هذه دراسة في نقد النقد يتعرف فيها الباحث المغربي المرموق شعيب حليفي على تضاريس خريطة النقد المغربي وتحولاته، ويقدم فيها تناولا تفصيليا لواحد من أهم أعلامه البارزين وهو أحمد اليابوري.

الخطاب النقدي المغربي: الهوية والأفق

شُعيب حَليفي

انفتاح ودينامية التشكل النقدي

تحقق الكتابة وجودا متعدد المعنى والقيمة، وتصبح أثرا مفتوحا على التعليق والتقييم والسؤال، وبناء مساهما في تدبير نصوص وخطابات أخرى. ويندرج الخطاب النقدي ضمن هذه القاعدة والملتقى الفاعل والمتفاعل مع أصوات وخطابات لتحقيق حوار كاشف ومتطور. ومثلما كان للخطاب الإبداعي مراحله التطورية ومغامراته المتواصلة في مسارات أساسية، كذلك عرف الخطاب النقدي سيرورة بثلاثة أشكال متوازية ومتداخلة مع المعرفة النظرية والمنهجية، ثم المعرفة النصية، والمعرفة الاجتماعية أفرزت ممارسات نقدية نشأت وسط إشكالات السؤال وليس في أحضان الجواب، وحققت تراكما أكد على خلفيات معرفية وتجليات منهجية واجتهادات بينة. وكان النقد، في سيرته ومسيرته، فنا وحركة دينامية وتاريخية داخل النسق الثقافي العام. يبحث عن دعامات تقويه وسبل للتواصل الذكي مع النص والمتلقي رسما لوسائل القراءة والتأويل، وفي هذا السياق كانت هويته تتشكل وسط كل العناصر والتحولات، وكذا التأثيرات والأهواء، غير ثابتة، بل مفتوحة باستمرار على كل جديد يمكنها من اكتساب الخصوصية والمناعة، كذلك فهي قابلة للتعديل وتتخذ مناحي واتجاهات، أحيانا متناقضة، ولكنها ضرورية لترسيخ قيم نقدية مدركة لأدواتها القادرة على تحقيق الفهم والتفكيك والتأويل لإنتاج معرفة تستند على المصطلح والمفهوم والتصور، مثلما تستند على النصوص والفضاءات المنفعلة معها وبها.

ولا يحيد الخطاب النقدي المغربي المعاصر عن هذا التوجه، فقد ارتبط بالنسق العام المحلي والعالمي، الموسوم بتحولات طبعت نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وكانت حافزا مهد للانتقال من ثقافة تقليدية، فقهية، مهادنة ومغلقة على ذاتها في الأعم، إلى ملامح ثقافة تسعى إلى التحرر ومساءلة الذات والتاريخ والحاضر... وهكذا انفتحت على أشكال تعبيرية جديدة من قبيل القصة والرواية والمسرح والمقالة والنقد الأدبي، إنه تحول ملموس من ثقافة الحفظ والرواية (التكرار) إلى ثقافة البحث والاجتهاد (الإبداع) وهو ما أدركه عدد من العلماء والفقهاء المغاربة، وكذلك كان شأن بعض المشتغلين بالعمل السياسي في تلك الفترة المبكرة (1)، فاقترن التجديد والتحديث بالفكر الإصلاحي الوطني الذي كان يمتلك رؤية النهوض بالمجتمع وإخراجه من وضعية الجمود والتخلف والاستعمار إلى النهضة والحرية. وقد حاول النقد المغربي، في بداياته الأولى استدعاء الإرث الثقافي من عصور المرابطين والموحدين والمرينيين والسعديين ومن تلاهم مع تأثيرات الثقافة الأندلسية، إبداعا وملاحظات نقدية لغوية وبلاغية متفرقة (2)، لكن الوعي بالراهن ومعطياته أدمج النسق الثقافي، أو جزءا منه، في سياق البحث عن التحديث بحافز الدينامية الأدبية التي كانت قد انطلقت في المشرق العربي بإرثها الباذخ، وفي أوروبا التي كان للفلسفة والنقد والإبداع إغراء خاصا وقويا على الجميع، مثلما كانت هناك حوافز وعوامل أخرى من بينها ظهور الصحافة وحركة النشر بفعل الحركية السياسية والحس الوطني المثقل آنذاك - بهواجس الحرية والتحرر والبحث عن صوت يشيد لهوية تعكس الطموح إلى إثبات الذات.

