يموضع الناقد المغربي ظاهرة الشعر الثمانيني الجديد في المغرب في سياقها الإقليمي وفي الواقع العربي، ثم في معمعة التحولات العالمية ومعجمها الأمريكي الاستعماري، ليتقصى القطيعة المعرفية والتاريخية التي تنطوى عليها هذه التجربة والتي ما تزال تنتظر أواليات العملية النقدية التي تصل ما بين التحليل والتفسير والتقييم.

الشعر والتسوية الثقافية

جيل الثمانينيات بالمغرب

يحيى بن الوليد

لا يمكن لدلالات الحديث عن جيل الثمانينيات، في الشعر المعاصر بالمغرب، أن تتأكد في معزل عن تأطير هذا الحديث ضمن الأفق الثقافي السائد بالمغرب، وكل ذلك في المنظور الذي يفضي إلى تقدير التبدَّلات الحاصلة في أنساق التصور، ومقولات الإدراك. تلك التبدّلات التي أخذت تكشف عن ذاتها، وبأشكال متدافعة، وسافرة، ابتداء من منتصف السبعينيات من القرن الماضي. وعلى هذا المستوى فقد انهارت اللغات الجماعية والإمبراطوريات الإيديولوجية والقراءات الساخنة. وفي مقابل ذلك تعمق الحديث عن «أزمة البدائل» و«المشاريع المستقبلية»، بل لم يعد هناك من يتحدث عن "المستقبل" بذات اللغة الوثوقية التي سادت من قبل. سيفاجأ جيل الثمانينيات، الوليد، وقتذاك، بنوع من التحول العنيف، مما سيفضي إلى "الإحساس الجماعي" بالعجز وبالتالي "الخوف من المستقبل". ونتيجة لهذا السياق الثقافي والتاريخي، بأسئلته المغايرة والمربكة، لم تعد هناك من حاجة لـ"إقحام" القصيدة في الغليان وإرغامها ــ بالتالي ــ على "الحضور" الزاعق في "الهدير والزئير" على نحو ما كان يحصل في السبعينيات. بل لم يعد هناك أصلا هدير أو زئير أو غليان. إضافة إلى أن القصيدة ستفقد "جماهيريتها"، وعلاقتها بالواقع، مما سيعمق الانطباع بـ"أزمة الشعر" أو بـ"زمن لا شعري" على وجه التحديد. مرحلة ستطوي نفسها بسرعة، لتفسح المجال، وعبر إواليات "التخطيب" أو "الاستبناء الخطابي" (Mise en Discours)، للغات الحصر والدهشة والشتات ... و"إيديولوجيا الفرجة". وليس غريبا أن يتنكر لهذه المرحلة، بأكملها، من كان قد ساهم فيها، وإيديولوجيا تعيينا، بـ"إجهاد" و"إخلاص"؛ والشيء ذاته يقال عن من سعى إلى الانتساب إليها من المتأخرين. هكذا سيتم "الانسحاب"، و"على أطراف الأصابع" إذا جازت إحدى عبارات الشاعر والمثقف عبد الطيف اللعبي ــ أحد المساهمين عموديا وأفقيا في مرحلة "الشهادة والاستشهاد" و"المواجهة والتأسيس" و"اليقظة والسؤال" و"الأمل والتحدي" و"الأمل والألم" و"الزئير والهدير"... إلخ.

ومن الجلي أن يفقد "السياسي"، هنا، وبغير معناه الأدواتي الحزبي الإجرائي المباشر، طابع "الهم الإيديولوجي" بعامة وطابع "الهم الشعري" بصفة خاصة. ولذلك لن تعود القصيدة كما كانت في السبعينيات، حين كانت أشبه ما يكون بالوهج أو الجمر، مما كان يجعلها تحقق دوامها وتداولها في الواقع الثقافي والإيديولوجي، ومما كان يجعلها تحفز النقد على مطارحة شروطها ورؤاها، وبالتالي توسيع دائرة حضورها في المناخ الساخن للمرحلة. ولعل هذا ما أعطى، في البداية، وبسبب من الرجّة التي طالت "السند الإيديولوجي" للقصيدة، انطباعا أوليا بعدم الإحساس بضرورة ما نقرأ. هذا بالإضافة إلى أن القصائد التي أخذت تطل علينا، وفي الغالب الأعم عبر الصحافة المكتوبة، بدت وكأنها قصيدة واحدة لا تتغير(Inchangeable)  بل وبدت وكأنها تكرر نفسها في متوالية من التجليات، والأخطر كأنها لا تخاطب إلا ذوات قائليها. وكل ذلك في المنظور الذي أفضى إلى تقزيم المتلقي وعدم جعله عنصرا حاسما في تداول العمل الشعري. هذا بالإضافة إلى نوع من الخوف من أن يعلو عدد جوقة شعراء هذه القصيدة على عدد قرائها الذين من المفروض أن ينتظموا في "مجموعات قرائية متغايرة".

