هذه دراسة يتقصى فيها الباحث المصري حيري دومة هذا المصطلح العربي القديم الذي لم ينل حقه من الاستقصاء والتمحيص في الدراسات السردية الحديثة

الحديث: مصطلح مهمل في السرد العربي

مصطَلَحٌ مُهْمَلٌ مِن مُصْطَلَحَاتِ السَّرْدِ العَرَبِيّ

خيري دومة

لا شك أنك تعرفين كلمة "حديث" في العربية . لا أظن أن هناك كلمة تساويها في لغتكم ،  أو في أي  لغة أوروبية أخرى ، تعرفين مثلاً أن طه حسين لم يكن يسمي قصصه قصصًا ، ولكنها كانت عنده "أحاديث"، فالقص والحديث عندنا شيء واحد تقريبًا ، وكل قصاص بالفطرة لا يمكن إلا أن يكون محدثًا بالفطرة.
شكري  عياد. * من القصة إلى المقالة ، مجلة أدب ونقد ، القاهرة ديسمبر1987

(1)

كلمة "حديث" من الكلمات المشكلة؛ فبرغم كونها من الكلمات وثيقة الصلة بالسرد العربي وتاريخه، فإنه يصعب  الآن عدُّها من المصطلحات السردية المستقرة التي يمكن الاعتماد عليها؛ فالكلمة من ناحية شائعة على الألسنة وفي الاستخدام اليومي، بدءًا من الكلام عن "حديث" النبي صلى الله عليه وسلم، مرورًا بـ"حديث"عيسى بن هشام و"أحاديث" جدتي و"حديث" الأربعاء، حتى الكلام عن "الحديث" التليفزيوني أو الإذاعي أو الصحفي، و"حديث" الذكريات، و"الحديث" ذو شجون، و "حديث" الروح، و"أحاديث" الجوى ..إلخ. والكلمة ـ من ناحية ثانية ـ مبثوثة في كل كتب التراث العربي، بمعان متعددة وفي سياقات متعددة، وما أكثر ما تجد "حدثني" و"حديث" في كتب التراث العربي بمختلف فروعه المعرفية، على نحو يصعب معه اعتبارها مصطلحًا يجري عليه ما يجري على المصطلحات من تقييد في الدلالة وحذر في الاستخدام. والكلمة ـ من ناحية ثالثة، وهذا هو الأهم ـ لها معناها الاصطلاحي المعروف المستقر في علم "الحديث" النبوي الشريف، وهو استقرار كان من القوة بحيث حجب معاني الكلمة الأخرى، وغطي حتى على جذرها اللغوي(1)، وربما فرض على الدارسين في القديم والحديث نوعًا من الحرج في استخدامها مصطلحًا أدبيًا أو بلاغيًا.

لقد بدت كلمة "حديث" أكثر الكلمات دلالةً على معنى القصة، كما فهمها الأديب العربي القديم والحديث، ربما لأنها تشير إلى معنى اللقاء المباشر بين الكاتب وجمهوره، وهو الأمر الذي يسجل حضورًا واضحًا في النثر العربي القديم بأنواعه المختلفة، فضلاً عن حضوره في الشعر بطبيعة الحال(3)، وظل حضوره ملموسًا في كتابات العرب المحدثين ، حتى بعد ظهور الأنواع النثرية الحديثة الكتابية كالرواية والقصة القصيرة. تبدو كلمة "الحديث" وكأنها تعكس الطابع الشفاهي الذي هيمن على الأدب العربي والثقافة العربية زمنًا طويلاً، حتى في عصر التدوين وما بعده، ولا تزال آثار هذا الطابع الشفاهي باقية إلى اليوم في قلب عصر الكتابية المعقد. مصطلح "الحديث" إذن يقترب من التوصيف الملائم لطبيعة القص العربي، وهو مصطلح ربما لا يغني عنه استخدام غيره، خاصة إذا كنا نتحدث عن سرد "عربي". وبرغم فوضى الاصطلاح في دراساتنا النقدية الحديثة، وهي فوضى ربما لا تحتمل إضافة مصطلح جديد ، فإن من المفيد أن نتتبع هذا المصطلح، وأن نحاول تقصِّي جذوره ومعانيه وإيحاءاته المختلفة في تراثنا العربي الإسلامي.

لقد اختار مثقفونا في بداية العصر الحديث كلمتي "قصة" و"رواية"، ليترجموا بهما معنى Story و Novel، بعد أن عرفوهما ضمن ما عرفوا من أشياء، نتيجة الاحتكاك مع ثقافة الغرب وآدابه، وكان أمام هؤلاء المثقفين مصطلحات كثيرة يطرحها عليهم ما كانوا قد بدؤوا في تحقيقه من كتب تراثهم الواسع، مصطلحات من قبيل  "حكاية" و"قصة" و"خبر"و"حديث" و"طرفة" و"نادرة" و"أسطورة" و"خرافة" و"مسامرة" و"مقامة" و"مجلس" ..إلخ ؛ فلماذا اختاروا "قصة" و "رواية" وتركوا بقية المصطلحات؟ لماذا تسيَّدت كلمتا القصة والرواية بينما توارت أو كادت كلمات مثل الحديث والخبر والطرفة والنادرة، وظل استخدامها محصورًا في توصيف جوانب من التراث العربي؟ كيف تحولت كلمة "رواية" من معناها الأصلي، معنى "النقل الشفوي للكلام أو الحديث أو الشعر"، إلى معنى "هذه القصة الطويلة  Novel  بكل تقاليدها التي عرفها الغرب" ؟ ولماذا بقي مصطلح "الحديث" جاريًا على ألسنة بعض كتابنا وأقلامهم، في الكلام عن القص كما يشعرون به ويفهمونه (والأمثلة هنا كثيرة، أشهرها محمد المويلحي صاحب كتاب "حديث" عيسى بن هشام ، وطه حسين ويوسف إدريس في معظم ما قدماه من قصص وكتب ومقالات)؟ 

إن تأمل سيرة المصطلح أي مصطلح أمر في غاية الأهمية، سواء في ذلك المصطلح الذي شاع استخدامه والمصطلح الذي لم يشع. وتتبع المصطلح في منحنياته ومناطق صعوده وهبوطه تاريخيًا، قد يكون أمرًا مفيدًا ودالاً. صحيح أن هذا التأمل وذلك التتبع لن يغيرا من وقائع التاريخ شيئًا، كما أنهما لن يسهما في شيوع مصطلح لم يكتب له الشيوع، لكنهما قد يضيئان كثيرًا من جوانب الظاهرة التي يصفها المصطلح، فيسهمان مثلاً في بلورة بعض  مفاهيم السرد وخصائصه المميزة في الأدب العربي. وسنحاول هنا أن تتقصَّى تاريخ استخدام كلمة "حديث" مصطلحًا سرديًا في التراث العربي، كيف عالجتها المعاجم العربية المختلفة، وما دلالاتها المختلفة من الناحية التاريخية، متى بدأ استخدامها، ومتى استخدمت للدلالة على معنى "قصة"، وعلى أي نوع من القص كانت تدل، كيف استخدمت الكلمة في القرآن الكريم، وكيف استخدمت بعد تأسيس علم الحديث النبوي الشريف، وكبف استخدمت في الشعر، وما علاقتها بفنون النثر العربي القديم، وخاصة الفنون المستقرة مثل "الرسالة" و"الخطبة" و "المقامة"، وكيف تسللت الكلمة من التراث الفصيح ومن اللغة الفصحى، لتتحول إلى اللغة العامية حاملةً معناها الأصلي: "حديت" و"حدوتة".

(2)

لم يحدث في تاريخ التراث العربي أن كانت كلمة "الحديث" مصطلحًا سرديًا أو بلاغيًا مستقرًا؛ ومن ثم فإنه ليس من المتوقع أن نجد في كتب البلاغة والنقد ـ وهي كتب ينصب أغلبها على دراسة الشعر، ونادرًا ما تتطرق إلى النثر، وربما لا تتطرق أبدًا إلى النثر القصصي ـ كلامًا مستفيضًا حول مصطلح "حديث"، وربما لا تشير هذه الكتب من قريب أو بعيد، إلى الكلمة بصفتها اصطلاحًا أدبيًا ، يمكن أن يدرس في إطار كتب البلاغة والنقد. فالمعاني الاصطلاحية التي يمكن أن تجدها لكلمة "حديث"، ستجدها في العلوم العربية الأولى التي نشأت خلال عصر التدوين، خاصة علم الحديث النبوي الشريف والعلوم التي أحاطت به، كالسيرة النبوية والقراءات والمغازي والتاريخ واللغة. وفي كل هذه العلوم ارتبط المصطلح بمسألة الإسناد، وأدوات توثيق الرواية، ونوعيات الرواة ومراتبهم ..إلخ، باختصار: تمركز معنى الكلمة حول صحة الرواية وأمانة النقل وانضباطه، بينما توارى معنى المشافهة واللقاء الإبداعي الحميم بين شخصين أحدهما متكلم والآخر مستمع. سنجد في هذه العلوم - بطبيعة الحال - إشارة دائمة إلى القيمة العليا للسماع والمشافهة ، بصفتهما أرقى أنواع التوثيق وأمتنها في تاريخ الثقافة العربية حتى بعد عصر التدوين(4). لكننا لن نجد أبدًا إشارة  إلى المشافهة والسماع، بصفتهما قيمة اتصالية لها طابعها الخاص، ولها دلالتها ونتائجها على المبدع وفنه وجمهوره؛ فهذا أمر ربما لم يُعْنَ به إلا دارسو الفن المحدثون.  كما أن "المحَدِّث" في هذه العلوم، ليس الشخص الذي يتكلم أو يتحدث إلى جماعة من المستمعين، مبديًا رأيه ومعبرًا عن مشاعره الذاتية، وإنما هو مجرد ناقل الحديث أو "راويه"، سواء كان هذا الحديث للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لأحد شيوخه في اللغة والأدب وغيرهما. المحدِّث مجرد ناقل أمين، وليس مُحْدِثًا أو مبتكرًا أو مبدعًا.

