يرافقنا في "علامات" هذا العدد الباحث المغربي إلى عام 1952، ليقدم لقراء "الكلمة" سجال تلك المرحلة عبر مقالة كُتِبت في مناخات تأكيد الهوية، وهي تحاور حول ضرورة "نظرية الانعكاس" في الفن والأدب، وبأن خلود "الأدب الرفيع" لا يتعارض مع تمثيله لبيئته وواقعه.

أحمد زياد يكتب: "نريد أدباً يمثلنا"

اختيار وتقديم: محمد زهير

محمد زهير

أولاً: الشخص والمقالة
1 ـ
أحمد زياد، من أكثر الأسماء حضوراً في الصحافة الأدبية الوطنية، قبل استقلال المغرب. صحفي، منتقد، وكاتب. ولد بمدينة الدار البيضاء سنة 1921، ودرس بها، وبجامع القرويين بفاس، وجامع ابن يوسف بمراكش. ثم درس بفرنسا مدة يسيرة.

اشتغل قبل استقلال المغرب بالتدريس، وفي الصحافة الوطنية، حيث عمل في جرائد "الأطلس"، "المغرب"، "العلم"، وبعد الاستقلال عمل في وزارة العدل، ولم تنقطع علاقته بالصحافة، التي نفذ من خلالها إلى مجال النقد الأدبي، فكتب متابعات انتقادية حادة أحياناً، وكتاباته الصحفية عن الأدب انتقاداً ورأياً، كثيرة عديدة، فهو غزير الإنتاج، خاصة في أربعينيات وخمسينيات القرن الميلادي الماضي. وكان ممن انخرطوا في السجالات والصراعات النقدية مرحلتئذ، وممن أثارت مقالاتهم الانتقادية ردود فعل من بعض الأدباء والنقاد والمثقفين، ممن يخالفونه وجهة النظر وطريقة التناول.

ولم ينقطع عن الكتابة بعد استقلال المغرب، إذ استمر ينشر من حين لآخر، بعض مقالاته الصحفية، في شؤون أدبية أو في غيرها، إلى حين وفاته سنة 2001. وقد كتب أيضا القصة والرواية. وله من الكتب المنشورة:

ـ لحمات من تاريخ الحركة الفكرية بالمغرب، وقصص أخرى، 1973.
ـ "بامو"، رواية. 1974. وقد حولت إلى فيلم سينمائي.
ـ "ولد ربيعة"، رواية. 1982.
ـ قال الراوي، مجموعة قصص. 1986. 

2 ـ ومقالته "نريد أدبا يمثلنا" التي نقدمها الآن، يتصل موضوعها بقضية هوية الأدب، فهي مظهر من مظاهر نقاش هذه القضية، من وجهة نظر ترى الأدب تصويراً وتعبيراً عن حالة واقعه وبيئته وحقيقة ما في نفس منتجه. وبهذا تتحقق هويته الخاصة، ملازمة لأحوال واقعه الاجتماعي والنفسي. فالمقالة تشرط هوية الأدب بتمثيله لحقيقة الواقع الذي نشأ فيه، فتتصل مرامي خطابها بنقاش قضية الهوية، في سياق محفز لهذا النقاش في الأدب والثقافة والمجتمع بحكم ضغوط الاحتلال وسياسته الاحتوائية، ومن ثمة، ردود الفعل المضادة لها، ومن أوجه ردود الفعل تلك، الإلحاح على هوية الذات الجماعية، والتعبير عنها في الأدب على نحو ما نجده عند أحمد زياد في إلحاحه على تمثيل الأدب لواقعه بالمعنى العام للواقع، جغرافيا واجتماعياً وسياسياً وثقافياً أي تمثيله لأحوال بيئته، بأن يصورها ويعبر عن أحوالها وتطلعاتها، وينطبع بطوابعها المخصوصة، المميزة لها عن غيرها. فيتميز بذلك عن غيره من الآداب الأخرى.

