يأخذنا الباحث المصري إلى مفهوم المسرح التعليمي، ومنه إلى خبايا مسرحية توفيق الحكيم «شمس النهار»، وشغافها الذهنية. يستبين سمات الحكاية ودلالات الحوار والحدث لإثبات القول. كما يمارس فعل المقارنة مع غيرها من أعمال الأدب، ويجادل أطروحة بعض النقاد حول مراد خطابها المسرحي.

المسرحية التعليمية في المسرح العربي

«شمس النهار» لتوفيق الحكيم نموذجاً

يسري عبد الغني عبد الله

بين الانتماء والموضوع
تنتمي مسرحية "شمس النهار" التي أصدرها الأستاذ توفيق الحكيم سنة 1965م إلى ذلك الاتجاه الذي يمكن أن نطلق عليه الاتجاه الاجتماعي الذهني، لماذا؟ لأنها مسرحية اجتماعية من حيث تناولها لبعض القيم الأساسية في بناء الفرد والمجتمع، وذلك مثل قضية الحاكم الصالح، وأنه يجب أن يخرج من قلب الشعب من أجل الشعب، حتى يستطيع الإحساس بآلامه وآماله. ومثل قضية العمل وأنه القيمة الحقيقية الكبرى في حياة الإنسان والأمة، ومثل قضية مسئولية الفرد تجاه الجماعة، ومثل مسألة الإصلاح الأخلاقي وأنه ينبغي أن ينبع أولاً وقبل كل شيء من داخل الإنسان ذاته، فإن صلحت أخلاق الفرد صلحت أخلاق المجتمع كله.

ثم هي مسرحية ذهنية من حيث أنها لا تعكس هذه القضايا من خلال التفاصيل الواقعية، ونثريات الحياة اليومية المعاشة، بل أنها تفلسف القضايا، وتعرض لها من خلال الجدل والمناقشة، والحوار الذهني المفعم بالفكاهة الذكية الواعية الهادفة، حتى نستخلص القانون العام الذي يحكم الظاهرة، ونستقطب المعنى الكلي من بين ركام المشاهد والصور الجزئية، ومن هنا يجيء ذلك الطابع التعليمي الذي يغلب على مسرحية "شمس النهار" لتوفيق الحكيم، وعليه يحق لنا وصفها بأنها مسرحية: تعليمية، واقعية، اجتماعية، فكرية(1)

الحكيم يتكلم عن أسلوب «شمس النهار»
لقد أراد الحكيم نفسه أن يلقي ضوءاً ساطعاً على الأسلوب الذي اتبعه في بناء مسرحيته، فقال في مقدمة المسرحية: أنها مسرحية تعليمية، والأعمال التعليمية في الأدب والفن من "كليلة ودمنة" إلى حكايات لافونتين، إلى مسرحيات بريخت، وغيرها من آثار هذا النوع، إنما هي تهدف إلى توعية السلوك الفردي والاجتماعي.

وهي في أحيان كثيرة لا تخفي مقاصدها، وتتخير من العبارات ما يصل تواً إلى النفوس، وترسخ في الأذهان، وتنتقي من وسائل التعبير أوضحها وأبسطها، وتتخذ أحياناً من وضع الحكمة والمغزى في صورة مباشرة سلاحاً من أسلحتها، وهي على خلاف الفن الآخر الذي يخفي وجهه، ويدعك تكشف ما خلفه، تكشف هي القناع وتقول لك: نعم أريد أن أعظك فاستمع إلي!!

ويواصل الحكيم كلامه فيقول: وإزاء هذه الصراحة منها نصغي إليها راضين، وهكذا أصغينا، ولا نزال نصغي إلى حكم "كليلة ودمنة"، وعظات لافونتين، ومسرحية "بادن" التعليمية لبريخت، دون أن نضجر مما نسمع، ذلك أن الوعظ في حد ذاته فن، ما دام قدم إلينا في شكل جميل(2). وإذن فمسرحية الحكيم "شمس النهار" من قبيلة المسرحيات التعليمية، التي تهدف إلى التوجيه المباشر والإسهام في الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي، ومن سماتها ـ كما أوضح الحكيم نفسه ـ وضوح صلتها بالمجتمع، والمباشرة في استنباط الحكمة، واستخراج المغزى من الحادث أو الموقف، وبساطة الوسائل التعبيرية في الألفاظ والتراكيب والحوار بوجه عام. 

بريخت في مسرح الحكيم
لقد أشار الحكيم إلى المسرحية التعليمية عند بريخت في مقام التدليل على أهمية هذا النوع من المسرحيات، وينبغي أن لا نقبل هذه الإشارة كأنها إشارة عابرة أو على علاتها، فلقد عودنا الحكيم على أنه لا يشير مثل هذه الإشارة إلى كاتب أو إلى مذهب أدبي إلا إذا كان قد اطلع عليه، وتمثله قدراً من التمثيل، ويصبح هذا الكاتب أو ذلك الاتجاه من هذا المنطق رافداً من الروافد التي تكون ثقافة توفيق الحكيم المسرحية.

ومسرح بريخت الذي يشير إليه الحكيم مسرح تعليمي، وذلك باعتبار أنه: يوقظ في المشاهد ظمأً إلى المعرفة، كما يقول بريخت نفسه، ويعلمه الإحساس بالسعادة في الصراع من أجل تغيير الواقع(3).

وهذا المسرح يقوم على عنصرين أساسيين هما: الملحمة والتغريب.