حتى في المعاجم العربية - وهي الموسوعات التي اعتمدت على مادة لغوية خام جمعت شواهدها من أفواه الأعراب، ومن الشعر والقرآن والحديث لا يخلو الأمر من تحرج حين يعرض المعجم لمادة (ح د ث)، واختلاف العلماء في جمع "حديث" على "أحاديث"، بسبب التداخل بين "أحاديث" (بمعنى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم) و"أحاديث" ( بمعنى قصص وحكايات مختلقة ، وكلام للتسلية واللهو )(5). لكن معاجمنا تظل - مع ذلك - هي المادة المحايدة التي يمكن أن نتعرف منها على أصول الكلمة ودلالاتها الأولى:
- الحديث : نقيض القديم .
- حدث الشيء يحدث حدوثًا وحداثةً، وأحدثه هو، فهو مُحْدَث وحَدِيث،  وكذلك استحدثه.
- والحديث : الجديد من الأشياء
- والحدوث : كون شيء لم يكن، وأحدثه الله فحدث، وحدث أمر أي وقع.
- والحديث : الخبر يأتي على القليل والكثير

- والحديث : ما يحدِّث به المحدِّث تحديثًا؛ وقد حدثه الحديث وحدثه به.
- ورجل حَدِث وحَدُث وحِدْث وحِدِّيث ومُحَدِّث، بمعنى واحد: كثير الحديث حسن السياق له.
- ويقال للرجل الصادق الظن : مُحَدَّث.
- والأحاديث في الفقه وغيره معروفة.(6)
- الحديث اسم من التحديث وهو الإخبار، ثم سمِّي به قول أو فعل أو تقرير نسب إلى النبي.
- كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظة أو منام يقال له حديث... (7)
- الحديث في الأصل هو ما تخبر به عن نفسك من غير أن تسنده إلى غيرك، وسمي حديثًا لأنه لا تقدم له، وإنما هو شيء حدث لك فحدثت به(8)
- الحاء والدال والثاء أصل واحد، وهو كون شيء لم يكن، يقال حدث أمر بعد أن لم يكن.. والحديث من هذا، لأنه كلام يحدث منه الشيء بعد الشيء(9).

من هذه المادة المعجمية المختارة، يمكن أن نرصد أكثر من معنى لكلمة "حديث"، ويمكن أيضًا أن نرصد تحول الكلمة تاريخيًا من معنى إلى معنى؛ فمع أن ابن منظور والزبيدي يضعان على رأس القائمة وفي سطر مستقل "الحديث : نقيض القديم"، فإن أصل المعنى الذي يأتي في الجملة الثانية عندهما، ويتكرر عند غيرهما، هو الفعل "حدث" والمصدر "حدوث" الذي يعني الوجود من العدم. أما كلمة"حديث" كما يلاحظ ابن منظور نفسه، فتبدو وكأنها لا تختلف معنىً عن اسم المفعول "مُحْدَث"؛ أي أُوجِدَ بعد أن لم يكن : "أحدثه الله فحدث، أو أحدثه هو، فهو محدث وحديث"، أي أوجده الله من العدم. المعنى الثاني، وهو مأخوذ من المعنى الأول بشكل مباشر {الحديث : الخبر، أو الإخبار، أو الكلام}؛ فالحديث كما يقول ابن منظور والزبيدي، هو "ما يحدِّث به المحدِّث تحديثًا ، وقد حدَّثه الحديث وحدثَّه به"، والحديث كما يقول أبو البقاء "اسم من التحديث وهو الإخبار". أما علاقة هذا المعنى بالمعنى  الأول، فيلاحظها أبو هلال العسكري حين يقول: "الحديث في الأصل هو ما تخبر به عن نفسك من غير أن تسنده إلى غيرك، وسُمِّي حديثًا لأنه لا تقدم له"، كما يلاحظها ابن فارس إذ يقول : "يقال حدث أمر بعد أن لم يكن .. والحديث من هذا؛ لأنه كلام يحدث منه الشيء بعد الشيء" . الحديث بهذا المعنى كلام تبتدعه وتبتكره وتخبر به عن نفسك، لا مجرد كلام تنقله عن الآخرين. المعنى الثالث الذي تذكره المعاجم، وتعبره بسرعة وفي جملة واحدة، هو الحديث بمعنى الحديث النبوي الشريف، وهذا أمر طبيعي لأنه، كما تقول المعاجم عادة : "معروف"،  أي شائع ولا يحتاج إلى شرح. ومن الواضح أن هذا المعنى لكلمة "حديث" كان المعنى المعروف الشائع، كما كان آخر تطور وصلت إليه الكلمة ووقفت عنده؛ فالحديث كما يقول أبو البقاء "اسم من التحديث، ثم سمِّي به قول أو فعل أو تقرير نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم"، ولم تأت هذه التسمية من فراغ بطبيعة الحال؛ فالحديث هو كلام النبي في المقام الأول، وهناك من علماء الحديث من قصر المصطلح على كلام النبي، ولم يمتد به إلى ما فعله أو ما قرره الآخرون عنه(10).

بقي معنى أخير أحسبه بالغ الأهمية، وهو المعنى الذي يربط بين "الحديث" من ناحية،  والإلهام والسحر والأسطورة والقوى الغيبية من ناحية أخرى، هذا ما يلاحظه ابن منظور في آخر مادة (ح د ث ) : "ويقال للرجل الصادق الظن : مُحَدَّث، بفتح الدال مشددة. وفي الحديث : قد كان في الأمم محدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد، فعمر بن الخطاب؛ جاء في الحديث، تفسيره أنهم الملهَمون"(11)، ومعروف عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكاية "يا سارية : الجبل" وملكاته الخاصة في هذا المضمار التي تعني أنه ملهَم ومحدَّث من قِبَل قوى علوية. وهذا المعنى أيضًا هو الذي يرصده أبو البقاء حين يقول في كلياته :"كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظة أو منام يقال له حديث"، وهذا المعنى نفسه حاضر في قولنا "حدثته نفسه" و"حديث النفس" ؛ فنسبة الحديث إلى النفس والروح ليست بعيدة عن فكرة الإلهام والوحي. وهكذا يبدو الحديث مزدوج الطابع، فهو من ناحية حقيقي مرتبط بالسمع واليقظة، وهو من ناحية أخرى خيالي سحري مرتبط بالوحي والمنام، بما يتضمنان من قوى خارج نطاق السيطرة الواعية. وأحسب أن هذا المعنى الأخير قديم جدًا، وأنه حاضر في استخدام العرب للكلمة قبل الإسلام، كما أنه حاضر في استخدام القرآن الكريم للكلمة، فضلاً عن حضوره في استخدام الشعر العربي.

في الجاهلية وصدر الإسلام كان العرب يطلقون على أيامهم الماضية، وسيرهم وحروبهم الممتدة، بما أحاط بها من أجواء أسطورية، وبما أُلِّف فيها من شعر .. كانوا يطلقون على كل هذا "أحاديث". وحينما جاء القرآن استخدم الكلمة ومشتقاتها بمعان متعددة، تتراوح بين أقصى الخير وأقصى الشر؛ ففي بعض الآيات تعني كلمة "الحديث" القرآن نفسه، مثل قوله تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا مثاني} الزمر |23(12)، وفي آيات أخرى تستخدم كلمة "حديث" و"أحاديث" في سياق اللهو والشر، فتستخدم بمعنى الغناء والعزف كما في قوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم} لقمان|6، وتستخدم بمعنى ذكرى وعبرة يتداولها الناس عبر الأجيال، كما في قوله تعالى : { فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق، إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} سبأ |19(13)، وتستخدم بمعنى قصة وحكاية وخبر، وخاصة القصص التي تساق للعظة، كما في قوله تعالى: {هل أتاك حديث الجنود ، فرعون وثمود} البروج |17(14). كما أن هناك استخدامًا آخر للكلمة في القرآن، يربطها بالحلم وتأويل غرائبه من ناحية، كما في قوله تعالى: {وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث} يوسف |6، وهو استخدام يتكرر ثلاث مرات في السورة نفسها، أو يربطها من ناحية أخرى بالقيامة وأهوالها، كما في قوله تعالى :{هل أتاك حديث الغاشية ، وجوه يومئذ خاشعة} الغاشية |1، وقوله تعالى : {يومئذ تحدِّث أخبارها ، بأن ربك أوحى لها} الزلزلة |4 .

من الواضح أن معنى الكلمة في القرآن يتغير تبعًا للسياق اللغوي الذي توضع فيه؛ فـ"حديث موسى" يختلف عن "حديث الغاشية" وعن "حديث الجنود" وعن "لهو الحديث" وعن "يخوضوا في حديث"، و"جعلناهم أحاديث" تختلف عن "تأويل الأحاديث". لكن الكلمة تتضمن دائمًا وفي كل السياقات، معنى الكلام والحكي والأخبار المتنوعة التي تثير المخيلة، وهو كلام مرتجل متداول على الألسنة يزيد وينقص، كلام يرتبط بالأنبياء أو بالقيامة أو بالأحلام  أو بالثرثرة، أو حتى بالخوض في الأسرار كما في قوله تعالى: {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا} التحريم |3 وكما في قوله: {فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث} الأحزاب |53 . الحديث إذن وكما جاء في اللسان -  هو "الخبر الذي يأتي على القليل والكثير"، إنه الكلام الذي يأخذ طابعًا ارتجاليًا لا تحده خطة مسبقة، وإنما يخضع للتداول والزيادة والنقصان.

أما الشعر العربي، فيستخدم الكلمة في سياق خاص جدًا؛ إذ يربطها عادة باللقاء الحميم، وباللذة. وليس من قبيل المصادفة أن يكون "الحديث" في الشعر منسوبًا لامرأة في معظم الأحيان، وأن يرتبط بالسحر والفتنة ونعيم اللذة؛ فـ "حديثها السحر الحلال" كما يقول ابن الرومي، و" كأن حديثها ثمر الجنان" كما يقول بشار، و"حديث كأنه قطع الروض"كما يقول بشار أيضًا، و"حديثها كالغيث .." كما يقول شاعر آخر، و"من لؤلؤ عند الحديث تساقطه" كما يقول البحتري، و"يقتلننا بحديث" كما يقول القطامي ، و"إذا هنَّ ساقطن الأحاديث للفتى" كما يقول أبو حية النميري. والحديث يرتبط بمجالس المحبين ولذتها، ويقترب من الطابع الديني أو المقدّس، كما في أبيات كثير عزة الشهيرة:

ولما قضـينا مـن مِنَى كلَّ حاجةٍ   ومسَّح بالأركان مَن هو ماسحُ
وشُدَّتْ على حُدُب المطايا رِحالُنا   ولم يَنظر الغادي الذي هو رائحُ
أخذنا بأطـراف الأحاديث بيننا   وسـالتْ بأعناق المطيِّ الأباطحُ
نقعنا قلـوبًا بالأحاديث واشتفت   بذاك قلــوب منضجات قرائحُ


وكما في بيتيه الآخرين:

رهبان مكة والذين عهدتهــم   يبكون من حذر العذاب قعودا
لو يسمعون كما سمعت حديثها   خــروا لعزة ركعًا وسجودا


وكذلك قول مالك بن أسماء:

أذكر من جارتي ومجلسها   طرائفًا من حديثها الحسن
ومن حـديث يزيدنى مقة   ما لحديث الموموق من ثمن(15)