غير أن ما حصل، في الشعر، لا يمكن، في تصورنا، رده للشعر بمفرده ... فما حصل كان نتيجة متغيرات مست الوحدة السياقية الكبرى للنسق الثقافي والإيديولوجي ككل في الثمانينيات الصاعدة. لقد بدا واضحا حجم التحول الحاصل في صورة الثقافة، مما كان له انعكاسه على أداء المثقف الذي وجد نفسه "داخل اللعبة". ثم إن ردم الثقافة والمثقفين، وما اتسم به المجتمع، وككل، من تحول "كارثي" (بالمعنى السوسيولوجي للكلمة)، وما رافق هذا التحول من "حصر" أو "بلوكاج" اجتماعي وانسداد سياسي وفقر فكري ... كلها أشكال سيكون لها تأثير على الشعر وأدواره المفترضة في ظل هذا السياق المعاكس والمعوَق. هذا بالإضافة إلى أنياب "الدولنة" التي ستلوي بالصلات غير المتكافئة التي ستصل ما بين الدولة والمجتمع. ونعثر على نص شعري ساخر وجميل معنون بـ"المؤسسة" ضمن "ديوان المعطي" للزجال رضوان أفندي (1997). نص جدير بأن يعكس عملية "المَأسسة"/ "مأسسة المجتمع" على جميع المستويات. "المؤسسة" أو ــ وكما عبّر عنها الشاعر ــ "نَعْمة المؤسسة" التي "يغْرقْ" في بحرها "الْغطاسْ ولْدْ الغطاسة" (ص28) من المثقفين وغير المثقفين من "الفاعلين" في المجتمع.

وما حصل في المغرب الشعري/ الثقافي لم يكن ينفصل عما كان يحصل في العالم العربي ككل من تبدلات مغايرة كانت تنعكس داخل الثقافة في أنماطها المتغايرة بدءا من الكتابات الفكرية والإيديولوجية المباشرة إلى "القصيدة العارية" والنقد الأدبي الملازم والمؤازر لهذه الأخيرة. لقد حصل تبدل في "الأنساق" التاريخية والإيديولوجية التي كانت ترتد إليها هذه الثقافة لتتمظهر في متوالية من التجليات وعبر أنماط متغايرة. وفي هذا المنظور يمكن الإشارة إلى تراجع شعارات عديدة في مقدمها شعار الاشتراكية وأحلام الوحدة والثورة والتقدم ومطلب زوال إسرائيل الأكيد. لفائدة مطالب جديدة ومغايرة، كالديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان. وكل ذلك في سياق متدافع وشاهد على انتشار سياسات التجزيء والإقليمية والإصلاح والتطبيع الرسمي الذي دشنته معاهدة كامب ديفيد. ودون أن نتغافل، ضمن سياق رصد التبدلات المجتمعية، عن تنامي المد الأصولي وتعاظم دور الحركات الإسلامية على امتداد رقعة العالم العربي والإسلامي، موازاة مع مطالب "التسييج الحضاري" في نطاق الرد على "الغزو الثقافي". إجمالا إن العرب ولجوا ثمانينيات القرن العشرين بـ"واقع كئيب" كما قال المفكر المغربي محمد عابد الجابري في مستهل كتابه "الخطاب العربي المعاصر" (1982).