أ ـ عنصر الملحمة: وهو يتمثل في تحييد المتفرج، وإيقاظ فاعليته، ثم في جعل الإنسان ذاته موضوعاً للظاهرة المسرحية، وفي التوجه بالإثارة إلى عقل المشاهد لا إلى شعوره فحسب، وأخيراً في عدم تسطيح الوحدة المسرحية، واللجوء بدلاً من ذلك إلى جعل الأحداث تجري فيما يشبه الخطوط المتقاطعة أو المنحنية.

ب ـ عنصر التغريب: ويعني ملاحظة غير المألوف فيما هو مألوف، ورؤية المفاجئ فيما يتكرر كل يوم، وباختصار: رؤية الغريب في الظواهر والأحداث العادية، بغية إلهاب ذهن المشاهد، ودفعه دفعاً إلى التفكير فيما يراه، والتفكير هو بداية التغيير.

وإذا كانت "شمس النهار" للحكيم تهدف إلى غاية، أو إلى هدف تعليمي، وذلك بتوجيه السلوك الفردي والاجتماعي عن طريق مناقشة بعض القيم الاجتماعية، فإنه من الواجب هنا أن نشير إلى أن هذا المسرح أو هذا النمط من المسرحيات ليس جديداً تماماً بالنسبة لإبداعات توفيق الحكيم المسرحية، فهذا معروف لدى الباحثين في أدب الحكيم، وغني عن البيان أن ما يعرف بالمسرح الذهني قد تعرض عند الحكيم في فترة الخمسينيات والستينيات وما بعدهما من القرن العشرين لتطور كبير من حيث الشكل والمضمون.

كيف كان ذلك؟

1 ـ من حيث الشكل: فقد ابتعد الحكيم إلى حد كبير عن التجريد البحت، وأصبح أكثر تحقيقاً لقاعدة الصراع الدرامي بين الأشخاص والمواقف والأفكار.

2 ـ من حيث المضمون: فقد أخذ يعالج القضايا التي تمس المجتمع البشري المعاصر، وذلك مثل:

أ ـ الصراع بين القوة والقانون، وذلك في مسرحية "السلطان الحائر"، والمنشورة سنة 1960م(4).
ب ـ الكفاح من أجل السلام، وإزالة ما يعترض طريقه من عقبات، وذلك في مسرحية "أشواك السلام"، والمنشورة سنة 1957م(5).
ج ـ تسخير التقدم العلمي من أجل محو الفقر والجوع، وذلك في مسرحية "الطعام لكل فم"(6).

ونحب أن نقول هنا: إن كاتبنا توفيق الحكيم لم يتخلص بالكلية من آثار فلسفة المثالية (الأيديلزم)، وانطلاقه في معالجة القضايا من وجهة نظر طبقة البرجوازية المصرية الصغيرة، إلا أننا مع ذلك لا نستطيع أن نغفل عما طرأ على مسرح الحكيم من تطور فكري وفني، بحيث انتقلت مسرحياته من إطارها الذهني/ الرمزي البحت، لتصبح مسرحيات اجتماعية/ ذهنية، تحقق ما دعاه الحكيم ذات يوم: الواقعية الفكرية. 

شمس خارج الزمان والمكان
تتكون مسرحية "شمس النهار" للحكيم من ثلاثة فصول، وتقع أحداثها خارج الزمان والمكان، وذلك لأن القضايا الفكرية التي تطرحها المسرحية هي قضايا كل زمان ومكان.

إذن لا يهم فيها تحديد الأبعاد الزمانية أو المكانية بقدر ما يهم تحديد أبعاد القضية المطروحة، عن طريق المناقشة والحوار، وتبادل وجهات النظر أو الرؤى المختلفة بين الشخصيات، وفيها يتضاءل الدور الذي يقوم به أو يؤديه الفعل المسرحي، ويعظم الدور الذي يقوم به الحوار الذكي الذي يؤدي في نهاية الأمر إلى بلورة القضية والحل المقترح له. 

أصل الحكاية
بطلة المسرحية هي الأميرة شمس النهار، ابنة السلطان نعمان، تلك التي برعت منذ نعومة أظفارها في ركوب الخيل، واللعب بالسيف، وقراءة الكتب، وإطالة التأمل، والعزوف عن مغريات الحياة. وحين تصل شمس إلى سن الزواج فإنها ترفض أن تتزوج بشكل تقليدي كما تتزوج بنات الملوك، إنها تشترط في من تختاره زوجاً لها ألا يكون من الأمراء الكسالى، تريده أن يكون إنساناً قبل كل شيء، قد يكون معدماً فقيراً من عامة الشعب، ولكنه من وجهة نظرها الخاصة خير ألف مرة من أولئك الذين يتمتعون بالجاه والثروة، ولكنهم يفتقدون أهم شيء: عنصر الإنسانية.

ورغم أن أباها السلطان نعمان يتمنى لو أن شمس تزوجت مثلما تزوجت شقيقتها من أمير غني ذي مملكة وسلطان، إلا أنه في النهاية يضطر للرضوخ لشروطها، ويعلن في المدينة أن ابنة السلطان تريد الزواج، وأن أهل البلد جميعاً بغير تميز، لهم الحق الكامل في أن يتقدموا لطلب يدها، ولها وحدها حق الاختيار من بينهم.

ويتقدم كثيرون إلى الأميرة شمس النهار، منهم الأمير، ومنهم الثري صاحب الأملاك، ولكن مصيرهم جميعاً آل إلى الإخفاق.

