لعبدالمنعم رمضان صوته المميز العذب في الشعر العربي الحديث في مصر، وإنجازه الشعري الذي رسخ به مكانته كأهم شعراء جيله فيها، وربما خارجها أيضا. وله عالمه الشعري الفريد الذي تمثل هذه القصيدة ما بتسم به من خصوصية وحميمية وتفرد القاموس والبنية الشعرية.

أقصى درجات ليليان

عبدالمنعم رمضان

 

مَن هذا الذى يرتدى الثوبَ الأزرقَ الـمَحبوكْ ؟
مَن هذا الذى ينامُ على أُرْجوحةٍ ؟
مَن هذا الذى يحتضن القمرْ ؟
مَن هذا الذى ذراعُه أطولُ مِن مِنقارِ النَّسر ؟
مَن هذا الخارجُ على الجماعةِ ؟
إنه الـمَلاكُ
وماذا تفعل الملائكةُ فى السماءِ ؟
يقولون : تَـكنسُها
يقولون : تَـزرعُ النجومْ .

منذ طُفولتى
منذ جلستُ على سَطْحِ بيتنـا
وأنا أرى الملائكةَ تـتـنـزَّهُ
اثنينِ اثنينِ
وأرى النورَ يَسيل تحتَ أقدامهم

فى ليالى الشتاءِ
الملائكةُ تُدير ظُهورَها للأرضِ
وكى لا نرى مؤخِّراتِها
يأمر اللهُ المطرَ بالنزولِ
يأمرُ الزوابعَ والأعاصيرَ والوَحْلْ .

فى كلِّ صباحٍ
نتحاشَى النظرَ إلى أعلى
كى لا نرى عيونَها تُومِضُ وتَلمَعْ
كلُّ الطُّـلَقاءِ الـمَنْبوذينَ الـحَمْقَى
نظروا فى الصباح إلى عيونها .. تُومِضُ وتَلمَعْ .

أمى رَغِبتْ , قبلَ أن تموتَ ,
أن تُسَلِّمَ على مَلاكَيها الحارِسَينْ .

أمى تعرفُ , أكثرَ مِنِّى ,
أن مَلاكينِ لا يكفيانِ شخصاً واحداً
لكنها .. قَبِلتْ راضيةً .

أمى , التى فَـرَدتْ قبلَ الفجرِ الغِطاءَ على جسدى ,
كانت تخشى على ملائكتى من الـبَـردْ .

الطيورُ لا ترى الملائكةَ
لذا .. تصعَد إلى أعلى ,
الطائراتُ تستهينُ بها
لذا .. تصعَدُ إلى أعلى ,
قلبى يحبُّ الملائكةَ
لذا .. يصعَدُ فى كلِّ اتِّجاهْ .

لَـمَّـا احتبستنى أمِّى فى الغُرْفةِ
لمْ أشعُرْ بالوَحْدةْ .

عندما كَـبِـرْتُ , وأصبحتُ أقرأُ الكُـتُبَ
احتضنتنى أمِّى ونصحتنى :
الكتابُ الـحُلْـوُ
تَـهـبِطُ إليه الملائكةْ .

أحياناً تَـهرَبُ الملائكةُ
لذا .. طلبتْ أمِّى النومَ
فى غُرفةٍ خاليةٍ
من الرَّبْوِ والـهَـذَيانِ
خاليةٍ من الزَّهْوِ
خاليةٍ من خُطُواتِ الذُّبابْ .

كلُّ فتاةٍ أحببتُها
كانت تَلقانى بغير مَلاكَـيها .

الوحيدةُ
البيضاءُ
ذاتُ الشَّعْر الأسودِ
ذاتُ الـرَّجُلِ النائمِ فى الصحراءِ
لـمَّـا دخلتْ غُرفتى
بذلتْ جُهداً عالياً فى طَـرْدِ مَلاكَـيها .

الوحيدةُ الأخرى
البيضاءُ
ذاتُ الشَّعْر الأسودِ
ذاتُ الـرَّجُلِ العارِى
أجلستْنى معْ مَلاكَ يها
كى نتعارفْ .

فى الربيع ..
تمتلىءُ بطونُ الملائكةِ
بالنَّبيذِ والعسَلِ والروائحِ والألوانْ .

أقصى ما حاولتُ أن أعرفَه ما حاولتُ أن أقطُـفَه :
النَّشْوةُ
أو غَريزةُ مَلاكِى .

ضَبَطتُ لِيلْيانَ تُـكلِّمُ نفسَها
ضَبَطتُ لِيلْيانَ تَـلتَـفُّ بالرِّيحِ
ضَبَطتُها تبكِى
قالت لى , فيما بعدُ , :
الملائكةُ عَطْشَى
الملائكةُ تَشرَبُ الدُّموعْ .

لو أنَّ لِيلْيانَ ابتسمتْ لى !
لو أنَّ لِيلْيانَ أعطتْنى يدَها !
لو أنَّ النهارَ لمْ يَعزِلْ لِيلْيانَ عنِّى !
لو أنَّ الليلَ لم يَـتشيَّعْ للِيلْيانْ !
لو أنَّـها !
لو أنَّـها !
.. لأصبحتْ مَهنتى السيدَ الـمَلاكْ !

أحياناً , وأنا بين حبيبتى ,
أنظرُ خَلْفى
وأرتعدُ
.. هاهما الـمَلاكانِ ينظرانِ إلينا .