ولا يمكن للتحولات القومية سالفة الذكر أن تتحدد صورتها أكثر، إلا إذا استحضرنا التحولات العالمية التي وسمت العالم ككل في مستهل الثمانينيات. ومن هذه الناحية سيتفتح وعي جيل الثمانينيات بالمغرب داخل سياق "النظام العالمي الجديد" الذي خطف "نظرية التواصل بين الشعوب والحضارات والثقافات" والذي بدا كما تشرح الدكتورة فهمية شرف في "صورة شرطي أمريكي يرتدي وينظر من خلف إبرة إلى أركان العالم". وقد بدأت ملامحه منذ منتصف السبعينيات لتكتمل في "حرب الخليج" (1991) التي لا تزال آثارها الوخيمة ممتدة حتى الآن. وكل ذلك في المنظور الذي أفضى إلى سيادة معجم أمريكي كولونيالي محض في مقدمة مفرداته "كونية اقتصاد السوق" على صعيد الاقتصاد، و"الرأسمالية السياسية" على صعيد الاقتصاد السياسي، و"زوال اليقينيات" و"خطاب النهايات" على صعيد المعرفة ... إلخ. ودون التغافل عن دور الإعلام على مستوى اختراق الهويات الفردية والجماعية، وعلى مستوى تهديد الأمن القومي للثقافة العربية. موازاة مع تمهيد هذا الإعلام لما سيعرف لاحقا بـ"العولمة" التي سيتم الإصرار على إظهارها وكأنها "الفرصة الأخيرة للإنسان العربي" من أجل "الانخراط" في "العالم قرية صغيرة"، ودونما أي إشارة إلى ما تنطوي عليه العولمة، وفي مظاهر كثيرة منها، من "تفكيك" أو بالأحرى "تخريب" لـ"الهويات" و"الثقافات المحلية". هذا بالإضافة إلى ما تخفيه هذه العولمة، وعلى صعيد السياسة هذه المرة، من "أقنعة" الاستعمار و"التدخل" في الشعوب.

ومن الجلي أن يكون لهذه المتغيرات تأثير في الدرس الفلسفي، بل إن النظرة الجديدة ستلح على أن الفلسفة "مفاهيم" بدلا من أن تكون "تأملات" و"مداخلات" و"شذرات". وبما أن الفلسفة مفاهيم فمن الجلي أن تتراجع مفاهيم وأن تفسح المجال لمفاهيم أخرى، ولا يبدو هذا غريبا بالنظر إلى "القطيعة التاريخية" التي مثلتها الثمانينيات. هكذا ستتراجع مفاهيم مثل الثبات والوحدة والعضوية والحضور والهوية والتطابق واليقين ... في مقابل صعود مفاهيم مثل المنسي والمرذول والمنبوذ والمهمش والمتوحش والمكبوت والمختلف ... إلخ. وكما ستتراجع مفاهيم مثل التمثيل والامتلاء والإثبات. في مقابل صعود مفاهيم مثل النفي والتشظي والمحو والسلب ... إلخ. ولا يخفى أن هذه المفاهيم الأخيرة سيكون له حضور في التنظيرات والكتابات النقدية بل وفي النصوص الإبداعية التجريبية ذاتها. غير أنه، وإلى حدود منتصف الثمانينيات، ستكتمل صورة "انقلاب ثقافي" كان قد أخذ يتهيأ منذ منتصف السبعينيات. وسيكون هذا الانقلاب، وخصوصا بعد تراجع المراكز الثقافية العربية التقليدية مثل القاهرة وبيروت وبغداد، قرين بروز "المغرب الثقافي" وبنوع من "سوء التفاهم" الذي سيحصل بين المشارقة والمغاربة، وهذا موضوع آخر لا يهمنا أن نخوض فيه الآن. إن ما تجدر الإشارة إليه، هنا، أن بروز "المغرب الثقافي" سيكون نتيجة الاهتمام المتزايد بالإبستيمولوجيا والمفاهيم واللسانيات والسيميائيات والفكر الفلسفي والنقد الأدبي والترجمة ... إحساسا وتحصيلا ونقلا وتطبيقا وتبطيقا وتطبيعا وتأصيلا.

