يواصل الناقد السعودي هنا، في تناوله لتماهي الشعريّ بالسرديّ في الرواية السعوديّة، مقاربة رواية سعودية حظيت باحتفاء نقدي خاص. باستلهامه لنظرية القراءة الصفر مستقرءا حقول اللغة والدلالات الثاوية سواء في المبنى الحكائي أو من خلال استقصاء فعل التأويل لكي يصل الى الخصائص النوعية الجامعة للنص الروائي.

القراءة الصِّفر!

عبدالله بن أحمد الفيفي

يوظّف الشاعر علي الدميني في سرديّته بعنوان "الغيمة الرصاصيّة" ما يشبه نظرية (رولان بارث) النصوصيّة في علاقة المؤلّف بالنصّ من جهة، وعلاقتهما بالقارئ من جهة أخرى(1)، للتعبير عن التجربة الإنسانيّة والحضاريّة، التي ما هي إلاّ نصّ ألّفه أعداد لا تُحصى من أمثال سهل الجبليّ، بطل "الغيمة الرصاصيّة"، وغابوا خلف غمام نصوصهم، ولا سبيل إلى إضاءة تلك النصوص، واستنبات ربيعها، واستثمار حقولها، إلاّ بالبدء في كتابة الرواية ـ كما قال الكاتب عن نفسه ـ بعد موقف سهلٍ من طلبه: "لم تعُد تنتظر شيئًا، فقررتَ البدء في كتابة الرواية"(2). ليس هناك إذن ما يسوّغ الانتظار، أو تأخير القرار، بل لا بُدّ من البدء في كتابة الرواية. وكتابة الرواية لا تتأتّى إلاّ بإعادة القراءة. وهذا ما كان بالفعل، فقد بدأ الكاتب في كتابة الرواية من آخرها، وجعل عنوانًا جديدًا، هو "الأبواب، 3 ـ سهل الجبليّ"، وكأن هذا العنوان هو عنوان الرواية التي قرّر البدء بكتابتها، إذ لا يأتي بعد صفحة هذا العنوان شيءٌ إلا الموضوع الذي ختم به النصّ، وهو تحت عنوان "في البدء".

و"في البدء" يذكّر القارئ بعبارة "في البدء كانت الكلمة"، التي تشير إلى بدء الخليقة بالكلمة، وأن البدء كان باللغة وبالقراءة: "في البدء خلق الله السماوات والأرض. وكانت الأرض خَرِبَة، وخالية، وعلى وجه الغَمر ظلمةٌ، وروح الله يرفُّ على وجه المياه. وقال الله ليكن نورٌ فكان نورٌ..."(3). هكذا البدء في "الكتاب المقدّس"، وكذا البدء في "القرآن الكريم": "اقرأ باسم ربك الذي خَلَق".

كأنما الصفحات الماضية من نص "الغيمة الرصاصيّة"، إذن، ليست الرواية، وإنما هي قراءة للإشارات الغامضة عبر مسيرة التاريخ، ولا مُعين على قراءتها إلاّ بالبدء المستقلّ في عمليّة التكوين والتأويل والسرد. وهذا ما أخذه الكاتب على عاتقه، ليبدأ روايته في أربع صفحات فقط، تمثّل خلاصة نبوءته لما ستتمخّض عنه الأحداث التي صوّرها رمزيًّا كمسيرة من الصراع، والنجاح والإخفاق، أصبح المؤلف ضحيّتها الأوّل والأخير. لقد صحا الميّت (سهل الجبليّ) من غفوته، كما قال الكاتب، وبدأت الغيمة الرصاصيّة (النصّ)، التي كانت عَزَلَتْه عن الواقع وقَضَت بموته، تتحطّم وتتهاوى. صحا سهل، الذي يمثّل الشاهد على تلك المسيرة. وهو هنا يُدلي بشهادته، على الرغم من صمته الذي أبى على (عليٍّ) الحضور أو التفسير، ما يعني: أن من يحكي هاهنا ليس سهلاً، بل إنه عليٌّ بعد أن قرّر الاعتماد على نفسه، والقراءة التأويليّة للنصّ، وكتابة روايته، وإنْ على لسانه، أي على لسان سهل. ها هو ذا الراوي يستشرف مستقبل سهلٍٍ وما يمكن أن تنتهي إليه حكايته التي تمثّل النهاية/ البداية للقراءة/ الكتابة. وعندئذٍ تبدأ الكتابة البنائيّة، لا الكتابة السرديّة، فلقد انتهى سهلٌ إلى الفَناء، وانتهى نصّ عَزَّة إلى الضياع، وماتت كلّ الشخوص التي كان يعوّل سهلٌ عليها في معرفة النصّ. ومن ثَمّ، فإنّ الدور دور القارئ لا دور المؤرّخ ولا السّارد. الدور هو دور الفاعل والمفعّل للنصّ الذي بين يديه، المحرّك له، والمعيد بناءه، وممدّه بعمرٍ جديد. وهنا البدء الحقيقي، الذي يراوده الكاتب. وتلك دلالة عَنْوَنَة تلك الصفحات الختامية بعنوان "في البدء"، التي جاءت بعد صفحة عنوان تحمل شعار "الأبواب، سهل الجبليّ". هاهنا تبدأ الرواية، إذن، وليس من الصفحة الأولى، فما في الصفحة الأولى ليس بدءًا وإنما هو ختام، لأن ما في تلك الصفحة الأولى تحت عنوان "في الختام" ما هو إلاّ "مقدّمة" للعمل، تحكي ظروف إنشائه وتكوينه، فهي لا تعدو في طبيعتها "مقدّمة" أي عمل، توضع في "ختام" العمل لتتحدّث عن قصّة تكوينه ـ وإن سُمّيت "مقدّمة"، أو "بدءًا": مجازًا، وأُدرجت "في البدء" ـ وما ذلك إلاّ لتحديد مكانها من أوراق النصّ، وتناول القارئ، وإن كانت على الحقيقة "ختامًا" للنصّ، من حيث زمن كتابتها وعلاقتها بمجمل النصّ. إنها بداية قراءة القارئ، أمّا البداية الفعليّة لقراءة الكاتب ـ لا استقراؤه ـ ومن ثمّ كتابة كلّ نصّ فهي في منتهاه وختامه، ذلك الختام الذي يكون عتبة بدءٍ جديد، جماليّ أو فكريّ، بحسب طبيعة النصّ.

