يقدم لنا محرر (الكلمة) هنا استعراضا لمهرجان أفينيون المسرحي هذا العام، يقارن فيه بين حال المسرح في الغرب، وحال المسرح عندنا، خاصة وقد كان أحد أبرز نجوم دور ة هذا العام، مخرج لبناني كندي هو وجدي معوض، أبدع وتألق حينما ترك عالمنا العربي، وأتاح له الغرب في مناخ من الحرية التعبير عن تفجرات موهبته.

مغامرات التجريب وأوجاع البحث عن هوية

صبري حافظ

 

كلما أتيت إلى مهرجان أفينيون المسرحي السنوي Festival d’Avignon 63 عاما بعد الآخر، فالمهرجان الآن في دورته الثالثة والستين، كما أنني اتردد عليه بشكل منتظم منذ دورته الخمسين، وشاهدت ما يدور فيه من تجارب واستقصاءات مسرحية أوروبية جديدة وجميلة ومثيرة، كلما زاد اعتقادي بأن الفجوة المسرحية بل الحضارية بيننا وبين ما يدور في المسرح العالمي تزداد شساعة وعمقا، بصورة يستحيل معها علينا أن نردمها في عقود. فبينما ينهض المسرح في العالم ويرهف قدراته التعبيرية على خلق الفن الجميل، والفن الجميل لايكون بدون فكر جميل، وعلى المساهمة في الجدل النقدي الإنساني الموسع الدائر حول القضايا الجوهرية التي تهم الإنسان في مطالع القرن الحادي والعشرين، نجد أن مسرحنا العربي ـ في البلاد العربية القليلة التي لايزال بها نشاط مسرحي ـ قد أخذ في التراجع تحت وقع ضربات التخلف المتلاحقة التي تحاصر الإنسان العربي في حياته اليومية صباح مساء. ليس فقط التخلف الناجم عن تراجع مستويات المعيشة، وتدني الخدمات الأساسية، وانتشار الفقر، واستشراء الفساد، وتحكم قبضة الاستبداد بشتى أشكاله السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، وإنما أيضا ذلك التخلف الذي يستولي باسم الدين عادة على عقل الإنسان العربي عبر الخطاب الإعلامي، سواء ذلك الذي تبثه المؤسسات الحاكمة في كل بلد، أو الذي تنشره القنوات الفضائية، وقنوات الدعوة والدعاة، والتي نجد أن القاسم المشترك الأعظم فيها جميعا هو تغييب العقل، والزراية بأي ممارسات نقدية خلاقة.

فالمسرح، وهو من أكثر النشاطات الفنية اجتماعية، لأنه يتطلب تضافر جهود جمعية مختلفة من تمثيل وإخراج وعرض تستخدم فيه الكثير من الفنون السمعية والبصرية من رسم وديكور وموسيقى، ثم بيع للتذاكر في مناخ من الجدل المفتوح حول جدارة العرض بالمشاهدة كي يتم الإنفاق على العرض، والاستمرار فيه، وتجويده في كثير من الأحيان، نتيجة هذا الجدل الخلاق والمستمر بين المسرح والجمهور. وهي كلها جهود لا يتحقق بينها الحوار والتكامل الإبداعي الخلاق إلا من خلال الجدل العقلي والنقدي الحر الذي يتيح مثلا أكثر من تأويل أخراجي، ولا يتاح لها الازدهار الحقيقي إلا في مناخ من الحرية النسبية على الأقل. لذلك نجد أن المسرح من أكثر الفنون تعبيرا عن المجتمعات التي يصدر عنها. فقد يزدهر الشعر أو تروج الرواية في واقع مغلق ومتخلف، لكن المسرح لا يستطيع الازدهار في مثل هذا الواقع الموبوء التي تعاني منه جل البلاد العربية، حيث لايمكن له التبلور كطاقة فنية فاعلة في مناخ يغيّب العقل، ويجهض كل جدل حر قبل أن ينمو ويتبرعم، ويحظر على المرأة السفور، بل يحرم ـ كما يجأر نجوم فتاوى الفضائيات ـ الفن عموما، وينفق الملايين على تحجيب الممثلات وتنقيبهم. لذلك كله يعد المسرح أحد مقاييس التقدم في المجتمع، ويساهم إصلاح المسرح في أصلاح المجتمع ككل، والعكس بالعكس، لأن إصلاح المجتمع يرفد بدوره المسرح بمساحات أوسع للتطور والفاعلية والازدهار. وأحد سبل النقد للإسهام في هذا التطوير ـ تطوير المسرح وإصلاح حال مجتمعاتنا المنكوبة ـ هو أن يعرض أمام مجتمعنا العربي والقراء فيه خاصة ما يدور في مسرح الآخرين، كي يساهم الإحساس بعمق الفجوة واتساعها في تحفيز من يريدون النهوض بمجتمعاتهم على العمل واستلهام ما يدور في العالم الذي لا يتسامح مع الكسالى ولا يحترم المتخلفين.