واللافت للنظر، ضمن هذا الانقلاب، بروز أجناس أدبية على حساب أجناس أخرى. وبالنظر إلى "زمن الرواية" لا يبدو غريبا أن يهمين الجنس الروائي في الأدب المغربي، فمن ما يزيد بقليل عن عشرين نصا في السبعينيات إلى ما يزيد عن خمسين نصا في الثمانينيات. إلا أن الحضور المهيمن للرواية بالمغرب لم يكن نتيجة صيغة "زمن الرواية" فقط، وإنما يعود ــ وربما في المقام الأول ــ إلى "الآلة" النقدية ذاتها وخصوصا في منظور "التصورات المنهجية" التي تسندها. وليس من شك في أن الاستثمار المقصود، وعلى أرض الرواية ذاتها، لأنهاج تشكيل مثل "الخطاب ميتاروائي" و"التجريب" و"شكلنة المحكي" و"القارئ المجرد" ... قدم للآلة النقدية، المتعطشة للتطبيق البراني، إمكانات سانحة لتسويق مفاهيم المناهج والنظريات، و"البرهنة" على "صلاحيتها الديداكتيكية/ التعليمية". والملاحظ أن هذا المنحى النقدي الجديد سيربك شعراء كثيرين، وبما في ذلك شعراء الجيل السابق، هذا بالإضافة إلى أن حضور الشعر سيغدو "شاحبا" في ظل سيادة الثقافة التي تغلب المنهجية. وعلى الرغم من هذا الانقلاب فحضور الشعر ظل مشدودا إلى "الأفق الثقافي" وإن بخيوط العنكبوت؛ خيوط واهية، لكنها ضامنة لاستمرارية حضوره في الأفق الثقافي.

فجيل الثمانينيات سيكون شاهدا على عنف المتحول، وسيكون شاهدا على سياق الهشاشة ومشهد الهذيان. جيل بدون "طبول" تقرع له، وبدون "ضجيج إعلامي" يلفه، وبدون "تنظيم إيديولوجي" يحفزه. جيل مسكون بـ"الاستغراق الذاتي" وبأدغال الدهشة ... والأهم متمسك بحبال القصيدة رغم مغايرة السياق ومعاكسة المغايرة. وقصيدة هؤلاء لن تكون متمركزة في مدينة فاس أو الرباط، ولا في المدينة وحدها. وقبل ذلك، وللتوضيح، والمقارنة، فأغلب شعراء السبعينيات حصلوا على الإجازة في جامعة فاس ما بين 1971 ــ 1973، هذا بالإضافة إلى أنهم كانوا يجتمعون ــ وداخل الكلية ذاتها ــ في ساحة "هوشي منه"  مؤسس الحزب الشيوعي لمنطقة الهند الصينية ( 1930) وجبهة تحرير فيتنام (1941) ورمز حركات التحرر الوطنية ضد الغطرسة الأمريكية ... غير أن ما يهمنا، هنا، جانب "الشاعر" في هوشي منه (1890 ــ 1968)، وصاحب "قصائد المعتقل" الشهيرة.

فشعراء جيل الثمانينيات سيتوزعون، وفي نطاق سياسة "التجزيء"، على معاهد وكليات مستحدثة على مجموع التراب الوطني. ومن الجلي أن تتوزع قصيدة هؤلاء على مدن وقرى متفرقة تفرق أحلام السبعينيات وتصدع إمبراطوريتها الإيديولوجية. وجيل الثمانينيات كذلك جيل ذلك النوع من "التمزق الباطني" الذي سرعان ما ستتضاعف وتائره على مستوى الوجود واللغة والمجتمع والتاريخ. وجيل بدون "شعار" يوحده، أو "مؤسسة" تستوعبه، أو حتى "مجلة" تحتضنه. وفي هذا الصدد لا ينبغي أن نتغافل عن دور "المجلات" على مستوى استيعاب الأصوات وتعميق التجارب وتصريف النصوص. قلنا إن ميزة شعراء السبعينيات أنهم درسوا في جامعة فاس، وحصلوا على الإجازة في بداية السبعينيات ... عكس شعراء الثمانينيات الذين سيتوزعون على كليات مستحدثة ومعاهد متفرقة. وفي هذا الإطار ستطرح مسألة احتضان التجربة ومحاولة تدبر أصواتها والإنصات إلى نصوصها، وهذا ما ستبادر إليه بعض الجمعيات الثقافية. وقد جرت العادة أن يتم التشديد، هنا، على "الملتقى الوطني الأول للشعراء والنقاد الشباب" الذي نظمته جمعية "الشعلة" بمدينة سلا يومي 13 ــ 14 فبراير 1988. بل إن هناك من يرى أن تسمية "التجربة الشعرية الجديدة" مصدرها هذا الملتقى، ولعل هذا ما يدخل في مزالق "التأريخ". ويهمنا أن نشير إلى أن سبب الاهتمام بملتقى سلا يعود إلى نص "البيان" الذي توج به الملتقى، وهو البيان الذي لفت أنظار محمد بنيس، بل وأعاده كاملا في مقال "ناري" معنون بـ"راهن الشعر المغربي ذاكرة الهاوية واختبار السراديب" نشره أول مرة في مجلة "الفكر الديمقراطي"  (قبرص، العدد 3، صيف 1988)، وبعد ذلك ضمه إلى كتابه "كتابة المحو" (1994). ويمكن القول بأن المقال، وهو ما لم يقله بنيس، "رد" على نص "الحوار" الذي أجري مع الشاعر أحمد المجاطي (1936 ــ 1995) في جريدة "الاتحاد الاشتراكي/ الملحق الثقافي (الأحد أبريل 10 أبريل 1988) في إثر حصول هذا الأخير على جائزة المغرب للآداب (مارس 1988) ومن قبل جائزة المعهد الإسباني "ابن زيدون" (1985). إجمالا إن المقال لا يخلو من "تكييف" و"استثمار مقصود".

