يتناول الباحث العراقي في هذا المقال بعض الظواهر السلبية في عملية تذاكر مناقب الراحلين، التي أثارها لديه ماكتب عن رحيل مفكرين احتفت (الكلمة) بهما في ملفيها الأخيرين. ويكشف من خلال تفكيكه المفصل للمسكوت عنه في لأحد تجليات هذا التذاكر استراتيجيات التعمية وتغييب العقل، واللجوء للعاطفة، وتبرئة الذات.

بعد أن انفضّ السامر

في وفاة محمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد

وليد محمود خالص

تابعت باهتمام، وتابع غيري ذلك السيل الهاطل من المقالات التي أعقبت وفاة الأستاذين محمد عابد الجابري، ونصر حامد أبو زيد التي وقعت في تاريخين متقاربين، وما حوته تلك المقالات من اطراء وثناء، وتعداد مناقب، وتذكير بمنجز ثقافي قدّمه المفكران للثقافة العربية، مع وعود بأن يكون المستقبل أزهى من الماضي والحاضر، وخصوصا مع إلاستاذ الجابري، إذ ورد الحديث عن جائزة تحمل اسمه، وانشاء ثلة من الباحثين (الجابريين) تعمل على فحص ما تركه من كتب، وتفليتها، والكتابة عنها، والتأشير إلى اضافاته (المتميزة) للفكر العربي، وربما سنسمع بعد قليل شيئا قريبا من هذا عن الأستاذ نصر ما دامت الشهية مفتوحة، وبلاغة التأبين حاضرة، ولا ثمن للمداد الذي يكتب به الكاتبون سوى ثمن (الشلة) الثقافية التي هي من أبرز سمات الثقافة العربية اليوم، وما يسمى أيضا بـ(المال الثقافي) الذي يغذّي عروق هذه الثقافة فتنتج ثمرا مرا هو أشبه بالعلقم، بل هو أمّر وأخطر.

وما كنت راغبا في تسويد هذا المقال لولا أنه لم يبق في قوس الصبر منزع، وخصوصا أنّني سائر على درب قلة من الكاتبين آثرت العزلة، وانشغلت بمشروعها الثقافي في الدرس، والتأليف بعيدا عن الضوضاء، والدخول في مشاحنات، العلم فيها قليل وقليل جدا، وإمّا ما خلف القناع فهو مريع مخيف ولكنّه هو الحق بعينه، وكأنّي أستذكر قوله تعالى: "لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا"، (الكهف ، 18)، وفي واحدة من القراءات تأتي بتشديد اللام زيادة في إلامتلاء، وامعانا في هذه الزيادة، أقول انّ لتلك العزلة شروطها، وقوانينها، بمعنى أنّ لها فوائدها، ومضارها في آن واحد، غير أنّ الكيل حين يطفح، وحين تمتلىء الكأس فتغمر الجوانب، عند ذلك تكون العزلة شيئا أشبه بالهروب؛ لأنّها تفسح المجال لذلك الصوت الوحيد أن يرتفع إذ لا صوت سواه، ولعلي أتكيء على مقالة كان قد نشرها إلاستاذ على حسين عبيد في موقع (كتابات) بتاريخ 15/6/2010 وهي تحت عنوان (ثقافتنا القشرية وثقافة الجوهر) ذهب فيها في ختام مقاله إلى أنّنا يجب أن «نعي ونعمل في آن على نشر ثقافة الجوهر الأفقية التي تمتد إلى أوسع وأكثر الناس جهلا، وذلك بالتخلي عن ثقافة القشور الخارجية التي يعتمدها ساستنا المعنيون بالثقافة، وبالتخلي أيضا عن تأليه، وتضخيم الذات الثقافية، فليس ثمة أخطر من أن تتخذ ثقافتنا طابعا قشريا ونخبويا في آن». فهل أريد القول انّ ما كتبه الكاتبون عن الاستاذين تغمدها الله برحمته ينضوي تحت ثقافة القشرة؟ فقه الكلام وسياقه يتجهان إلى تلك النتيجة، ولا أريد استباق النتائج قبل المقدمات، احتراما للمنهج العلمي الذي مارسته، وفرضته قسرا على نفسي خلال الثلاثين سنة الماضية، ذلك المنهج الذي تعلّمته من علي جواد الطاهر، وابراهيم السامرائي، ومهدي المخزومي، وجواد علي، ومصطفى ناصف، والطاهر مكي، وعلي الوردي، وابراهيم الوائلي، وجورج طرابيشي، وطوّرته بنفسي خلال تلك المدة الطويلة، وهو المنهج الذي أراه يذوى، ويذبل على يد أساطين (الثقافة الجديدة) القشرية ذات الطبقات السميكة التي تغتال العقل والروح معا، وهو ما تحدثت عنه تفصيلا في المقدمة التي كتبتها لكتاب إلاستاذ عبدالله السريحي عن (ابراهيم السامرائي)، ولا أريد الاسترسال في هذا الموضوع فهو مؤلم محرق، كما أنّ موضعه ليس هنا، وربما عدت إِليه في مناسبة أخرى، ولكي نبتعد عن (القشرية)، ونكتب ما ينفع الناس الذي نرجو أن يمكث في الأرض، ونظل ملتزمين بالمنهج، أقول، لتلك الاسباب مجتمعة سأجعل الكلام في نقاط منهجية هي:

