تشكف قراءة الناقد المغربي المستبصرة في فكر المهدي بن بركة عن أنه إذا كان من الصعب الزعم بأنه ساهم في بلورة فكر نظرية مابعد الاستعمار على الصعيد النظري فإن من العسير أيضا تجاهل إسهام هذا المناضل المغربي في الفكر العملي لهذه النظرية العابرة للقارات والثقافات.

من المثقف الوطني إلى المثقف العالم ثالثي

قراءة في فكر المهدي بن بركة

يحيى بن الوليد

المهدي بن بركة (1920 ـ 1965) هو "ابن الاستعمار" وفي الوقت ذاته هو "ابن مجتمع تقليدي"؛ ولذلك آثر، ومن موقع "المثقف الوطني"، المتحمس والنبيل، أن يجابه على الواجهتين معا. وبما أننا سنتحدث عن موقفه من الاستعمار فإنه يمكننا أن نشدد، في المستوى الأول، على تصوره للمجتمع التقليدي والسبل التي طرحها للخروج من "التقليدانية" إذا جاز مفهوم عبد الله العروي الجامع. يقول في محاضرة له معنونة بـ "نحو بناء مجتمع جديد" (1958) (والعنوان دال في حد ذاته على مسعى الانخراط في العصر): "فإذا عدنا بخيالنا خمسين سنة خلت ـ أو إلى ما قبل تلك المدة بكثير ـ فإننا نجد أنفسنا وجها لوجه أمام مجتمعنا القديم. أمام مجتمع كانت تميزه عدة مظاهر. وكانت أهم هذه المظاهر وأقواها هي: الجمود مع الغرور" (ص104). غير أنه ليس هناك ما هو أخطر من "الجمود الفكري"، وهو ما لا يمكن أن يغيب عن ذهن المهدي الثاقب. يقول موضحا الفكرة: "وفي مجتمعنا القديم أيضا تجلت ظاهرة الجمود الفكري هذه الظاهرة المتولدة عن إقفال الفقهاء لباب الاجتهاد وانتشار العلم النقلي الذي يتجاوز دور أصحابه ـ من حيث النقل الأمين ـ الدور الذي تقوم به الأسطوانة اليوم" (ص106).

والمخرج الذي ارتآه للخروج من مأزق الجمود هو "التعليم" الذي ركز جهوده عليه في السنة الأولى من الاستقلال، لكن على غير طريقة المصلحين من السلفيين الموغلة في "التسييج الديني" أو "الاستعمار الفقهي". والتعليم، كما كان يتصوره، لا يقتصر على الفصل فقط، وإنما يشمل المجتمع بأكمله من أجل إعداده لـ "الانخراط" في "العصر" والإسهام ـ بالتالي ـ في صياغة "المعنى الإجمالي" لهذا الأخير. وتعليم من هذا النوع، وبسنده الحضاري المضمر، لا يمكنه أن يكون في معزل عن "البحث العلمي" الذي بدونه "لا يمكن أن يكون هناك تطور، بل لا يمكن أن تكون هناك حياة" و "البلاد التي لا تتوفر على الباحثين وليس لها علماء ستؤول إلى العبودية ولا تستحق إلا العبودية" كما قال في نص محاضرة لافتة كان قد ألقاها في شهر غشت 1957 في أثناء التحضير لإعلان تأسيس أول جامعة مغربية معاصرة.

غير أن التعليم الذي كان يحلم به المهدي بن بركة لم "ينقذ" البلاد، وإنما سار في اتجاه آخر... بل إنه سيكون، وبعد سنوات معدودة، وراء أحداث "23 مارس 1965" التي كانت أول هزة عنيفة عكست خيبة آمال أبناء الشعب اتجاه الدولة الوطنية، ووضعت ـ بالتالي ـ هذه الأخيرة على محك أول اختبار لها. غير أن هذه الأخيرة سترد بأن مصدر الهزة هم "المثقفون" وعلى رأس القائمة المهدي بن بركة الذي كان في المنفى الاضطراري. وهو ما تم تأكيده في الخطاب الذي ألقاه عاهل البلاد (وقتذاك) الملك الحسن الثاني في التاسع والعشرين من الشهر نفسه قائلا: "اسمحوا لي أن أقول لكم بأنه لا يوجد من خطر على هذه الدولة من خطر أولائك الذين يدعون بأنهم مثقفون، لقد كان يجدر بكم أن تكونوا أميين". وهذا الموقف، من الثقافة والمثقفين، ساد قبل الهزة أيضا، وهو موقف "أمني" لا يراعي الدور المنوط بالثقافة على مستوى تحديث المجتمع وعلى مستوى الإسهام في التصدي للأنساق الفولاذية التي تعوق تفعيل هذا النوع من التحديث.

