يتوقف القاص التونسي عند لقاء الراوي بشحاذ نظراته ملتبسة ومتضمنة دلالات عديدة، فيها ألق حيوات يتوق الراوي إليها. وكيف أثار هذا اللقاء جوانب خفية داخله يدفعه ظهورها إلى التماهي مع الشحاذ من ناحية، وإلى اكتشاف أنه لن يستطيع أن يحقق رضاه الذاتي عن نفسه من ناحية أخرى.

المتسولان

عبدالوهّاب الملوّح

أرسلت إليه إشارة نافرة. بلا مبالاة تركني يدفع خطوات مثقلة بالهم تنشد لها سبيلا في الزحام. مشى متثاقلا وثيابه البالية يخيطها أسى رث. و دون أن يبتعد ظل يدور في نفس المكان بهيكله الشبح يكاد يهوي. فجأة خطر لي أن ألحقه ووجدتني بسرعة أسد السبيل أمامه. مد لي كفا هزيلة حفرتها الأخاديد ظهرت عروقها وبرزت سلامياتها من تحت غشاء جلدي بدا كالحا لم يرفع رأسه غير إن صوته جاءني خافتا مبحوحا يكاد لا يُسمع:

ـ لله

ولما لم يجد إجابة لدعواه مال عني إلى حيث يواصل دورانه دون أن يستعيد راحة يده أو يرفع رأسه.

مسكته من كتفه اليمنى وليس لي ما أقول له وإذ طال صمتي رفع رأسه هذه المرة ونظر بعينين زائغتين أرسل نظرة مطعونة أجفلتني، كانت مزيجا من هم كبير وبريق غامض وألم متكبر جارح، ذقن متمرد بما دبَّ في تضاريسه من شعر جاء على ملاحة قديمة تسم وجها لم يخلق في الأصل لمثل هذه الحال المأسوية. وجه ذو ملامح متعالية، حاجبان رقيقان، جبين وإن نال منه الزمن بقى شامخا محافظا على شساعته و أنف رفيع هو الشاهد المتبقي على ما كان يتمتع به هذا الوجه من حسن وسامة. لم أجد جوابا جاهزا لنظرته تلك وحاولت تدارك الأمر بسرعة قائلا:

ـ أيه، خذ، هاك، لكن

أراد التملص مني مرة أخرى في محاولة لاستعادة إيقاعه المألوف في الدوران واسترجاع صدى صوته المشروخ زدت من ضغط يدي على كتفه وحسمت أمري معه قائلا بحزم:

ـ تعال معي

كان المكان يعج بالمقاهي التي بعثرت طاولاتها تكتسح رصيف الشارع. أجلسته إلى إحدى هذه الطاولات وطلبت من النادل أن يأتينا بفنجاني قهوة. ظل صامتا يلوك الهواء بفمه ويتأمل الفراغ بعين زائغة. عاد النادل ووضع الطلبية وانصرف. قربت منه فنجان القهوة وفعلت نفس الشيء بالنسبة لي أشعلت سيجارة وقدمتها له تناولها وأخذ يمصها بشراهة بالغة يتبعها بشفطات متتالية من الفنجان أمامه وإذا بألق غامض يكنس كدر الروح الذي كان يستبد به رفع وجهه وألقى نحوي بابتسامة خاطفة ران علينا الصمت مدة لا أستطيع تقديرها وأمام دهشتي قام الرجل تركني في مكاني وأخذ يطوف حول الطاولات لم أدر ما أفعله غير إنني فكرت أن هذا الرجل قد يكون مخبولا أو أحمق أو ما لا أدري وكاد اليأس أن ينال مني لولا أن ضجة في المكان نبهتني لما يحدث وإذ التفت كان النادل يدفع صاحبي إلى خارج حلقة الطاولات، قمت متبعثرا وهرولت إلى حيث انسحبت والرجل من المكان بعد أن نقدت النادل وبينما هو يمشي حذوي لم يكف عن مد يده للمارة وهو ما أغضبني كثيرا إلى أن صحت فيه:

ـ كُفَّ كُفَّ وسأعطيك

لم يكف وظل ينهنه بصوت شبه مكتوم مكررا جملته المبتورة وفي كل مرة تسقط في كفه قطعة نقدية يرمي بها في جيبه لتعود يده إلى وضع الزاوية القائمة مع شيء من الانكسار عيل صبري وسحبته قليلا خارج الزحام وصارحته هذه المرة بوضوح:

ـ اسمع، سأعطيك ما تريده بشرط أن تجيب عن سؤالي

تعلق بصره بي هذه المرة وكان أشد وضوحا في الدهشة، تداركت الأمر بسرعة وواصلت حديثي قائلا:

ـ نعم سأعطيك ما تشاء

توقفت في محاولة لترتيب أمري. سرحت بصري بعيدا ثم عدت أحاول أن أقرأ تفاصيل وجهه وأنا أحدثه لكن بصري حالما يصطدم ببريق عينيه الغامض ينكسر بسرعة:

ـ اسمع لنكن واضحين كم تجمع من جولتك اليومية هذه؟

لم يقل شيئا لكنه أشار بإصبعيه السبابة والوسطى يحركهما في اتجاه فمه ومصمص بشفتيه وفهمت أنه يرغب في سيجارة.

أشعلت له لفافة تبغ ودفعت إليه بورقة مالية من فئة العشرة دنانير قائلا:

ـ طيب، أنت عرفت كيف تتسول المال وتجمع شيئا منه هل لك أن تدلني كيف أتسول ذاتي وأجمع بدوري شيئا منها؟

كان قد أتى على نصف السيجارة عندما ألقى إلي بابتسامته الخاطفة ومضى إلى دورانه في الشارع الكبير وبريق عينيه يسطو علي ويمضي نزيلا في داخلي يسحبني لأطوف بدوري في الشوارع أتسول هذا البريق.