ولم يكن من قبيل المصادفة أن ينفق أبو حيان التوحيدي الليلة الأولى من ليالي "الإمتاع والمؤانسة" في الحدبث عن غواية الحديث وفتنته، وفي تقليب مادة " ح د ث" على وجوهها المتعددة، وأن يختتم ما جمعه لهذه الليلة من أحاديث، بحديث ابن الرومي حين  دخل عليه ابن السراج وهو في مرضه الذي قضى فيه، فكان أن أنشده هذين البيتين اللذين يفصحان عن تأمل طريف لمادة "ح د ث" والعلاقة بين وجوهها المختلفة:

ولقد سئمت مآربي   فكـأن أطيبها خبيثُ
إلا الحـديثَ فإنه   مثل اسمه أبدًا حديثُ1


(3)

من المؤكد أن العرب الجاهليين الذين خاطبهم القرآن، كانوا يعرفون هذه المعاني المتعددة لكلمة "حديث"، كما كانوا يدركون وهم الأميون الذين اعتمدوا الرواية الشفوية لشعرهم ومأثورهم - ما لهذه الكلمة في حياتهم من وزن. ومن المؤكد أيضًا أن  العرب والمسلمين الأوائل خاصةً بعد بدء حركة التدوين والتأليف قد وضعوا كتبًا تعكس فهمهم لمعنى هذه الكلمة وتأويلاتها المختلفة؛ هذا ما يمكن أن نلاحظه من كتاب الفهرست لابن النديم (المتوفى380هـ) ، إذ يعدد من كتب هشام الكلبي (ت 206هـ) في أخبار الأوائل "كتاب حديث آدم وولده" و"كتاب حديث بيهس وإخوته"، ومن كتبه في الأخبار والأسمار "كتاب الأحاديث"(16)، ومن كتب أبي مخنف " كتاب حديث ياحميرا ومقتل بن الأشعث" و"كتاب حديث الأزارقة" و"كتاب حديث روشنقباد"(17). لكن مثل هذه الكتب التي تحمل في عناوينها كلمة "حديث" و"أحاديث" (بمعنى قصص، وأخبار، وحكايات وكلام)، لم يصل إلينا منها شيء (فيما أعلم)، وضاعت ـ  لسوء الحظ ـ فيما ضاع من كتب التراث العربي . حتى "أحاديث" ابن دريد الأربعين التي ذكرها الحصري في زهر الآداب(18)،  وأثار زكي مبارك ضجة حول اكتشافه لها، ولتأثيرها على فن المقامات عند بديع الزمان الهمذاني مبتدع فن المقامات ـ حتى هذه الأحاديث (وهي شديدة الأهمية في سياق بحثنا عن "الحديث"مصطلحًا سرديًا ، لأنها ترتبط بنشأة واحد من أهم الأنواع السردية في الأدب العربي القديم، وأكثرها استقرارًا، أعني : المقامة) لم يصل إلينا منها شيء مؤكد، ولا نعرف بالضبط ما إذا كانت هي نفسها الأحاديث التي نقلها عنه القالي في أماليه(19) كما زعم زكي مبارك أيضًا، أم أنها كانت في كتاب مستقل وضاع مع ما ضاع من الكتب. أضف إلى هذا  أن  كتاب الفهرست لا يشير إليها ضمن مؤلفات ابن دريد الكثيرة (20).

ثارت الضجة أولاً عام 1930 على صفحات المقتطف بين زكي مبارك والرافعي حول مكانة بديع الزمان وريادته لفن المفامة، ثم سجل زكي مبارك رأيه بعد ذلك  في كتابه  "النثر الفني في القرن الرابع"  1934. ومن العجيب أن يقول زكي مبارك معلقًا على الخطأ الذي وقع فيه مؤرخو الآداب، حين تابعوا الحريري وظنوا أن البديع هو مبتدع فن المقامات: "وعندي أن من أسباب غفلة مؤرخي الآداب عن كشف هذا الخطأ، أن ابن دريد سمى قصصه (أحاديث)، في حين أن بديع الزمان سمى قصصه مقامات .. "(21) ويقول أيضًا : "والذين كتبوا مقامات بعد ذلك لم يكن في أذهانهم غير فن بديع الزمان، فهو بذلك منشئ هذا الفن في اللغة العربية، ولم تسمَّ تلك القصص بعد ذلك أحاديث كما سماها ابن دريد، وإنما سمِّيت مقامات كما سماها بديع الزمان .. "(22) . وكأن هذه التسمية هي التي أضاعت كتاب ابن دريد وحرمته من الخلود، بينما سمحت لكتاب بديع الزمان أن يشتهر ويذيع صيته !! وإذا كانت "المقامات  هي المجالس"، كما يقول الشريشي في شرحه لمقامات الحريري، و إذا كان "الحديث يُجتَمَع له ويجلس لاستماعه يسمى مقامة ومجلسًا، لأن المستمعين للمحدث ما بين قائم وجالس، ولأن المحدث يقوم ببعضه تارة ويجلس ببعضه أخرى"(23)، وإذا كانت المقامة "حديث يلقى في جماعة" كما يعرفها شوقي ضيف نقلاً عن القدماء(24)- إذا كان ذلك كذلك ؛ فإن لنا أن نتصور أن بديع الزمان كان يبني على أرض ممهدة، وأنه استطاع بذكاء شديد، أن يبلور ملامح فن طال مخاضه دون أن يسفر عن شيء، وأن  تسمية "المقامة" بدلاً من "المجلس" و"الحديث"( فضلاً عن عناصر أخرى مهمة قدمها البديع في مقاماته) كانت قمة الذكاء في بلورة جهود سابقيه ومعاصريه، وتوجيهها في إطار جديد خاص، بحيث استحق البديع أن يكون مبتدع هذا النوع الأدبي .

ومع أن دارسي المقامة من المستشرقين لا يقبلون مقولة زكي مبارك على علاتها، فإنهم يحومون حولها، باحثين عن أصول أبعد لهذا النوع الأدبي؛ حيث يبحث بيستون Beeston مثلاً عن التشابهات بين مقامات البديع وبعض حكايات "الفرج بعد الشدة" لمعاصره التنوخي(25)، بينما يذهب ماتوك Matock (26) إلى أبعد من ذلك ويحاول أن يبحث عن هذه التشابهات ذاتها بين مقامات البديع وبعض حكايات "المحاسن والأضداد" المنسوب للجاحظ، الذي  يسبق البديع بمائة وأربعين عامًا على وجه التقريب. ويكاد هؤلاء المستشرقون ينتهون إلى نتيجة عامة، مؤداها ما عبر عنه بيستون، حين رفض أولاً إمكانية إرجاع فن المقامات إلى تأثر البديع، أو معارضته لكاتب واحد من كتاب أدب المجالس هو ابن دريد، ثم انتهى - بعد المقارنة بين أحد نصوص "الفرج بعد الشدة" ومقامات البديع - إلى هذا الحكم : "ومهما يكن من أمر ، فإن نقاط التشابه العامة هذه، بين مقامات بديع الزمان وحكايات الفرج، تبرهن ببساطة على أنهما معًا قاما على مخزون عام من  القص ، كان مألوفًا في ذلك الزمان"(27).

نعم، لقد قامت مقامات البديع وحكايات الفرج على هذا المخزون العام، لكنه لم يكن مخزونًا من القص وحده، كما قال بيستون، بل يمكن القول إنه مخزون من الثقافة التي يحتل الحديث فيها مكانًا محوريًا، بحيث يمكن للقارئ أن يجد صداه في مختلف فروع هذه الثقافة، وتجلياتها من علم وفن وأدب . لقد نشأت معظم العلوم الإسلامية حول فكرة الحديث هذه، وما استتبعته من اهتمام بالرواية الشفوية والسماع المباشر والمجالس، ووجدت نموذجها في علم الحديث ودقته في التوثيق، وتكرارية سنده (العنعنة) التي انعكست فيما بعد على فنون الخط والأرابيسك. وكانت علوم السيرة والمغازي والتاريخ من أوائل العلوم العربية الإسلامية التي نهضت على تجميع أحاديث السابقين ( بمعنى قصصهم وكلامهم). يقول ابن هشام- فبي تقديمه سيرة النبي التي يرويها عن ابن اسحق مرورًا بالبكائي-:" وأنا إن شاء الله مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم ومن ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم من ولده (ولد إسماعيل) وأولادهم لأصلابهم، الأول فالأول، من إسماعيل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم وما يعرض من حديثهم، وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل على هذه الجهة، للاختصار، إلى حديث سيرة رسول الله  -صلى الله عليه وسلم .."(28) أما الواقدي في كتابه "المغازي" فسيردد في مواضع متعددة عبارة : "وكلٌّ قد حدثني بطائفة من هذا الحديث" بدءًا من مقدمة الكتاب التي تشرح أسانيده (ص2) ومرورًا بمواضع أخرى مثل :"قال الواقدي : حدثني عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعد بن يربوع، عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد ، وغيره أيضًا قد حدثني من حديث هذه السرية، وعماد الحديث عن عمر بن عثمان، عن سلمة ، قالوا : .. " (ص340) ومثل قوله في غزوة بئر معونة : "حدثني محمد بن عبد الله، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، ومعمر بن راشد، وأفلح بن سعيد، وابن أبي سبرة، وأبو معشر، وعبد الله بن جعفر، وكلٌّ قد حدثني بطائفة من هذا الحديث، وبعض القوم كان أدعى له من بعض، وغير هؤلاء المسمين، وقد جمعت كل الذي حدثوني، قالوا:  ..  "(29)(ص346). لم يكن علم الحديث قد استقر بعد، ومن الواضح أن الواقدي يستخدم الكلمة بلا أدنى حرج؛ فالمعني بالحديث هنا هو "كلام الناس في قصة معينة، أو حول موضوع معين"، والحديث هو مصدر العلم والتاريخ والأدب عند هؤلاء.

