يقارب المقال أحدث عمل روائي يمني يشرح راهن اليمن وحاضره، ومن خلاله نتعرف على سمات الرواية الحداثية بحكم انفتاح النص الروائي على أفق السؤال والشك في أي يقين، وهي نص يعرف تنوعا في الفضاءات والشخصيات مما يجعلها نصا روائيا يتحرك بعيدا عن القولبة.

«قهوة أمريكية» برواية يمانية حتى التخمة

أحمد المديني

يحرص أحمد زين في روايته: "قهوة أمريكية" (المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2007)على تنويع الفضاءات، وجعلها تتعدد وهي تتباين بما يلائم مستوى الشخصيات وطباعها، والهم المشترك بينها، بوصفه أحد محاور العالم الروائي المرصود. تصلح هذه الملاحظة مدخلا ملائما لرصد طبيعة هذا العالم ورؤية البشر/ الشخصيات المتعايشة داخله أو المتصادمة، لأنها تصنع الحدود فعلا بين ما هو روائي، وما هو خارجه أو على هامشه. لقد قلنا وكررنا عمدا في غير مناسبة أن اختيار السرد التخييلي تعبيرا مقصودا في نص، أو وفق ميثاق معلن سلفا من الغلاف، لا يفضي بالضرورة إلى تحقق هذا الغرض، وهو ما يجانب صوابه كثير ممن تتناسل اجتهاداتهم اعتباطا في هذا الحقل يحسبون التجنيس وحده يؤهل لتصنيف العمل، ما يؤدي أحيانا إلى تكاثر عشوائي قد يتعيّش منه الناشر (الطابِع) لكنه لا يفيد الكاتب المزعوم إلا في وجاهة أدبية فارغة. منطلقنا أن الجنس الأدبي رهن بضرورته، بقرائن محددة لكي يأتي على هذا المنوال أو ذاك، مستوعبا معاني ومدلولات بعينها.

أظن أن أحمد زين فهم هذا الشرط، وتقيّد به من بدء عمله إلى نهايته، مع محددات أخرى، ارتأى، بحس العارف، فاتخذ له فضاء مركزيا هو الأفسح، والأغنى، والأنسب لروايته، يضاهي مدينة صنعاء، بل اليمن كله، وناسه وقبائله وحكمه وشجون بشر عديدين منهم البطل نفسه الذي من عينيه ووعيه وبسرده تتحرك. لقد اختار "المجلس الثقافي البريطاني" فيه تتجمع شخصيات وخطوط ومنازع عمله، ومنها تنطلق، أيضا، إلى فضاءات مجاورة، منافسة ومغايرة، وإن بقيت هامشية قياسا بالمساحة النصية والدلالية للفضاء الأول.

هذا الاختيار منشؤه في تقديرنا، يعود إلى شرط أن الرواية كجنس أدبي حديث تحتاج إلى فضاء مديني في بنياته ومناخه وإوالياته تولد وتعيش، وتصنع حكاياتها وحبكاتها. اختيار يستبطن، من طرف المؤلف، إن لم نشط في التأويل، ضربا من حكم القيمة مفاده أن ما يقع خارج المجلس بداوة وقبلية وتخلف كما لا يفتأ بشر عابرون يرددون، وأوساخ، ووحشية، وقذارة في كل مكان، وتبرّزٌ في الشوارع، واغتصابٌ، وشذوذ، أما ما يقال عن اليمن السعيد وحضارته وما إلى ذلك مما يأتي الأجانب للبحث عنه كأشياء غابرة فهو جزء من تاريخ كان وولّى. حُكمٌ يصدر أحيانا بعبارات تقريرية ما أكثرها متفرقة على طول المتن (160ص) ترد على لسان البطل، تارة، وعلى لسان أفراد في دائرة نظرته التي تمسح الشوارع بالمشي والسير وهي تلتقط وُتسجل وُتعلق على ما ترى، كما تقرأها مضمرة، بين السطور، بإيحاءات، ومن خلال مشاهد موصوفة بنفور. هكذا يتقرر أن "المجلس الثقافي البريطاني" هو المجال المناسب لعمل الرواية، وهذا ما يحدث، وهو الإطار المرجعي ثقافةً ولغةً وسلوكاً وأسلوبَ عيش، وطموحاً في الأخير لمن يتحركون في فلكه، ممن يرغبون في الأخير، مثل كثير من أبناء جلدتهم من خارجه أن يغادروا ليبتعدوا عما يسمونه بـ "الخرا" الذي يعيشون فيه، حتى إن هناك من يتخلى عن امتحان سنة التخرج من الجامعة ليلتحق راعي غنم بالسعودية، هذا البلد الذي يضع المؤلف سفارته بحرسها العسكري، وأسلاكها الشائكة، ومحيطها المنفر مقابلا مضادا ومفارقا لكل ما يحفل به المجلس البريطاني داخله، وما يوحي به لمن يرونه من خارج، فكيف بالمحظوظين العاملين أو الذين يأتون لتعلم اللغة فيه، وفي رأس كل واحد منهم أحلام وأوهام.