وأخيراً يتقدم لها الرجل الذي كانت تحلم به، وتتمناه، رجل من عامة الشعب، فقير لا يملك حتى ثمن رداء متواضع يرتديه، غير أنه يملك شيئأ ثميناً لا يملكه الآخرون، يملك نفساً حرة متمردة، نفساً تأبى أن تعيش عالة على الآخرين، وترى السعادة الحقيقية في العمل، وتعتقد أن مسئولية الإنسان الكبرى في أن يصنع مستقبله بجهده وعرقه، وذلك هو المعنى الإيجابي للحياة. 

فتى الأحلام
ومنذ أول مشهد حواري بين الأميرة شمس النهار، والفارس الفقير قمر الزمان نحس أنه فتى أحلام شمس الذي كانت تبحث عنه، وبما أنه ليس على استعداد للمجاملة أو المماراة، فإنه يفجر منذ الوهلة الأولى تلك الأفكار التي كانت ما تفتأ شمس النهار ترددها، لأنها تراودها وتتمكن منها.

(شمس: اسمع يا قمر الزمان، ألم يخطر لك أنك إذا فزت بي، سأكون لك بمالي وجاهي؟!
قمر: وماذا تصنعين أنت بي عندئذ؟
شمس: هذا شأني.
قمر: ولكنه شأني أيضاً.
شمس: ستكون زوجي... ولن يطالبك أحد بأن تفعل شيئاً.
قمر: إني لم أتعود أن أعيش دون أن أصنع شيئاً.
شمس: ستصنع شيئاً... سندربك لتصبح يوماً حاكماً.
قمر: حاكماً؟!
شمس: نعم، حاكماً مثل أبي.
قمر: ومن قال أني أريد أن أكون مثل أبيك؟
السلطان: هذا فوق الاحتمال.
الوزير: نخرسه في الحال!
شمس: الصبر... الصبر... أرجوكم، ولماذا يا قمر الزمان لا تريد أن تكون حاكماً مثل أبي؟
قمر: إن أباك لم يكن في يوم ما محكوماً.
شمس: بالطبع لا.
قمر: الحاكم يجب أن يخرج من المحكوم.
الوزير: إن هذا الرجل خطر!
السلطان: حقاً.
شمس: (لقمر) هذا، إذن ينطبق عليك؟
قمر: لا، المحكوم الجيد هو الذي يصنع الحاكم الجيد، وأنا لم أتدرب بعد، ولم أتكون التكوين الكافي للمحكوم الجيد)(7)

هذه هي القضية
هنا تتبلور القضية الأساسية المحورية التي تطرحها مسرحية الحكيم "شمس النهار"، ونعني بها قضية الحاكم الصالح، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، حيث يرى قمر الزمان أنه ينبغي أن يخرج الحاكم الحق من صلب الشعب، حتى يحس ويشعر بآمال وألام الأمة.

ورغم أن قمر الزمان وهو رمز الشعب يرفض التصدي لمسئولية الحكم بحجة، أو بمنطق أنه لم يتكون بعد التكوين الكافي، فإن مواقفه في الفصول القادمة من المسرحية تؤكد أنه برفضه هذا لم يكن يقصد، إلا نقد السلطة، وذلك حين لا تتيح التربية السياسية السليمة للأمة أو للشعب جميعهم.

إن المشكل ليس فقط في أن يتم اختيار الحاكم من صميم الأمة أو الشعب، بل لا بد أن يكون الشعب كله أو الشعب نفسه واعياً بمسئوليته وأهدافه، وذلك حتى يتمكن بعد ذلك من اختيار حاكمه الصالح اختياراً سليماً.

على كل حال فإن الفارس قمر الزمان، الفقير المعدم، الذي لا يملك غير نفسه يحظى بالقبول من الأميرة شمس النهار، غير أنه بدوره لا يوافق على إعلان زواجه منها، ما لم تتح لكل منهما فرصة كافية لمعرفة شريكه معرفة حقيقية واقعية، تنبع من واقع الحياة العملية، وليست مجرد معرفة نظرية مهمشة. 

الرحلة لتأكيد القيم
ورغم اعتراض الأب السلطان نعمان على طلب قمر الزمان، فإن شمس النهار توافق على اصطحاب قمر الزمان في رحلة طويلة خارج المدينة، يتاح فيها لكل منهما معرفة الآخر معرفة جيدة وثيقة عن قرب.

وتخلت الأميرة عما كانت فيه من أبهة، وخدم، وحشم، وحاشية، وترضى بأن تتبع ابن الشعب البسيط متنكرة في زي جندي عادي حتى لا تثير ريبة أو شكاً، أو يعرفها أحد.

وعلى امتداد الفصل الثاني من المسرحية يتخذ الحكيم من رحيل البطلين: شمس النهار وقمر الزمان معاً، وسيلة لتأكيد بعض القيم الفردية والاجتماعية.

ومن هذه القيم على سبيل المثال: العمل وأنه هو شريان الحياة، فحين يجوعان، ولا يجدان في الخلاء الواسع ما يطعمانه، يقترح قمر الزمان أن يبحث كل منهما عن طعامه بنفسه، بل يبالغ قمر الزمان فيعمد إلى أن يسند إلى شمس النهار العمل الأصعب، وحين يجدان شجرة للتفاح حافلة بالثمر، فإن قمر لا يزيد عن أن يقطف منها أربع تفاحات، وإذ تلاحظ الأميرة شمس النهار أن التفاح في الشجرة غير محدود، يرد عليها قمر الزمان بأن: "الشراهة تقتل روح المتعة" و"إن الطاقات المبددة يجب الاحتفاظ بها لما هو أنفع". 