وفي الحق لم يكتف المهدي بن بركة بمجال التعليم بمفرده، لما لهذا النوع من المقاربة القطاعية من محدودية لا ترقى إلى تقديم نظرة متكاملة. ولذلك عالج ميادين أخرى في مقدمها الفلاحة جنبا إلى جنب مجالات أخرى كالتجارة والصناعة والإدارة. وبما أنه لا داعي لاستعادة مضامين هذه المقاربة المتكاملة فإنه يمكن التشديد، هنا، على أن "تحديث" المجتمع، وبالطريقة الني كان يفهمه بها المهدي، كان يستند إلى "تصور سياسي" متعين قوامه "اقتسام السلطة" و "تداول الحكم". ومن هنا منشأ اصطدامه مع الدولة، ومن هنا إشاراته المتكررة، في كتاباته اللاحقة، وخصوصا في نص "الاختيار"، وفي ذروة الصدام هذا، إلى "الحكم المطلق القائم" كما كان يصفه. وفي هذا الصدد تتوجب الإشارة إلى فكرة في غاية من الأهمية وهي أن المهدي لم يكن يعتقد في جدوى "المعارضة المطلقة" حتى وإن كان لم يتحمل أية حقيبة وزارية وسواء كانت حقيبة التعليم التي كان من المفروض أن يحملها في عهد حكومة علال الفاسي في "عز" الاستقلال أو حقيبة الخارجية التي كان المصلح السلفي المختار السوسي قد تنبأ له بها حين كانا معا في "معتقل الصحراء" بـ "أغبالو بنكردوس" في "ذل" الاستعمار. بل إن أول حكومة لـ "عهد الاستقلال" كانت "حكومة جامدة" يرأسها ضابط متقاعد في الجيش الفرنسي وغير مشكوك في وفائه ومساهمته بصدق وإخلاص في الحركة من أجل رجوع الملك إلى عرشه... أما تسيير أول حكومة للمغرب المستقل وتركيز أسس الدولة الدستورية، فهذا شيء آخر، ولم يكن في استطاعة مثل هذه الحكومة تحقيقه أو العمل من أجله كما يعلق المقاوم الغالي العراقي في كتاب "ذاكرة نضال وجهاد" (ص205).

فخلاف صاحب "الاختيار الثوري" كان حول "الميثاق السياسي" (الممزوج بـ "الحق" أو "التفويض الإلهي") الذي يمكن أن تضطلع به الملكية على مستوى إرساء الدولة الحديثة والمجتمع العصري. وهو ما لم يكن مستعدا للتنازل عنه رغم كل محاولات الترغيب والترهيب. لقد اختار "الطريق الصعب"، ودافع عن اختياره؛ وهو القائل: "من واجب المناضل إما أن يكون واقفا على قمة الجبل، وإما أن يكون ممدا على تبن زنزانة مظلمة". إنه يمثل نموذج المثقف الذي يسعى إلى "قول الحق في وجه السلطة" تبعا للعبارة الشهيرة لإدوارد سعيد في كتابه "صور المثقف" (الترجمة العربية: غصن سلامة، ص91). غير أن الطريق سالفة الذكر ستكون قرينة نوع من "الوثوقية" التي ستجعل صاحبها موقنا من أنه غير مرغوب فيه، بل إن الأمر قد يترتب عنه الاغتيال. هكذا ستخطئه رصاصات "الكاب 1" منذ السنوات الأولى من الاستقلال كما سيقول، وبعد عقود، رجل المخابرات أحمد البخاري في كتابه "أجهزة المخابرات السرية". وسينجو مرة ثانية، وبأعجوبة، ولكن بعد كسر في عنقه هذه المرة، من محاولة اغتيال، ومن قبل "عصابة الكاب" نفسها التابعة للجنرال الدموي أوفقير، في جسر بالقرب من مدينة بوزنيقة حين كان في طريقه من الرباط إلى مقر الحزب بالدار البيضاء لحضور اجتماع ذي صلة بحملة مقاطعة الاستفتاء على الدستور الذي كان قد انطلقت حملته منذ يوم الأحد 18 أكتوبر 1962. الدستور الذي نعته، في مقدمة "الاختيار الثوري"، بـ "الرجعي المصنوع في مخابر الاستعمار الجديد" (ص7). ثم إن أحداث 1963 لن تدع لها مجالا للشك من استحالة إقامته ببلده الذي كان قد رحل عنه من قبل (1960).