لهذا السبب أواصل الكتابة للقراء عن هذا المهرجان الكبير Avignon Theatre Festival 63   في دورته لهذا العام 2009، وأستعرض معه بعض ما شاهدته فيه من مسرحيات. فالمهرجان حافل بالعديد من العروض، فقد تجاوز عدد مسرحيات البرنامج الرسمي للمهرجان الأربعين عملا بين مسرح تقليدي وشامل ورقص درامي حديث. كما تجاوز عدد الأعمال التي عرضت في المهرجان الموازي والمعروف باسم Festival d'Avignon Off والذي يعلن عن نفسه ـ كما في أفيش هذا العام ـ بأنه أكبر مهرجان مسرح في العالم، أكثر من ستمئة عرض تشمل كل أشكال المسرح وتنويعاته المختلفة من المسرح الإيمائي «بانتومايم» ومسرح الأطفال والسيرك وألاعيب الحواة، إلى المسرح الشامل بما ينطوي عليه من رقص وتمثيل وغناء، إلى المسرح التقليدي بأنواعه المختلفة من ملهاة ومأساة ومن مسرح شعري وآخر نثري، إلى المسرح الحديث الممعن في تجريبيته، إلى مسرح الشارع، ومسرح النهر، ومسرح الساحة وغير ذلك من صور الفرجة والعرض المسرحي.

ولنبدأ بالمهرجان الرسمي أولا، فقد كانت المسرحية الأولى التي شاهدتها في مهرجان هذا العام، وبمحض المصادفة، حيث بعثت للمهرجان قبل بدئه بشهرين، أحجز عشرة مسرحيات فيه، وجاءتني الإجابة حسب ترتيب العروض ومدى توفر التذاكر، هي مسرحية (أورجي التسامح Orgie de la Tolerance / Orgy of Tolerance) للمسرحي البلجيكي الشهير جان فابر Jan Fabre الذي سبق أن شاهدت له في نفس المهرجان في سنوات سابقة عملين متميزين أولهما هو (أنا دم Je Suis Sang) عام 2001 والثاني هو (تاريخ الدموع L’Hisoire des Larmes) عام 2005. وهما عملان طموحان يمتازان بجدة الرؤية الدرامية، وطزاجة الابتكارات المسرحية، وفرادة لغة العرض الحركية واللونية والصوتية معا. ومنذ أن بدأ عرض المسرحية الجديدة لم أستطع أن أدفع عن نفسي هذا التساؤل الملحاح: هل يمكن أن تعرض هذه المسرحية في أي بلد عربي في وقتنا الراهن، بعدما سيطر عليه الجمود والتخلف؟ وكانت الإجابة دائما بالنفي. وحينما بدأ السؤال في التحور في داخلي وأنا أواصل المشاهدة: ما هي طبيعة الاستجابات التي يمكن أن يلقاها مثل هذا العرض لو جرؤ بلد عربي على استضافته؟ وما هي الروادع التي سترفع في وجهه؟ أخذ اليقين باستحالة مجرد التفكير في إمكانية عرض مثل هذا العمل المسرحي في عالمنا العربي يزداد صلابة ورسوخا. لمعرفتي بما يمكن أن يرفع في وجهه من مقارع النفاق الأخلاقي والديني.

وقبل الاستطراد في معرفة دواعي استحالة هذا العرض المسرحي عندنا، برغم أنه يلقى نجاحا كبيرا هنا، وقد نفذت كل تذاكره قبل بداية العرض بوقت غير قصير، وكانت هناك طوابير طويلة أمام صالة العرض في انتظار التذاكر المرتجعة، أو التي لم يستطع من حجزوها الحضور، لابد لنا من التعرف بإيجاز على ما يدور فيه.