1.                تنطلق أغلب مقولات إلاستاذ الجابري إِن لم تكن كلها من منظور ضيق يحاول فيه تكريس العقلانية، والتنوير للمغرب وحده، بينما يرتع المشرق في الحدس، والهرمسية، وبعده التصوف بأشكاله المقبولة، وغير المقبولة، ولم يسلم من هذا الحكم حتى الفلاسفة أمثال الكندي، والفارابي، أمّا ابن سينا فهو المتهم الأكبر عنده، ومعه اخوان الصفا، والقائمة تطول، وكأنّ المغرب يخلو من ذلك كله ليتحمل المشرق نصيب إلاسد وحده، وبقدر احترامنا لرأي الأستاذ الجابري في هذه النقطة فلا نرى فيها سوى تكريس للقطيعة من جهة، ونظرة استعلائية لا تقوم على واقع ثقافي رصين، في حين أنّ التاريخ الفكري للمنطقتين يشير إلى العكس من ذلك تماما، وهذا محتاج إلى بحث آخر، غير أنّ إلاشارة إِليه هنا ضرورية، ومع هذا يغفل الكاتبون هذه النقطة الجوهرية، وحق لهم ذلك فهم مشغولون بأشياء أخرى.

2.                يتراجع إلاستاذ الجابري في أخريات سنواته عن مشروعه العقلاني الذي ظلّ يبشّر به لسنوات ليقوم بدرس القرآن الكريم دراسة أقل ما يقال عنها انّها (تقليدية). وحين يعمد إلى ترتيب سور القرآن الكريم وآياته وفق أسباب النزول فإنما يتكيء على تراث عريض قام به المستشرقون، وخصوصا نولدكه، وهو جهد طيب غير أنّه مسبوق إِليه، بمعنى أن (الأصالة) المدّعاة هي أصالة المستشرقين التي اقترضها، وهذا مما يتغافل عنه أغلب الكاتبين أيضا.

3.                غير أنّ النقطة الجوهرية التي ينبغي التوقف عندها مليا، وتدبّر ظاهرها، وباطنها هو إلاغفال المريع لمشروع آخر تناول فيه مشروع إلاستاذ الجابري بالدرس، والتحليل، والنقد المنهجي، عنيت به مشروع إلاستاذ جورج طرابيشي الواقع بخمسة أجزاء ضخام، وتولّت طبعه دار الساقي، ويقع تحت عنوان (نقد نقد العقل العربي)، وكأنّ هناك نوعا من التواطؤ بين أولئك الكاتبين على اغفال هذا المشروع، وقد تابع الأستاذ طرابيشي مشروع الجابري رحمه الله خطوة خطوة، وأبان عن مواضع خلل منهجية فيه، أستطيع تلخيصها في هذه العجالة:

أ‌.                   يرصد الأستاذ طرابيشي خللا واضحا في المصادر التي يفيء إِليها الجابري، وذلك في طول أجزائه الخمسة وعرضها، ويتنقل هذا الخلل بين إهمال الأستاذ الجابري الاشارة إلى مصادره، وخصوصا الأجنبية منها حين يتعلق الأمر بنقطة مفصلية من مفاصل مشروعه، وبين النقل من المصادر بلا اشارة إِليها، وبين الاعتماد على مراجع (وسيطة) بغير الرجوع إلى المصدر الأصيل ممّا يخلق مشاكل كثيرة بحسبان أنّ المرجع (الوسيط) ينقل عن المصدر ما يتلاءم مع سياق موضوعه، وبين الاعتماد على كتب (مدرسية) ذات مستوى معين، فهي مكتوبة أصلا للطلبة في مستويات قبل الجامعة، أو مرحلة جامعية قبل الدراسات العليا، وهذا ممتنع في بديهات الدرس المنهجي، إذ لا بد للباحث من الاعتماد على مصادر (أرقى) من تلك بسبب التبسيط، والمباشرة التي تسم تلك الكتب المدرسية.