ويمكن رسم اللحظات الأساسية الثلاث في تشكل وتطور الخطاب النقدي المغربي المعاصر، منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، حيث بدت ملامح النضج في الوعي السياسي الوطني عند نخب مثقفة تمارس الإبداع والنقد والسياسية (3) في ساحة ثقافية بمجلات وجرائد (4)، ورغم عدد من المعوقات الأساسية: وهي الاستعمار ورقابته؛ ثم انتشار الأمية والتعليم التقليدي المحدود؛ والفقر، واهتمامات أخرى ثقافية (شفوية، شعبية). وكانت نخبة محدودة من المثقفين في المدن الكبرى: فاس، مراكش، سلا، الرباط... من علماء وفقهاء وقضاة وسياسيين ممن انشغلوا بالعمل الثقافي. وخلال هذه الفترة الأولى التي تمتد على مساحة حوالي ثلاثة عقود؛ تنتهي في أواخر الخمسينيات (5) كان تشكل الخطاب النقدي انطباعيا وتعليميا وسجاليا لم يتجاوز المقالات الوصفية والملاحظات القريبة من الوعظ والتوجيه، مرجعيته مرتبطة بخيوط رقيقة تمتد إلى الإرث المغربي الأندلسي، وأخرى واضحة تستمد أفقها من المشرق العربي.

وتبتدئ المرحلة الثانية بتحولات كبرى في المغرب والمشرق وما شهدته الشعوب العربية والإفريقية من استقلالات وسط مد تحرري جارف، وكان لاستقلال المغرب (1956) أثر في استكمال بناء الهوية الثقافية فتأسست الجامعة المغربية وبداخلها نخبة متنورة من المثقفين والباحثين المتشبعين بالثقافة العربية والغربية، فضلا عن الدور التقليدي الذي تقوم به كلية بنيوسف بمراكش وجامعة القرويين بفاس. كما ستحقق المثاقفة ـ مع الثقافة الفرنكوفونية على الخصوص ـ بعدا حاسما في التطور الثقافي، والنقدي عبر تبني رؤى منهجية، وتحديدا الدور الاستراتيجي الذي ستلعبه الجامعة المغربية في تعميم الفكر النقدي والمناهج الحديثة، إلى جانب الحركة الثقافية العامة والمجسدة في الحلقات الأدبية والترجمة، والملاحق الثقافية بالجرائد الوطنية ودور بعض المجلات العربية في المشرق العربي... مع توسع دائرة التلقي للإبداع والنقد، وقد صادف العقد الستيني في هذه المرحلة وفرة النقد البنيوي باتجاهاته ومناقشاته المنهجية إلى جانب التقدم في أسئلة الفكر والفلسفة الاجتماع، وهكذا كانت هذه المحطة  ـ في النقد المغربي ـ مرحلة تجاوزت الانطباعات إلى نقد جنيني وتأسيسي ـ في اتجاه عام ـ مرتبط أساسا بما هو مجتمعي وإيديولوجي ينظر إلى النصوص والأفكار باعتبارها أدوات تغيير وأوعية، لابد وأن تعكس طموحات وآمال وإخفاقات الإنسان. وبداخل هذا الاتجاه العام كانت هناك مغامرة نقدية بملامح تجديدية تقارب الأبعاد الفنية ـ الاستتيقية/ الجمالية برؤى منهجية أيضا.

وهي التي ستمهد الانتقال إلى المرحلة الراهنة  ـ الثالثة ـ التي تبدأ من أواخر السبيعنيات وتستمر حتى الآن، حيث أن النقد المغربي أصبح متحققا ضمن فضاء النقد العربي، والحركات النقدية الأوروبية، وضمن التنظيرات المتجددة، مما مكنه من التطور الداخلي الحثيث والمتعدد المنظورات والمساير لكافة التحولات بموازاة التطور في الحقول التعبيرية والعلوم الإنسانية. لكن أهم ما يمكن تسجيله بشأن النقد المغربي في هذه المرحلة الراهنة أنه لم يقف عند عقدة بناء نظرية أو تيار ومدرسة بل ظل يشتغل بأدوات منفتحة تتأثث باستمرار من التصورات والاجتهادات، وتحتكم إلى النصوص في بناء تحليلات وتأويلات تبرز جماليات النصوص وأبعادها الفنية والمعرفية. بهذا، لم يقف النقد المغربي عند نتائج محددة معلومة، أو عند منهج بعينه، أو في أسار طريقة، بل ظلت الرؤى متعددة والاتجاهات متباينة في سياق إثراء المرجعيات والأدوات والاجتهادات التي هي شريعة النقد والناقد. وبتعدد واختلاف تلقي المرجعيات النظرية والمفاهيم، تحققت الاجتهادات في التأويل عبر مبادئ الملاءمة والتطويع والاختبار، إنه عبور طبيعي عبر تراكمات تنمي أرصدة الخطاب النقدي المغربي المتميز بالتنوع والاختلاف. لقد أصبح النقد اليوم  ـ والمغربي ضمنه ـ ينتج معرفة نقدية متفاعلة مع مجمل المنجزات الثقافية والمعرفية في كافة العلوم، تضيء أفقه في التحليل والمنهجية والمفاهيم، وتصقل هويته بما يجعلها حاملة للخصوصية من جهة، وللكونية من جهة ثانية.