سرقة حكوميّة
وخلال الرحلة يفاجأ كل من الأميرة شمس النهار، والفارس قمر الزمان برجلين يحملان مالاً سرقاه من خزينة أمير المدينة المجاورة، والذي يدعى الأمير حمدان، ويتضح أن هذين الرجلين هما ملاحظ خزانة الأمير ومساعده، حيث تمكنا من اختلاس أموال الخزانة الحكومية وفرا بها.

وبدافع الشعور بالمسئولية يتطوع البطلان للقبض على اللصين بهدف تسليمهما للأمير حتى ينالا ما يستحقانه من عقاب، وحين يتساءل اللصان (ملاحظ الخزانة ومساعده) عن مصلحة هذين في القبض عليهما، يجيب قمر الزمان بأن الواجب هو الذي يأمرهما بذلك. ثم يعترف اللصان بالذنب، ويطلبا الصفح، ويقسما على الاستقامة، فالاعتراف بالخطأ والندم عليه هو بداية تطهير النفس وصفائها. 

إلى قصر الأمير
ويصل الرجلان إلى قصر الأمير حمدان، ويردان إليه المال المسروق، وتقديراً من الأمير لأمانتهما يصدر قراره بتعيين شمس النهار المتنكرة في ثياب جندي حارساً خاصاً له، كما يوصي بإكرام قمر الزمان، وتهيئة أسباب الراحة له، وإذ تقوم شمس النهار على خدمة الأمير حمدان فإنها تحاول بدورها التأثير عليه بتلك القيم أو المبادئ التي بثها فيها قمر الزمان.

إن الأمير حمدان يطلب إليها أن تحمل عنه عباءته، فترد عليه بأنه ينبغي عليه أن يحملها بنفسه، لأنها تريد له أن يكون رجلاً كاملاً، والإنسان الذي يقوم بنفسه أو يعتمد على نفسه هو الأكمل، والذي يحتاج إلى غيره بما يستطيع هو الأقل أو الأنقص.

وتنجح شمس النهار بهذه الطريقة في إعادة صياغة أو صنع الأمير حمدان، لتجعل منه إنساناً مثلما استطاع قمر الزمان أن يحولها بمبادئه وقيمه، من مجرد أميرة عادية إلى إنسانة متمرده على طبقتها، وعلى ما تتسم به هذه الطبقة من سلبية وبلادة وخمول. 

حمدان يعرف حقيقة شمس أو بجماليون
ثم يتضح المستور، ويكتشف الأمير حمدان أنه بإزاء امرأة، وليس إزاء جندي عادي كما كان يعتقد، ويختلط في نفسه الحب بالشعور بالامتنان، وهنا تبلغ المسرحية ذروتها، فهل تتزوج شمس النهار من الرجل الذي علمها وأعاد صياغتها: قمر الزمان؟! أم تتزوج ممن علمته هي وأعادت صياغته: الأمير حمدان؟!

إن الحكيم هنا يطرح نفس الفكرة التي طرحها علينا من قبل في مسرحيته "بيجماليون" التي كتبها سنة 1942م، تلك الفكرة التي تقول لنا: "إننا فعلاً نحب من نعلمه أو نعيد صياغته، ولا نحمل لمن يعلمنا أو يعيد صياغتنا إلا التقدير".

ولكن قمر الزمان يحسم الموقف، وذلك حين يقرر أن ينسحب من حياة شمس النهار، معتقداً أنه قام بواجبه حين ساعد شمس الأميرة على أن تفهم معنى الحياة، وتفهم الناس خيراً مما كانت تفهم، وواجبها الآن ليس الزواج منه أو من غيره، وإنما واجبها الأساسي أن تعود إلى بلدها، وتعمل بكل جهدها على إصلاحه ورقيه والنهوض به، ويسدل الستار على الفصل الأخير بينما ترن في آذاننا (قراء ومشاهدون) مقاطع هذه اللوحة:

(قمر: ليس من حقي أن أرغمك على التمرد طوال حياتك، ليس من أجل هذا تكونت كل هذا التكوين... إنه من أجل أن تصنعي شيئاً مفيداً، إنك تنتظرين من حمدان أن يصلح بلده، وبلدك فيما اعتقد ليست خيراً من بلده.
شمس: معنى ذلك..؟!
قمر: نعم، معنى ذلك أن تسلكي نفس طريق حمدان، أن تعودي إلى بلدك، وتعملي على إصلاحه.
شمس: بمفردي؟!
قمر: نعم، بمفردك، شعبك محتاج إليك، ولن يقبل تغيراً أو إصلاحاً إلا منك وحدك، النابتة منه، الناشئة فيه.
شمس: وأنت؟
قمر: أعود إلى حياتي، حياتي التي يجب أن أعيشها، مع أولئك الذين نشأت بينهم.
شمس: وسعادتنا؟
قمر: فلنفكر في سعادة الآخرين.
شمس: أي حياة مرهقة تلك التي تنتظرني!
قمر: أصحاب الرسالات لا يستريحون.
شمس: أما من حل آخر؟
قمر: توجد حلول كثيرة، ولكن اخترت الأصعب.
شمس: نعم،.والأقسى!
قمر: ولكنه الأجدر بشخصيتك.
شمس: هل تظن أيها الحبيب أني سأستطيع الصمود؟
قمر: تستطيعين أكثر مني، وليس من المناسب الآن أن أكشف لك عن فداحة ما أتحمل، ولكن لا بد لنا من الشجاعة.
شمس: ما دمت تريد ذلك فهو الأصوب.
قمر: وداعاً يا شمس النهار!
شمس: وداعاً يا قمر الزمان!)(8) 

حقاً: إنها تعليمية
إذن فهذه المسرحية التي نحن حيالها مسرحية تعليمية بأدق ما تحمله هذه الكلمة من معنى، ولكن: لماذا؟

لأن غايتها الأساسية أن تأتي بهذه القيم ـ التي أشرنا إليها في السطور السالفة ـ إلى الواقع الاجتماعي المعاش، وتفعل فعلها الايجابي من أجل إصلاح المجتمع، والقضاء على ما يعانيه من سلبيات.