بعد غفوة الميّت سهلٍ، التي امتدّت كما زعم زمنًا خالَه قرونًا ـ في إيماءٍ إلى غفوة ما يرمز إليه سهلٌ من تاريخ طويل، ظلّ غافيًا ـ ارتجف بَدَنُهُ لصوت رعدٍ وحطام. إنه صوت الغيث الذي تهتز له الأرض وتربو. وغَدَت الغيمة الرصاصيّة هشيمًا محتضرًا، فرُبّ غيمة كانت غَمًّا، إن لم تتبجّس ماءً وخيرًا. وتلك غيمة سهل الجبليّ التي ذكَرَ أنها تشكّلتْ من نَصّه، فعَزَلَتْه عن واقعه ومحيطه. ذلك النصّ الملتبس، المتناقض، المتضارب، الذي يحمل الخير والشرّ، والحقّ والباطل، والأصيل والزائف. ذلك النصّ الطويل الذي ما كان له أن يؤدي إلى غيمةٍ ماطرة في نهاية الموسم، وإنما إلى غيمة رصاصيّة، كتلك التي أوحت إلى الكاتب بعنوان عمله، وهي تلك الغيمة الرصاصيّة التي غطّت ديار العرب إثر أزمة الخليج الثانية. وتَحَطُّم الغيمة النصوصيّة الرصاصيّة لم يحدث من فراغ، وإنما حدث برصاص أخذ ينطلق من أطراف الوادي، وادي الينابيع(4). ولا يفلّ الرّصاص إلاّ الرّصاص! لم يكن لتلك الغيمة الرصاصيّة أن تتحطّم، ليبقى الصالح منها ويزول الطالح، إلاّ بفعلٍ جِدّيّ:

إذا لم تكن إلاّ الأسنّةُ مَرْكَبًا فما حيلةُ المضطرّ إلاّ ركوبُها!(5).

تحطّمت الغيمة الرصاصيّة، وأشرقت الأرض، وغَمَر سهلاً ضياءُ الشمس وضجيج الصباح في القُرى، وملأ عينيه بالكون، بعد أن جلّى الرّصاص ما كان يحجبه عنه من غيم رصاصيّ. عندئذٍ أصبح بمقدوره أن يُبصر النهر وأحواله. أصبح بإمكانه أن يرى تقطُّع النهر، وتحوّله إلى غدران صغيرة. أصبح باستطاعته أن يرى نهر الأوطان العربيّة، وتقطُّعها إلى دويلات. كما أصبح باستطاعته أن يُبصر تيبّس النباتات والأشجار، جميع النباتات والأشجار. وعَلِمَ آنئذٍ أن الوقت في أواخر الصيف. كأنما تلك الغيمة الرصاصيّة لم تكن إلاّ "سحابة صيفٍ عن قليلٍ تقشّعُ". لقد أصبح يشاهد الواقع بخيره وشرّه، بجماله وقبحه، بأمله ويأسه، كما هو، دون وهمٍ ولا حُلم ولا مجاز ولا تزييف. ويَشْهَد بواطن النفوس، ومصائر الأفكار والأحداث، في مخاضٍ مرير وعصيب، لكنه صيرورة حتميّة، كمخاض النُّفَساء، الضروريّ ـ رغم ألمه وعُسره ـ للتمخّض عن مولودٍ جديدٍ بنصٍّ جديد. ولا مولود جديدًا دون مخاض، ولا نصّ جديدًا دون معاناة.