ولكي نعرف مكان "الحديث" من الأدب، بالمعنى العام لكلمة "أدب" عند العرب، يكفي أن نقرأ ما نقله الحصري في "زهر الآداب" على لسان الحسن بن سهل : "  الآداب عشرة؛ فثلاثة شهرجانية ، وثلاثة أنو شروانية، وثلاثة عربية، وواحدة  أربت عليهن . فأما الشهرجانية فضرب العود، ولعب الشطرنج، ولعب الصوالج. وأما الأنوشروانية فالطب، والهندسة، والفروسية. وأما العربية فالشعر، والنسب، وأيام الناس. وأما الواحدة التي أربت عليهن: فمقطعات الحديث ، والسمر ، وما يتلقاه الناس في المجالس"(30). ولم يكن من قبيل المصادفة، أن تتحول موسوعات الأدب العربي القديم الكبرى، (أعني :كتب الجاحظ، والمبرد،  وابن قتيبة، والأصفهاني، والقالي، وابن عبد ربه، وأبي حيان التوحيدي، والحصري ..إلخ) إلى مجموعة ضخمة من الأخبار والأحاديث التي لا تنتهي، بما تتضمنه من شعر ونثر وفلسفة وبلاغة ونحو.. ولم يكن من قبيل المصادفة أيضًا، أن يأخذ معظم  هذه الكتب شكل الحديث إلى آخر، ولم لا إذا كانت هذه الكتب موجهة في الغالب إلى مخاطبٍ، هو في معظم الأحيان الخليفة أو الوزير أو الأمير، الذي أُلِّف الكتاب أصلا من أجله أو من أجل تعليم أولاده، وهو في بعض الأحيان ذلك القارئ|المستمع الذي وضعه هؤلاء المحدِّثون الموسوعيون العظام نصب أعينهم(31)؛ ففي تقديمه لكتاب "عيون الأخبار" يكثر ابن قتيبة من مخاطبة القراء بنوعياتهم المختلفة، ويجادلهم مدافعًا عما جمعه أو عما تلَقَّطَه من أحاديث وأخبار من مظانها المختلفة، يقول : "واعلم أنا لم نزل نتلقط هذه الأحاديث، في الحداثة والاكتهال، عمن هو فوقنا في السن والمعرفة، وعن جلسائنا وإخواننا، ومن كتب الأعاجم وسيرهم، وبلاغات الكتاب في فصول من كتبهم، وعمن هو دوننا، غير مستنكفين أن نأخذ عن الحديث سنًا لحداثته، ولا عن الصغير قدرًا لخساسته، ولا عن الأمة الوكعاء لجهلها فضلاً عن غيرها؛ فإن العلم ضالة المؤمن من حيث أخذه نفعه، ولن يزري بالحق أن تسمعه من المشركين، ولا بالنصيحة أن تستنبط من الكاشحين..إلخ"(32)

أما إذا انتقلنا إلى الأدب، بالمعنى الخاص للكلمة عند العرب، أي الشعر الغنائي والنثر الفني بأنواعه المختلفة؛ فسنصادف الحديث عند كل منحنى : فالشعر العربي الجاهلي أُلِّف من البداية تأليفًا شفاهيًا، كما تقول بعض الدراسات الحديثة(33*، و قد ظل ينقل ويروى مشافهة، إلى أن تم تدوينه حين جاء عصر التدوين كما هو معروف، ومباريات الشعر وأسواقه ومحافله في الجاهلية وما بعدها، أمر لم يعد يحتاج إلى تأكيد. ولم يكن مستغربًا والأمر كذلك، أن تبدأ القصيدة العربية في الجاهلية وما بعدها، بخطاب ما أو بسؤال ما : إلى المحبوبة أحيانًا، وإلى صاحبين متخيلين أحيانًا، وإلى الطلل البالي ..إلخ وكلها تجليات لا تُنكَر لثقافة لا تستطيع أن تتصور الأدب، إلا في صورة حديث إلى آخر يكون ماثلاً في المشهد. وما النثر العربي القديم بأنواعه المختلفة إلا صورًا متنوعةً من الحديث : قد يتجه به المحدِّث مباشرة إلى جمهور من المستمعين؛ فتكون "الخُطبة". وقد يتجه به إلى أهله وذويه، فتكون "الوصية". وقد يتجه به إلى قارئ معلوم (صديق ، أو وزير ..) ؛ فتكون "الرسالة" إخوانيةً أو ديوانيةً، إلى أن نصل إلى "المقامة"، حيث يبلور البديع عناصر من كل هذا الموروث الحي القائم على الحديث الشفاهي(34).

(4)

"لم تكن العرب أمة قارئة ولا كاتبة، وعرفوا ذلك لأنفسهم حتى لقد سموا جاليات الأمم التي تحسن الكتابة "أهل الكتاب". وقد يكون الكتاب هنا مصدر "كاتب يكاتب"، وربما كان المقصود به التوراة والإنجيل. غير أن المعنى الأول يوضح إلى أي حد كانت العرب على ذكر من عدم استعمالها القراءة والكتابة. ويعززه أن "الكتاب" بالمعنى الثاني إذا أطلق دل على القرآن :{ذلك الكتاب لا ريب}.."(35). بهذه الكلمات الواضحة ، يؤكد تمام حسان، لا عدم معرفة العرب الجاهليين بالكتابة والقراءة، بل عدم استعمالهم لها.  كانت الكتابة معروفة، ولكنها لم تكن سهلة ولا مستعملة، وربما لم يكن لها وزن، بينما كان الوزن كل الوزن للرواية والمشافهة والمناظرة في أسواق الشعر، وهي الأسواق التي كانت جزءًا من الحياة الاجتماعية والاقتصادية للعرب قبل الإسلام.  ومهما تكن الأسباب التي أدت إلى هذا الموقف الغريب من القراءة والكتابة، فإن ما يمكن أن نلاحظه بشكل عام، أن العرب كانوا يربطون الكتابة ببعد ديني ما؛ فأهل الأديان السماوية السابقة الذين أنزلت عليهم التوراة والإنجيل يسمون "أهل الكتاب"، والقرآن يسمى في سياقات متعددة "الكتاب"، وقصائدهم العشر أو السبع الكبرى يكتبونها بماء الذهب ويعلقونها على أستار الكعبة. ليس كل شيء يُكتَب فيما رأى عرب الجاهلية؛ فالكتابة في ذلك الزمان ربما كانت أمرًا نادرًا ومقصورًا على طائفة محدودة من الناس، وليس غريبًا أن تحيط به الأسرار، وأن يحيط به السحر والتقديس. ولقد كان القرآن في نزوله، ثم في حفظه وتدوينه، وما أحاط به من علوم ودولة جديدة - أمرًا له خطورته في حياة العرب والمسلمين؛ فقد نقلهم بحق إلى مرحلة جديدة تمامًا من الحضارة. ولا أحد يشك كما يقول محمد عابد الجابري "في أن وضعية العرب بعد الإسلام هي غير وضعيتهم قبله، وهل هناك من تحول أعمق وأشمل من الانتقال من مجتمع قبلي منغلق، مجتمع بدون دولة وبدون قانون، إلى مجتمع منظم عالمي منفتح تقوده دولة تتوافر لديها كل مقومات الدولة ومن جملتها القانون المسطور ؟"(36). لقد بدأت حركة تدوين وتأليف وترجمة واسعة، وانتشرت الكتابة والوراقة والمكتبات وثقافة الكتاب بشكل عام، خاصة بعد استيراد الورق من الصين، حتى لقد سمعنا ما حكي عن جسور من الكتب وضعت في أنهار العراق وعبرت عليها قوات التتار. باتت الكتابة إذن كما يقول المستشرق روزنتال- "مستخدمة طول الوقت حتى في العلوم التي كانت تقدس النقل الشفاهي والقدرات العجيبة للذاكرة. وربما أصبح الإلحاح على وسائل النقل الشفاهي لدى دوائر واسعة، مجرد ادعاء كاذب؛ فالعلم الإسلامي وضع ثقته دائمًا في الكلمة المكتوبة، وهذا ما جعل منه علمًا عظيمًا"(37).

لقد ظهر نوع جديد من مستهلكي الثقافة ـ كما يقول جابر عصفور ـ "نوع لا يكتفي بالتلقي الجمعي الشفاهي الذي كان يميز استهلاك الشعر من جمهوره قديمًا، بل جاوز ذلك إلى التلقي الفردي، بواسطة القراءة التي اتسعت دائرتها باتساع قاعدة التعليم من ناحية واتساع نشاط حوانيت الوراقين والمكتبات العامة والخاصة من ناحية أخرى، باختصار كان الحضور المتصاعد للمدنية يوازي الحضور المتصاعد لنزعة الكتابة في مقابل الانحدار المقابل لنزعة المشافهة .. هذا التأصل المتزايد للحضور المديني كان يستبدل "صناعة الكتابة" بصناعة الخطابة شيئًا فشيئًا، ويستبدل بالوعي الشفاهي الوعي الكتابي، ويستبدل بمركزية الشاعر(صوت القبيلة ورمزها البدوي المتحد) مركزية الكاتب (صوت المدينة ورمزها الحضري المتعدد."(38) كل هذا قد يكون صحيحًا بشكل ما، وبدرجة أو بأخرى، لكن السؤال يظل قائمًا: هل كان كل ذلك يعني قطيعة معرفية بين الإسلام والعصر الجاهلي، بين تلك النزعة الكتابية الناهضة مع القرآن الكريم (كتاب الإسلام) وعلومه، والنزعة الشفاهية التي لازمت العرب في جاهليتهم، هل حدث "انحدار"حقيقي لنزعة المشافهة؟ هل تم استبدال حقيقي لنزعة الكتابة بنزعة المشافهة، وللوعي الكتابي بالوعي الشفاهي، ولمركزية الكاتب بمركزية الشاعر؟ لا أحد يستطيع أن يقطع بهذا. لقد وقع هذا التحول إن كان قد وقع حقًا ببطء بالغ، وربما استغرق تاريخ الثقافة العربية كله إلى يوم الناس هذا.

قبل عصر التدوين وفي المراحل الأولى منه، كان التدوين أمرًا محدودًا ومحكومًا بدوافعه الدينية : خدمة نص القرآن الكريم ونصوص الحديث الشريف، ولم يكن هناك شيء يمكن أن نسميه "تأليف"، كما يقول المستشرق الفرنسي هاملتون جب : "حتى النصف الثاني من القرن الثاني(الهجري) لم تعلق أهمية لفكرة انتساب التأليف لمؤلف معين؛ فكان "المؤلف" هو عبارة عن الأديب الذي ينظم مادة الكتاب أو ينظم محتوياتها، وهذه المواد كانت تتناولها تلامذة المؤلف شفويًا ولا تدون في صورة مقرر كامل إلا بعد وفاته بعدة سنوات، وقد حدث كثيرًا أنها دونت في صور كتابية مختلفة كما هو معلوم في حالة كتاب الموطأ. ولا تتكون فكرة التأليف كما يفهمها الأدباء إلا بعد أن تستقر سنة تسطير الكتب، والذي نراه واضحًا في نشاط القرن الثاني ليس سنة أدب مسطر، بل سنة التدريس الشفوي ينقل عن طريق رواة، ولا يناقض هذا كون هؤلاء الرواة قد دونوا في بعض المناسبات مذكرات عن دروس من سبقوهم"(39).