وإذا كان لهذا كله من دلالة فهو أن نوعاً من التطور قد طرأ على مسرح توفيق الحكيم الذهني في الفترة الأخيرة، فأصبح أكثر امتلاء بروح "التفاؤل" المفعم بـ "الإيجابية" الفاعلة، كما أصبح أكثر اهتماماً بالقضايا التي تؤرق ضمير المجتمع المعاصر.

صحيح أن الحكيم حتى في هذه المسرحية لم يستطع أن يتخلص من منهجه (الطوباوي أو اليوتيبي)، فرأيناه يحل مشاكل اجتماعية بحتة كمشكلة (الحكم) حلاً مثالياً أخلاقياً.

كما رأيناه يعول كثيراً على ما يسمى "بالإصلاح الذاتي للنفس والسلوك"، متناسياً ـ من وجهة نظر بعض الباحثين ـ أن الظاهرة الاجتماعية يجب الاقتراب منها، والالتحام بمفرداتها وفقاً لمنهج اجتماعي ذات أطر علمية، وليس بمنهج طوباوي/ مثالي.

ولكن مع ذلك نحن نؤكد هنا على ضرورة الإصلاح الذاتي للنفس والسلوك، فإصلاح الفرد يتأتى من تربيته وتعليمه وتوعيته، وإعادة صياغته، وتعريفه بذاته، وبرسالته الحياتية، تلك أسس مهمة لا غنى عنها في الواقع الاجتماعي إذا أردنا النهوض بالمجتمع وإصلاحه بأيدينا لا بأيدي الآخرين.

نعود إلى ما كنا عليه فنقول: إنه لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نغفل النواحي الإيجابية في مسرحية شمس النهار للحكيم، من علاج لقضايا واقعية، إلى هجر لما عرف به الحكيم من حيرة وقلق وتشاؤم، إلى ثقة في قدرات الإنسان على تطوير العلاقات الاجتماعية من أجل صنع واقع أفضل له وللآخرين. 

سر التفرد
لقد اعتبر كثير من الدارسين مسرحية "شمس النهار" لتوفيق الحكيم أنموذجاً راقياً للمسرح التعليمي، وتستمد هذه المسرحية أهميتها في نظرهم: من أنها عمل جيد من الناحية الفنية الجمالية، عمل واضح في هدفه الإصلاحي في نفس الوقت.

ولقد كان الحكيم ذاته على وعي تام بهذا المعنى الإصلاحي في مسرحيته، وذلك حين قال في حوار صحفي أجراه معه الكاتب الكبير الفريد فرج: "إن المسرحية التعليمية، يمكن أن نسميها فن تعليمي إصلاحي، أو فن ضرورة، أي أن الفنان يصدر فيه عن ضرورة اجتماعية أو إصلاحية ويشعر أن من واجبه أن يقوم به.

والمهم فيه أن يكون القيام به صادراً عن إرادة حرة وشعور صادق، على أن هذا النوع من الفن وعلى الرغم من أهميته وضرورته وعظم نشأته أحياناً من الناحية الإصلاحية والاجتماعية، فإنه من الناحية الفنية يحتاج إلى حذر شديد، فإن الإكثار منه أو الافتعال فيه قد يؤدي إلى مزالق تخرجه عن نطاق الفن"(9)

رأي الدكتور محمد مندور
هذا، وقد لاحظ الناقد الكبير الدكتور محمد مندور ما في «شمس النهار» للحكيم من قيم إيجابية، حين علق عليها بقوله: يحلو لي أن أبرز قيمة إيجابية أكيدة جسدتها هذه المسرحية بصريح حوارها ومواقفها، وهي قيمة العمل، واعتباره شريان الحياة، وعمودها الفقري.

ويرى الدكتور مندور أن شمس النهار تعترف بأن ابن البلد قمر الزمان دفعها دفعاً إلى العمل وأعاد صياغتها، وهي بدورها التي أعادت صياغة الأمير المترفع المتبطل حمدان، وعلمته الحياة وذلك بدفعها له على العمل.

غير أن الدكتور محمد مندور يعود فيأخذ على الحكيم: أن الصراع في المسرحية لم ينتهي إلى هدف أو غاية، ولقد ترك الحكيم مسرحيته وهي مفتوحة الخاتمة، وتخلى عن شمس النهار، وهي حائرة بين قمر الزمان وحمدان.

ويواصل الدكتور مندور كلامه فيضيف: ذلك يحدث من الحكيم، بينما نرى كاتباً ملتزماً مثل برنارد شو يحسم مثل هذا الموقف في مسرحيته الشهيرة "كاند يد" عندما افتعل صراعاً في نفس زوجة القسيس، بين تفضيلها لزوجها أو تفضيلها لشاب خيالي شاعر مدله بها، وإن تكن قد حسمت هذا الصراع لا على أساس عاطفي أو أخلاقي، بل على أساس فكري إرادي.