ومن هنا انتقاد أحمد زياد لتجارب بعض الأدباء الشباب المغاربة المجددين آنذاك، من ذوي النزوع التعبيري الرومانسي، أو الرمزي التجريدي، فلم يكن يستسيغ أن يمضوا في تجديدهم إلى الحد الذي يجعلهم ـ في نظره ـ مُنْبَتِّينَ عن واقعهم ومتطلباته الظرفية، إذ ينتجون تعبيرات مضببة، أو صوراً تجريدية، أو رموزاً ملغزة، لا تمثل بيئتهم، ولا تعبر بصدق عما في نفوسهم، لأنهم إنما يحاكون تجارب أجنبية، وينسجون على منوالها.

إن أحمد زياد يلح على "أن تكون صور أدبنا تعبيراً عن مظاهر حياتنا العميقة وأن تكون صور إنتاجنا الأدبي مرآة صافية تنعكس عليها صور الحياة المغربية كما هي، وهذا في رأيه، هو قوام النهضة الأدبية والثقافية، لقد كان ممن يصدرون عن نزعة "انعكاسية مرآوية" في نظرتهم إلى الأدب، إذ يربطونه آليا بالواقع المباشر، فيريدونه تعبيراً واضحاً عنه، ويرون وظيفته في تمثيله له، وهويته في تعبيره التعييني عنه، فيدل عليه وتعرف به حالة منتجه، وإن كان ذلك على حساب حراك الأدب وحريته في الاختيار والإبداع. فالأدب في منظور أحمد زياد إنتاج مؤطر بقيم معينة، وحرية مشروطة بالتزام. لذلك كانت صيغة مقالته: نريد أدبا يمثلنا" وهي صيغة مطلب ذي خلفية سجاليّة، تحدد للأدب أطراً ولا تراه خارجاً عنها. 

ثانياً: نص المقالة
نشرت مقالة أحمد زياد في مجلة "رسالة المغرب". العدد: 140. بتاريخ: 11 ماي 1952. وهذا نصها: 

نريد أدباً يمثلنا
‏أما أننا ننتج أدباً لا باس به في كميته، إذا قيس هذا الإنتاج بالوضعية التي يعيش فيها المغاربة، فهذا أمر لا شك فيه ولا يمكن حجوده، وأما أننا ننتج أدبا لا يمثلنا في الكثير من صوره، فهذا أمر لا شك فيه ولا يمكن جحوده أيضاً.

‏وقد قلت مراراً وكررت القول بأن إنتاجنا الثقافي يجب أن يكون قطعة لا تتجزأ من حياتنا العامة، وأنه من الخير للأدب ومن الخير لنا، أن يكون أدبنا منتزعاً من صميم نفوسنا ومن مكامن البيئة المغربية. ولست أدعو إلى أدب ضيق، وإنما أدعو ـ على العكس من ذلك ـ إلى إنتاج أدب صادق يمثلنا أصدق تمثيل، ويعبر عن حياتنا بأصدق عبارة ويصور من خلاله لوناً من ألوان إنسانيتنا، التي هي بالتالي حلقة من سلسلة صور الإنسانية في كافة أنحاء الدنيا. وأحسن للأدب الإنساني أن يكون ضيقاً صادقاً من أن يكون فسيح الأرجاء ولكنه مزور الصور.

