هذا باب يفتح فيه الناقد المغربي المرموق سعيد يقطين مسارات جديدة للحوار المعرفي من منطلق التدية والجدية معا مع المنجز الثقافي الغربي الأوسع ومتغيراته التي تتطلب استشراف آفاق جديدة على التناول العربي، والتعرف على ما تطرحه على واقعنا من إشكاليات.

آفاق جديدة: لنفتح مسارات جديدة

سعيد يقطين

1. تقديم :

1. 1. إن تجديد الدرس المعرفي والأدبي العربي ضرورة تمليها التحولات الكبرى التي يعرفها إنتاج النص وتلقيه. هذه التحولات تجري أبدا خارج فضائنا الثقافي والمعرفي. ولعل السبب في ذلك لا يحتاج إلى تأكيد، فتأخر بنياتنا الثقافية والعلمية له دخل كبير في ذلك. لذلك يتحقق التطور خارج عالمنا : أي في العالم الذي سبقنا إلى إنتاج المعارف بناء على تحولات داخلية وطبيعية تساعده على ذلك .

يعمل المثقفون والكتاب العرب، منذ بداية الوعي بالتأخر التاريخي، على ردم هوة التفاوت الفكري والمعرفي بيننا وبين العالم من حولنا. وتتداخل عوالم شتى تسم عملية الردم هذه بسمات تقلل من مردودية التفاعل مع ما يتحقق في العالم من حولنا. ورغم المجهودات الكبرى التي يبذلها هؤلاء المثقفون والباحثون، ورغم النتائج الطيبة التي تنجم عن هذا الوعي بالتأخر التاريخي على المستوى المعرفي، والعمل على تداركه باستيعاب المعارف الجديدة التي ينجزها الآخرون في أوربا وأمريكا، والسعي إلى نقلها إلى المجال الثقافي العربي، وتسويغها بإعطائها مسحة عربية اللسان والروح، تظل المواكبة ناقصة، والمتابعة ضعيفة، والهمة قاصرة عن الملاحقة. ذلك لأن السرعة والغزارة التي يتطور بهما المجال المعرفي في الغرب، يجعل في غياب تكافؤ الإمكانات وتوازن الشروط، إمكانية التفاعل مع ما يجري من جهة، والإبداع ضمن سياقاته من جهة أخرى، مهمة صعبة، إن لم نقل أشبه بالمستحيلة، مادامت شروط البحث والإنتاج والتلقي متدنية في العالم العربي، ولم ترق إلى المستوى الملائم .

1. 2. ووعيا منا بهذا : التفاوت،
وإقرارا منا بصعوبات المواكبة،
وأملا منا (عن طريق الوعي بالتفاوت والرغبة في المواكبة) في العمل على المساهمة في الفكر الإنساني، مع التطور،
نحاول فتح نافذة نريد من خلالها الإطلال على الآفاق الجديدة التي يرتادها المشتغلون بالنص في أمريكا وأوربا، سواء على مستوى التفكير أو التنظير أو التطبيق.
إن مساهمتنا العربية في هذه الآفاق الجديدة لا يمكن أن تتم إلا بالمواكبة والاستيعاب الجيد والدقيق لمختلف إنجازاتها. وإننا نسجل تقصيرا كبيرا في مواكبة هذه الآفاق الجديدة رغم أن تدشيناتها الأولى تحققت منذ أواسط ثمانينيات القرن الماضي. ومنذ ذلك الوقت إلى الآن فتحت مسارات لا حصر لها في الفهم والتفسير والتأويل. كما أننا نسجل قصورا في وضع هذه الآفاق الجديدة في سياق التحولات التي تحققت منذ بدايات العشرين.

2. النص، وتحليلاته:

2. 1. اللغة:
يمكننا اعتبار القرن العشرين عصر " النص ". النص باعتباره قيمة إنتاجية وتواصلية. ولما كانت اللسانيات العلم الذي دشن به القرن العشرون وظلت سلطتها مهيمنة حتى الستينيات، فقد ساهمت في تعرفنا على طبيعة اللغة ـ الأداة الطبيعية الأولى للتواصل بين الناس. ومن هواجسها العلمية تولدت علوم الأدب وتحليلات الخطاب ولسانيات النص ،،، المختلفة التي ترمي إلى الإمساك بالطبيعة اللغوية للخطاب أو للنص ووظيفتها. فكان " تحليل النص " ( أيا كانت جنسه أو نوعه أو طريقة تأليفه ،،، ) الميسم الأساس الذي طبع الفكر في القرن العشرين، وشغل التفكير والنظر.

2. 2. العلامة:
لكن اتساع مجال القيم الإنتاجية والتواصلية مع تطور الوسائط المتعددة في القرن العشرين ( تلفزة، فيديو ،،، ) وظهور أو تطور وسائل تعبيرية جديدة تعتمد الصورة ( السينما، الوصلات الإشهارية، ألعاب الفيديو ،،، ) أدى على تطور عميق على مستوى إنتاج العلامات الجديدة التي تتعدى اللغة، دفع بالمشتغلين بتلك القيم التواصلية الجديدة إلى البحث في علوم جديدة تضع في الاعتبار هذه العلامات الجديدة والمتجددة في التواصل. فكانت السيميائيات بمختلف فروعها وأنواعها، تضعنا أمام ضرورة الاهتمام بمختلف العلامات المتعددة والتي ليست اللغة سوى عنصر من بين عناصرها العديدة.