إن هوية الخطاب النقدي المغربي المعاصر تستمد وجودها من كافة المراحل السابقة. بما عزز دعامتها من مرجعيات نظرية ونصية، وبما تلتقطه، دوما، من التماعات تشكل خميرة اجتهادات في الرؤية تقوي وتجذر تماسك ووضوح الأفق الجمالي. وتأسيسا على هذا، فإن التراكم المتحصل في هذا الخطاب قد أنتج منجزا متعدد النسيج يمتح من الإشكالات النظرية والابستمولوجية ويفرز أسئلته المميزة لوعيه المنهجي المزاوج بين الاشتغال التنظيري والمقاربات التحليلية والانفتاح على تخصيب الأفق وتحديث الأدوات. وبموازاة هذا الشكل النقدي المتقدم هناك تجليات عديدة لأنماط نقدية (6) تمارس أدوارا مهمة في التواصل والتعميم الثقافيين، وتعتبر سبيلا للنقاش النقدي وخزانا للتطور والاستمرارية. 

الهوية والأفق

اتسعت دائرة النقد المغربي وتخصبت بتفاعلات أصوات ومناهج الأجيال من مختلف التخصصات والمناحي التعبيرية والفكرية، فتحققت تجارب موصولة بالمشهد الثقافي عامة، مالكة لخصوصياته. حتى أنه يمكن الحديث بأن كل ناقد لا يشبه ناقدا آخر. فكل واحد يؤسس للغته النقدية، ويبصم منهجه مطوعا أدوات مسعفة في تجذير الأسئلة وإنتاج المعرفة. ويعتبر أحمد اليبوري نموذجا للناقد الذي يضطلع بمهام متعددة في سلم النقد، فهو يشتغل بالنقد على واجهات مختلفة تفضي إلى تنمية نتيجة واحدة، فهو مساهم في الدرس النقدي الجامعي والأكاديمي، وفي التأطير العلمي وعرض المفاهيم والمناهج وتقديم النصوص الأدبية. وكتابة المقالة والدراسة في الصحف والمجلات، والمساهمة في الجمعيات والمنتديات ثم التأليف والنشر. جميعها منابر ومواقع يحضر فيها ناقدا خبيرا بالنص، وقارئا متتبعا للنصوص ومواكبا للاجتهادات النقدية والمناهج والنظريات، مستلهما أدواتها دون أن تأسره فيما يحيده عن النص، ويبعده عن حقول اشتغاله، لأنه مستوعب للأصول النظرية وفلسفتها وإمكانات استثمارها. لذلك فإن الخطاب النقدي عند أحمد اليبوري يعكس كل التشكل الثري والطابع الإشكالي في المقاربات والتحليلات من خلال ثلاثة مؤلفات تغطي انشغاله بهذا الميدان لمدة أربعة عقود.