ب‌.              يبتر الأستاذ الجابري من النصوص ما لا يتفق مع السياق الذي يريد توجيه نتائجه إِليه.

ج‌.                يقوم مشروع الأستاذ الجابري على فكرتيْ الانتقاء، والاهمال بحيث ينتقي، ويختار من التراث الفكري ما يتفق معه، ويهمل ما عداه تثبيتا لمنطلقه الأساسي الذي أشرنا إِليه فيما سبق، وهو القطيعة الفكرية بين المشرق والمغرب.

د‌.                  ولعلّ مشكلة المشاكل هي موقف الأستاذ الجابري من اللغة العربية التي يكاد الأستاذ طرابيشي يفرد لها جزءا برأسه، وهو موقف عماده التنقّص، والازدراء بحسبان أنّها لغة بداوة بعيدة عن الحضارة، وهو ما لم يقل به أشد المستشرقين عداء للعربية على حدّ قول الأستاذ طرابيشي.

ولست هنا بصدد مناقشة مشروع الأستاذ طرابيشي ومدى صدقيته من عدمها فهذا محتاج إلى بحث آخر، ولكنّني أقول ونحن في خضمّ مهرجان التأبين، وإلاشادة إلا يستحق هذا المشروع المنهجي المتين أن يشار إِليه بكلمة، لا على سبيل الاطراء بل على سبيل معرفة الوجه الآخر لمشروع الجابري، ونحن نعلم أن البحث العلمي الحق لا تستقيم أركانه بغير ذلك الوجه القائم على الفحص، والنظر، والتمحيص، فما السبب الذي دعا أولئك الكاتبين إلى إهمال هذا المشروع الفذ النادر في مجرى الثقافة العربية المعاصرة؟ أهو الجهل به؟ أهو إلاهمال؟ أهو (التصنيم) الذي يراد لهذه الثقافة أن تجعله شعارا لها؟ أهو ترسيخ السائد، والمستقر، ودفن كل ما يخدش ذلك السائد، والمستقر؟ وتتكاثر الأسئلة، وهي أسئلة محرقة مؤلمة، غير أنّ الواقع يشير إليها بقوة؛ لأنّها واقع على أيّ حال.

4- ويصدق هذا الذي تقدم على الأستاذ نصر أبو زيد رحمه الله، إذ تكاثر الحديث عن الظلم الذي حلّ به، والهجرة التي اضطر اليها بسبب ذلك الظلم ، والفكر التنويري الذي التزم بخطه خلال السنوات الماضية، وهو مبثوث في كتبه تلك القديمة نوعا ما حين درس المعتزلة، والصوفية، أو نقد الخطاب الديني، والهرمونوطيقا ومعضلة تفسير النص، وفلسفة التأويل، والخطاب والتأويل، ومفهوم النص، وبعدها التفكير في زمن التكفير، وابن عربي، وغيرها من الدراسات الثمينة التي فتحت أفقا جديدا في التعامل مع النصوص، وخصوصا الدينية منها وفق مناهج حديثة ذات أصول فلسفية متينة. مما هو معروف للمتابع، وهذا حق لا يماري فيه أحد، وكم عانى أولئك الناطقون بكلمة الحقّ حين يحرمون من حقّ التفكير، والاختلاف، وتتدخل السلطة الثقافية فتقمع كتاباتهم، وتفكيرهم معا، وهذا حق أيضا. وجاءت بعض المقالات لتقول شيئا عن هذا، وتشير إلى موقع الأستاذ نصر رحمه الله الفكري المتميز، وأقول هذا من وجهة نظر منهجية صرفة بعيدة عن الضوضاء الذي يفتعله الكثيرون إن في تلك الدراسات، أو في ضفتها الآخرى المغايرة، غير أنّ ما يلفت النظر حقا ذلك المقال الذي نشره د. جابر عصفور في جريدة الحياة يوم الأربعاء 14/7/2010 عن (محنة نصر أبو زيد ودلالاتها)، وأردفه بحلقة ثانية يوم الأربعاء 21/7/2010، ويذهل قارىء ذلك المقال حين ينتهي منه، ولن يخرج إلا بنتيجة وحيدة وهي أنه مكتوب للتخفّف قليلا من عقدة الذنب التي تلازم صاحبها، ويحاول التخلص منها بالكتابة، وليس هذا بجديد حين يعمد كاتب ما، أو حتى مجموعة بشرية تنضوي تحت ما يسمى (بالأقليات) إلى (الكلام)، أو (الكتابة)، أو (النحت)، أو ما سواها من الفنون، وأساليب التعبير للتعبير عن (الضد) من حالتها الواقعية، فتتحدث عن الظلم، والقهر، والمجتمع القاسي، وفي الوجه الآخر تعمد إلى تبرئة الذات، وتقديمها نقية سالمة من العيوب، بريئة من النواقص، وهذا هو حال فن السيرة الذاتية العربية في مجمله: ادانة المجتمع والآخرين، وتبرئة الذات التي تقدّم على أنها مظلومة، مكافحة، محاطة بهالات من القداسة، والنور.