غير أنه تجدر الملاحظة إلى أن مدينة أصيلة، ومن خلال جمعية "قدماء تلاميذ ثانوية الإمام الأصيلي"، كانت "سباقة" إلى تنظيم ما أسمته بـ"ندوة شعر الشباب بالمغرب" ما بين 18 و19 يوليوز عام 1987. ثم إن الأسماء التي شاركت في الندوة ستشارك في ملتقى سلا. غير أن "ندوة أصيلة" ما كان لها أن تتداول كمثيلتها في سلا بسبب من "الحيف الإعلامي" الذي طالها من جهة وبسبب من "الخلفية" التي سلكها المشرفون على "الندوة" من جهة ثانية. لقد حرص هؤلاء على أن لا تحيد الندوة ــ وبلغتهم ــ عن جمع "الشتات" و"مساءلة للكتابة الشعرية الشابة" و"خلق حوار بين الأصوات" ... موازاة مع التشديد على "فكرة اللاتجانس" و"التعدد". والأهم التأكيد على الرغبة في "عدم الاحتضان" أو"الخروج بالبيانات". هذا وأن الجمعية نفسَها ستعمد إلى تنظيم لقاءات أخرى في الموضوع نفسه، وكانت الحصيلة خمسة لقاءات متفاوتة عالجت محاور مختلفة. وقد كان لهذه اللقاءات دور لافت على مستوى احتضان التجربة والإنصات لشعرائها، خصوصا وأن الآلة النقدية كانت حتى تلك الفترة لا تزال تشكك في التجربة. ولا بأس من أن نشير، هنا، إلى ندوة "الإنتاج الثقافي بالمغرب في الثمانينيات" التي نظمها اتحاد كتاب المغرب العام 1987، ويهمنا أن نشير إلى أنه تم الحديث فيها ــ وعلى مستوى الشعر الذي يهمنا هنا ــ عن "الزيغان الشعري" و"الولادة الأنبوبية" و"بؤس المعرفة الشعرية" ... إلخ.

ومن الجلي أننا نتحرك، هنا، في إطار من "التأريخ" لـ"التجربة الشعرية الجديدة". وفي هذا الصدد لا بأس من التشديد على أهمية هذا التأريخ حتى يتسنى للقراءة أن تنتج خطابات متقدمة بمواضيعها، وعدم الوقوع ــ بالتالي ــ في بعض "المزالق". ومن ناحية مسعى التأريخ تظل هذه التجربة فقيرة ومتناثرة الأشلاء في اللقاءات والأشخاص وبعض الصحف. ثمة معلومات كثيرة تظل حبيسة الأرشيفات والرؤوس ... هذا بالإضافة إلى أن عدم نشر البيانات والتوصيات والنقاشات المفتوحة والمغلقة، كان له بدوره تأثير على مستوى "إضاءة" التجربة.