في مؤلفه (تطور القصة في المغرب : مرحلة التأسيس) (7) والذي يعكس لغة الكاتب النقدية في العقد الستيني، اهتم برصد الإنتاج القصصي وجرده من خلال الإصدارات الأولى، وأيضا الاتجاهات المتساوقة مع بعض التمثيلات النصية. موظفا المنهج التاريخي، والمنهج النقدي في إدراك القيمة الفنية وعنصر التطور الذي لازم هذا الشكل التعبيري بالمغرب. وكان هاجس أحمد اليبوري هو بناء تصور قابل للتشغيل ضمن ثلاثة مفاصل تأطيرية استحضرت المؤثرات العامة في الأدب المغربي، من تحولات في السياسة والمجتمع، أو في القيم والمفاهيم والرؤية. وذلك من أجل التقاط لحظات تشكل الوعي الثقافي بدءا من دخول الطباعة إلى المغرب (1859)؛ والبعثات العلمية إلى أوروبا؛ وانتشار الصحافة (منذ 1889)؛ للوقوف عند النسق الذي ترعرع في أحضانه السرد المغربي. مثلما توقف عند الشدرات النقدية التي دافعت عن حداثة المجتمع والأدب، وبعدها تطورية الحركة النقدية المواكبة للسرد، وما كان ينشر من خلالها من مقالات ومقدمات، مبديا ملاحظات على ذلك النقد من حيث المصطلح والرؤية. وأثناء رصده للتطور القصصي في المغرب يتقصى التشكل القصصي مستعرضا الأشكال الأولى التقليدية والتراثية، ثم الشكل الوعظي والتاريخي، لينتقل إلى البحث في التجنس، والذي يقسمه إلى خمسة أنواع (8). قدم أحمد اليبوري في هذا المؤلف رؤيته النقدية المعتمدة على المنهج التاريخي بلغة واصفة وببعد منهجي واضح يؤسس لقراءة تنسيبية ومفتوحة ذات جرأة في تناول الإبداع السردي، ورؤية في تأطير الأجناس والنظر إلى الأدب من منظور حديث، ووعي متفتح على الثقافات والأفكار، ومنهجية شكلت في نهاية الستينات، وعقد السبعينات، قفزة نقدية هامة. كانت سبيلا لعدة أبحاث ودراسات ومؤلفات أثرت الخطاب النقدي.

إنه جهد نقدي استكشافي وتأسيسي برؤيته ومنهجيته ومفاهيمه ووعيه التاريخي والثقافي، والذي سيعرف تطورا على مستوى النظرية والمفاهيم والمناهج تجلت في مؤلفه الثاني (دينامية النص الروائي) (9) والذي شيد رؤية تناولت نصوصا من الرواية المغربية بلغة واصفة ممثلة في مفاهيم وإجراءات تستند على مرجعيات وأصول نظرية واضحة إلى جانب استناده على النصوص وأسئلتها. باحثا فيها عن التكون الأجناسي من خلال مقاربات متكاملة تنأى عن أي حكم قيمي. فالنصوص كما يقول أحمد اليبوري تحيل على الواقع والتاريخ والإيديولوجيا واللاشعور. لذلك عمد في تحليلاته إلى العناصر المهيمنة في النص، والمؤثرة في تمفصل مختلف مكوناته. أما الخلفيات النظرية التي أفاد منها فيحددها في السيميائية والسيميائية الدينامية، والسوسيو نقد والتحليل النصي في إطار لا شعور النص، ومن نظرية التلقي وغيرها من المناهج التي تقارب النصوص الأدبية بشكل ملائم، وفق قواعد ومفاهيم إجرائية، في إطار ما أسماه بالتكامل المعرفي، ملتفتا إلى تحديدات مساعدة في حقول أخرى ضمن اتجاهات الشعرية والتناص.

أثناء تحديده لمفهوم الدينامية والذي سيصبح مفهوما إجرائيا ملازما ومرتبطا بالتغير والتحول، يرجع أحمد اليبوري إلى الفيزياء والبيولوجيا، في سبيل تقديم مقاربات لأحد عشر نصا روائيا، استدعى معها مفاهيم إجرائية أخرى فككت المستويات الميكرونصية والماكرونصية لإبراز التكون النصي، المرجعي والاستتيقي، لا شعور النص والتباس العلامات.... مما شكل منظومة للمعرفة النقدية تتخلق من الإنصات للنص، وأصواته وعلاماته ومحمولاته، لتحقيق تأويل يفتح النصوص على دلالات موسعة وحية، أنه نقد يمنح أكثر من حياة لهذه النصوص ويحررها للبحث عما ستكتسبه في قراءات وأزمنة أخرى. إن أدوات الاشتغال النقدي، في انتسابها المتعدد الحقول، لا تعمل على النص، إلا عندما تصبح أداة معرفية صحيحة وذكية تحاور النصوص دون الاستغراق في التحديدات النظرية، مما أكسب الخطاب النقدي لدى أحمد اليبوري قدرة تحليلية وتأويلية منتجة ومؤسسة لمفاهيم ومعرفة نقدية تغني وتوسع أفق المقاربة والتحليل.