في هذه الصيرورة، كان التطور يتحقق ناقلا مسار الاهتمام من مجال خاص محوره اللغة إلى آخر عام يتأسس على العلامة، ومن الجزئي (النص الأدبي) إلى الكلي (أي نص وأي علامة).

2. 3. النص :
كان تحليل النص، في السياق الذي نتحدث عنه، وهو يرتهن إلى إنجازات اللسانيات والسيميائيات وسواهما من العلوم التي اعتنت بالجملة أو الخطاب أو العلامة واقعة تحت تأثير التعامل مع النص كما يتجلى من خلال الكتابة ووسيطها الأساس: الكتاب.
لاغرو، إذن، أن نجد لدواع وأسباب شتى أن يكون الهاجس المركزي الذي كان يحذو المشتغلين ب" تحليل النص " يتمثل في:
ـ الانطلاق من " الخطية ": وذلك على اعتبار أن أي نص يتأطر بين بداية ونهاية، وبين هاتين النقطتين نتدرج صعودا، وبشكل خطي، من ،،، إلى.
ـ محاولة الإمساك بـ " الوحدة " النصية : وذلك انطلاقا من أن أي نص له وحدة بنيوية ودلالية تنظمه وتؤطر مختلف مستوياته ومكوناته.
كل التنظيرات والتطبيقات من البنيوية إلى ما بعدها، كانت بكيفية أو بأخرى تراهن على هذين البعدين الجوهريين اللذين نظر من خلالهما إلى النص، أيا كان النص، وسواء تم ذلك بصورة ظاهرة أو مضمرة، ومباشرة أو ضمنا.

3. الوسائط المتفاعلة والنص المترابط :

منذ أواسط الثمانينيات من القرن العشرين بدأ وسيط جديد يغزو عالم التواصل والإنتاج والتلقي. هذا الوسيط الجديد هو الحاسوب. ليس الحاسوب تطويرا للآلة الكاتبة الكلاسيكية فقط، أو كما يتوهم البعض، وهو يوقفه عند حد كتابة النص وطباعته. إنه وهو يتصل بالكهرباء، وبعد ذلك بالهاتف، صار جهازا ولغة، بل وعالما مركبا من العلامات (النصية والصوتية والصورية) الأساسية للإنتاج والتلقي. ومع ظهور الفضاء الشبكي (الإنترنيت) وتعميمه عالميا، صار فضاء، هل نقول مجلسا للتواصل مع العالم الخارجي.

صار هذا الوسيط ثورة في مجال الإعلام والتواصل لأنه كان أرقى الوسائط التي وقفت عن التعدد، والتي تعداها بإضافته بعدا جديدا هو " التفاعل ". وكان لزاما لمواكبة تطوراته المستديمة من ظهور علوم جديدة، وممارسات إبداعية جديدة ... إننا مع الحاسوب، صرنا فعلا أمام تكنولوجيا جديدة للإعلام والتواصل بما في الكلمات من معان ودلالات. ولقد ساهمت هذه التكنولوجيا الجديدة في تقديم معرفة جديدة رغم قصر عمرها التي لا يتعدى عقدين من الزمان. يبدو ذلك بشكل لافت للنظر والبحث من خلال بروز:
ـ علوم جديدة .
ـ أشكال تعبيرية جديدة .
ـ نظريات جديدة .
ورغم ذيوع الحاسوب والفضاء الشبكي، وانتشارهما في الفضاء العربي، فإن المتابعة والمواكبة والمساهمة الجادة في هذا التطور، عربيا، ما تزال ضعيفة جدا، وقاصرة، وناقصة.

نود في هذه الزاوية " آفاق جديدة " فتح نافذة نطل منها على مختلف تجليات هذا التطور من خلال رؤية تحليلية ونقدية، وذلك بقصد :
ـ تحصيل المعرفة بما ينجز فيها.
ـ الإسهام في استيعابها عبر الانخراط في عوالمها .
ـ فرز إشكالاتها وترتيب كبريات قضاياها .
ـ المشاركة في قراءاتها وتحليل أبعادها، وأخيرا :
ـ تعميق الوعي الثقافي والاجتماعي بمختلف صورها وأشكالها، ليتأتى لنا من وراء ذلك اقتحام عوالمها برؤية عميقة وفهم مطابق وإبداع خلاق ...

تلك مفتتحات لآفاق جديدة وبعيدة الآماد، نريد ارتيادها، ولكل آفاق جذور، وبدون فتح النوافذ الجديدة في تربتنا، لامجال لترسيخ الجذور أو الانفتاح على الآفاق.

سنفتح، في كل شهر نافذة على الآفاق الجديدة، مستطلعين ومستكشفين ومتسائلين. وكل آمالنا، فتح مجالات للتواصل والتحاور والتفاعل، لتكون تلك الآفاق آفاقنا، أو لتكون لنا آفاق لا تختلف عن أي آفاق.

ذلك رهاننا لتكون " الكلمة " مفتوحة على كل أنواع الكلام، أيا كانت وسائط هذا "الكلام "، وفي هذا الكلام، لنا كلام .

الرباط

said@wanadoo.net.ma