هذا إذا استعنا بفرويد، ومقولاته في العقد النفسية، أمّا إذا استعنّا بنظرية القراءة الحديثة، وعمدنا إلى تفكيك النص للكشف عن المسكوت عنه فيه فلن نصل إلا إلى النتيجة ذاتها، إذ يحاول د. جابر عصفور أن يجلّل مقاله ـــ وهذا غريب ـــ بطقوس دينية، ورسوم مقدّسة حتى أننّا نكاد نشم روائح البخور من خلاله، ويفيء المعتمد على (السيموطيقيا، والهرمونوطيقا، والبنيوية، والتفكيكية) على حد قوله، أقول يفيء إلى البلاغة القديمة التي ناصبها العداء سنوات طويلة، فيأخذ من مواضعاتها ما شاء له الأخذ، ويمتح من بئرها ما يوحي لنا أننّا إزاء رثاء تقليدي صرف يظهر صاحبه وكأنّه لا علاقة له البتة بما جرى للأستاذ نصر من ملاحقة، وحرمان، وظلم، وإنما هو النظام السياسي، والجامعة التي تغّول عليها النظام فجعلها واحدة من أذرعه الكثيرة، تأتمر بأمره، وتنصاع لـ(فرماناته). ويعمد بعد هذا إلى خلط الحابل بالنابل، ووضع العام والخاص في سلة واحدة، ولا ننسى الجانب الإنساني في ذلك (الخاص) من حيث وفاة الابنة، والصديق فلا نملك إلا المشاركة الوجدانية، وبعدها السكوت، وهو النتيجة الطبيعية لغلبة العاطفة على العقل، وكأن د.جابر عصفور يريد أن يوهمنا أنّه لم يكن جزءا فاعلا في الجامعة، بل في النظام نفسه يتسلم فيه المنصب تلو المنصب، ويوجّه المسار الثقافي لا في مصر وحدها، بل في أجزاء من الوطن العربي، ومع هذا يتحدث عن النظام، والجامعة، والنسق وكأنّها أشياء وهمية بعيدة عنه، لا دخل له فيما آلت إِليه مع أنّه من دعاة (الحداثة)، أوكما يصف نفسه ومن معه بـ(مثقفي الاستنارة، وأنصار الدولة المدنية في كل تياراتها).

ونحن نقرأ الآن في شكل كتابات أستطيع القول باطمئنان إنّها (كثيرة) عن (الحداثة المعطوبة)، و(حداثة القشرة)، و(سلطة الحداثة الجائرة) التي تتقمص الدور نفسه ذلك الذي يلعبه ممثلو (التفكير السلفي) على حد قولهم من قمع الرأي الآخر، وإغلاق المنافذ عليه، وأنهم يمتلكون الحقيقة وحدهم، وليس هناك من يحق له امتلاكها غيرهم، ويحرمون غيرهم من حق إلاختلاف، أليس هذا واقعا يجب الالتفات إليه؟ وليست كتب د. عبد العزيز حمودة رحمه الله ببعيدة عنا، وقد اختار لها عنوانات لافتة كالمرايا المحدبة، والخروج من التيه، وغيرها، وكيف أثارت تلك الكتب حفيظة (الحداثيين القشريين)، وكشفت الكثير الكثير من المواقف، والتسلط الفكري مما يضيق المجال لاستيعابه، وكأنّني أستذكر هنا قولة الشاعر محمود درويش حين امتنع عن تبيان رأيه في (قصيدة النثر) قائلا: إنّني أخاف (المليشيات)، وكأنّ موقف د. جابر عصفور من قضية الأستاذ نصر تستدعي موقفا شبيها وقع في بغداد سنة 1923 حين نشر الأستاذ ميخائيل تيسي كتابه الخلافي (ماهية النفس ورابطتها بالجسد) فأثار عليه المؤسسة الدينية على اختلاف أديانها، ومذاهبها، ومعها المؤسسة الاجتماعية التي أحالته إلى القضاء فحكم عليه بالغرامة، وبعد الغرامة تصدّى له أحدهم فأطلق الرصاص عليه، ومع ذلك كله لم نقرأ أنّ أحدا من المفكرين، أو الشعراء (التنويرين) قد هبّ لمساعدته، وكان الرصافي، والزهاوي، ومحمود أحمد السيد، ومعهم ثلة من المثقفين الحاملين لواء التجديد، أقول كان أولئك معاصرين تلك المرحلة، شاهدين عليها، ومع ذلك لم ينبر أحدهم للدفاع عن ميخائيل تيسي، أو مناصرته، ولم أقع إلا على مقال واحد كتبه الأستاذ(محمود صالح شكر) في جريدته (الناشئة الجديدة) يناصر فيها تيسي، ويذّب عنه. إنّ التاريخ لا يكرر نفسه، وإنّما هي المشابهة التي تدعو إلى التأمل والنظر.

