوب السامي بأن يهتم بمطالبهنَّ الاهتمام اللازم، وخرج الوفد مشيعاً من السر تشانسلور وعقيلته بالتحية والاحترام. وكانت النساء في الأسبوع الماضي قد طلبنَ إلى الحكومة أن تسمح لهنَّ بالقيام بمظاهرة سلمية يوم انعقاد المؤتمر، ورفضت الحكومة ذلك. ولكنهنَّ بعد أن التهبت نفوسهنَّ حماسة وطنية اندفعن بمظاهرة صامتة على 80 سيارة سارت في شوارع القدس الكبرى رغماً من رفض الحكومة طلبهنَّ.

ورأت الحكومة أنه ليس في وسعها صدهنَّ فاكتفت بأن منعتهنَّ من زيارة البراق، وكلفت ضابطاً وجنديين بريطانيين ركبوا سيارة تقدمت سيارات المظاهرات لتقودهنَّ في الطريق التي رؤى أن يسمح لهنَّ بالمرور فيها.

ومرت المتظاهرات بأحياء الطالبيّة والبقعة وباب الخليل وطريق يافا وباب العمود، وبدور قناصل الدول فخرج لهنَّ قنصل تركيا من داره وحياهنَّ وبارك نهضتهنَّ.

وانتهت هذه المظاهرة الصامتة البليغة الرائقة عند المدرسة الإسلاميّة، حيث تناولت المتظاهرات طعام الغداء وفي الساعة الثانية بعد الظهر عقدنَ اجتماعاً ثانياً في منزل عقيلة الأستاذ عوني بك عبد الهادي(1)، أحد أمناء سر اللجنة التنفيذية العربية، حيث تليت البرقيات والرسائل التي انهالت على المؤتمر من فلسطين وأربعة أنحاء البلاد العربية بالتشجيع والعطف والتأييد، وأقسمت الحاضرات، واحدة واحدة، على أن يقاطعنَ البضائع الأجنبية وأن يشجعنَ البضائع الوطنية.

وبعد البحث فيما يجب على المؤتمر عمله تقرر بالإجماع ما يأتي:

1-  الإبراق بالشكوى إلى جلالة الملكة ماري، ملكة انكلترا عما هو حاصل اليوم بفلسطين.

2-  الإبراق بشكر عصبة السيدات الوطنية السياسية بلندن على العطف والتأييد والمساعدة التي تقدمها لعرب فلسطين وقضيتهم المقدسة.

3-  الإبراق بشكر حضرة المس نيوتن، نصيرة العرب الموجودة اليوم في انكلترا للجهود المشكورة التي تبذلها في سبيل عرب فلسطين.

4-  تأليف فروع للمؤتمر في جميع المدن الفلسطينية.

5-  تأليف هيئة مركزة للمؤتمر لمدة ستة شهور.

وهكذا سجلت نساء فلسطين أجمل صفحة لهن في تاريخ النهضة النسائية التي نرجو أن تكون فاتحة يقظة وثبات على ما قررته وأقسمنَ عليه من العمل على إسعاد الوطن، ولاسيما مقاطعة البضائع الأجنبية التي هي أفضل ضامن لثروة البلاد، والثروة أقوى دعامة لعمرانها.

 

(فتاة الشرق، س4، ع3، القاهرة، ديسمبر 1929)

 

الهوامش

(1)     عوني عبد الهادي (1888-1970). محامي وسياسي فلسطيني ولد في نابلس، وتلقى تعليمه في مدارس بيروت والأستانة، وأنهى دراسة الحقوق في باريس. كان من مؤسسي جمعية "الفتاة العربية" سنة 1911، كما شارك في أعمال الوفد العربي لمؤتمر الصلح عام 1919. عاد إلى القدس واشتغل بالسياسة والمحاماة (1925-1948). إثر النكبة عمل في الخارجية الأردنية ومن ثم انتقل إلى مصر ليشغل منصباً في جامعة الدول العربية (1956). توفي ودفن في القاهرة. أما زوجته المشار إليها في رسالة فلسطين فلم نتحقق من هويتها حتى الآن، ويبدو أنها شاركت في الفعل النسوي بعد عودة عوني عبد الهادي من باريس. (أ. م. ع)