جان فابر .. مسرح الصدمة وأورجي التسامح

وبداية من العنوان (أورجي التسامح Orgie de la Tolerance)  الذي لم أجد كلمة ملائمة لترجمة مفردته الأولى، حيث لاتعرف لغتنا العربية المفهوم، ولا تسعفنا القواميس في هذا المجال بغير كلمات سخيفة مثل حفلة قصف وانهماك في الخلاعة والتهتك، أو في احسن الأحوال مفاتكة، أي مواقعة بشدة، وكلها كلمات لاتفي بالمعنى الذي تنطوي عليه الكلمة في أي من اللغتين الانجليزية أو الفرنسية، لا من حيث المعنى الحرفي لكلمة orgy ناهيك عن المعاني الإيحائية والاستعارية لها. لأن العرض يدور في معظمه باللغة الانجليزية، وإن كانت به نسبة غير قليلة من الفرنسية، حوالي الثلث أو أقل قليلا، وللمفردة في اللغتين تاريخ استعمالي أثراها بالإيحاءات والدلالات. كما أن العرض نفسه يحيل المفردة إلى استعارة لها دلالاتها الاجتماعية والفلسفية والسياسية. أقول بداية من العنوان تتجلى الصعوبة، وما أن يبدأ العرض حتى تتضاعف الصعوبات وتتراكب. فقبل بدء العرض والذي يدور في مسرح خال، وكأنه مساحة بيتر ببروك الفارغة، فيه مصباح وحيد يتدلى من سقف الفضاء المفتوح، وقد تناثرت على أرضيته، فلا خشبة هناك، بل يدور العرض على الأرض مباشرة، عدة مقاعد جلدية بمساند وثيرة، أقول قبل بدء العرض كان الممثلون يتمرنون على حركان رياضية، إيمائية، أكروباتية، وكأنهم يضبطون أوتار أجسادهم قبل بداية العزف، وهي تمرينات سنكتشف ضرورتها حينما يبدأ العرض التي يستخدم لغة الجسد باعتبارها اللغة التي يكتب بها المخرج عرضه، والتي لاتقل مفرداتها أهمية في كتابة العرض عن الحوار الدرامي، أو النص المسرحي التقليدي. فماشاهدته في هذا العرض من أستخدام لإمكانيات الجسد البشري إلى أقصاها هو أحد مبررات استحالة تنفيذ عرض مثله في عالمنا الذي استنام إلى حالة من الكسل العقلي والجسدي معا في تدريبه للمثلين، في معاهد تتراجع مناهجها العلمية كما يتراجع التعليم الجامعي العربي برمته.

وما أن يبدأ العرض حتي نجدنا بإزاء صيغ متعددة من الأورجي، أولها هو أورجي الشبق الجنسي الذي يدور في مشهد العرض الافتتاحي من خلال فعل استمناء على إيقاع أجراس حلبات الملاكمة، وأمام ما يشبه المحكمين أو المشجعين بزيهم شبه العسكري وفي أيديهم أجراس لاتعرف إذا ما كانت أجراس تحذير أم أجراس تشجيع وتحبيذ، بصورة تثير السخرية وتكشف مع صرخات بلوغ الذروة. وتتابع دورات الاستمناء تلك، وتتغير الأوضاع مع كل دورة، ثم تتحول صرخات اللذة إلى بكاء، تنتقل عدواه من ممثل إلى آخر، وقد بدأته ممثلة وهي تصرخ إنني مستثارة، وتردد شخصيات أخرى صرختها بصورة تتحول فيها الاستثارة إلى نوع من الحمى أو التعبير عن مدى غرق إنسان هذا العالم المؤسي في لذاته الفردية، ومدى عزلته أثناء هذا الفعل الجنسي الذي لايفضي إلى إشباع، بل إلى المزيد من الرغبة والشبق والاستثارة.