وفي ظل مثل هذا الوضع لم يكن المهدي يملك من غير خيار "العنف كأسلوب سياسي" في نطاق "الاختيار الثوري" الذي سيبلوره في كتاب يحمل العنوان نفسه، وكل ذلك من أجل الرد على "الحكم المطلق القائم". لقد قادته ماركسيته إلى "نهج الثورة" بدلا من نهج "التعاقد" المتحدر من فكر الأنوار أو نهج "الانقلاب" المتبع في الأنظمة العسكرية. ومن هذه الناحية فنص "الاختيار" جدير بأن يعكس "نباهة" المثقف وإصراره على الذهاب إلى ما هو أبعد على مستوى "التشخيص" للأوضاع القائمة لبناء "مجتمع اشتراكي عصري" بالمغرب. أجل إن النص "مباشر" كما يتصور البعض أو بالأدق إنه "دليل للعمل السياسي المباشر، أكثر منه عملا في الثقافة والفكر بمعناهما العام، القريب من أفق الفلسفة والفكر السياسي..." كما يقول كمال عبد اللطيف في كتابه "درس العروي" (ص10)... غير أن هذا العمل ينطوي على "أفكار" ما تزال تمتلك "قابلية الترهين"، وخصوصا من ناحية صلة الدولة بالمجتمع و "مدخل" المثقف ضمن هذه المعادلة الصعبة. والنص، في الأصل، "تقرير" كان صاحبه قد بعثه من منفاه الاضطراري للكتابة العامة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية لمناسبة المؤتمر الوطني الثاني (25 مايو 1962).

غير أن خطورة التقرير تتجاوز"المناسبة الشكلية" للمؤتمر، كما نعتها المهدي نفسه في مقدمة "الاختيار الثوري"، نحو "تشخيص" "التحولات" الحاصلة في المجتمع ككل. إلا أن الكتابة، وفي إطار من صراع تيارات الحزب، رفضته وأخفته... وفي مقابل ذلك كلفت عبد الله إبراهيم بتحرير "تقرير مذهبي آخر" يظهر أنه كتب على عجل إضافة إلى أنه لم يتجاوز "الفضاء المغاربي" نحو "القوة الثالثة" التي كان المهدي قد أشرك الحزب فيها. وذلك فصل آخر من فصول "العداء" التي استهدفت المهدي والتي برع المفكر محمد عابد الجابري في الكشف عن "مستنداتها" في الكتابين اللذين كرسهما لـ "فكر" و "حياة" أستاذه المهدي بن بركة (مواقف، العدد 6 ـ 7/ 2003). إجمالا لقد اشتهر تقرير المهدي في البداية بـ "النقد الذاتي"، ثم فيما بعد بـ "الاختيار الثوري". ولم يكن المهدي يرغب في نشره إلا بعد مرور مؤتمر القارات الثلاث بهافانا الذي كان مقررا عقده عام 1966، غير أن أجهزة الحزب أصرت على نشره في سبتمبر من العام نفسه الذي اختطف فيه المهدي بن بركة.