فيما يتعلق بالأدب، والنثر على وجه الخصوص،  تصبح الكلمة المنطوقة لا المكتوبة، هي أساس ما نفكر فيه حين نتحدث عن الأمويين مثلاً؛ ففي قطاعات متعددة من الحياة العامة في عصر بني أمية، كان من الضروري أن يعلن المرء واعظًا كان أو حاكمًا أو رجلاً من العامة عن آرائه في لغة واضحة قوية، وكانت الخطابة هي الوسيلة الاستراتيجية لممارسة السياسة (40)؛ ومن ثم كانت المكانة التي احتلتها الخطابة، ولا عجب فالخطبة هي أقدم شكل عرفناه من النثر العربي،  وهي تحتل مكانًا واسعًا في كتب المختارات الكلاسيكية،  كأمالي القالي، وأغاني الأصفهاني، والعقد الفريد، والكامل للمبرد، وفي كتابات الجاحظ وابن قتيبة وآخرين ..  (41). وإلى جانب هذا ، اتسع نشاط القصاص في المساجد، واتسع جمهورهم، وكانت حلقاتهم مثالاً لا تخطئه العين لهيمنة هذه الثقافة الشفاهية. حتى بعد أن استقرت الكتابة والأدب المكتوب، و"سنة التسطير" كما يقول جب، لم تكن الكتب إلا فيضًا من الأحاديث الشفوية المنقولة، التي ينهض المؤلف بجمعها وتنظيمها  في كتاب واحد. لقد "كان هناك أيضًا، في الوقت الذي بدأ فيه هذا الأدب النثري المكتوب، أدبٌ شفوي ذو كمية عظيمة وصبغة مخالفة كل المخالفة للصبغة الكتابية أدبٌ كان بالتدريج ينتظم ويتبوب، كما أنه بعد تشكُّل الأدب الكتابي بشكل مستقر، تدفق ذلك الأدب الشفوي وازدهر بكمية شاسعة وصور متنوعة .. "(42) . لقد استقرت الكتابة، وتوفرت المصادر المكتوبة وسيطًا للإبداع والتلقي على السواء، وخاصة بعد توفر الورق .. ولكن، ومع كل ذلك كما يقول روجر ألان "ظلت صيغ التعبير والرواية الشفاهية جنبًا إلى جنب مع التقاليد الكتابية مستولية على عقول العامة" طوال تاريخ الأدب العربي وحتى أوائل القرن العشرين، وهي الفترة التي يغطيها كتابه عن الموروث الأدبي العربي(43).

(5)

ولقد تركت هذه الشفاهية آثارًا بالغة الوضوح على الأدب العربي طول تاريخه، وخصوصًا على النثر العربي بأنواعه المختلفة. ومعظم هذه الآثار ناتجة من ناحية، عن رغبة المحدِّث - الذي هيمن على ذلك النثر - في التأثير على مستمعيه تأثيرًا مباشرًا، وناتجة من ناحية ثانية، عن القيود التي تفرضها عمليات الإبداع والنقل والتلقي في ظروف شفاهية. ومع أن هذه الآثار أوسع بكثير من أن تحصيها في فصل تمهيدي كهذا، فإننا يمكن أن نلخصها في جانبين أساسيين : أما الجانب الأول، فجوهره ذلك الحرص المبالغ فيه على ما يؤثر تأثيرًا مباشرًا في أذن المستمع، وخاصة العناصر الإيقاعية، وما أكثرها في ذلك النثر العربي، الذي طمح بمختلف أنواعه، أن يقترب من إيقاع الشعر الغنائي؛ فكانت العناية بالسجع بشكل خاص، وبألوان البديع المختلفة التي تفنن البلاغيون العرب في تصنيفها وذكر أسمائها، هذا فضلاً عن العناية بظواهر التكرار الإيقاعية، مثل تكرار الجمل القصيرة المتوازية، وتكرار الصيغ الصرفية والنحوية .. إلخ. وأية مراجعة لنصوص النثر العربي وأنواعه، لا تستطيع إلا أن تلاحظ مثل هذه الظواهر، بدءًا من سجع الكهان والخطابة الجاهلية، ومرورًا بالرسائل الديوانية والإخوانية التي ظلت لفترة طويلة نموذج النثر الفني العربي، والمقامات : ذلك النوع النثري العربي الذي استخدم هذه العناية الخاصة بالبديع ضمن إطار جديد مختلف، وانتهاء بكتابات المحدَثين : من الإحيائيين والرومانتيكيين، حتى نصل إلى كاتب مثل طه حسين. هذا فضلاً بطبيعة الحال عن القرآن الكريم : نموذج الكتابة العربية، الذي يعلي من شأن هذه العناصر الإيقاعية بشكل ربما لا نجده في أي نص عربي آخر.

ولا شك أن هذه الظواهر الإيقاعية ظلت سمة جمالية مميزة للنثر العربي(وربما للغة العربية نفسها)، لكنها في الوقت نفسه وقفت حائلا مربكًا، بين الكاتب/المتحدث من ناحية، وبين ما يريد أن يصل إليه نصُّه الفني من معنى وتشكيل من ناحية أخرى. ومن جهة أخرى، فإن أسبقية علوم الدين وأهميتها، جعلتها نموذجًا للسرد استمر طيلة العصور الإسلامية الوسيطة، ولقد أعاقت هذه العلوم وإجراءاتها المعتمدة على المشافهة والرواية  نمو السرد العربي؛ فالقصص لابد أن تدور دائمًا حول "أحداث واقعية"، وإلا فقدت إمكانية اعتبارها حديثًا صادقًا، وهذا قد لا يعطي أية مساحة للخيال القصصي . كما كانت تقنيات الإسناد وتعقيداته عائقًا لم يسمح للقص العربي أن ينطلق أو يطول، فقد ظل السرد في حدود ما تستطيع أن تنقله الذاكرة الشفاهية، لا يتعدى حدود الخبر أو الحكاية القصيرة التي لا تتجاوز الصفحة الواحدة في معظم الأحوال. أضف إلى هذا أن تقنيات الإسناد والعنعنة هذه، حدت من مقدرة الكتاب على التعمق داخل نفوس الشخصيات والوصول إلى أفكارها ومشاعرها؛ فالمسموح بروايته هو ما يقوله الناس وما يفعلونه فقط، لا ما يفكرون فيه أو يشعرون به، وأَنَّى للكاتب الناقل أن يعرف هذا،  ما لم تنطق به الشخصية.

هذا هو الجانب الثاني من الآثار، التي تركتها القيود الشفاهية على السرد العربي الفصيح على وجه الخصوص: حرص على واقعية الحدث أو صدق الحديث، ومحدودية في طول النص بما يتلاءم مع قدرة الذاكرة الشفاهية المحدودة على النقل، ووقوف عند سطح الشخصية دون القدرة على الغوص المباشر في أعماقها. ومع ذلك كله، وربما بسبب ذلك كله، ظلت موسوعات الأدب العربي، بما تنطوي عليه من أحاديث وأخبار قصيرة متعددة، صيغًا مفتوحة تنهض على الارتجال، وتقبل الإضافة على يد الناقلين من التلاميذ والناسخين. وليس مصادفة أن يختلف مؤرخو الأدب القدماء حول عدد مقامات  بديع الزمان الهمذاني : أهي أربعون أم أربعمائة ؛ فليس هناك في شكل المقامات المستقلة|المترابطة ما يمنع من ذلك. وليس مصادفة كذلك أن تظل "ألف ليلة وليلة" أو "الليالي العربية" كتابًا مفتوحًا للحكايات والأحاديث التي تأتيه من كل حدب وصوب؛ إذ لم يكن في شكل الليالي أيضًا ما يمنع من هذا. وهكذا تحولت معظم كتب النثر العربي القديم، السردية منها على وجه الخصوص، إلى مؤلفات مفتوحة مكونة من حلقات تقبل الزيادة والنقصان، وهذا ما يجعلها الآن مؤلفات تنتمي إلى الأدب الشعبي في جانب كبير منها، مؤلفات مثل كتاب "كليلة ودمنة"(44)، "الأغاني"، و"البخلاء"، و"الإمتاع والمؤانسة"، ناهيك عن مؤلفات مثل "المقامات" و"الحكايات" و"الليالي".

"الحديث المتصل" الذي تُقطَع به الليالي، وتُستخلَص منه العبرةُ، وتُنقَذ به الحياةُ هو الفكرة الرئيسية الكامنة وراء "حكايات" ألف ليلة، أو "أحاديثها"، أو"حواديتها". لقد اهتم دارسو ألف ليلة عربًا ومستعربين بمصطلح "حكاية"، لكن أحدًا لم يُعنَ بمصطلح "حديث"، مع أنه المصطلح الأكثر تداولاً والأكثر خطورةً، في كتاب ألف ليلة بكل طبعاته. في الصفحات الأولى من "كتاب ألف ليلة وليلة، من أصوله العربية الأولى"، وهي الطبعة التي حققها وقدم لها وعلق عليها محسن مهدي(44)، وفي التمهيد للحكاية الإطار قبل أن تبدأ الليلة الأولى، يمكن للقارئ أن يلاحظ عبارات من قبيل : "قال الراوي صاحب التأليف" أو "قال الراوي" أو "قال الناقل"أو "قال صاحب التاريخ" .. كل عبارة من هذه العبارات وردت مرة واحدة، أما العبارة التي تكررت أكثر من عشر مرات في هذه الصفحات القليلة فهي :"قال صاحب الحديت". وحين نصل إلى الليلة الأولى نجد العنوان على النحو التالي :"الليلة الأولى من حديت ألف ليلة وليلة من الغرايب" ، وفي الليلة الثانية يأتي العنوان : "الليله الثانيه من غرايب حديت ألف ليله وليله" و "الليله الخامسه من حكاية ألف ليله وليله" و"والليلة السادسه من غرايب حكايات ألف ليله وليله" و"الليلة السابعه من حكايات وغرايب ألف ليلة" و"الليلة التاسعه من حكايات وعجايب وغرايب ألف ليله وليله" .. وهكذا تتنوع المصطلحات المستخدمة بين "حديت" و"حكايات" و"حكاية" و"عجايب وغرايب".