هذا مضمون كلام الدكتور محمد مندور الذي ورد في كتابه المهم "مسرح توفيق الحكيم"(10)

محاولة للرد
مع كل الاحترام والتقدير لأستاذنا الناقد الكبير محمد مندور، فإننا لا نرى الرأي الذي ذهب إليه بخصوص نهاية مسرحية الحكيم "شمس النهار"، وذلك لما يلي:

1 ـ بخصوص المقارنة بين مسرحية "كاند يد" لبرنارد شو، و"شمس النهار" للحكيم، فهي مقارنة غير ممكنة، بل غير منطقية ولا معقولة، وذلك لأن فلسفة المسرحيتين، والأشخاص الذين يدور بينهم الصراع، بينمها خلاف كبير.

2 ـ الحكيم لم يترك نهاية مسرحيته مفتوحة، فالحق يقال: إن تردد شمس النهار بطلة المسرحية، لم يكن منذ البداية إلا تردداً ظاهراً قصدت به إثارة غيرة قمر الزمان، الذي كانت في قراره نفسها تحبه وتتعلق به، وتتمسك به زوجاً لها.

غير أن قمر الزمان أفلح في نهاية الأمر في إقناعها بالتفرغ لخدمة شعبها المحتاج إليها، رغم ما قد تلاقيه من متاعب وصعاب، فأصحاب الرسالات لا يستريحون على حد قول قمر الزمان. ومن ثم يمكن القول: إن الأميرة شمس النهار اختارت بالفعل في نهاية المطاف جانب الشعب أو الرعية.

أي انحازت إلى الناس أو إلى أمتها التي خرجت منها، ولم تكن نهاية الحكيم حائرة أو مبلبلة، كما اعتقد أستاذنا الدكتور محمد مندور. 

نقطة الضعف
الحق أن توفيق الحكيم كان ممتازاً متميزاً في اختيار الأفكار، وفي إدارة الحوار الذي يعبر عنها، غير أن نقطة الضعف الخطيرة في عدد من مسرحيات الحكيم، ومن بينها هذه المسرحية التي نعرض لها، هي في بناء الشخصيات، وتحديد أبعادها النفسية والاجتماعية، وإثقالها بالصراع الدرامي حتى تصبح كائنات حية، وليس مجرد كتابات أو رموز، فالشخصيات في مسرحه لا تنهض بالحركة، ولا تلتحم بالصراع أي لا تتفاعل معه أو تنفعل به.

وعلى سبيل المثال صور الحكيم الفارس قمر الزمان بطل مسرحيته "شمس النهار" إنساناً بالغ البساطة، حكيماً بالغ الحكمة، شديد الإحساس بالقيم والمبادئ الأخلاقية، مدركاً للمسؤولية الاجتماعية، ولكن هذه الصفات كلها لم تتبلور لنا من خلال المواقف المسرحية الدرامية، بل إن الحكيم يسوقها إلينا سوقاً على لسان قمر الزمان ذاته، ومن خلال حواره مع الشخصيات الأخرى.

أما شمس النهار فقد ثارت على وضعها الطبقي، وانسلخت عن الأرستقراطية الحاكمة التي تنتمي إليها، مفضلة جانب الرعية أو الشعب، مؤمنة به، وبطاقاته الكبرى، غير أن الحكيم مع ذلك لم يقل لنا: لماذا ثارت شمس النهار ابنة السلطان نعمان على طبقتها؟!

أو ما هي البواعث الاجتماعية التي أدت إلى تحول هذه الشخصية من مجرد أميرة برعت في ركوب الخيل واللعب بالسيف، إلى ثائرة تضحي بحبها في سبيل أمتها أو شعبها؟! 

بين شمس و"فوماجاردييف"
وربما أتضح للقارئ الكريم هذه الملاحظة السالفة أكثر لو أننا قارنا أنموذج شمس النهار عند توفيق الحكيم، بأنموذج فوماجاردييف في رواية مكسيم جوركي المشهورة، فكلا الأنموذجين متمرد، وكلاهما يرفض الواقع الاجتماعي المعاش، وكلاهما ينسلخ عن طبقته، ويعيش ظروفاً غير عادية بكامل إرادته ووعيه.

يبد أنه إذا كانت شمس النهار عند الحكيم تدين الواقع من وجهة نظر أخلاقية ذاتية، فإن المتمرد عند جوركي ينطلق في تمرده من وعي عميق، وتجربة حقيقية حميمية في معايشة هذا الواقع، ومن ثم فإنه يتجاوز ملامح المتأمل الذي يفكر في الظاهرة وهو بعيد عنها، يفكر فيها بصورة تجريدية بحتة، تلك الملامح التي نراها في الأميرة شمس النهار، والفارس قمر الزمان.

وبقدر مخالطة فوماجاردييف عند جوركي لواقع طبقته بقدر إحساسه بفسادها، وبحجم انعكاسها عليه، وتأثيرها فيه، تكون ثورته على هذه الطبقة.