وقد كان وراء تقرير "الاختيار الثوري" ما كان يعرف بـ "قطيعة 1960" أي إقالة حكومة عبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد في العام نفسه وعلى وجه التحديد في 21 ماي 1960. وقبل ذلك بعام واحد فقط كان بن بركة قد أجرى أربعة حوارات مع رايموند جان (وهي متضمنة في "كتابات سياسية") تحدث فيها عن معالم مشروع اقتصادي ومجتمعي، ولم يكن غريبا أن يتحدث عن هذا المشروع طالما أن صديقه في الحزب عبد الرحيم بوعبيد كان وزيرا للاقتصاد في حكومة عبد الله إبراهيم. وكان وراء القطيعة الحسن الثاني (ولي العهد وقتذاك) وبالمعنى الحرفي للكلمة كما يقول غاليسو. وكانت الغاية من وراء ذلك هي محاولة إثبات فشل التسيير الحزبي في خلق الاستقرار السياسي داخل البلاد. بل إن القطيعة جاءت لتدل على نهاية "الميثاق الذي كان قائما بين الملك والشعب" كما يشرح روني غاليسو، مما جعل المهدي يتحدث عن "الاختيار الثوري". وفي الحق لم يكن المهدي يجابه على مستوى الدولة فحسب، وإنما كان يجابه على مستوى الحزب أيضا ومن خلال ما أسماه بـ "مبدأ المسؤولية" الذي كرس له كتيبه "مسؤولياتنا" (1957) الذي يقول فيه، وضمن ما يقول، بأن "العائق الأكبر هو أنفسنا" (ص25). وفي مقابل ذلك يشير، ولو بشكل عارض، إلى ما كان يسميهم بـ "المخلصين" (ص30). وضمن هذه المسؤولية كانت تتحدد مسألة "الانتماء إلى الحزب". ولذلك كان يندد بأولئك الذين كانوا ينظرون إلى "الدولة المستقلة" وكأنها "قطعة من اللحم قد نضجت واستوت، وكل يريد أخذ نصيبه من شوائها" (ص6). تلك هي، وبشكل من الأشكال، "الثورة الثقافية" التي كان ينادي بها بن بركة.

وقبل الحديث عن تجليات "المثقف العالمثالثي"، في خطاب المهدي بن بركة، لا بأس من التأكيد على أن "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" نظرية لافتة للأنظار وعابرة للقارات والثقافات. وقد كشفت عن حضورها اللافت، في سياق الدراسات الأدبية والنقدية، ابتداء من أواخر السبعينيات ليتزايد حضورها الكاسح على مدار الثمانينيات والتسعينيات، ولتغدو في مفتتح الألفية الثالثة النظرية التي لا تعلو عليها نظرية أخرى، وخصوصا في فضاء "العالم الثالث" الذي تحمس لها بشكل لا نظير له مقارنة مع النظريات الغربية التي كانت تُصَدَّر، في نطاق "المركزية الغربية"، إلى هذا العالم في نطاق ما يعرف بـ "هجرة النظريات" بتعبير إدوارد سعيد (1935 ـ 2003) الذي يعد أحد الذين دشنوا حقل هذه النظرية بكتابه الإشكالي والصادم "الاستشراق" (1978). ويمكن رصد تأثير أو سحر هذه النظرية من ناحية "أبناء العالم الثالث" الذين يسهمون، وبنسبة 80%، وباللغة الإنجليزية، في صياغتها داخل "العالم الأول" بصفة عامة والأمريكي بصفة خاصة. وقد أعادت النظرية، ومن جديد، النظر في مشكلات الاستعمار وتأثيراته اللاحقة على الشعوب، بل واستمرار الإمبريالية من خلال "الإمبراطورية الأمريكية" التي خطفها "المحافظون الجدد" لفائدة "إسرائيل" التي ستسعى بدورها إلى مواصلة "الاستعمار" في المشرق وعلى غرار الإمبراطوريات الاستعمارية التقليدية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.

غير أن نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي لا تتحدد، من حيث الميلاد، بأواخر فترة السبعينيات، وإنما تمتد إلى ما قبل ذلك مع المناضل والطبيب النفساني الأنتيلي فرانز فانون (1925 ـ 1962) واليهودي التونسي ألبير ميمي صاحب كتيب "صورة المستعمِر والمستعمَر" و "شاعر إفريقيا" (والرئيس السنغالي السابق) ليوبورد سيدار سنغور (1906 ـ 2001) وغير هؤلاء ـ وهم كثر ـ ممن يندرجون ضمن "مقاومي الاستعمار من الثوريين" (Anti ـ Colonial Revolutionnaires). والظاهر أنه لا يمكن التغافل عن اسم المهدي بن بركة في هذا السياق إذ هو الآخر واحد من مناهضي الاستعمار من الثوريين المتصلبين ممن سيودعون في السجن من قبل "الدولة الوطنية" التي قاوم من أجلها كما سنلاحظ بعد حين، وليضطر لمغادره بلده إلى "المنفى"، وليصير متحمسا ومتزعما لـ "إيديولوجيات العالم الثالث الماركسية" (Ideologies Tiers ـ mondistes Marxistes) المعبر عنها ـ وقتذاك ـ من قبل "العالمثالثيين" (Toisieme Worldists). ثم إن فرانز فانون الذي كثيرا ما يتم التشديد عليه، في "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي"، لو أنه باشر السنوات الأولى للدولة الجزائرية لحصل له ما حصل للمهدي بن بركة. يقول إدوارد سعيد في حوار معه: "ولدي إحساس أن فرانز فانون لو عايش السنوات الأولى للدولة الجزائرية لكان موقفه سيبدو شديد التعقيد، ولا أظن أنه كان سيبقى هناك. لربما كان سيغادر إلى مكان آخر، فما حدث للكثيرين من مناضلي جبهة التحرير الوطني الجزائرية أنهم أصبحوا موظفين في جهاز الدولة الذي لم تطلع منه، بعامة، طبقة من المثقفين تحافظ على مسافة نقدية من الدولة" (مجلة "الكرمل"/ العدد 78، شتاء، 2004، ص120).