ولكن بدءًا من الليلة العشرين وحتى نهاية الكتاب، تكاد تختفي كل المصطلحات، ولا يبقى سوى مصطلح "حديت"، يأتي مقترنًا باسم الكتاب في معظم الليالي "من حديت ألف ليله وليله"، وذلك على نحو يترسخ معه عنوان الكتاب في أذهاننا باعتباره "حديت ألف ليله"، وليس "كتاب ألف ليلة" ولا"حكايات ألف ليلة" ؛ فالحديت هو المصطلح الأكثر دورانًا واستقرارًا على مدار الكتاب. والأمر الأكثر دلالة في هذا السياق، هو الديباجة التي تتكرر مع بداية كل ليلة وفي ختامها؛ إذ تقول هذه الديباجة التي تتكرر كل ليلة مع تعديلات طفيفة : " فتنحنحت دينا زاد وقالت يا أختاه ان كنتي غير نايمه فحدتيني بحدوته من أحاديتك الحسان الدي نقطع بها سهر ليلتنا واودع قبل الصباح، فما ادري مادا يتم لكي غدا . قالت شهرا زاد للملك شاهريار دستورك احدت . قال نعم . ففرحت شهرازاد وقالت اسمعي"(45) ثم تبدأ الليلة الأولى ، وفي ختامها نقرأ: "..ثم ادرك شهرازاد الصبح فسكتت عن الحديت . واشتغل سر الملك شاهريار لبقية الحديت . ولما ان طلع الفجر قالت دينا زاد لاختها شهرازاد ما احسن حديتك واعجبه . قالت واين هذا مما احدتك به الليلة القابلة ان عشت وابقاني هذا الملك ، فهو احسن من هذا الحديت واعجب . فقال الملك في نفسه"والله لا اقتلها حتى اسمع بقية الحديت واقتلها ليلة غدا". ثم اصبح الصباح وطلع النهار واشرقت الشمس وقام الملك وخرج لملكه وحكمه ، فعجب الوزير ابو شهرازاد لذلك وفرح. ولا زال الملك شاهريار يحكم الى الليل ، فدخل البيت وطلع الى فراشه ودخلت شهرازاد معه الى الفراش . قالت دينا زاد لاختها شهرازاد بالله يا اختاه ان كنتي غير نايمه فحدتيني بحدوته من احاديتك الحسان نقطع بها سهر ليلتنا هدي . قال الملك وليكن تمام حديت الجني والتاجر فان قلبي متعلق بحديته. قالت حبًا وكرامه وعزازه ايها الملك اليعيد"(46). في هذه الديباجة المتكررة التي طال اقتباسها هنا، يمكن للمرء أن يلاحظ شيئين أساسيين: أولاً/ هذا الإلحاح على كلمة الحديت دون غيرها (بالتاء وليس بالثاء)، ثانيًا/ ابتكار هذا المصطلح الذي لا نكاد نجد له مقابلاً في الفصحى، أعنى مصطلح "حدُّوتة". هل يمكن أن نفكر في كلمات "حديت" و"حدوتة" و"أحاديت" العامية هنا، بعيدًا عن كلمة "حديث" و"أحاديث" التي طالما استخدمها التراث العربي الفصيح في سياق سردي؟

من المؤكد أن كلمة "حديث" انتقلت من الفصحى إلى العامية منذ زمن بعيد، وجرى عليها ما يجري على الكلمات الفصيحة من تخفيف حين تنتقل إلى العامية، فتحولت الثاء إلى تاء. لكن التغيير الأكبر الذي لابد أن نلتفت إليه، هو ما حدث من تغير في دلالة الكلمة العامية؛ إذ يكاد معناها لا يتجاوز "الكلام والحكي"، أما معني الجدة، ومعنى الحديث النبوي الذين وجدناهما في الكلمة الفصحى "حديث"، فلا ظل لهما ولا أثر في الكلمة العامية "حديت". ولا تكتفي العامية بما تجريه على الكلمة من تغيير صوتي أو دلالي، بل ترققها وتدللها، مبتدعةً اصطلاحها القصصي الخاص :"حدُّوتة"(47)، الذي يبتعد بكلمة "حديث" عن معانيها القديمة خطوةً أخرى نهائيةً وحاسمة. بيد أن "ألف ليلة وليلة" لم تكن تنتمي بكاملها يومًا في سردها ولغتها والتراث الذي تستند إليه إلى العامية وحدها، أو الفصحى وحدها، بل كانت تمزج على الدوام بين مستويات متنوعة من اللغة والثقافة، بين تقاليد الرواية الشعبية الشفاهية التي تعلي من شأن العامية ولا تتورع عن استخدام الألفاظ المكشوفة، وتقاليد التدوين الرسمية التي تتدخل بالتعديل في اتجاه الفصحى المهذبة؛ فظلت ألف ليلة كتابًا هجينًا متفردًا حتى في لغته.

ولم يكن غريبًا والأمر كذلك، أن نجد في طبعات الكتاب الأخرى الشهيرة، مثل طبعة كلكتا وطبعة بروسلاو(48)، كلمات: "حديث" و"أحاديث" و"حدثيني" و"أحدوثة"، بدلاً من كلمات: "حديت" و"احاديت" و"حدتيني" و"حدوتة" التي وجدناها في طبعة محسن مهدي ، وهي الطبعة التي حاولت كما نفهم من مقدمة المحقق أن تحافظ على سمات النسخة العربية الأم، وأن تتفادى ما وقع فيه الرواة والناسخون من خلط وتعديل حسب أذواقهم وأذواق أزمنتهم(49). كانت كلمة "الحديث" (بالمعنى السردي) مطروحةً إذن في الموروثين العامي والفصيح، وحينما جاء العرب المحدثون إلى ترجمة القصص والروايات عن الغرب، لم يسموا ما ترجموه "حديثًا"، أولاً لأنه يختلف عما ألفوه من قصص وأحاديث شفاهية قصيرة، وثانيًا لأنهم وجدوا كلمةً أخرى يمكن أن تؤدي هذا المعنى دون حرج، ودون أن تبتعد كثيرًا عن السياق الشفاهي لثقافتهم السردية، وكانت هذه الكلمة هي "الرواية".

بين كلمتي "الرواية"و"الحديث" وشائج لا يمكن إغفالها؛ إذ تقترن كل منهما بالأخرى في سياق النقل الشفاهي للشعر واللغة والحديث؛ فنقرأ عن رواية الشعر، أو رواية الأخبار، أو حتى رواية الحديث. كما أن الكلمتين كلتيهما تتضمنان بعدًا خاصًّا بأمانة النقل وواقعيته، وبعدًا آخر خاصًا بفاعلية الراوي أو المحدِّث ووجهة نظره. لكن بينهما مع ذلك اختلافًا واضحًا دفع المحدثين إلى تفضيل لفظة"الرواية"؛ فبينما كانت كلمة "الرواية" تعلي من قيمة  الأمانة أو الواقعية الكاملة في النقل عن المصدر، أيًا كان هذا المصدر: شخصًا آخر، أو كتابًا، أو واقعًا خارجيًا (وهذا أمر مهم بالنسبة لنوع الرواية الأوروبية الناهضة، التي نقل عنها العرب المحدثون)، فإن كلمة "الحديث" كانت لا تزال تركز على حضور المحدِّث حضورًا ذاتيًا، وقدرته على الارتجال والتلوين الصوتي، وتفاعله مع المستمعين ( وهو أمر لم يعد مهمًا في عصر الرواية الكتابي، وإن ظل مهمًا بالنسبة للرواية العربية ). وهكذا استقرت كلمة الرواية ترجمةً لكلمة Novel  الإنجليزية وكلمة Roman   الفرنسية، واستقرت كلمة قصة قصيرة ترجمةً لكلمة Short Story. لكن كلمة "حديث" ظلت تراود الكتاب حين يضعون عناوين كتبهم القصصية وغير القصصية، كما يمكن أن نلاحظ في حديث عيسى بن هشام للمويلحي ، وأحاديث جدتي لسهير القلماوي ، ومعظم كتابات طه حسين ، وحدث أبو هريرة لمحمود المسعدي ، وحديث شخصي لبدر الديب .. إلخ . والأهم من هذا أن القص الشفاهي على طريقة الحديث إلى المستمعين، ظل يراود الكتاب على الدوام وفي كل المراحل والاتجاهات: من المنفلوطي، إلى المازني، إلى يوسف إدريس، وانتهاء بما يكتبه المعاصرون الآن، وإن وظفه كل كاتب وكل اتجاه بطريقته الخاصة.

(6)

ربما يكون من المهم الآن أن نعود إلى السؤال الذي بدأنا به : ما الذي يضيفه مصطلح "الحديث" إلى فهمنا للسرد العربي وتاريخه وخصائصه المميزة؟ ويمكن الإجابة عن هذا السؤال في نقطتين أساسيتين:

النقطة الأولى - أن الحديث المباشر إلى مستمعين وما أفرزه من نتائج، كان عنصرًا تكوينيًا أساسيًا استمر مع السرد العربي في كل مراحله، بحيث يمكن أن نقول إنه يشكل عنصر اتصال عميق، بين الأنواع السردية في النثر العربي القديم كالخبر والمقامة والرحلة والتاريخ، والأنواع السردية الحديثة التي نقلناها عن الغرب في مطلع النهضة كالقصة والرواية. والأمر هنا لا يتصل بفكرة إحياء أنواع سردية قديمة كالمقامة، كما حققها اليازجي أو المويلحي أو لطفي جمعة أو حافظ إبراهيم أو غيرهم في عصر الإحياء، وإنما يتصل قبل ذلك - بالمنطق الذي يحكم السرد نفسه؛ أي علاقة المصاحبة التي تربط المؤلف بقرائه، وهو ما يجعل القصة في النهاية صناعةً مشتركة ذات هدف تعليمي، و يمحو المسافة الجمالية الضرورية، بين العالم الخيالي للقصة من ناحية، والعالم الحقيقي الذي يضم المؤلف وقارئه من ناحية أخرى. وعلى هذا النحو، لا يمكن القول بأن انقطاعًا نهائيًا قد وقع بين تراثنا النثري الممتد منذ الجاهلية، ونثرنا العربي الحديث بأنواعه المستوردة من الغرب؛ ذلك أن هذه الأنواع الغربية استُوعِبَت، وتم تكييفها بطرق وبجهود مختلفة، بحيث خضعت في معظم الأحوال لمنطق الكتابة العربية وتراثها.

النقطة الثانية أن مصطلح الحديث، مثلما يشكل عنصر اتصال بين السرد العربي القديم والسرد العربي الحديث، يمكن أن يشكل عنصر اتصال آخر بين السرد العربي الرسمي أو الفصيح، والسرد العربي الشعبي أو العامي. إن المسافة بين هذين المستويين من السرد العربي ليست واسعة كما نتصور لأول وهلة، بحيث يمكنك على سبيل المثال أن تضع حكاية من بخلاء الجاحظ، إلى جانب مقامة من مقامات الهمذاني، إلى حانب حكاية من ألف ليلة، دون أن تشعر أن هناك تناقضًا أو تفاوتًا حادًا؛ فوراء النصوص الثلاثة منطق واحد، جوهره هذه العلاقة التعليمية الحميمة بين المتحدث ومستمعيه.