5.                ويحاول د. جابر عصفور نقل القضية برمّتها إلى الواقع السياسي الذي عاشته مصر في زمن عبد الناصر، وبعده السادات، ويحمّل ذاك الواقع أوزار ما آلت اليه الجامعة من انحدار مع أنّ الأستاذ نصر تقدم للترقية سنة 1992، وكان د.جابر عصفور رئيسا للقسم، ورئيسا لتحرير مجلة (فصول) الذائعة الانتشار، ويتسلّم بعدها مناصب خطيرة في وزارة الثقافة، مع تأثيره المباشر، وغير المباشر على الحركة الثقافية في مصر، في الأقل في واحد من جوانبها المتسعة التي تمتلك الأصوات، والمنابر، ووسائل إلاعلام الأخرى، بينما تختفي الأصوات الأخرى رويدا رويدا، وآية ذلك مثلا ما آلت إليه مجلة (فصول) منذ ذلك التاريخ، وحتى الآن من اتباع منهج وحيد لا تحيد عنه، وقاريء (فصول) يدرك ما أعني، وهل لي أن أستشهد بمقطع من مقال الأستاذ عبد المنعم رمضان الذي نشره بجريدة الحياة يوم الأحد 4/7/2010 بمناسبة وفاة الأستاذ فاروق عبد القادر أراه منطبقا على حالنا هنا يقول الأستاذ رمضان: «كلّ المثقفين تركوا فاروق عبد القادر وحيدا، وذهبوا إلى المجلس الأعلى للثقافة، إمّا فاعلين، وإمّا منتفعين، وإمّا طلاب منفعة، وإمّا طلاب وجود»، أقول بعد أن يجري ذلك كلّه، والصمت هو سيد الموقف، وهو الكلام الوحيد إن أردنا شيئا من المفارقة، تصغر الدائرة رويدا رويدا لتستقر عند الأستاذ الجليل الدكتور شوقي ضيف تغمده الله برحمته ليوضع في دائرة الاتهام من أنه، أي شوقي ضيف، فوجىء بالمنهج الجديد الذي اتبعه الأستاذ نصر فقرر رفض الانتاج، ثم آثر السلامة بعدها فقرر ترك الموضوع برمّته، وماذا كان يطلب من شوقي ضيف أكثر من هذا الذي فعله؟ ألم يكن شوقي ضيف منسجما مع نفسه غاية الانسجام وهو يصنع ما يصنع؟ وما ترْكه الأمر برمته إلا لترفعه عن الدخول في مثل هذه الأمور التي يهتز فيها المنهج اهتزازا عنيفا، وتضيع البوصلة فلا تؤشر إلا على الخطأ، وكلّ طرف ينظر إلى الصواب من وجهة نظر مختلفة تماما.

6.                وتنتقل القضية من د. شوقي ضيف لتستقر عند د. عبد الصبور شاهين الذي يصفه د. جابر عصفور بأنه يعرف فكره «ومواقفه المعلنة، وانحيازه إلى جماعات إلاسلام السياسي والتيارات السلفية» لتبدأ حلقة أخرى من مسلسل إدانة الآخرين، وتبرئة الذات، تلك التي أشرنا اليها في بدايات هذا المقال، ويدخل الدكتور أحمد هيكل رحمه الله، ومعه الدكتور مأمون سلامة رئيس جامعة القاهرة، ونائب الرئيس الدكتور محمد الجوهري في دائرة الاتهام، بل الإدانة أيضا حين ينحاز الدكتور أحمد هيكل «لزميله عبد الصبور شاهين بحكم عصبية الانتماء إلى دار العلوم، وخوفا من لغة التكفير التي استخدمها زميله والتي لا تليق بتقرير علمي» وحين يقبل رئيس الجامعة أن «يقع تحت ضغط جماعة التأسلم السياسي في الجامعة، وأن يقبل مشورتهم التي دعمت موقف عبد الصبور شاهين لتوافق المصالح والاتجاهات»، ومع أولئك الأساتذة ذوي الماضي الجامعي العريق يقف آخرون لم ترد أسماؤهم صراحة، ولكنهم صوّتوا مع التقرير المضاد الذي له قصة أخرى مع أنّهم صوتوا ضده في لجنة الترقيات؛ لأنّهم «اضطروا إلى التوقيع على تقرير عبد الصبور شاهين..... لكنهم وقّعوا في القسم بلا تردد، كما لو كانوا يشعرون بالذنب».