لقد كانت تتعاور وادي الينابيع مظاهر الحياة والفناء. أعمدة الدّخان لإعداد قهوة الصباح ومؤونة النهار، وأعمدة دّخان البندقيّات. دمع الندَى يسيل عن أوراق الشجر، ولمع الرصاص إذ يُطلَق من كلّ اتّجاهٍ في كلّ اتّجاه. "لكن صوت إطلاق النار ازداد حِدّة، فطغى على أصوات صباح الوادي الأليف"(6). وبالرغم من تحوّل النصّ إلى مشهدٍ حيّ أمام عينَي سهل الجبليّ، فقد ظلّ محتملاً فوق ظهره كيس (نورة)، الذي يحمل آثارها، وظلّ يتقرّأ بأمّ عينيه أطلالها وأطلال تاريخها. يحمل النصّ المخطوط ويشاهد تحقّقه على أرض الواقع. إنه لا يتخلّى عن تراثه لإيمانه بقيمته، لا كذكرَى ولكن كبذار فيها ما يصلح لاستزراع الوادي، وإعادة كتابته من جديد. ولئن كان ما يحدث في النصّ المشاهد هو نتيجة لبعض بذار كيس نورة، فما يعني ذلك أن جميع البذار كذلك. ولئن كان النصّ الحادث ناتجَ بعض بذارٍ أخرى، فما يخلّص الوادي منها إلاّ وجود البديل. في هذا المخاض لا يمكن للجسم السليم أن يتخلّى عن عناصر الغذاء المفيدة، وعناصر المناعة والمقاومة، مثلما لا يمكن للأُمّ أن تُجهض جنينها بحُجّة الأوجاع الطبيعيّة التي تسبق الولادة.

لقد شاهد سهلٌ عطيّةَ ـ عريفة قرية العبادل ـ وأبا محماس وأعوانهما يُطلِقون الرُّصاص على منزل جابرٍ، عريفة الشماليّة. وحين يتتبع القارئ من خلال النص وجهة عطيّة وأبي محماس الرأسماليّة، المنضوية تحت لواء حمدان، الآخذ بنظريّة السوق الحُرّة، مقابل وجهة جابر، الذي كان رائد التنظير والدعوة إلى إقامة التعاونيّات وتأميم الأراضي في الوادي، وبلفظ آخر صاحب النظريّة الاشتراكيّة في مجتمع وادي الينابيع، يدرك دلالة هذه الصورة التي تعبّر عن الصراع الرأسماليّ الاشتراكي، أو لتَقُل: الأميركي السوفييتي، وأتباع هذين المعسكرين. ومن جانب آخر، "خرج أبو عاصم وأبو معصوم من المغارات وخلفهما الأتباع يصوّبون نيران بنادقهم نحو خيمة (سهل)، ويركضون وهم يطلقون رصاصهم باتجاه قلعة ابن عيدان"(7). في صورة أخرى تعبّر عن صراع السُّلطة الدينيّة، التي يمثّلها أبو عاصم وأبو معصوم، مع السُّلطتين السياسيّة والفكريّة، اللتين يمثّلانهما ابنُ عيدان وسهل الجبليّ. وهنا، إذن، ضربان من الصراع: ضرب نظريّ سياسيّ اقتصاديّ عالميّ، وضرب نظريّ سياسيّ اقتصاديّ داخليّ. والضحايا في هذا وذاك هي الشعوب، ممّن لا ناقة لهم في الأمر ولا جمل، كهؤلاء الرعاة والحُرّاس الذين فرّوا في اشتعال الحرب من كل الجهات صوب حلق الوادي، لائذين بعشاشهم تاركين قطعانهم ومواقعهم.

وتلك مخاضات النصوص/ الحياة!

كاتب من السعودية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ـ حول السِّيْمَوِيَّة اللغويّة ـ بصفة جوهريّة ـ والقول بعلاقات إشاراتها الاعتباطيّة بموضوعاتها العينيّة، التواطئيّة بمتصوّراتها الذهنيّة، يمكن الرجوع إلى:
Barthes, Roland, (March, 1977), Elements of Semiology, Translated from French Language by: Annette Lavers and Colin Smith, (New York), p.50 - 51، Scholes, Robert, (1982), Semiotics and Interpretation, (New Haven: Yale University Press), p.23 - 24.
وكذا: شولز، روبرت، (1984)، البنيويّة في الأدب، ترجمة: حنّا عبود (دمشق: اتّحاد الكتّاب العرب)، 27 ـ 28.
(2) ـ (1998)، الغيمة الرصاصيّة، (بيروت: دار الكنوز الأدبيّة)، 242.
(3) ـ الكتاب المقدّس، سِفر التكوين، الإصحاح الأوّل، 1 ـ 3.
(4) ـ انظر: الغيمة الرصاصيّة، 244.
(5) ـ الشاهد للكُميت بن زيد الأسدي، على اختلاف في ألفاظه في بعض الروايات.
(6) ـ م . ن، 244 ـ 245.
(7) ـ م. ن، 245.