ومن المؤكد أن هاتين النقطتين تحتاجان إلى قدر كبير من التعميق والبحث.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المعنى الأول الذي يتبادر إلى الذهن عندما ترد كلمة "حديث" هو الحديث النبوي ، وربما يكون المعني الثاني: "الحديث"الذي هو ضد القديم ، أما معنى "الكلام إلى مستمعين"، وهو المعنى المقصود هنا ، فلا يأتي إلا في المرتبة الأخيرة . وقد تنبه شارلز بلات - في مقالته عن مادة"حكاية"، من "موسوعة الإسلام" إلى تطورات مادة "حدث" وأهمية مصطلح "حديث" في الكلام عن السرد العربي فقال : "وبعيدًا عن المعنى الاصطلاحي المستخدم في علم الحديث ، تستخدم كلمة حديث عمومًا للتعبير عن قصة ، أو حكاية ، أو سرد . والكلمة مستخدمة في كتاب الأغاني وكتاب الفهرست وغيرهما" وقال: "إنه واحد من هذه الاصطلاحات العامة التي يحجب معناها الاصطلاحي استخداماتها الأخرى ." وقال "إنها كلمة  قد يكون من المفيد أن نضمها من جديد إلى مجموعة الكلمات المستخدمة في العربية للتعبير عن معنى قصة Story."Encyclopaedia of Islam,New Edition,Brill, Leiden, Netherland, 1977 (مادة حكاية)By Ch. Pellat
(3) الشعر الغنائي ، بطبيعته النوعية ، ينطوي على خطاب دائم من الشاعر إلى مخاطبين حقيقيين أو متخيلين ، إنه حديث الشاعر إلى جمهوره ، ولعل خطاب المثنى الذي تبدأ به كثير من قصائد الشعر العربي القديم أمر دال في هذا السياق . وربما يمكن أن نقول إن مسألة الحديث هذه انتقلت من الشعر المهيمن فنيًا(ديوان العرب) إلى النثر.
(4) في عصر التدوين أرسيت المكونات والقيم  الأساسية للعقل العربي والثقافة العربية ، وخاصة قيم السماع والرواية والنقل  ، وهي القيم التي ظلت سائدة ومهيمنة  . عصر التدوين كما يقول محمد عابد الجابري "هو الإطار المرجعي الذي يشد إليه ، وبخيوط من حديد ، جميع فروع هذه الثقافة وينظم مختلف تموجاتها اللاحقة.. إلى يومنا هذا " محمد عابد الجابري : تكوين العقل العربى ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت1984، ص62 وإلى وقت قريب ، كان السماع والمشافهة هما الطريق الأول لتلقي العلم في الأزهر الشريف ، ونظرة سريعة في كتب التراث العربي يمكنها أن تسجل الهوس بـ "حدثني" و"سمعت" و"قرأت عليه" ..إلخ. حتى القراءة والكتابة ، لا يمكن أن ينفصلا في هذا السياق عن السماع ، ومن هنا تكثر كتب "الأمالي" ، ويؤلف القدماء عن "أدب الإملاء والاستملاء"  . ولم يكن من قبيل المصادفة أن يضع علماء الحديث "السماع" على رأس صور التحمل الثماني : السماع ، والقراءة ، والإجازة ، والمناولة ، والمكاتبة ،والإعلام ، والوصية ، والوجادة . راجع صبحي الصالح : علوم الحديث ومصطلحه ، دار العلم للملايين ، (بيروت1959) ط9 1977 ، ص88 وما بعدها.
(5) يخصص كل من ابن منظور والزبيدي جزءًا كبيرًا من مادة (ح د ث ) لعرض الخلاف حول "أحاديث" ، هل هي جمع "حديث" أم جمع "أحدوثة" . يقول الزبيدي : ".. والأُحدوثة بالضم (ما يُتحدَّث به) ، وفي بعض المتون (ما حُدِّث به) ، ونقل الجوهري عن الفراء: نرى أن واحد الأحاديث أُحدوثة ثم جعلوه جمعًا للحديث . وقال ابن بري : ليس الأمر كما زعم الفراء ؛ لأن الأُحدوثة بمعنى الأُعجوبة ، يقال : قد سار فلان أُحدوثة ، أما أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكون واحدها إلا حديثًا ، ولا يكون أُحدوثة.. قال شيخنا: وصرحوا أنه لا فرق بينها وبين الحديث في الاستعمال والدلالة على الخير والشر ، خلافًا عن خصِّها بما لا فائدة فيه ولا صحة له ، كأخبار الغزل ونحوها من أكاذيب العرب . فقد خصَّ الفراء الأُحدوثة بأنها تكون للمضحكات والخرافات بخلاف الحديث، وكذلك قال ابن هشام اللخمي في شرح الفصيح : الأُحدوثة لا تستعمل إلا في الشر ، ورد عليه أبو جعفر الليلي في شرحه ، فإنه قد قال قد تستعمل في الخير .." محمد مرتضى الزبيدي : تاج العروس| المجلد الأول، المطبعة الخيرية المنشأة بمصر المحمية سنة 1306هـ.
وهكذا يتحرج علماء اللغة من جعل كلمة الحديث دالة على قصص اللهو والغزل والتسلية وأيام العرب وأحاديثهم ، في الوقت الذي تدل فيه على حديث النبي صلى الله عليه وسلم . وإذا كان لكلمة أن تدل على هذا المعنى فلتكن "أُحدوثة" وليس حديثًا ، خاصة أن أحدوثة هي التي تجمع على أحاديث ، أما جمع حديث على أحاديث فليس جمعًا قياسيًا !!
(6) ابن منظور " لسان العرب ، دار صادر ، بيروت 1955. مادة (ح د ث )
(7) الكليات : أبو البقاء (أيوب بن موسى الحسيني) نقلاً عن بطرس البستاني : محيط المحيط ( مادة ح د ث ) مكتبة لبنان 1977.
(8) أبو هلال العسكري ، الفروق اللغوية، مكتبة المقدسي ، القاهرة 1353هـ ، ص28.
(9) ابن فارس : معجم مقاييس اللغة ، تحقيق عبد السلام هارون، دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة 1366هـ  2|36
(10) راجع محمد ضاري حمادي : الحديث النبوي الشريف وأثره في الدراسات اللغوية والنحوية ، منشورات اللجنة الوطنية للاحتفال بمطلع القرن الخامس عشر الهجري ، بغداد العراق 1982 ، ص18.
(11) راجع اللسان 2|134
(12) سورة الزمر ، آية 23.  وراجع أيضًا آيات أخرى مثل{فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون} الجاثية |6{فليأتوا بحديث مثله أن كانوا صادقين} الطور |34{أفمن هذا الحديث تعجبون ، وتضحكون ولا تبكون}  النجم |59{أفبهذا الحديث أنتم مدهنون، وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} الواقعة|81
(13) راجع أيضًا قوله تعالى-{ثم أرسلنا رسلنا تترا ، كل ما جاء أمةً رسولُها كذبوه ، فأتبعنا بعضهم بعضًا وجعلناهم أحاديث ، فبعدًا لقوم لا يؤمنون} المؤمنون |44.
(14) هناك آيات كثيرة تستخدم الحديث بمعنى القصة أو الخبر ، وهو عادة خبر "يأتي"من التاريخ القديم ، ومن أخبار الرسل السابقين خاصةً ، كما في قوله تعالى : {وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارًا فقال لأهله امكثوا}طه |9، وقوله : {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين}الذاريات |24  ، وقوله : {هل أتاك حديث موسى إذ نادى ربه بالوادي المقدس طوى}النازعات|15 ، أو نبأ من المستقبل كقوله عن يوم القيامة  : {هل أتاك حديث الغاشية ،وجوه يومئذ خاشعة}الغاشية |1
(15) معظم الشواهد الشعرية هنا مأخوذة من كتاب "الخصائص"لابن جني ، في الصفحات الأولى التي يخصصها للتفرقة بين القول والكلام وتقليباتهما ، راجع ابن جني (أبو الفتح عثمان) : الخصائص ، تحقيق محمد علي النجار ، مطبعة دار الكتب المصرية 1952    ص ص29-31. وكذلك أخذنا شواهد أخرى من كتاب "زهر الآداب" للحصري القيرواني في الصفحات التي يخصصها لأدب المجالسة والمحادثة ، حين يجعل من مقطعات الحديث والسمر أعلى أنواع الأدب . راجع : زهر الآداب 1|155، تحقيق علي محمد البجاوي ، دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة 1969. أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، صححه وضبطه وشرح غريبه أحمد أمين وأحمد الزين، المكتبة العصرية ، بيروت 1953،ج1، ص 23-27. في هذه الليلة الأولى ذاتها، يلتفت أبو حيان فلسفيًّا إلى ما تثيره مادة ح د ث من تداعيات، وإلى علاقة الحديث بالحس والشهوة واللذة وليس بالعقل، وإلى تأثيره من ثم على النساء والأطفال .. يقول: " ".. ورجعنا إلى الحديث، فإنه شيء شهي، إذا كان من خطرات العقل، قد خدم بالصواب في نغمة ناغمة، وحروف متقاومة، ولفظ عذب، ومأخذ سهل، ومعرفة بالوصل والقطع، ووفاء بالنثر والسجع، وتباعد عن التكلف الجافي، وتقارب في التلطف الخافي.. قلت: ولهذا قال خالد بن صفوان حين قيل له: أتمل الحديث؟ قال: إنما يمل العتيق، والحديث معشوق الحس بمعونة العقل؛ ولهذا يولع به الصبيان والنساء. فقال: وأي معرفة لهؤلاء من العقل، ولا عقل لهم؟ قلت: ها هنا عقل بالقوة وعقل بالفعل، ولهم أحدهما، وهو العقل بالقوة، وها هنا عقل متوسط بين القوة والفعل مزمع، فإذا برز فهو بالفعل، ثم إذا استمر العقل بلغ الأفق. ولفرط الحاجة إلى الحديث ما وضع فيه من الباطل وخلط بالمحال، ووصل بما يعجب ويضحك، فلا يؤول إلى تحصيل وتحقيق مثل "هزار أفسان" وكل ما دخل في جنسه من ضروب الخرافات. والحس شديد اللهج بالحادث والمحدث والحديث؛ لأنه قريب العهد بالكون، وله نصيب من الطرافة؛ ولهذا قال بعض السلف: "حادثوا هذه النفوس فإنها سريعة الدثور" كأنه قال اصقلوها واجلوا الصدأ عنها، وأعيدوها قابلة لودائع الخير، فإنها إذا دثرت _ أي صدئت، أي تغطت، ومنه الدثار الذي فوق الشعار لم ينتفع بها؛ والتعجب كله منوط بالحادث، وأما التعظيم والإجلال فهما لكل ما قدم، إما بالزمان وإما بالدهر... "
(16) كتاب الفهرست للنديم(أبو الفرج محمد بن أبي يعقوب) ، تحقيق رضا(تجدد بن علي بن زين العابدين) ، دار المسيرة ، بيروت ط3 1988، ص ص110-111
(17) المصدر نفسه ،  ص105.