ألا يستطيع قارئ هذا الكلام أن يخرج بجملة من نقاط ( المسكوت عنه) أولها إنّ أولئك الأساتذة لم يزيدوا عن أن يكونوا دمى خشبية - مع الاعتذار لهذا التشبيه- يحرك خيوطها جماعات من خارج الجامعة، وليس لهم سوى التسليم والانقياد لتلك الأيادي التي تحركهم ، وثانيها إنّ ذلك الكلام يسلب أولئك الأساتذة إرادتهم العلمية، فنحن نعلم أنّهم قبل أن يكونوا وزراء مثل الدكتور أحمد هيكل، أو رؤوساء مجامع مثل الدكتور شوقي ضيف، أو رؤوساء جامعة مثل الدكتور مأمون سلامة، أقول قبل أن يتولى بعض أولئك الأساتذة تلك المناصب كانوا أساتذة في أعرق جامعة عربية هي جامعة القاهرة، ويتحمّلون من المسؤولية العلمية، والأخلاقية كما يتحمّلها غيرهم، وثالثها إنّ هناك نوعا من الاتفاق بين تلك الأطراف جميعها على اختلاف مشاربها، وأفكارها للايقاع بترقية الأستاذ نصر رحمه الله، ويكمن السبب الوحيد في افتقارهم إلى الشجاعة الأكاديمية، ورضوخهم المطلق للضغط الواقع عليهم. فهل نرى في هذه المسكوتات عنها شيئا من الإنصاف؟ وللمسألة وجهها الآخر لكي يكتمل رسم المشهد: ادانة الآخرين من جهة، وتبرئة الذات من جهة أخرى. فماذا حصل؟

7.                يتفلّت الكلام أولا من بين يدي د. جابر عصفور، وكأنه يذكّرنا بقولة علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «تعرف حقيقة إلانسان من صفحات وجهه، وفلتات لسانه»، أقول، يتفلّت الكلام الذي لا يريد قوله حين يقول: «كان هذا ما يدور في ذهني للأسف، وأنا أتابع في صمت الأسى موقف أستاذي شوقي ضيف»، الصمت أولا ثم يأتي بعده العمل، ولكن أيّ عمل ؟ هو عمل أشبه بالحرث في البحر على رأي الأستاذ خالد محمد خالد في واحد من أشهر كتبه الذي حمل العنوان نفسه، وهو (لكي لا نحرث في البحر)، ويتجلى هذا (الحرث) حين يعمل د. جابر عصفور رئيس القسم إلى استصدار قرار ينقض قرار لجنة الترقيات القاضي برفض ترقية د. نصر رحمه الله، ويرفعه إلى مجلس الكلية ليوافق عليه، ويتوقف الأمر عند مجلس الجامعة ممّا هو مفصّل في مقال د. جابر عصفور، ونرى أصابع الاتهام توجّه لكلّ من أبدى رأيا، أو نطق حرفا، أو تبنّى موقفا على الضد من الترقية، ويردّ الأمر برمّته إلى (الأسلمة)، وخنوع الجامعة، وما اليها من دعاوى عريضة محتاجة إلى أدلّة، وإثبات، والأمر برمّته - وبعيدا عن الافتعال، والضوضاء - لا يخرج عن ترقية رفضتها لجنة الترقيات، وهي تشابه عشرات الترقيات التي تقبل، أو ترفض في الجامعات العربية، بالاضافة إلى أن صنيع القسم، والكلية، هو خروج صريح على نظام الترقيات المتبع في الجامعات المصرية، ولم تفعل ادارة الجامعة سوى الالتزام بقانون الترقيات الذي يترقّى بموجبه عشرات الأساتذة في الجامعات المصرية، أو ترفض ترقياتهم في كل عام، أو حتى كل شهر.