وتتابع بعد ذلك المشاهد يقدم كل منها لوحة، لأن جماليات هذا العمل المسرحي، الذي يعتمد كثيرا على استراتيجيات الصدمة، تنهض على التجاور الجدلي بين ضيغ الأورجي المختلفة. حيث تتحرك هذه الأجساد المنهكة من الأروجي الجنسي لتبدأ في تخليق أروجي آخر من نوع جديد، هو أورجي الشراب والغرق في شتى أشكال المخدرات، وهو أمر تعاني منه كثير من المجتمعات الغربية. وتكشف اللوحة عن التفاعل بين انتشار المخدر وتفشي صيغ أورجي قبيح آخر هو العنصرية، لأننا نسمع أثناء الشراب والقصف عن خطر المسلمين مرة، وعن ضرورة وضع الباكستانيين في المتحف الطبيعي أخرى. ونسمع أيضا عن خطر العرب والبحث عن اتجاه مكة للصلاة في نوع من الخلط والتخليط بين الديني والعنصري. وينبثق من خلال هذه اللوحة المتعددة الدلالات صورة رجل عار يحمل صليبا كبيرا، وينادي بأن المسيح عيسى بن مريم هو النجم الأكبر J C Super Star في نوع من الكشف عن كيف يتم ابتذال الدين والتجارة فيه في عالم يحيل كل شيء إلى سعار وانخراط غير متعقل حتى الالتياث. تتحول معه الآية الانجيلية: «ربنا أعطنا خبزنا كفافنا» إلى ربنا أعطنا نقودا كافية وكروت إئتمان وفيرة، وما أن يغدق الرب عليهم النقود وبطاقات الإئتمان التي تمنح القدرة على أن تشتري بأكثر مما تستحتوذ عليه من نقود، حتى تتخلق بها أورجي أخرى هي عبادة النقود وتقديسها. ولا يكتمل طقس تدليك النقود وعبادة المال من دون سعار التسويق الاستهلاكي الذي تتحول فيه النقود إلى أداة قوة قادرة على شراء كل شيء. وقد قدمت المسرحية هذا التحول في نوع من الكريشيندو المدروس الذي يتصاعد فيه الإيقاع الذي بدأ هادئا وطبيعيا مع دخول عربات التسويق في السوبرماركت، لتكشف عن جشع الإنسان للاستهلاك وأورجي الاستحواذ والاقتناء، الذي سرعان ما تتصاعد وتيرته لتلعب فيه ترولييات التسويق الشهيرة رقصتها المدوخة، في أيقاع متسارع ومتداخل. لا تعرف فيه أين البشر من البضائع والمعلبات ومنتجات التنظيف، وأدوات الزينة والطبخ، والملابس وكل مفردات الحياة الاستهلاكية الحديثة التي تتكوم مع البشر فوق تلك العربات.

ثم ننتقل إلى لوحة لأورجي آخر هو سعار الموضة والاهتمام بالجسد وأزيائه المختلفة والمتغايرة، بدءا من الأزياء الفاضحة إلى المحتشمة، ومن الأقنعة إلى الملابس الطبيعية. والطريف فيها أن المرأة التي تحدثت عن خطر العرب وبحثهم الدائم عن اتجاه مكة، ترتدي في هذا المشهد قناع الكوكلوكس كلان العنصرية الأمريكية المشهورة في نوع من التأكيد على التضافر بين صيغ العنصرية المختلفة. وما أن تبدأ في رقصتها العنصرية بالقناع والسوط، حتى تتخلق عبرها أصداء صور التعذيب في أبوغريب. والغريب أن البنادق تلعب هي الأخرى دورا في تخليق درجات تراكب هذه اللوحات الدرامية المختلفة، بالصورة التي يتحول معها العنف إلى وجه آخر من وجه الاتجار بالدين، وتتضافر فيه البندقية مع الصليب الغريب الذي يحمله هذا الرجل العاري ويظل به في مؤخرة المشهد. وتصبح فيها العنصرية من ناحية، والعنف المجاني من ناحية أخرى وجهين مختلفين من وجوه العولمة، بل عنصرين أساسيين ـ كما تقول لنا إحدى الشخصيات ـ من العناصر المكونة لها. وهناك بالإضافة إلى ذلك لوحات عن النازيين الجدد، وعن أورجي آخر هو الدعارة التي وجدت بنات روسيا أنفسهن ضحية لها في بلدان الغرب الرأسمالي المتقدم.