المهدي بن بركة هو ابن الاستعمار كما قلنا من قبل، ولذلك أولى للموضوع، وداخل بلده ابتداء، حيزا مهما من كتاباته. وفي ضوء ما سلف من "جمود فكري" و "احتقار" للعالم، ودون التغافل عن "فشل الدولة" (دولة المخزن) في التحديث، لا يبدو غريبا أن تفضي الوضعية إلى "أن نعيش في قعر بئر وداخل ستار كثيف" وفي معزل عن ما كان يحصل على "أبواب" المغرب في عدة دول أجنبية. ومن ثم "فعندما اقتحم علينا الاستعمار ستارنا الكثيف أحدث في نفوسنا وأفكارنا هزة عنيفة جعلتنا نستيقظ من سباتنا، ونخرج من عزلتنا، وندرك بأنه يوجد عالم واسع غير العالم الضيق الذي كنا نعيش فيه متخلفين عن الركب، وبأنه توجد علوم وفنون أرقى من علومنا وفنوننا، وأفكار نيرة نفضت عنها كل جمود وتعصب، وإسلام حقيقي أكثر نصاعة وسلفية من الإسلام الذي اتبعناه محاطا بطبقة من القشور والخرافات وعبادة الأصنام" ("نحو مجتمع جديد"، ص104). من هنا منشأ "اللقاء الصادم" أو ما كان ينعته المهدي بن بركة بـ "الصدمة التاريخية" التي ستؤول إلى "صدمة الحداثة" عند منظري "الحداثة" من المفكرين العرب المعاصرين. وقد لا يخلو ما سبق من دلالات جديرة بأن تومئ إلى ما يعرف في دراسات ما بعد الاستعمار بـ فكرة "القابلية للاستعمار" (La colonisabilité)، لكن من أجل "الإفادة" من الغرب واقتحام ثقافته لا من أجل الخنوع والامتثال له. غير أن هذا الاستعمار يبقى قائما على النهب وتسخير خيرات الشعوب المستعمَرة لصالحه، وعلى نهج سياسة "ترمي لإبقاء ما كان على ما كان" (ص106). ولذلك قطع المهدي على نفسه مواجهة هذا المستعمر من أجل استقلال المغرب، بل وكان أصغر موقع على عريضة الاستقلال في 11 يناير 1944. وقد كلفه ذلك الدخول للسجن والعيش في المعتقلات لما يزيد على خمس سنوات، وكان شعاره الحدي "لا توجد مدرسة تفوق مدرسة الكفاح". 

غير أن أهم ما يلفت في تصورات المهدي بن بركة أنها لم تكن تركز على مسألة الاستقلال بمفردها، وإنما كانت تعنى بمضامين هذا الاستقلال أيضا. وهو ما لم يكن يفكر فيه حزب وطني كان يرفع شعار "الاستقلال". إن ما كان قد فطن إليه بن بركة هو ما ستكشف عنه السنوات الأولى من الاستقلال، وبما يعيد إلى الأذهان الشعار القديم/ الجديد: "يرحل الاستعمار، يحيا الاستعمار". يقول في "نحو بناء مجتمع جديد": "ولقد أدركت الشعوب المتأخرة التي لها وضع كوضعنا بأن الاستقلال ليس بغاية في حد ذاته، وإنما هو وسيلة للعمل الجذري من أجل بناء مجتمع جديد على أنقاض ما قبل الاستعمار ومجتمع عهد الاستقلال" (ص109). ويضيف "ستنعدم كل قيمة لعملنا كوطنيين إذا اعتبرنا الاستقلال غاية ولم نعتبره نقطة البداية ومفتاحا لخوض معركة أكبر من معركة الاستقلال وهي معركة بناء عهد الاستقلال" (ص110). فـ "مغرب الغد" أو "بناء مجتمع جديد" يقتضي "تغييرا جذريا"، وفي هذا النطاق تقع "فريضة الجهاد الأكبر" التي تلي "فريضة الجهاد الأصغر" (الاستقلال).