ما من شك، بعد هذا، أن ليس أفضل من إحضار مناخ أجنبي لصنع دلالة الصراع والاختلاف الضروريتين للرواية، ولبطلها الذي يعيش مجموعة انفصامات هذه إحداها. والرواية كلها تتحرك دوالاً ومدلولاتٍ بالمسافة المقطوعة من المجلس وإليه وفي محيطه وأبعد منه. فكيف؟ في "قهوة امريكية" (وهذا إخبار سريع، ضروري، لمن لم يقرأ العمل) يوجد المجلس المذكور في قلب العاصمة صنعاء، هنا يحضر جماعة يتابعون دروسا في الإنكليزية على أيدي مدرسين انكليز ومعهم جنسيات أخرى، وُتنسج بينهم علاقات لُغَوية ولََغْوية، إناثاً وذكوراً، كما تضطرم مشاعر متضاربة بين الفضول والرغبة والغيرة، الخ... نواةٌ اجتماعيةٌ تتميز بتعدد عرقي ولغوي وثقافي وحُلمي، أيضا. ما يسمح لهذا العمل منذ البداية بكسر رتابة النسيج الواحد، ويوفر لسارده عيناً كلدوسكوبية تُغني على مدار المعاينة والمراقبة والتحسس الرؤية الكلية المرصودة والمحسوسة. في قلب النواة عارف وليس أي شخصية أجنبية، فهو ابن البلد وفضلا عن أزمته المحورية، معضلته كبطل، ومسعاه الذي يمثل الخط الأفقي للرواية، فهو يجسد صلة الوصل بين الداخل (عالم المجلس) والخارج (صنعاء، اليمن، المحيط والبشر الآخر النقيض). بين الذهاب والإياب من داخل إلى خارج ترتسم خطوط عمودية متعددة، شكلاً في السلوك، وخطاباً في الأقوال، وأفعالاً في ممارسات يومية، كما في تهيؤات وأحلام تصل إلى حد أن تبطش بأصحابها، فتحولهم إلى مجانين، فقدوا قدرة الحركة والتوازن في عالم جزء منه صنعه البطل نفسه من أهواء،!! إلى جانبه عالية الزميلة والحبيبة المشتهاة من جهته بالدرجة الأولى، وهي المناضلة التي تردد: "أن المرأة في خطر، حتى من المثقفين والحزبيين الذين يريدون منها أن تفتح فخذيها (...) لكن أن تفتح عقلها، أو حتى محاولة ذلك، فهذا لا يهمهم" (24). تلعب دورا غامضا وسحريا في العمل، من حيث قوة شخصيتها ـ وتنازعها بين الجاذبية الاجتماعية التقليدية بتمردها عليها، فهي مطلقة وتعيش بمفردها، والجاذبية الأجنبية بالمحيط الإنكليزي الذي تتردد عليه، وقبل ذلك ماضيها النضالي، اليساري القومي، معا، (ممثلا في بُعد الموقف النسوي في اليمن من حرب الخليج "باخرة ابن خلدون")، وأخيرا يأسها، تمثيلا عن إمكان التصالح مع المجتمع، وانسداد الأفق، بسعيها إلى الهجرة.