في المرحلة الثالثة، يصل الخطاب النقدي عند أحمد اليبوري إلى البحث عن هوية في إطار نسق من الأفكار المترابطة في ما بينها منطقيا ومنهجيا ومعرفيا، وذلك في مؤلفه الثالث (في الرواية العربية : التكون والاشتغال)(10)، والذي يسعى إلى طرح أسئلة التكون وطرائق اشتغال وتطور النص الروائي العربي الحديث، عبر أطروحة من مستويين: أولهما مستوى التكون في بعده البنيوي بالوقوف عند المرجعيات المختلفة التي طبعت النص السردي والتصورات النظرية والجمالية، ثم مقترحات أحمد اليبوري في قراءة المسار الروائي العربي وبعد الصيرورة فيه. أما المستوى الثاني فهو الاشتغال ضمن النسق السردي، وخصوصا الاشتغال الأطروحي من خلال تمحيص بعض الفرضيات المركزية مثل الوعي بالحرية والانتماء باعتبارهما تيمتين تساهمان في تجديد بعض العناصر الروائية، ثم ما تفرع عن هذا المستوى الثاني من مفاهيم من قبيل الانشطار الروائي لكونه مقاربة تحيل على البلاغة النوعية للرواية عبر بحثها عن الصور الكلية والجزئية التي يحفل بها النص، لأنه محكيات لها طابع خاص على المستويين البنائي والدلالي. في هذا السياق يتقدم الناقد كثيرا في الاجتهاد على نصوص عربية وذلك بفتح مسارات جديدة لمفهوم الانشطار الذي يقوم على التفاعل والتفكيك، أو ما يسميه بالبقايا أو المهمش والمغفل في المكونات الصغرى في النص الروائي، وهو ما قاده أيضا إلى آفاق النظريات الحديثة في التحليل الثقافي الذي يلتقي والتحليل الانشطاري في عدد من المحطات. وضمن هذه الأبعاد ينخرط أحمد اليبوري في تطبيق الاجتهادات النقدية من خلال مقترحي الانشطار الشذري المرآوي وانشطار البقايا. في المقترح الأول يقدم قراءة متعددة لمختلف نسائج النص من خلال تجميع كل العناصر المشكلة للرواية وترتيب حلقة للتعالقات بين المحكيات الكبرى والصغرى. أما المقترح الثاني فيركز على البعد الاستعاري والوصفي ونظام السرد في البقايا وانشطارها.