وهناك أيضا أورجي التسامح مع الكثير مما يدور في عالمنا السياسي، والتغاضي عن الخشبة في عين أخيك، بينما تبالغ في القشة في عين الآخرين، وغيرها من صيغ المفاتكة والسعار، باعتبار كل منها وفي صياغاتها المتعددة ذروة من ذرى الانعزال عن الاجتماعي وعن الانخراط في السياسي معا. لأن العرض يبدأ بتقنية الصدمة المباشرة، وتتواصل بعد المشهد الافتتاحي الصدمات التي تنتهك كل التابوهات: من الجنس إلى الدين والسياسة. فهدف هذه المسرحية الأساسي هو استخدام الصدمة لأيقاظ المشاهد على تغلغل النفاق الاجتماعي والديني في كل مناحي الحياة، وعلى إتاحة التسامح الذي يتسم به المجتمع الغربي للكثير من المباذل السياسية والدينية وحتى الجنسية للتفشي بين الناس. فقد أتاح مثل هذا التسامح مثلا للأيديولوجيات العنصرية البشعية مثل أيديولوجيات اليمين السياسي المتطرف أن تنتشر بين الناس، وأن تلقى قدرا من المصداقية ما كان يجب لها أن تلقاه، لو كانت هناك يقظة فكرية وفنية تحول دون هذا الانتشار. فغاية المسرحية هي  استخدام الفن لأيقاظ المشاهد على تردي واقعه، والكشف عن الغريب والصادم في اليومي والمألوف، والغوص عميقا في طبقات الممارسات اليومية وفي عمق الوجود الإنساني المعاصر لتمحيص ما يمور فيه من تصورات. أو بالأحرى للضغط عليه كي يفرز أمامنا على خشبة المسرح ما ينطوي عليه من صديد، بل يلقى بهذا الصديد في وجوهنا في مشهد الختام، وهو مشهد استنزال اللعنات على الجميع، بما في ذلك الجمهور، علنا نفيق من هذه اللامبالاة السادرين فيها باسم التسامح، وعلنا نكتشف حقيقة المرض أو بالأحرى الأمراض التي تعاني منها الحضارة الحديثة التي أصبحت بفضل العولمة وفضاءاتها الافتراضية هي الحضارة الإنسانية المعاصرة.                                                                                                                                                                             

وجدي معوض ومسرحة المثير في آفينيون

بعد هذه المسرحية الصادمة والمثيرة للتفكير على السواء، شاهدت ثلاثية وجدي معوض المسرحية، ومع أنني أدمنت على مهرجان أفينيون، وأخذت أتردد عليه كل عام لأكثر من عشر سنوات الآن. فإن هذا المهرجان لم يحتفل طوال تلك الفترة بمسرحي عربي واحد، ولم يشارك فيه من العرب أحد، اللهم إلا المسرحي التونسي الفاضل الجعايبي، الذي جاء قبل عدة أعوام بمسرحيته البديعة (جنون)، وشارك بها في وقائع المهرجان الرئيسي، وليس في المهرجان الهامشي Avignon Off الذي تكثر فيه الفرق العربية، وخاصة تلك التي يشكلها المغاربة الفرنسيين. لذلك كان احتفاء المهرجان الرسمي هذا العام بالمسرحي اللبناني الشاب وجدي معوض، واعتباره أحد ضيوف شرف المهرجان وبرمجة ثلاث عروض مختلفة، او بالأحرى خمسة، له في المهرجان، يعرض بعضها في أهم فضاءات المهرجان، وهي ساحة الشرف في القصر البابوي التي تضم ما يقرب من ألفي مقعد (بالتحديد 1986 مقعدا)، حدثا يستحق الاهتمام. وكنت قد شاهدت مع الكاتبة اللبنانية الشهيرة حنان الشيخ في العام الماضي 2008 عرضا مثيرا له في المهرجان الرسمي بعنوان (وحيد، أو توحدات Seuls)، وكان عرضا ناجحا بكل المعايير، بالرغم من أنه من عروض الممثل الواحد، التي نادرا ما تستحوذ بشدة على إعجاب الجمهور، كتبه ومثله وأخرجه بنفسه. واستطاع أن يستحوذ به على إعجاب الجمهور الذي تجلى في تحيته وقوفا ولمدة طويلة بعد انتهاء العرض. ويبدو أن هذا العرض الناجح، ومعه شيء من الشعور الفرنسي بالذنب، هو الذي دعا المهرجان إلى الاحتفاء الكبير به هذا العام.