كاترين، تبدو عنصر الإثارة في محيط المجلس، وملتقى جاذبيات، وإطلاق تحريضات علنية وخفية، وهي ذريعة لتمثيل ظاهرة اختطاف الأجانب الشائعة في اليمن، يشير إليها المؤلف مرات، ويشخصها مع كاترين، نفسها التي تؤجج شبق البطل المحبط بسبب إحساسه بعجزه الجنسي، وميله الجامح إلى عالية الملتبسة. في الخارج تعتبر شخصية عبد القوي المثال الذي يقدمه الكاتب رمزا لفساد الحياة السياسية، والمتاجرة في الانتخابات، وابتذال القيم. من خلاله يمرر خطاب الباروديا القاتمة حيث تتهافت إيديولوجيات وشعارات كانت مؤسسة، وآمنت بها أجيال، وإذا بها أضحت عرضة للمزايدة. في محيط عبد القوي، وامتداداً منه، ترتسم خلفية انكسارات حصلت بعد الوحدة، وموجة غضب شعبي لا تتوقف، في شكل مظاهرات ضد السلطة توازيها ردود فعل قمعية، وتمرد دائم للقبائل، ومدفعية لا ينقطع دويّها، مع خليط من أطياف تعمر بها باصات المدينة تتحول إلى "هايد بارك" للاحتجاج والتسفيه والتندر، وانتهاء مجانين في كل مكان تقريبا، حتى إن من يقرأ هذا العمل يحسب أن البلاد شبه مارستان! هذه عموما البانوراما من فوق وتحتها التضاريس في قلبها مسار البطل عارف، رمز عقدة الرواية وجيل، بل وضع كامل مركب، يذهب الكاتب إلى تشخيصه، وفضحه، انتهاء بإدانته.

تبدأ"قهوة أمريكية"بما هو جدير بكل رواية كلاسيكية، أي تندرج في تاريخ الجنس الأدبي وشرعيته، نعني بحفر المسعى الخاص ببطلها أو ما يمثل ذلك موجزا ومؤشرا لسمات حقبة تاريخية وفئة اجتماعية تصدر عن رؤية معينة للعالم، هي التي توسع لوسيان غولدمان (1913 ـ 1970) في شرحها في بنيويته التكوينية أمس، أما بطلها فقد كان جورج لوكاتش (1885ـ 1971) قبل ذلك، قد حدد وضعه في كتابه الحاسم "نظرية الرواية" بصفة "الإشكالي" التي تعني أساسا عنده البحث عن قيم مثلى في عالم منحط أو يتردى. بالنسبة لأحمد زين يتحدد الأمر على الوجه التالي "فكرة أن يكون لك[ لبطله عارف] تاريخ شخصي "خطير" (9). وحسب لوكاتش فالمسعى ينبني على أطروحة، فهو مفكر ماركسي أولا، وعارف يريد أن يكون له:

"تاريخ شخصي يجالسه عندما يكون وحيدا، وحين يسأم من الحياة يأخذه في نزهة صغيرة سيرا على الأقدام.." (10) السبب أن الوحدويين لما تحققت الوحدة: "صاروا عاطلين عن النضال، عن الحياة على الأرجح" (م. س) والممنوعون من التعبير يتكلمون بحرية. صنع التاريخ الشخصي هذا يحتاج إلى فعل، ما يقود عارف إلى المشاركة في مظاهرة ضد الحكومة مع الهتاف بأقوى الشعارات، ومن ثم "الكليشي" المعتاد في الحياة العربية وروايتها، الاعتقال والتعذيب والتحقيق والحبس، ثم سرد ما حدث أو لم يحدث للجمهور بالزيادة والتهويل، للذات بالتزيد والهذي وتوليد البارانويا. وهو فعل سيحدد في الظاهر بداية التاريخ الشخصي الذي يسعى لتأسيسه، لتأليفه بالأحرى، كقصة كما سنرى.