وترتيباً على ذلك يتأزم الصراع الدرامي، ويكتسب الأنموذج حيوية ونبضاً، ويتجسد المعنى الاجتماعي في رفض الإنسان لواقع طبقي يعيشه، هذا على حين يتمثل هذا المعنى بالنسبة لشمس النهار وسواها من شخصيات الحكيم في مجرد المناقشة، والجدل الذي لا ينتهي(11)

بين الصورة والفكرة
وليس عجيباً بعد هذا أن نسمع من المستشرق الأمريكي جاكوب لانداو قوله في كتابه "دراسات في المسرح العربي والسينما العربية": إن حيوية الصورة لم تكن موطن اهتمام الحكيم في أي وقت من الأوقات، ومن ثم شحوبها في مسرحياته، ويركز الكاتب اهتمامه أثناء كتابة المسرحية في القضايا التي تؤرق روحه الحائرة. ومعلوم لنا أنه إذا زاد الاهتمام بالأفكار في العمل المسرحي ازدادت أهمية الدور الذي يلعبه الحوار، إذ ينتقل مركز الثقل في هذه الحالة من أفعال الشخصيات إلى أقوالها، باعتبار هذه الأقوال معبرة عن الأفكار المرادة أو المقصودة. 

ملك الحوار
ومن هنا كان اجماع النقاد على القيمة غير العادية للحوار في مسرح الحكيم، فهو حوار يتميز بما يلي:

أ ـ الجدة.
ب ـ الديناميكية.
ج ـ الذكاء.
د ـ الفكاهة الساخرة.

وهذه هي السمات التي جعلت من توفيق الحكيم بحق (ملك الحوار) كما يقولون.

وإلى القارئ العزيز نقدم هذا المشهد الذي اخترناه من مسرحية "شمس النهار" التي نحن بصددها، وذلك على سبيل المثال، حيث يدور الحوار بين الفارس قمر الزمان، والأميرة شمس النهار من ناحية، وملاحظ خزانة الأمير حمدان، ومساعده من ناحية أخرى:

(قمر: اخبرونا عن مصدر هذا المال أولاً؟
الملاحظ: تريدون الحقيقة؟
شمس: نعم، نريد الحقيقة بكل صراحة.
الملاحظ: بكل صراحة هذه أرباح تجارة استوردناها، وبيعت في المدينة.
قمر: ثمن هذه التجارة المستوردة؟!
الملاحظ: اقترضناه.
قمر: من خزانة الأمير، طبعاً؟
الملاحظ: طبعاً.
قمر: بعلمه؟
الملاحظ: يعلم الله...
قمر: ماشاء الله!
المساعد: وماذا في ذلك؟
قمر: لا شيء... مادام الأمير لا يعلم بهذا القرض من خزانته... والله وحده هو العالم، فإن الله عز وجل يسمي هذه القروض باسم آخر هو: اختلاسات!!
الملاحظ: وما أهمية اختلاف الأسماء؟!
المساعد: حقاً مجرد اختلاف أسماء... ماذا في ذلك؟!
قمر: لا شيء! قرض، اختلاس... كله واحد!
الملاحظ: أتريد الحقيقة؟ نحن لسنا وحدنا.
قمر: أيوجد مثلكم كثيراً؟
الملاحظ: المدينة كلها!!
شمس: كيف ذلك؟
المساعد: هذا هو الحاصل.
الملاحظ: قروض، اختلاسات، رشاوى... كله واحد.
المساعد: نعم، كله واحد.
الملاحظ: كل واحد في جيب الأخر... جيبك في يدي، ويدي في جيبك، وجيوبنا كلها في يد الأمير، وجيب الأمير في أيدينا... والحركة ماشية!!
قمر: وأنتم أتجدون لهذا المال طعماً؟
الملاحظ: أهذا سؤال يسأل؟
شمس: بالطبع لم تسألوا أنفسكم من قبل هذا السؤال؟!
الملاحظ: طبعاً لا... لأننا لسنا مجانين!
المساعد: طعم النقود؟ أهذا كلام يناقش فيه؟
الملاحظ: يظهر أننا وقعنا في أيدي مخلوقات الله أعلم بها. ما دام طعم المال لا يعجبكم فاتركوه لنا... إنه يعجبنا.
المساعد: هذا هو الكلام المعقول.
قمر: نترك لكم مالاً اختلستموه بعد أن عرفنا الجريمة؟
الملاحظ: وما شأنكم أنتم؟!
شمس: لا يمكن أن نتستر على الجريمة.
الملاحظ: ومن الذي طالبكم أنتم بفضحها؟!
شمس: الواجب.
المساعد: عدنا إلى هذا الشيء الملعون!
الملاحظ: وهذا الواجب، ما وزنه؟ عشرة قراريط؟ عشرين قيراط؟ كم يساوي في السوق؟
شمس: ليس في سوق أمثالكم). 

عن الخصائص الكبرى
وبعد أن قرأت معي هذا المشهد الحواري الذي ذكرناه آنفاً تتضح لنا تلك الخصائص الفنية والفكرية التي ألمحنا إليها سابقاً فيما يخص مسرح توفيق الحكيم، ويمكن لنا أن نجملها كالتالي:

1 ـ في حوار الحكيم تلك السمة التعليمية المباشرة.
2 ـ في حوار الحكيم الاعتماد على المناقشة والجدل في بلورة القضية المثارة، أكثر من الاعتماد على الحدث، والصراع الدرامي.
3 ـ في حوار الحكيم استغلال لإمكانيات الحوار وتكثيفه، وتركيزه، حتى يراه القارئ أو الدارس كأنه التماعات الضوء المتتابعة الخاطفة.
4 ـ في حوار الحكيم استخدام للسخرية الاجتماعية، أو فلنقل فيه سمة الروح الفكهة، والذكاء اللاذع اللماح.