ود. جابر عصفور يعلم قبل غيره أنّ هذه المحاولة لن تكون نتيجتها سوى الفشل للسبب الموضوعي السابق، ولكنّه أقدم عليها، فلماذا؟ الصمت أولا، والعمل المغلّف بـ(الأقنعة) ثانيا، وكما بيّن فقد اتهم في مقاله أولئك الأساتذة بالرضوخ، والاحساس بالذنب وافتقادهم المنهجية، أقول لم تكن تلك(الحركة) سوى محاولة لتبرير الصمت، وكسر التقاليد الجامعية، كأنه يقول: هاقد فعلنا شيئا ولم نفلح، ليصبّ المجرى إلى نتيجته المحتومة، وهو تبرئة الذات، وتقديمها بهيئة نورانية رسولية، غايتها غسل اليد من الاثم، ورشّ الماء الملوّث في وجوه الآخرين، وما هكذا تورد يا سعد إلابل، والدليل على ذلك أن إلاستاذ نصر«تقدم للترقية مرة أخرى .. وانتهت اللجنة إلى استحقاق نصر الترقية بجدارة» على حد قول د. جابر عصفور نفسه، فمإذا حدث؟ هل تغير المجتمع؟ هل تغيرت الجامعة؟ هل انحسر (الاسلام السياسي) ذلك الذي حمّله د. جابر عصفور أوزار الماضي، والحاضر؟ لم يحدث شيء من هذا البتة، وإنما هي القناعة الفكرية، والاختلاف المنهجي، وهو الذي عرفناه في مصر، وجامعاتها منذ زمن بعيد، ولكنّ الأخير موصول بالأول بوشائج متينة حين نقول إنّ(السلطة) أيا كان منبعها تحاول فرض رأيها قسرا على الآخرين، ولم تكن سلطة (الحداثة) بأقل سطوة من غيرها حين أرادت تحكيم رأيها، ومنهجها، وحين واجهت مقاومة لجأت إلى تلك اللافتات العريضة مثل (حرية الفكر)، و(التنوير)، وما إليهما من مصطلحات، وكأن الآخرين لا يؤمنون بها، أو يمارسونها، وإنما هي ملك لفئة قليلة مختارة تقول فيصبح كلامها أمرا يجب تنفيذه حتى ولو امتلك ذلك المطلوب منه أن ينفّذ تاريخا علميا، وقناعة فكرية مغايرة.

ولا يذهبنّ الظن إلى أنّ منجز إلاستاذين الثقافي: الجابري وأبو زيد مما لا يستحق الكتابة عنه، فالعكس هو الصحيح تماما، فقد بثّا في نسغ الحياة الثقافية العربية روحا جديدة، وفتحا لمن يأتي بعدهما من الباحثين طريقا لاحبا واسعا يكثر فيه الأخذ والرد، والقبول والرفض، غير أنّ فضيلتهما الكبرى هي تحريك الساكن، وخدش المستقر، ولفت النظر إلى اللامفكّر فيه وفق مصطلح إلاستاذ محمد أركون، وقلة من الكتب، وأقل منها من المفكرين من يطيق هذه الأعباء الثقيلة، ورأيت لزاما عليّ أن أشير هنا، ولو عرضا إلى ما أثارته سيرة الدكتور عبد الرحمن بدوي رحمه الله بعد نشرها بجزئين من لغط، وأقاويل في حين أنّ كثيرا من (السير الذاتية) العربية تنشر بين حين وآخر، وتبقى في محلها تنتظر (القارىء) الذي يكتب عنها، ومردّ الاهتمام بسيرة د.بدوي الى فرادتها، وصراحتها، واقترابها من المناطق المحظورة، ولكّن من (قرأها)، و(انتقدها)، وهم كثرة لم يخطر بباله سؤال بدهي بسيط يتلخص في: ألا يمكن أن يكون د.بدوي على حق فيما ذهب اليه، في الأقل من وجهة نظر شخصية بحتة؟ وألا نستطيع أن نمنح د.بدوي حق الاختلاف، وتبيان رأيه بصراحة؟ كان الجميع يريد من الدكتور بدوي أن يتحرك وفق قناعات (الجماعة)، وثوابتها المستقرة، وهنا مكمن الخلاف، والاختلاف، وعودة الى موضوعنا الرئيس فلم يكن انتاج الأستاذين هو محلّ النظر، بل ما دار حولهما من حديث، ومواقف هو موضع التساؤل، وهو ما كان ينبغي التأشير اليه لئلا يظن البعض أنّ هذا هو الموجود، وهو الصوت الوحيد، وهو الحقيقة التي يحلو لبعض الكاتبين امتلاكها، ولاحقيقة سواها، ولعل ما تقدم فيه من الكفاية ما يجلّي تلك (الاشكالية) في كثير من جوانبها.