إن أول ما سيصطدم به المثقف الوطني، في الكثير من البلدان العربية، ومباشرة بعد الإعلان عن الاستقلال السياسي، هو الدولة التي ظل يعلق عليها آمالا عريضة في مشروع "التحديث المجتمعي". الاستقلال الذي "انتزعناه بالعرق والدماء والدموع" كما يقول بن بركة في كتابه "مسؤولياتنا" (ص47). وفي هذا الإطار يقول الباحث والمؤرخ الفرنسي روني غاليسو في حوار معه: "إن الدول المستقلة لا تكون مستقلة سوى في الشهور الأولى للاستقلال، لأنها فترة رائعة تسقط فيها كل الحواجز وعلامات "ممنوع المرور" (جريدة "الاتحاد الاشتراكي"، الأربعاء 21 أبريل 1999). والفكرة ذاتها يؤكدها فيصل دراج قائلا: "ولذلك لم يكن غريبا، أن تشكل فترة سيطرة الاستعمار المجال الذهبي لصعود المثقف وصعود الأحزاب السياسية التي هي مرآة للمثقف الوطني وامتداد له. كما لم يكن غريبا أيضا أن تكون فترة الاستقلال الوطني هي البداية التاريخية لذبول وانطفاءة صورة المثقف ووظيفة الأحزاب السياسية أيضا. وهذا الحكم لا يفضل العهد الاستعماري على الحكم الذي تلاه، بل يشير إلى تعقد مسألة الدولة الوطنية، التي أقصاها المثقف الوطني من حقل النظرية ورمى بها إلى حقل البداهات السعيدة" ("النهج"، العدد 4، صيف 1995، ص82).

وهذا ما سيحصل للمهدي بن بركة إذا سيغادر الرباط في 21 يناير 1960 ليعود إليها في 15 ماي 1962 أي بعد ما يقرب من عامين ونصف العام، إلا أنه لن يمكث فيها إلا ثلاثة أشهر (تعرض فيها لمحاولة اغتيال سلفت الإشارة إليها) ليضطر من جديد إلى الهجرة إلى المنفى في 15 يونيو 1963 ليعيش متنقلا بين عواصم عربية وغربية كالقاهرة وباريس وجنيف والجزائر وهافانا.. مخاطبا قادة وزعماء العالم الثالث... وعلى إيقاع الخوف من "الاختطاف" الذي يمكن أن يطاله في قلب عاصمة من هذه العواصم. وهو ما سيحصل له وفي قلب المطار الفرنسي الأشهر: مطار "أورلي" (الدولي) يوم الجمعة 29 أكتوبر 1965 حين استدرج إلى الإشراف على الفيلم السينمائي المزعوم "باستا" الذي يصور نضال شعوب العالم الثالث بمناسبة انعقاد مؤتمر القارات الثلاث في هافانا في يناير 1966.

ويهمنا أن نشير الآن إلى أنه عندما حط المهدي بن بركة بالخارج لم يكن مجهولا، فقد كان زعيما مغربيا له مكانته الرمزية الخاصة وقيمته السياسية المتميزة في حزبه وفي وطنه الذي اضطر إلى مغادرته نتيجة ضغوط قاسية مورست عليه وكفرد أعزل ومجرد من أي سلاح من غير سلاح فكره السياسي الحاد والصارم. وبالنظر إلى وعيه الحاد بـ "الاستعمار الجديد" وتحرر "البلدان" بدلا من "الشعوب" فإنه سيقطع على نفسه مواصلة الكفاح من أجل تحرير "شعوب العالم الثالث"؛ وهو عمل ليس ظرفيا، بل عمل تاريخي طويل ومرير. ونتيجة خيبته في تجارب العالم العربي سيعلق آمالا عريضة على إفريقيا ودعم البؤر الثورية داخلها. غير أنه لم يكن يخفي تخوفه من فساد بعض زعماء وقادة القارة السمراء، وخصوصا في المنظور الذي قد يفضي بـ "منظمة الوحدة الإفريقية" إلى أن تكون مجرد أداة طيعة في يد الإمبريالية والاستعمار الجديد.  