‏وقد قلت وكررت القول بأن محاكاة الآداب الأجنبية وتقليدها، في مظاهرها الشخصية، أمر يضر بأدبنا ويضر بثقافتنا ويضر بنهضتنا، ولا يزيد بنا إلى الأمام. وإنه من الخير لنا وللأدب أن نعدل عن هذه الطريقة في التقليد، وأن تكون صور أدبنا تعبر عن مظاهر حياتنا العميقة، وأن تكون صور إنتاجنا الأدبي مرآة صافية تنعكس عليها صور الحياة المغربية كما هي. وفي الوقت الذي نوفق إلى التعبير عن هذه الصور بكل دقة وبكل أمانة، تكون نهضتنا الأدبية قد أخذت اتجاهها الحقيقي، وتكون في ذات الوقت نهضة قائمة على دعائم صحيحة مركزة في جذور هذه البيئة المغربية. وينبغي أن نحيط نهضتنا الثقافية بنطاق من نفس عناصرها. ومن الخير لنا ولنهضتنا أن نوجه إنتاجنا الأدبي نحو هذه الوجهة التي هي الوجهة الصحيحة لأدبنا. هذا عدد ممتاز من مجلة "رسالة المغرب" يصدر خاصاً بالربيع والشباب، وهو يحتوي على قصيدتين في الربيع، وأشهد الله أنه لولا أني أعرف الشاعرين اللذين جادت قريحتهما بهاتين القصيدتين، ولولا إشارة عابرة إلى نهر سبو في إحداهما، لما عرفت هذه البيئة التي يتحدث عنها الشاعران. فأحدهما يتحدث عن الربيع ويغفل إغفالاً تاماً كل إشارة إلى هذه المرابع المغربية، التي لو عاش فيها شاعر وصاف كابن خفاجة ـ مثلاً ـ لأنسته مناظر الأندلس التي خلدها في عدد من قصائده. وأحدهما يدبج قصيدة تناهز أبياتها المائة ثم يكتفي بإشارة عابرة إلى نهر سبو، ويصف الغيد والحسان، وينسى أن يصفه النساء القرويات اللائي لا يتمتعن بجمال الربيع، لأنهن في شغل عنه بجمع الحطب ومساعدة أزواجهن على كسب الخبز، الذي يعز كسبه على الأسرة المغربية في البادية. وإنه لمما يؤسف له كثيراً أن بعض أدبائنا ـ وبالأخص منهم الشعراء ـ يصرون إصراراً على إبراز جانب الرفاهية في إنتاجهم الأدبي. ولا مانع من أن يصفه الأدب مظاهر الرفاهية والبذخ، ولكن من الخير للأدب ومن البر به أن تكون القطعة الأدبية صورة من البيئة التي يختار منها الأديب مادة لإنتاجه.

‏والأد‏ب الذي يمثل الرفاهية في بيئة قوامها البؤس والحرمان، أدب لا يحترم نفسه، ولا يحترم قراءه، وهو بالتالي لا يحترم السمو الإنساني في صدق الوصف والتصوير.

‏‏ويجب أن تبعد عن ذهنك ما قد يخيل إليك من أنني أدعو إلى أدب قاتم اسود، وإنما أنا أدعو وأصر في الدعوة إلى خلق الأدب وتكوينه، بدلاً من نقله عن صورة أخرى مغايرة البيئة التي يتحدث عنها هذا الأدب.

‏ويجب أن نعترف إذا دققنا النظر وتجردنا عن مجاملة نفوسنا، بأن الإعراض عن تكوين عناصر تفكيرنا وأدبنا من صميم بيئتنا، قد جلب علينا ضرراً لا ‏ينبغي تجاهله، وتجب المبادرة إلى تدارك هذا الضرر قبل فوات الأوان.