فعلا، فإن تأسيس/ تأليف هذا التاريخ ينهج طرائق عدة، بانسجام مع تعدد مشاهد ومسارات ورؤى البانوراما الروائية، حتى والمطاف سينتهي بها لتصب في رؤية واحدة، رغم طابعها المبعثر. ثمة النهج الواقعي لشخصية عارف، المتمثل في الحياة التي يخوضها يوميا منعكسة في مرايا مشاريع مختلفة: المشروع الكلي، طبعا، لإيجاد تاريخ شخصي، لازمةٌ تتكرر على امتداد العمل، المشروع السياسي الاحتجاجي (فعل التظاهر)، المشروع الغرامي (التعلق بعالية) يليه نهج المراقب واللاّمبالي، في صورة الحياة العبثية التي يعيشها، والإهمال المسيطر على وضعه، وهامشيته في المجتمع بعد أن ُطلب منه وهو المهندس بأمانة العاصمة أن يبقى في بيته مع الحفاظ على مرتبه، يمضي جل أوقاته في رصد سلوك الآخرين، وإدانة الواقع كيفما اتفق، وهو ما يظهر بمثابة نقيض للأطروحة. المشروع الاستيهامي، وهو الذي ُيبنى تصاعديا ُمركبا من السابقين وزيادة، من دون أن يقود بالضرورة إلى التركيب المحلوم به من لدن البطل. يتألف من خضوعه للتحقيق إثر المشاركة في المظاهرة واتهامه بالتخريب وضرب الأمن العام، ومن اجتراره لمشاهد التظاهر، وإعادة إنتاجها إما بفعل حقيقي أو بتنشيط المخيلة للإسراع في وتيرة بناء التاريخ الشخصي، ومن البارانويا وشعور الإخصاء والاختراق من ألم فتحة الشرج (جراء ركلة من الخلف لجندي) (كذا). سيجعل أحمد زين، وفق خطة تخييلية مدروسة، هذا المشروع ينتصر وذلك خدمة للأطروحة الحقيقية التي لم يعلن عنها لا في بداية العمل ولا خلال مجراه، المتمثلة في عقد محاكمة جماعية للمجتمع (في اليمن) بمكوناته وقواه وإيديولوجياته وثقافاته ونخبه وارتباطاتها، وإدانتها جماعيا، بالقدح والسخرية والمقت واليأس.

سيباغت الكاتب قارئه بأن بطله إنما يصنع تاريخه بالوهم ـ الرواية تصنع بالتخييل وهو من ضربه ـ بل حتى الكذب. وسيشرع البطل في إعلان أنه يريد أن يعترف بأن بطولاته في المظاهرات، وما تلاها من تحقيق وسجن، كما يحكيها لعالية، لنفسه، أيضا، تلفيقات وحسب، وهي "جسر يعبره إليها" (101) ومروياته لها من قبيل الحديث عن معاناة المناضلين الأمميين، وهول السجن، وتوصيفات تخص الثورة اليمنية لم تكن إلا استعارة لما عاشه وقاله آخرون: "صرت تستعير حياتهم، كما يستعير أحدهم بذلة للذهاب إلى حفلة." (102) ومع ذلك فهي عنده استعارة تتماهى مع الواقع حد أن تصبح قناعة ملازمة وحقيقة حتى وهي العكس، من أجل تحقيق المسعى الأصلي لعارف يخاطب نفسه: "وتساءلت أليس من حقك أن يكون لك" تاريخ" تتباهى به (...) ماذا أنت من دون تلك الأكاذيب، بغير حياة ممتلئة، كابدها آخر لا تعرفه؟" (103). وماذا تكون الرواية كجنس أدبي غير الاستعارة المعكوسة لواقع في درجة المحتمل، وقلب العلائق داخلهما بوسائط التخييل المتعددة، التي تنامت في السرد الحديث. فالاستعارة وإن كانت عمدة الشعر لا تخصه وحده، وهي في النوع السردي تركيبية وتؤدي الخداع بقلب المعنى المقصود وأدواتها هنا ليست حضور المشبه أو المشبه به أو غياب أحدهما، وإنما انزياح الفكرة أو الصورة عن مقصدها، وتحققها، على وجه يعيد ترتيب المدرك والمحسوس من زاوية منظور محدد. هذا الذي أمست عليه شخصية عارف، ولم تصبحه رغم ذلك. وبما أن السرد يعتمد التمثيل والوصف وليس الصورة ولا الإيحاء، فإن السارد ما يلبث وهو يستعمل ضمير المخاطب أن يصرح بكل شيء. سيقبل بالصورة مؤقتا (الحلم): "حلم أن يكون لك تاريخ (...) يحكي لك وتثرثر معه، عن أيام لا تشبه الأيام. عن الناس الذين لم يعودوا أناسا. عن جرعات الإصلاح الظالمة، عن معنى مفقود للقبيلة. عن الإعلانات الفارهة في شوارع مغبرة، ملطخة بغائط المجانين والقادمين من الجبال والأرياف البعيدة." (139)، "أردت أن يتحقق حلمك، من خلال استعارتك لحياة لم تعرفها أبدا" (140) لينتقل إلى التصريح بفشل مشروع بطله (مشروع نخبة ثورية كاملة): "رغب في أن يكون شخصا مهما، له "تاريخ" يتباهى به، لكن كان الزمن قد تغير، فلم يعد أحد يعترف به ولا بأوهامه أو رغباته (...) يتساءل هل جاء متأخرا، هل وصل في الزمن الخطأ؟" (155) وليبلغ ذروة الاعتراف بإعلانه أن: "كل شيء قد انتهى (...) وأن كل ما يحدث ليس إلا خيالات." (158).