ولعل السمة الأخيرة في حوار الحكيم هي من أبرز الخصائص التي لفتت أنظار البحاثة والدارسين من أهل الاستشراق، إلى مسرح الحكيم، ولكنهم ما كادوا يعترفون له بها، حتى عادوا فقالوا: إن هذه السمة جاءت نتيجة تأثر الحكيم بقطب المسرح الإغريقي/ أريستوفان، ومن هؤلاء الناقد الكسندر بابا دوبلو في كتابه عن توفيق الحكيم وعمله الأدبي. 

الشكل والاختيار
أما لغة مسرحية "شمس النهار" كما يبدو واضحاً من المشهد السالف، هي اللغة الفصحى، وهنا نسأل: ما شكل هذه الفصحى التي استخدمها الحكيم؟

إنها الفصحى المفهومة لعامة المثقفين، الفصحى التي لا تعقيد فيها، ولا غريب، بل أن الحكيم يلجأ فيها أحياناً إلى تبسيط التركيب اللغوي، وتقريبه من لغة الحديث العادي، وذلك بعدة وسائل، منها:

1 ـ الاستعاضة بالتنغيم الصوتي في أدوات الاستفهام المعروفة في اللغة العربية.

2 ـ كما أنه ينقل بعض التعبيرات التي شاعت في اللغة العامية، واكتسبت ظلالاً فنية الإيحاء، مثل (يتكلم في الهواء)، و(ولا من رأى ولا من سمع)، و (قام في أجازة )، و(الحركة ماشيه)، وهي وأمثالها تعبيرات شاعت في اللغة العامية الدارجة، واستخدمها أو وظفها الحكيم بنفس معانيها وصيغها التي شاعت بها.

والسؤال الذي نطرحه هنا: لماذا اختار الحكيم الفصحى لمسرحيته "شمس النهار"؟

لقد وجد الحكيم في اللغة الفصحى أداة مناسبة جداً لأجراء الحوار المسرحي في مسرحيته، وذلك تفسيره يرجع إلى الأتي:

أ ـ البيئة التي تجري فيها أحداث المسرحية بيئة شبه تاريخية، تذكرنا بتلك البيئة التي سادت المشرق أثناء القرون الوسيطة.

ب ـ الشخصيات التي نصادفها كثيراً عندما نقرأ حكايات "ألف ليله وليله".

ولا شك أن مثل هذه البيئة، وهذه الشخصيات يناسبها أكثر استخدام اللغة الفصيحة في الحوار، خاصة إذا تذكرنا معاً أن معظم شخصيات المسرحية باستثناء الفارس قمر الزمان، هي شخصيات من الطبقة العليا في المجتمع(12).

ج ـ عن طبيعة القضايا التي يدور الحوار حولها أو يتمحور عليها، هي قضايا أخلاقية وفكرية يسمو مستوى الأداء فيها أحياناً حتى يكتسب صبغة شعرية رقيقة.

كل هذه الاعتبارات تسمح لنا بأن نقول: إن استخدام الحكيم للغة الفصحى في هذه المسرحية كان من ناحية مناسباً جداً للبيئة التي جرت فيها وقائع وأحداث المسرحية، كما كان من ناحية أخرى استلهاماً لطبيعة الشخصيات المسرحية. 

باحث ومحاضر في الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية
Email:ayusri_a@hotmail.com
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ توفيق الحكيم، مسرحية "شمس النهار"، مكتبة الآداب، القاهرة، 1965م، مقدمة المسرحية.
(2) ـ ي. م. يفنيينا، الواقعية الأوربية، ص260 وما بعدها، وكذلك المرجعان المشار إليهما في الهامش رقم(1).
(3) ـ توفيق الحكيم، مسرحية "شمس النهار"، ص31 ـ 33.
(4) ـ توفيق الحكيم، مسرحية "شمس النهار"، ص172 ـ 173.
(5) ـ الفريد فرج، دليل المتفرج الذكي، ص189 ـ 190، وفيه حوار مع الحكيم أجراه معه الكاتب المسرحي الكبير الفريد فرج.
(6) ـ محمد مندور، مسرح توفيق الحكيم، ص176.
(7) ـ ب. ميخا بلوفيسكي بالاشتراك مع ي. تاجر، أدب جوركي، موسكو، 1969م، ص36 ـ 47، حيث يمكن لنا معرف المزيد عن نموذج المتمرد عند مكسيم جورج.
(8) ـ لانداو، دراسات في المسرح العربي والسينما العربية، ص140 ـ 147.
(9) ـ توفيق الحكيم، مسرحية "شمس النهار"، ص76 ـ 84.
(10) ـ الكسندر بابا دوبلو، توفيق الحكيم وعمله الأدبي، ص234 ـ 235. وكذلك المرجعان المشار إليهما في الهامش رقم(1)، نفس الصفحات.
(11) ـ محمد فتوح أحمد، نماذج تطبيقية من الأدب النثري الحديث، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، 1974م، ص88 ـ 104.
(12) ـ محمد فتوح أحمد، مرجع سبق الإشارة إليه في هامش(1)، نفس الصفحات. ذلك إضافة إلى ما ذكرناه من مراجع داخل سطور هذه المقالة. كما يمكن للقارئ الكريم أن يراجع كتابنا المعنون بـ: "تجليات التأصيل في مسرح توفيق الحكيم"، القاهرة، 2006م، وكذلك العديد من المقالات التي كتبناها عن رائد المسرح العربي الأستاذ توفيق الحكيم، ويمكن للقارئ أن يجدها على شبكة المعلومات الدولية (الإنترنيت).