(18) يقول الحصري  عن بديع الزمان في معرض الإعجاب بمقاماته : "ولما رأى أبا بكر محمد بن الحسين بن دريد الأزدي أغرب بأربعين حديثًا ، وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره، واستنخبها من معادن فكره ، وأبداها للأبصار والبصائر ، وأهداها للأفكار والضمائر ، في معارض أعجمية ، وألفاظ حوشية ؛ فجاء أكثر ما أظهر تنبو عن قبوله الطباع، ولا ترفع له حجبها الأسماع ، وتوسع فيها ، إذ صرف ألفاظها ومعانيها ، في وجوه مختلفة ، وضروب متصرفة ، عارضها بأربعمائة مقامة في الكدية ، تذوب ظرفًا وتقطر حسنًا ، لا مناسبة بين المقامتين لفظًا ولا معنى ، وعطف مساجلتها ووقف مناقلتها بين رجلين سمى أحدهما عيسى بن هشام، والآخر أبا الفتح الإسكندري .."      زهر الآداب 1|261، تحقيق علي محمد البجاوي ، دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة 1969.
(19) من المعروف أن أبا علي إسماعيل بن القاسم القالي ، صاحب الأمالي واحد من تلاميذ ابن دريد ، وقد أكثر من الرواية عنه في كتابه كثرة مفرطة ، كما يقول عبد السلام هارون في تحقيقه لكتاب "الاشتقاق" لابن دريد ، ولا تكاد تمر صفحة من كتاب الأمالي لا ترى فيها اسم ابن دريد . راجع كتاب الأمالي ، منشورات دار الحكمة ، (بيروت د.ت) وراجع أيضًا تقديم عبد السلام هارون لكتاب الاشتقاق لابن دريد ، مؤسسة الخانجي بمصر 1958 ، ص6
(20) راجع كتاب الفهرست ، ص 67.
(21) زكي مبارك: النثر الفني في القرن الرابع جـ 1 (ط2) المكتبة التجارية الكبرى ، القاهرة 1934، ص99.
(22) المرجع نفسه ، ص209.
(23) شرح المقامات الحريرية ، لأبي العباس أحمد بن عبد المؤمن القيسي الشريشي ،ط2(بالمطبعة الكبرى الميرية العامرة ببولاق) مصر القاهرة سنة1300هـ ، ص10
(24) شوقي ضيف : المقامة ، دار المعارف ، القاهرة.
(25) A.F.L.Beeston .  "The Genesis of Maqama Genre , Journal of Arabic Literature,N:2(1971).
(26) J. N. Matock, The Early History of the Maqama", Journal of Arabic Literature, Vol:XV(1984)
(27) A.F.L.Beeston .  "The Genesis of Maqama Genre , Journal of Arabic Literature,N:2(1971),p:8
(28)  سيرة ابن هشام (1|6) ، نقلاً عن نصر أبو زيد : "السيرة النبوية سيرة شعبية : ملاحظات حول وحدات القص وأدواته" Journal of Osaka University of Foreign Studies, 1985,p: 89-90
(29) كتاب المغازي للواقدي ( محمد بن عمر بن واقد المتوفى في سنة 207هـ) ، تحقيق مارسدن جونز ، مطبعة جامعة أُكسفورد سنة1966
(30) الحصري : زهر الآداب ، مصدر سابق ، (1|155)
(31) في تقديمه لكتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربه ، يلاحظ أحمد أمين أن عملية جمع الأخبار والأحاديث قد تمت على مراحل ، فقد بدأت عملية الجمع في رأيه بالرواية الشفاهية ، ثم انتقلت إلى التجميع ، ثم جاءت بعد ذلك المرحلةُ الأخيرة ، وهي عملية الاختيار ، التي نتجت عنها كتب مثل "العقد الفريد" وغيره . وكانت أهم بواعث الجمع والاختيار كما رتبها أحمد أمين :1-مجالس الخلفاء والأمراء  2-تأديب أبناء الخلفاء والأمراء  3-الذوق الشخصي  .  راجع :   مقدمة أحمد أمين لكتاب العقد الفريد لابن عبد ربه ، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر-القاهرة-1948.
(32) أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري(213-276) : عيون الأخبار ، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية ، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر 1963 ، المجلد الأول (المقدمة)  (ص : م) . وفي هذه المقدمة يقول ابن قتيبة أيضًا:
"وسينتهي بك كتابنا هذا إلى باب المزاح والفكاهة وما روي عن الأشراف والأئمة فيهما  ، فإذا مر بك أيها المتزمت حديث تستخفه أو تستحسنه أو تعجب منه أو تضحك له ، فاعرف المذهب فيه وما أردنا به . واعلم أنك إن كنت مستغنيًا عنه بتنسكك فإن غيرك ممن يترخص مما تشددت فيه محتاج إليه ، وإن الكتاب لم يعمل لك دون غيرك .." ( ص : ي)
"وإنما مثل هذا الكتاب مثل المائدة تختلف فيها مذاقات الطعوم لاختلاف شهوات الآكلين ، وإذا مر بك حديث فيه إفصاح بذكر عورة أو فرج أو وصف فاحشة ، فلا يحملنك الخشوع أو التخاشع على أن تصعر خدك وتعرض بوجهك ، فإن أسماء الأعضاء لا تؤثم ، وإنما المأثم في شتم الأعراض وقول الزور وأكل لحوم الناس بالغيب.." ( ص :ي )
ولقد افتخر القاضي التنوخي ، صاحب حكايات "الفرج بعد الشدة" ، في مقدمة كتابه "نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة" بأنه جمع هذه الأحاديث الشفاهية ودونها ، وهو ما كان يعد أمرًا نادرًا . يقول التنوخي :"هذه ألفاظ تلقطتها من أفواه الرجال ، وما دار بينهم في المجالس ، وأكثرها مما لا يكاد يتجاوز به الحفظ في الضمائر إلى التخليد في الدفاتر، وأظنها ما سبقت إلى كتب مثله ، ولا تخليد بطون الصحف بشيء من جنسه وشكله . والعادة جارية في مثله أن يحفظ إذا سمع ليذاكر به إذا جرى ما يشبهه ، وعرض ما يوجبه ويستدعيه .."    جـ 1 ص1. راجع :القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي:نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة ،تحقيق عبود الشالجي، دار صادر بيروت1971
وهكذا سنجد كلمة حديث ، التي اختفت من عناوين الكتب ، حاضرة في مقدمات الكتب ، وعند أشهر  كتاب النثر العربي كعبد الحميد الكاتب (راجع رسالته إلى الكتاب ، ضمن موسوعة الحضارة العربية لبطرس البستاني ، دار كلمات للنشر ، بيروت 1995 ، ص525) ، وابن المقفع (راجع ترجمته لكتاب كليلة ودمنة ، دار الشعب ، القاهرة 1989، صفحات: 21-34-37-54-59..) ، والجاحظ (راجع البيان والتبيين تحقيق عبد السلام هارون ، مكتبة الخانجي ، القاهرة1985(ط5) ج3 ص5)، وغيرهم.
(33)* لعل أهم هذه الدراسات ما قام به المستشرقان مونرو وزويتلر . راجع : - -Michael Zwettler. The Oral Tradition of Classical Arabic Poetry,Ohio State University Press:Columbus, (1978). - -James T. Monroe.  Oral Composition in Pre-Islamic Poetry, Journal of Arabic Literature, Vol :3 (1972)
(34) من الطريف أن يسمي ابن شهيد في"التوابع والزوابع" ، شيطان بديع الزمان وتابعه "زُبدة الحقب" ، وكأنه يشير إلى ما قام به البديع من بلورة لجهود السابقين . راجع  ابن شهيد الأندلسي : رسالة التوابع والزوابع ، صححها وحقق ما فيها وشرحها وبوبها وصدرها بدراسة تاريخية أدبية : بطرس البستاني ، دار صادر ، بيروت 1996 ، ص128.
(35) تمام حسان : الأصول ، الهيئة المصرية العامة للكتاب(مصر) ودار الشئون الثقافية العامة (العراق) بغداد1988، ص84
(36) محمد عابد الجابري : تكوين العقل العربي ، مرجع سابق ، ص57.
(37)  F. Rosenthal . Four essays on Art and Literature in Islam , Brill, Leiden,Netherland,1971,p:61.
(38) جابر عصفور : تحول النموذج الأصلي للشاعر ، مجلة العربي الكويتية ، اكتوبر1994، ص ص : 74-76
(39) هاملتون جب : دراسات في حضارة الإسلام ، تحرير: ستانفورد شو ، و وليم بولك ، ترجمة : إحسان عباس، ومحمد يوسف نجم ومحمود زايد . دار العلم للملايين ، بيروت1964، ص311.
(40) راجع : J.D.Latham, The Beginning of Arabic Prose Literature: The Epistolary genre, in Arabic Literature to the End of the Omayyad Period ,p:154.
(41) راجع :   R.B. Serjeant .    Early Arabic Prose , in Arabic Literature to the End of the Omayyad  Period , Edited by A.F.L.Beaston, T.M, Johnstone, R.b.serjeant, and G.R, Smith , Cambridge University Press,1983,p:117.
(42) هاملتون جب ، المرجع السابق ، ص301 .
(43) راجع :Roger Allen. The Arabic Literary Heritage : the Development of its genres and criticism,Cambridge university Press, 1998,p:52.
(44) لم يتردد ابن المقفع حينما ترجم كليلة ودمنة في زمن مبكر من تاريخ النثر العربي في إطلاق وصف الأحاديث على فصول كتابه، إذ يبدؤه قائلاً : "هذا كتاب كليلة ودمنة، وهو مما وضعه علماء الهند من الأمثال والأحاديث"، وهو لا يفتأ يكرر وصف الحكايات بالأحاديث بعد ذلك. راجع: كليلة ودمنة، نشرة المكتبة الأموية بدمشق، د ت ، ص 16
(44) - كتاب ألف ليلة وليلة من أصوله العربية الأولى ، حققه وقدم له وعلق عليه محسن مهدي ، شركة أ ي بريل للنشر ، ليدن،هولندا ، 1984.
(45) المصدر السابق ، ص72.
(46) المصدر نفسه ، ص74.
(47) لا أظن أن كلمة  "حدوتة" العامية ، هي مجرد تحريف لكلمة "أحدوثة" الفصحى ، كما ذهب أحمد أمين ، وتبعه عبد الحميد يونس ؛ فطريق الكلمتين مختلف ، ودلالتهما مختلفة تمامًا . راجع:
(48) أعيد إخراج الطبعتين في القاهرة في عام واحد 1996؛ فنشرت هيئة قصور الثقافة طبعة كلكتا في ثمانية مجلدات ضمن سلسلة الذخائر ، كما نشرت دار الكتب المصرية طبعة بروسلاو في عشرين مجلدًا . ويمكن الرجوع إلى الطبعتين ومتابعة كلمة "حديث".
(49) راجع المقدمة التي قدم بها محسن مهدي للطبعة العربية من الكتاب ، كتاب ألف ليلة وليلة من أصوله العربية الأولى ، مصدر سابق.