لم أستطعْ أن أرسُمَ صورةً واحدةً لـمَلاكى
لم أستطعْ أن أتدبَّـرَ الحياةَ فى مكانٍ آخرْ .

تخافُ الملائكةُ على أجنحتها من الشمسِ
لذا .. تطيرُ فى الليلْ .

فى الليلِ , أيضاً ,
تَـنْـهَبُ الملائكةُ الأحلامَ من خزائنِ السمـاءِ
و! من العَرشْ .

فى الليلِ , أيضاً ,
تستطيع أن ترى مَلاكينِ على قارعةِ الطريقْ .

لا يحدثُ أن تُـمَـيِّـزَ
الـمَلاكَ الذَّكَـرَ
عن الـمَلاكَةِ الأنـثَى
.. إلا فى الليلْ !
مِثلَ جُرْحٍ فى القلبِ
مِثلَ الأسنانِ
مِثلَ بابِ البيتِ
مِثلَ النافذةِ
مِثلَ النُّونِ
مِثلَ شَقٍّ فى السمـاءْ
مِثلَ فَمِ لِيلْيانْ
مِثلَ فَرْجٍ مُشْـرَعٍ
مِثلَ مَلاكٍ مطرودٍ
.. يرى الشاعرُ نفسَه .

التِّمثالُ فى الـمَيْدانِ
الشَّجَرةُ فى الصَّحْراءِ
البِيانو فى غُرْفـةِ النومِ
الموسيقَى الصِّرْفَـةُ
الشمسُ فوقَ قُـبَّـعـةٍ
الـمُغـنِّـيَـةُ والراقصةُ والعَـرَّافةُ
والغانـيَـةُ الـمَلمومةُ تحتَ جسدِها
.. كأنها الشاعرُ
.. كأنها الـمَلاكْ .

ليستْ بعيـدةً عنَّـا أحذيةُ الملائكةْ
ليستْ بعيـدةً عنَّـا أبراجُ الـحَـظّ
ليسَ بعيـداً عنَّـا الموتُ الذى يُخيفُنا .

لمْ أستطعْ أن أرْسُمَ صورةً واحدةً لـمَلاكى
لمْ أستطعْ أن أتدبَّـرَ الحياةَ فى مكانٍ آخرْ .

الموتُ , الذى يُخيفُنى ,
لا أعرفُ إن كان يُخيفُ ملا! ئكتى
أمْ يُفرِحُها !

شكراً للحياةِ
أنــا ..
الـمَلِـى ءُ بالحِقدِ القديمِ على الأمراضِ
الـمَلِـىءُ بالحِقدِ القديمِ على الموتِ
الـمَلِـىءُ بالأغانى من أقصَى الأرضِ
إلى أقصَى الأرضِ
الـمَلِـىءُ بالأُبَّـهةِ والأطفالِ
الـمَلِـىءُ بالكونِ الخفيفِ
الـمَلِـىءُ إلى حافَـتِـهِ بالضَّعفِ
الـمَلِـىءُ إلى أعلى من حافَـتِـهِ بالخوفِ الأسودِ
.. الفارغُ قبلَ أن تأتـيَه فتاتُه
.. الفارغُ قبل أن يأتـيَه مَلاكاهْ

شكراً .. للبُستانىِّ , الذى أعطانى الفُصولَ الأربعةَ
شكراً .. للعدوِّ , الذى أعطانى الغِـلَّ والتسامُحَ
شكراً .. للنومِ , الذى أعطانى النومَ التالىَ
شكراً .. للسيدةِ العذراءِ وناريمانَ ومَها
شكراً لأخَواتهنَّ
شكراً .. للماءِ والأنهارِ والمطرْ
شكراً .. للـجُثَثِ الكَسولةِ والأوبئـةْ
شكراً .. للصباحِ , كلَّ صباحٍ
شكراً .. للّيلِ , كلَّ ليلةٍ
شكراً .. للـهِ , الذى لم يَحتجِزْ ملائكتَه فى السماءْ
شكراً .. للـمَلاكِ , الذى تركنى
فلم أرغبْ أن أكونَ الواحدَ الوحيدَ
أن أكونَ الوحيدَ الواحدْ

فى الـتَّـوِّ
وبعد أن يغيبَ الـمَلاكُ
يعتذرُ الناسُ إلى مَلاكِ ال! موتِ
قبلَ أن يعترفوا له :
نحنُ نَـكرهُكْ .

فى الطريقِ إلى السُّورِ
أرى إلى جِوارِ مَلاكِ الموتِ
ملائكةً تحرُسُهُ
فى طريقِ العَودةِ
لا أرى للحياةِ ملائكةً تحرُسُها

قالت لى أمِّى :
فوقَ القبورِ
يتسامرُ فى الليلِ ملائكةُ الموتَى !

قالت لى أمِّى :
لا تَزُرْنِـى
انتـظِرْ مَلاكِى

مَن هذا .. الذى يرتدى الثوبَ الأزرقَ الـمَحْبوكَ ؟
مَن هذا .. الذى ينامُ على أُرْجوحةٍ ؟
مَنْ هذا .. الذى يَـنزِع جِسمَه من سريرى ؟
مَن هذا .. الذى عُكَّازُهُ أطولُ من الرِّيحِ ؟
مَن هذا .. الخارجُ على الجماعةِ ؟
.. إنه الـمَلاكْ

وماذا تفعلُ الملائكةُ على الأرضِ ؟
يقولونَ :
تُؤْنِسُ أصحابَها !
يقولونَ :
تتعذَّبْ !

القاهرة