لقد تميز مسار أحمد اليبوري النقدي بتطور تصاعدي في الأسس العلمية والابستمولوجية للخطاب الواصف، مفاهيميا ومنهجيا وبالتالي أعطي للمقاربات المقدمة في مؤلفاته الثلاثة بعدا معرفيا، انصب في مجمله، على مساءلة النصوص من خلال معطياتها الفنية والجمالية، وعبر بلورة أدوات ذات قدرة إدراكية، ومناهج خصبة تتيح توسيع آفاق المقاربات وإخصابها. ويعكس هذا المنجز النقدي مسارات الخطاب النقدي المغربي المعاصر، وكذلك التطور المعرفي والمنهجي والذي حقق نوعا من الهوية المشتركة والمختزنة لمشاريع نقدية مختلفة، واجتهادات تغتني باستمرار على مستوى اللغة الواصفة، والإشكالات النظرية ذات الامتدادات في حقول متنوعة. تفتح آفاقا ينخرط فيها النقاد الجدد قبل أن يطوروا لغاتهم ومساراتهم بخصوصياتها عبر انفتاح وتجديد يتسم بالدينامية، وداخل نسق متحاور ومتفاعل يعي ضرورة المثاقفة مع منجزات الخطابات النقدية الحديثة، ومكتسبات العلوم الأخرى وإفاداتها المثرية، كما يعي ضرورة امتلاك رؤية متماسكة للأشياء والعالم وللمنهج والنص في سبيل امتلاك هوية وأفق متجددين ضمن سيرورة التعدد والاختلاف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- كان إدراك عدد من العلماء والفقهاء والمثقفين المغاربة مبكرا بأن تيارا أدبيا ونقديا جديدا في التبلور، يتغذى من الحضارة العربية بأفق مغاير يعتمد البحث وإعمال النظر والابتكار والتجديد بتجاوز التقليد والاتباعية. انظر : عبد الله كنون : أحاديث في الأدب المغربي الحديث. ومحمد المختار السوسي : المعسول. ج 1. وكذلك مقالات لعبد الله ابراهيم وسعيد حجي وعلال الفاسي ومحمد القباج. وقد اندرجت ملاحظاتهم ضمن اهتمامهم الذي ينخرط ضمن ما سمي بالفكر الإصلاحي وانشغالهم بفكرة التقليد والتجديد.
2- هيمنت الثقافة التقليدية الفقهية في المغرب القديم، والمرتبطة بالزوايا والبلاطات السلطانية، وكان التأثير المشرقي واضحا فيما عدا بعض الاجتهادات، وقد استمر نظام التدريس بكلية بنيوسف بمراكش وجامعة القرويين بفاس يواصل نفس مهامه في كل ما يتصل بتعليم الشريعة والأحكام والأصول والقواعد اللغوية والبلاغة.
3- كان هناك تداخل في الممارسة الثقافية بين ما هو أدبي وسياسي منذ الثلاثينيات من القرن الماضي حينما اتخذت المقاومة الوطنية ضد الاستعمار طابعا سياسيا وكانت النخبة السياسية هي المثقفة المرتبطة وحدانيا بالتراث المحلي وبالمشرق العربي وقد ساهمت في انطلاق حياة ثقافية مغربية عرفت كتابات ونقاشات في مواضيع أدبية مختلفة.
4- من أسماء المجلات والجرائد التي وجدت وساهمت في هذه البدايات : المغرب، المغرب الجديد، رسالة المغرب، السلام، الثقافة المغربية.... جريدة الحياة، التقدم، الأطلس، الحرية، الوداد.... كما كانت هناك جريدة (السعادة) التي يشرف عليها صحفي لبناني، يعبر عن وجهه نظر الاستعمار ويساندها كما كانت هناك صحف ونشرات بالفرنسية والعبرية تعكس اهتمامات الجاليات الموجودة بالمغرب.
5- يقسم عبد الحميد عقار النقد المغربي الحديث إلى ثلاث لحظات من تطوره، يعتبرها متعاقبة من حيث تاريخ التشكل: أولا اللحظة الإحيائية بين العشرينيات ونهاية الخمسينيات تقريبا، وتتميز بنزوع واضح نحو الاستقراء الأولي للظواهر والإعلام والنصوص الأدبية. وثانيا اللحظة التنويرية بأفق جدلي بين نهاية الخمسينيات ونهاية السبعينيات، وخلالها سيعرف النقد المغربي البداية المنظمة والمنهجية. وثالثا لحظة التجريب والتنظير، وهي حقبة تتواصل منذ أواخر السبعينات إلى اليوم، وفيها يتجه النقد نحو محاولة استنتاج المبادئ الشعرية والسيميائية العامة. أنظر: عبد الحميد عقار: تطور النقد الأدبي الحديث بالمغرب بحثا عن الاتساق النظري والإنتاجية المعرفية. ص.ص 58-59. مقال ضمن مجلة: فكر ونقد. المغرب. السنة الأولى العدد 6. فبراير 1998.
6- تتجلى بعض أنماط الكتابة النقدية في النقد الصحافي والنقد الشفوي ثم النقد الجامعي الأكاديمي ضمن أشغال المختبرات ومجموعات البحث وفي الندوات والمؤتمرات وما تفرزه من مناقشات. بالإضافة إلى تنوع صيغ تمثل المناهج النقدية بين من يعيد إنتاجها وتكييفها ومن يصهرها ويجتهد في الجمع المتعايش بين مناهج ومصطلحات، أو من عكف على التراث النقدي البلاغي والبلاغة الحديثة.
7- أحمد اليبوري: تطور القصة في المغرب: مرحلة التأسيس ـ الدار البيضاء، منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب ط 1. 2005 (178 صفحة). وهذا الكتاب هو قسم أول من بحث من قسمين، حول القصة والرواية ولم ينشر ضمنه القسم الثاني حول الرواية كما أنه لم يجر عليه غير تعديلات جزئية لم تمس صيغته الأولى التي كتب فيها سنة 1967.
8- يقسم أحمد اليبوري التجنيس القصصي إلى خمسة أنواع القصة السياسية، الاستلابية، التصويرية، المحلية ثم التأملية. أنظر الباب الثالث ص.ص. 93-163 من (تطور القصة في المغرب) م.س.
9- أحمد اليبوري: دينامية النص الروائي. الرباط. منشورات اتحاد كتاب المغرب. ط 1. 1993.
10- أحمد اليبوري: في الرواية العربية: التكون والاشتغال. الدار البيضاء. نشر المدارس. ط 1- 2000.