إذا كان هذا كل ما يحدث، فإن الواقع لم يوجد، أو بالأحرى وجوده واقع على صعيد الخيال فضلا عن نزعة التخييل الملازمة لكتابة السرد. الحق أن اعتماد هذا التقرير يخرج "قهوة أمريكية" من منظور الواقعية التقليدية وغيره، أيضا، ليضعها في سياق نص يتحرك بين التخوم ولا ينحصر في أي حد، لأن مؤلفه جعل بطله وفضاءه المركب، في مساحة التأرجح، لا يتوفر على أرضية قارة، منطلقا من النهايات لا البدايات، كما في كل حال طبيعي، ترى الحقيقي والخيالي أو المتخيل ينصهران في غير موقف في بوتقة واحدة غايتها تشييد سياق مغاير: تمثل علاقة عارف بعالية أقوى صورة له، حيث تتنضد مشاهد لزياراتها الليلية له في مسكنه القذر في لحظات تهيجه الشبقي وتعلقه بها، هنا تشتغل آلية الوصف بطريقة واقعية جدا كأنما الأمر رهن بحدث حيّ، فيما يعود الفاعل نفسه يتساءل: أحقيقي ما يرى أم مجرد توهم؟ الرؤيا ذاتها تتكرر مع كاترين في حفل المجلس البريطاني، يصف الكاتب ببراعة اختلاط هيئتها مع هيئة عالية، وتلاحماً منفلتاً للأجساد، في فضاء تتلاقح فيه العتمة المضيئة والرائحة والطعم والهاجس، الصورة السينمائية وحدها قادرة على نقل كثافتها وتصعيدها الرؤيوي.