‏فلقد ترتب عن هذا الإعراض أن بعض شبابنا أخذوا يحاكون هذا الأدب "اللانهائي"، وأصبحت مواهبهم تنصرف انصرافاً إلى هذا اللون من الأدب، ويكتبون كلاماً لا يفهم لأنه غير محدود، ولأنه لا يمثل إحساسهم ولا يمثل مشاعرهم، وإنما هو نسخة لكلام قيل في بيئة أخرى، فظنوا أن خرير المياه وزقزقة الطيور، وحفيف الأغصان وتغريد العصافير وغناء الراعي، وما شاكل هذا هو الأدب الرفيع الذي تغنى به الشابي في شعر، وخلد به "ميخائيل نعيمة" و"خليل جبران" في نثرهما. ولا يتفطن شبابنا إلى أن سبب خلود الشابي هو أن الرجل كان يعصر إنتاجه من أحاسيسه، وكان يكتب إنتاجه من إيحاء بيئته. وكذلك حال ميخائيل نعيمة وجبران. فلكل منهما مذهبه في التفكير، ولكل منهما أسلوبه في التعبير، ويجمع بينهما جامع واحد: هو التعبير عما يُحسان به فيتألمان منه، أو ينشرحان له، ثم يسيل قلم كل منهما بفيض ما يُحسان، فتجيء صورة أدبهما بديعة رائعة لأنها هصرت من عناصر حية ومنسجمة وصادقة.

‏إنه ليس من الحق أن يبقى أدبنا غفلاً من طابع يميزه، ونحن في ظرف أحوج ما نكون فيه إلى تعبئة أدبنا لإظهار ما تحتوي عليه البيئة المغربية من مساوئ ومحاسن.

‏أما أن نكتب ونحن معرضون عما يقع أمام أعيننا وعما يمثل فوق أرضنا وعن عناصر البيئة التي نصبحها ونمسيها، فإن كتابتنا هذه يمكن أن تسمى كتابة ولكنها لا تسمى ولن تسمى أدبا، ولا تشجع قراءنا على أن يستزيدوا من هذا الأدب، لأنهم لا يتذوقونه ولأنه لا يحرك وتراً فيهم.

‏ولست أتحدث حديثاً مرتجلاً، وإنما هو رأي تكون لدي بعد تجربة طويلة. ويكفي أن أشير إلى أن شعبنا، رغم ما هو عليه من أمية فاحشة، يتذوق الصور الأدبية التي تمثل بعض جوانب حياته. ‏فالصور الأدبية التي يكثر صداها، هي التي يتفنّن صاحبها في نحتها ‏من عناصر ينتزعها من بيئة اندمج فيها. وقد لا تصدقون إن قلت لكم إنني سمعت ثناء عاطراً من أفواه الكثيرين من الأميين وأنصاف الأميين، ومن بعض المثقفين كذلك على قصة "بائع الحظ" التي نشرتها "رسالة المغرب" في أحد أعدادها السابقة. وسمعت الناس يتألمون من مصير بطل هذه القصة ويشفقون من حاله ويشفقون من هذه الصورة التي صاغها كاتب القصة. أوَ تدرون لماذا كل ذلك؟ لأن صورة القصة منتزعة من صميم الحياة المغربية، وهي تمثل أمام أعيننا بالغدو والآصال، ولكن الأدب براها وسواها وجعلها صورة قمينة بالشفقة والرثاء.

‏وقد لا تصدقون إن قلت لكم إن عدداً من القصائد الشعرية والصور الأدبية، لا تثير الاستحسان ولا تثير الإعجاب، لا لأنها عديمة الطلاء ولا لأنها وضيعة الأسلوب، ولكن لأنها صورة أجنبية عن إحساس القراء، بل وإن شئت فعن إحساس كاتبها نفسه. إننا نريد أدبا يمثلنا، ونريد أن نعرف الأشخاص من خلال آثارهم، ونريد أن يكون لنا أدب مطبوع، حتى إذا ما تكونت لنا شخصية أدبية أصبح في وسعنا أن نعرف أين نلتقي مع الآداب الأخرى وأين نفترق.

‏إننا لا ندعو إلى عصبية في الأدب، ولكننا ندعو إلى تحديد وإلى ضبط عناصر البناء. وفي البيئة المغربية مواد صالحة للاستثمار، فإن نحن تملينا هذه المواد كان في وسعنا أن نخلق أدبا لأنفسنا وللإنسانية التي خلدت صور الأدب الصادق، الذي يمثل جزءاً منها تمثيلاً صادقاً بعيداً عن التزوير والمحاكاة.