وفي ضوء ما سلف يبدو أننا انتهينا إلى تسمية "التجربة الشعرية الجديدة" كمؤشر على جيل الثمانينيات. والظاهر أن هذه التسمية لم تظهر إلا بعد عامين من انطلاق لقاءات الشعراء الشباب، وعلى وجه التحديد في الملتقى الثالث الذي ستعقده جمعية قدماء "تلاميذ ثانوية الإمام الأصيلي" العام 1989 وهو العام نفسه الذي ستعقد فيه جمعية "الشعلة" لقاءها الثاني. وستتواصل هذه التسمية في التداول النقدي على مدار فترة التسعينيات. وبخصوص تسمية "التجربة الشعرية الجديدة" فإنه يمكن أن نخلص إلى أنها توحي بتحقيق نوع من التراكم من خلال دواوين ومجاميع ونصوص متناثرة في الجرائد والمجلات الوطنية والعربية، هذا بالإضافة إلى أن هذا النتاج لا يخلو من "جديد" وسواء على مستوى "اللغة"  أو "النظرة" المتضمنة في هذه اللغة. إجمالا أن مفهوم التجربة لا يخلو من حمولة "فلسفية أنطولوجية"، ومعنى ذلك أن "الذات" (المبدعة) حاملة للعالم ومشاركة فيه. وبكلام جامع: فالتجربة "أداة للكشف الأنطولوجي" بعبارة هانس جورج غادمير، مما يمايز بينها وبين مرتكز "فعل التصوير" في الفكر الكلاسيكي ومرتكز "الوحي" أو "الإلهام" في الفكر الرومانسي.

وخلاصة القول فمفهوم "التجربة"، وبسندها النظري الفلسفي، كان مطمحا أكثر منه معطى مندغما في الشعر ذاته. ومن فتسمية "التجربة الشعرية الجديدة" كان لها ما يبررها في فترة سابقة، إضافة إلى أنها كانت "رد فعل" على "الحيف النقدي" أو كانت نوعا من أنواع "قتل الأب" أكثر منها "توصيفا تقريبيا" أو "تحديدا نقديا". ودون أن نتغافل عن أنها توحي بـ"التجانس"، في حين أن مفهوم الجيل قائم أصلا على "اللاتجانس". إن جيل الثمانينيات، وحتى إن كان متواكبا وخصوصا في لحظات التشكل الأولى، فإنه يظل، وحتى الآن، غير متجانس بسبب من اختلاف "مرجعيات" شعرائه وعلى افتراض أن شعر جميع شعرائه يتكشف عن مرجعيات مخصوصة.

وحتى نختم فإن انخراط جيل الثمانينيات في الشعر، ومنذ منتصف السبعينيات حتى الآن، لا يحول دون "التقدير النقدي" لتجربة هذا الجيل ... لكن على أساس من تسجيل بعض الملاحظات والمآخذ عليه. وعلاوة على التساؤل، بل وحتى التشكيك، ومن بعض النواحي، في مرجعيات الجيل فإنه يمكننا استحضار كيف أن هذا الجيل لم يحسن الدفاع عن تجربته. وقد يعترض معترض، هنا، بأننا لا نعدم بعض الكتابات، غير أنها كانت "انطباعية" ولا تعكس إواليات العملية النقدية التي تصل ما بين التحليل والتفسير والتقويم. والظاهر، هنا، أن التجربة لم تطرح ما تسميه التفكيكة "قوة النص". وعلى مستوى النص الغائب، وحتى نعود إلى المرجعية سالفة الذكر، فقد عاد بعض شعراء الجيل للشعراء الرواد (السياب وعبد الصبور وسعدي يوسف). وكم كان سيكون مثل هذا الاتكاء محمودا لو أنه كان مصحوبا بالعودة لتجارب عالمية. وهي عودة لا تكشف عن ذاتها في تجارب كثيرة، وسواء على مستوى "النص" أو على مستوى "النص الموازي". ودون التغافل كذلك عن أن الجيل لم ينقطع، وبالمطلق، أو الكلية، لقصيدة النثر، التي صارت ملمحا مهيمنا داخل الشعر العربي المعاصر خلال العقود الأخيرة. وربما كان جيل الثمانينيات، ولا يزال، ومن وجوه كثيرة، وحتى نقفل الحديث، سيئ الحظ. غير أن المرحلة، بدورها، وبمواصفاتها التي أقدمنا على جرد بعضها، كان لها بدورها تأثير هنا ... حتى لا نحمِّل شعراء الجيل بمفردهم "زيغانهم الشعري".