تعتمد خطة أحمد زين رفض الوحدة، ولذلك، في خاصية مركزية ثانية لها لا تكف عن صنع التعدد. فكما يكسر وحدة الرؤية، تجده يستعمل مبدأ البوليفونية الباختيني (تعدد الأصوات) في نقل الخطابات، وللإفصاح عن هوية ومزاج الشخصيات.هناك، أولا، لغة السرد الفصيحة (الكلاسيكية) تستغرق الحكي والوصف الخارجي والاستبطان. بنية الجملة فيها مقتضبة، وإيقاعها مشدود ومنفرج، وصورُها شعرية وفجّة في آن، حسب الخطاب المحمول ومحفله. ثانيا، لغة النخبة (المجلس البريطاني) يجري الحوار فيه بالإنكليزية توافقا مع وضع المكان، ومع أناس منهم أجانب، وآخرون يأتون لتعلم الإنكليزية. هي بالتأكيد لغة عالمة، متحذلقة، ومتعالية محمية بأسوارها عن خارج اليمن اليومي، الشعبي، القبلي، العامي في الأسواق والباصات.. هذه الامتدادات هي محفل اللغة الثالثة، العامية اليمانية، اللغةالأم، الناطقون بها عموما العامة، الأميون: "غالبية الشعب من الأميين" (119) تستعمل أكثر في الحوار وللتعبير عن مشاعر السخط والاشمئزاز، فطرية وتلقائية، تذهب إلى القصد مباشرة، مثل هذا المقطع الحواري بين ركاب باص عمن سيصوتون له في الانتخابات ("لمن عتصوت هذي المرة؟" ـ "للحمار.. فيه غيره؟" ـ "قل للحصان يا جاهل" (...) ـ "الحصان أو الحمار".. قد سوى عند اليمنيين.. (83). بالإضافة إلى كسر رتابة الوحدة الصوتية للخطاب تخدم البوليفونية توزيع الأدوار اللغوية بطريقة تكفل لكل فئة تعبيرا منسجما معها، ثالثا يساعد هذا في تبيان تنوع التركيب الاجتماعي الثقافي، بحكم العلاقة العضوية للغة بالمجتمع، وبالتالي ينتج لنا، رابعا، لغة صامتة عابرة للخطابات في نقطة التقاطع والتصادم بين الطبقات والمعاني. لا شك، بعد هذا، أن إيلاء كل فئة اللغة الألصق بها هو بين اختيارات متبناة بقوة في الكتابة السردية، عربية وأجنبية، وفي هذا العمل بالذات تبدو ذات وظيفة بنيوية لا تنطعا أبدا.

تماما مثل عنوان: "قهوة أمريكية" يوحي للوهلة الأولى بالاعتباط، وإذ هو علامة سيميائية فارقة ذات رمزية عالية، تهدف إلى صنع الاختلاف، ومحاولة ضبطه، حقيقيا كان أو زائفا، من خلال اقتناء البطل علبة قهوة أمريكية في لحظة "مجانية" وقيئه لها في لحظة أخرى. إلى جانب علامة الإعلانات التجارية المتكاثرة في شوارع صنعاء تقدمه الرواية كلشيهات عن عالم مجتث ومهجّن وزائف التمدن. هي، إذن، لغة خامسة في المعزوفة البوليفونية للعمل.

إن كسر الوحدة في نظام السرد وأنساقه التقليدية، من وجوه عديدة نتبينها، بالإضافة لما سجلناه سابقا، مثلا، في اختراق الأزمنة، وتعدد الضمائر واختلاطها، بكيفية منسقة، حينا وعشوائية حينا آخر (الانتقال خاصة من ضمير المتكلم إلى المخاطب كثيرا ما يؤدي إلى التشويش على التلقي، فيما يقصد به الكاتب/ السارد، تمويه موقع المرسل ومحمول الإرسالية). إذا كان يرهق أحيانا تلقي هذا النص، فإنه، من نحو آخر، يرسخ سعي مؤلفه للانزياح به عن الرواية الكلاسيكية وربطه بمجال نشاط واجتهادات الرواية الحديثة، لا سيما عندما يبعده عن الرؤية الواقعية مع توكيد ارتباطه بها كخلفية حدثية ومرجعية تاريخية، بكسرها عبر التشكيك في منظورها ودفعها نحو جاذبية الرؤيا وضفاف الاستيهامات. بهذا تكون "قهوة أمريكية" لا رواية يمانية فحسب، بل رواية عربية حداثية بامتياز طالما أنها تجفف مستنقع الركود الروائي الواقعي المجتر، رغم أنها مصابة بعدواه، وبحكم انفتاحها على أفق السؤال والشك في أي يقين، وهي في الآن عينه تحمل عوائق هذا النوع، حين يريد الكاتب أن يجمع فيه الوعي الكلي وتجميع الأصول والفروع، الشتات من كل نوع، فيبدو نصه خزانا أو جرابا لحشو كل شيء، والرواية، تقليدية وحديثة، ليست كذلك، إنما هذا طبع كل تجربة فتية وجريئة.  

كاتب من المغرب