أجل لقد كانت بدايته متواضعة في هذا المجال الذي دشنه، وكما يرجح، بخطابه في مؤتمر الشعوب الإفريقية المنعقد في تونس ابتداء من 25 يناير 1960. وهو ما لا يبدو غريبا بالنظر إلى حجم الملفات والمهمات التي يستلزمها عمل تاريخي من هذا النوع. غير أنه، وبفضل دبلوماسيته وحنكته، سرعان ما سيوسع من دائرة مسؤولياته. وهكذا سيرتقي، وبفعل ذكائه الخارق وبفعله عمله المتواصل، إلى مهام التنسيق بين الحركات الثورية في العالم الثالث: أولا في إطار لجنة التضامن الأفروـ آسيوية، وبعد ذلك في إطار اللجنة التنظيمية لمؤتمر القارات الثلاث الذي كان مقررا أن يعقد في بداية 1966 بهافانا. وكما يلخص المهدي المنجرة: "فبين 6 و19 ماي 1965 انعقد المؤتمر الرابع لمنظمة تضامن الشعوب الإفريقية والآسيوية، الذي قرر أن يمتد إلى أمريكا اللاتينية، وأن يدعو إلى عقد للقارات الثلاث سنة 1966 في كوبا، ووقع الاختيار على بن بركة كرئيس للجنة التحضيرية للمؤتمر" ("الاتحاد الاشتراكي"، 6 يناير 1996). لقد أصبح في أواخر حياته أحد الناطقين باسم العالم الثالث كما يقول عبد الرحيم الودغيري في كتابه "المهدي بن بركة من الوطنية إلى الثورة".

وفي الحق يصعب أن نستعيد، هنا، تحركات المهدي ولقاءاته وجهوده؛ وهو ما أنجزه، وبدقة، آخرون. غير أنه يمكن التشديد على أنه أصبح في الفترة الأخيرة من حياته "ثالثيا" (نسبة إلى الدفاع عن قضايا "العالم الثالث") وأحد الناطقين الأساسيين باسم "العالم الثالث": العبارة التي كانت وقتذاك لا تخلو من دلالات حدية إذ لم يكن قد مر على إطلاقها من قبل عالم الديمغرافيا الفرنسي ألفريد سوفي (Alfred Sauvy) إلا ما يزيد عن عقد من الزمن (1952). وفي هذا الإطار يمكن أن نفهم دخول صاحب "الاختيار الثوري" المتحمس في منظمة القارات الثلاث (إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية)، ورئاسة اللجنة التحضيرية لمؤتمرها، وتحديده لائحة المهام المطروحة التي دعا في آخرها إلى "إنشاء لجان وطنية، تشكل أنوية لجبهات شعبية معادية للإمبريالية في كل بلد" من بلدان العالم الثالث. وعلى هذا الأساس أخذ يتحرك بين هافانا وبكين والقاهرة، بل وكُلف بمحاولة حل خلافات كانت حاصلة بين قوى عظمى مثل الصين والاتحاد السوفياتي.

وفي السياق نفسه يمكن أن نفهم الندوة العالمية حول "دور إسرائيل في إفريقيا" التي كان وراء تنظيمها بالقاهرة ما بين 30 مارس و6 أبريل 1965، ونجاحه في جلب العديد من الوجوه والمنظمات العالمية المناهضة للاستعمار فيها، سعيا منه إلى ربط القضية الفلسطينية بالتيار العالمي الذي كان يدعم القضية الفيتنامية وقضية النضال ضد العنصرية في جنوب إفريقيا. وفي هذه الندوة ألقى عرضا قويا أمام 2000 مشارك مشددا فيه على أن إسرائيل لا تعدو أن تكون مجرد "أداة" للإمبريالية والاستعمار الجديد، ثم إن التجربة الإسرائيلية في "التنمية" التي انبهر بعض القادة الأفارقة مجرد "خدعة". يقول: "أعتقد أن مجرد تقديم نموذج خاطئ للتنمية لدولة حديثة عهد بالاستقلال فيه خدمة للاستعمار، لأن هذا العامل تضليل وتعطيل بالنسبة لهذه الدول" (الاتحاد الاشتراكي، الجمعة 29 أكتوبر 2004). وهذا العرض سيصير "مرجعا"... وقوته ليست نابعة من الأطروحة التي دافع عنها فقط، وإنما من الأرقام والشواهد المستمدة من الكتابات الأجنبية والإسرائيلية ذاتها. لقد كان المهدي مصرا على فك الالتباس بين "اليهودية" و "الصهيونية" باعتبارها "ايدولوجيا عنصرية استثنائية متصلبة" كما سيقول إدوارد سعيد بعد ما يقرب من عقدين من الزمن. بل إن المهدي بن بركة التفت، ومنذ تلك الفترة المبكرة، إلى ما عرف بـ "الصهيونية الزراعية" التي كانت تشكل دعامة بارزة في الصهيونية. وقد كان المهدي بن بركة شديد الوعي بأهمية "الإصلاح الزراعي" كشعار يضمن تحقيق "الديمقراطية الواقعية ببلادنا" بتعبيره، ودون التغافل عن أن سكان البوادي كانوا يمثلون وقتذاك ما يزيد عن 80 في المائة.