ألم يكن الصمت أولى من الكلام؟ ألم يختر صاحب هذه السطور العزلة، والتأمل، والنظر من عل إلى ما يحدث؟ ألم يأخذ على نفسه عهدا بترك الدخول في أمثال هذه القضايا التي تختلف فيها الآراء، بل تصطرع؟ ألم يدرك مسبقا أنّه بهذا الكلام سيثير عليه نفوسا، وسيشحذ أقلاما، ويفتح نيرانا؟ ألم يقرأ قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما أكثر العبر، وما أقلّ المعتبر؟ فهل أصبحت العبر تمر أمام ناظريه وهو غير آبه، أو معتبر بها؟ تواردت هذه الأسئلة كالجمرات قبل أن يشرع في نشر هذا المقال، ولكنّه آثر الكلام. ألم يقرأ من جهة أخرى قول من قال: ليست العبرة في المعاني بل العبرة في أن تقال، ألم يقرأ قول الحسن بن على رضي الله عنه: قاتل الله العيّ فما أحبسه للسان، وأضيقه للروح. ألم يقرأ قول الجاحظ: «المعاني القائمة في صدور الناس، المتصوّرة في أذهانهم، والمتخلّجة في نفوسهم .. مستورة خفية ... وبعيدة وحشية ... وإنما يحيي تلك المعاني ذكرهم لها، وإخبارهم عنها، واستعمالهم اياها»، أقول، ألم يقرأ ذلك كله، ويتدبّره، ويمعن النظر فيه، فهل هناك عذر بعدها للسكوت، ثم ألم يضع دبر أذنه ما يصطرع عليه الناس من ألقاب، وأعراض زائلة، ودنيا مدبرة؟ فمّم يخاف، وهو يضع عجز بيت الجواهري نصب عينيه: وممّ تخاف صلال الفلا، وهو يأمل من جهة أخرى أن يتفهم القارئون هذا الذي مرّ على أنّه تشخيص حالة، وتعليق جرس، ورصد واقع لا علاقة له البتة بالشخصيات، أو خصوصياتها.

فالمهم عنده الموضوع، وليس الذات، وقد كثرت في الآونة إلاخيرة الكتابات التي تشخّص أمثال هذه الحالة، وتبتعد عن الأسماء، فكأنها تحوم ولا تقع، وليس في هذا الصنيع كبير غناء، ونستثني قلّة نادرة من المقالات التي صرّحت بشجاعة بالأسماء، والأماكن، منها مثلا مقال د. ابراهيم خليل المنشور بجريدة الدستور الأردنية يوم الأحد 6/7/2010، وعنوانه (مؤتمرات)، ومقال الأستاذ هشام أصلان المنشور بجريدة الدستور الأردنية أيضا يوم الجمعة 16/7/2010، وعنوانه (معارك حتى باب القبر، ولا عزاء للمثقّفين)، فقد شخّص الأستاذان الفاضلان في تينك المقالين كثيرا من الظواهر التي تضطرب في الوسط الثقافي العربي الذي يحلو للأستاذ أصلان أن يسميّه ـبـ(الوسط اللعين) مع ذكر وقائع، وشخصيّات لامعة تتجاوز المنهج العلمي في البحث، وتخلط بين ما هو شخصي، وبين ما هو موضوعي لتصدر أحكامها وفق ذلك (الشخصي) الذي يسرع بذلك الوسط الى الانحدار.

 انّ الموقف مسؤولية كما الكتابة مسؤولية، قال تعالى «وقفوهم انهم مسؤولون» (الصافات،24)، أقول هل يتفهّم القارئون هذا الوجه من المسألة، وخصوصا أن الغيمة السوداء التي تجلّل الروح تزداد كثافة، وظلمة، وهل لي أن أختم بما ناجى به الماغوط بدر شاكر السياب، وكأنّه نوع من مناجاة النفس، يقول له: «تشبّث بموتك أيها المغفل. دافع عنه بالحجارة، والأسنان والمخالب، فما الذي تريد أن تراه. كتبك تباع على الأرصفة، وعكّازك أصبح بيد الوطن». لقد عاش السياب تلك الحياة البائسة التي يعرفها الكثير، وها هي كتبه تباع على الأرصفة، لقد عاش المرارة مرتين، والمتكسّبون بشعره يعرضون بضاعتهم على الراغبين، وهو هانيء هناك بموته، فهل أصبح الموت بداية بعد أن كان نهاية. إنّ مقال الاستاذ عبد المنعم رمضان استدعى ذلك كله، ومنه أفدنا نصّ الماغوط ، فهل تجد هذه البذور أرضا كريمة تفهمها، وتنبتها نباتا طيبا، أم ستجابه بالصدود، والإعراض، والتنفّج؟ هذا ما لا أعلمه، والمهم أنّني كتبت، وخلعت ربقة العيّ، ونير الصمت عني ذلك الذي كرهه الحسن بن على رضي الله عنهما، وهو حسبي.

باحث متفرغ من العراق

walidkhalis@hotmail.com