وكان الناقد الأدبي والفيلسوف الجمالي الألماني (من أصل يهودي) فالتر بنيامين قد انتقد الصهيونية الزراعية بشكل لاذع. وكان يرى بأنه يتوجب على الصهيونية أن تتخلص من ثلاثة أشياء، هي: الهوس (أو الميل الغريب) الزراعي والإيديولوجيا العِرقيّة وفكرة الدمّ والمعيش ("مقالات مختارة"، ص145). وهذا الوعي هو ما جعل إسرائيل تسهم بدورها، وإلى جانب أطراف مخاباراتية أخرى، في عملية "الاختطاف"، وهو ما سيتحدث عنه صحفيون إسرائيليون وفي إثر ذلك سيعتقلون ويحاكمون في محكمة عسكرية. هذا بالإضافة إلى أن الرئيس شارل ديغول، الذي كانت له صلة بالمهدي بن بركة والعالم الثالث بعامة، سيقول بأن العملية عليها "طابع تل أبيب".

وهناك من يرى أن المخابرات الأمريكية كانت ترصده من قبل، ثم إنه لم يكن في مصلحة الأمريكيين عقد مؤتمر القارات الثلاث في الستينيات. وعلى نحو آخر فأن يعقد المؤتمر بحضور المهدي بن بركة، الذي كان سيرأسه، ليس هو أن يعرض بدون حضوره كما يقول عبد اللطيف جبرو (أحد المتخصصين في المهدي بن بركة) في حوار معه في جريدة "النشرة" (العدد 39، نونبر 1995). وكما أن المخابرات الأمريكية كانت تعتبره أخطر من إرنستو تشي غيفارا (1928 ـ 1967) الذي يقول عنه رفيقه، ومنظُّر الثورة في أمريكا اللاتينية، رجيس دوبريه: "كان هناك خمسون شخصا فقط مع كاسترو وغيفارا أعلنوا الثورة في أمريكا اللاتينية وكانوا يريدون أن يحرروا قترة عدد سكانها 300 مليون نسمة". وتتوجب الإشارة، هنا، إلى أن بن بركة كانت له صلات بغيفارا، غير أنه لم يكن على اتفاق تام معه بسب من "رومانسية" هذا الأخير "الثورية" في مقابل ميل الثاني إلى "التحليل" و "التشخيص" للبنيات السياسية الكبرى. وكما يلخص البعض كان تشي غيفارا يعتقد في جدوى البندقية، فيما كان بن بركة يعتقد في جدوى النقاش والمجادلة. وهنا يكمن الفرق بين المثقف والثائر حتى وإن كان سيكون لهما المصير نفسه.

وخلاصة القول سيكون من الصعب القول بأن المهدي بن بركة كان منظرا لنظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي، أو حتى أحد الممهدين لها، غير أنه سيكون من الأصعب تناسيه في هذا الموضوع بالذات أو حشره ضمن قائمة "الأصوات الكثيرة التي يضيق عن ذكرها المقام" تبعا للعبارة المسكوكة. وإذا كان البعض يتصور أن إدوارد سعيد "حزمة" أو "دوامة" من الأصوات: صوت مانديلا، وصوت غاندي، وصوت غيفارا، وصوت مارتن لوثر كينج، وصوت فانون... فألا يمكن لنا موضعة المهدي بن بركة ضمن هذه الحزمة أو الدوامة؟ ثم إن تلك الفترة المفصلية في تاريخ العالم ككل ووضعه الشخصي الضاغط وغير المستقر لم يكونا يسمحان له حتى بالتفكير في "التنظير". كان هدفه هو تحويل "الفكرة"، المتمثلة بمقاومة الإمبريالية، إلى واقع مادي ملموس.