فمن هو وجدي معوّض؟ لا أظن أن كثيرا من المسرحيين أو المثقفين العرب يعرفون هذا المبدع العربي الذي أخذ نجمه في السطوع في سماء المسرح العالمي. لذلك سأبدأ بتقديمه لهم، قبل الحديث عن العرض، أو بالأحرى العروض العديدة التي قدمها في مهرجان آفينيون هذا العام. ولد وجدي معوض في دير القمر بلبنان عام 1968، وقبل أن يكمل العاشرة من عمره اضطرت عائلته للهجرة من لبنان إلى فرنسا عام 1977، بسبب احتدام الحرب الأهلية في وطنه، حيث تلقى تعليمه الأبتدائي وبعض من الثانوي فيها، ولكنه أضطر عام 1983، أو بالأحرى اضطرت عائلته إلى الهجرة من جديد إلى كندا، حينما رفضت فرنسا تجديد أوراق إقامتها بها. وتوجهت الأسرة إلى كيبيك ـ القسم الفرنسي من كندا ـ حيث أكمل وجدي دراسة الباكالوريا بها، ثم التحق عام 1987 بالمعهد الوطني الكندي للمسرح، وتخرج منه عام 1991. وأثناء دراسته بهذا المعهد، وقبل أن يصل إلى مرحلة التخرج أو يفكر في موضوع له، كتب مسرحيته الأولى (ويلي بروتاجوراس محبوس في المراحيض enfermé dans les toilettes Willy Protagoras) عام 1989 فحصلت على الجائزة الكبرى لنقاد المسرح، وهي مسرحية حول مراهق شاب يحبس نفسه في المراحيض هربا من جنون عالم البالغين وتناقضاته. وبينما كان لايزال طالبا في المعهد لم ينته من دراسته بعد، أسس مع زميلته إيزابيلا لوبلانك مسرح Theatre O Parleur وقدما فيه عروضا لكلاسيكيات المسرح العالمي ومنها عرضا يؤدى مشيا لـ(ماكبيث) في وسط مدينة مونتريال القديمة، ثم تواصلت بعدها عروض كثيرة لعب فيها أدوارا متميزة فضلا عن الإخراج مثل (كاليجولا) لألبير كامو، و(الشقيقات الثلاث) لتشيخوف، و(المفتش العام) لجوجول، وغيرها من الأعمال التي تأكدت بها مكانة هذا المسرح الجديد، وتوطدت معها موهبة وجدي معوض كأحد أبرز المواهب المسرحية في كندا بعد روبير لوباج.

ومع بلوغه الثلاثين جاء ترشيح إعداده الدرامي للرواية الخالدة (دون كيخوته) لسيرفانتس للفوز بالقناع، وهو أبرز جوائز الأكاديمية الكيبيكية للمسرح عام 1999. وفي العام التالي أثار عرضه (يوم عرس عند كرومانيون Journée de noces chez les Cromagnons) الكثير من الاهتمام، حيث استطاع فيه استخدام تجاور المتناقضات، إذ يدور العرس وسط مذابح الحرب الأهلية في مدينة تحاول مواصلة الحياة برغم ويلات الحروب. ثم جاءت بعدها (الشاطئ Littoral) لتحصل على جائزة الحاكم العام الكندي المسرحية. وهي الجزء الأول من ثلاثيته المسرحية التي واصل العمل فيها لأربع سنوات، وعرضها كلها في ليلة واحدة في أفينيون هذا العام، والتي تتكون بالإضافة إلى هذه المسرحية من (حرائق Incendies) و(غابات Forêts). ومن الملاحظ أن وجدي معوض مولع باستخدام الجمع في عناوين أعماله التي يكتبها ويخرجها ويمثل فيها، لأن لصيغة الجمع عنده دلالات مهمة في مسرح تنهض جمالياته الدرامية على التعدد وجدل المتجاورات، وعلى تباين الرؤى والأصوات، وعلى الحوار المستمر بين تلك الرؤى والأصوات المتباينة، ويبتغي استقصاء ماهية الهوية ويتعرف على أوجاع البحث الدءوب عنها، وما هي الحدود التي تفصل بين تصورات الناس لبعضهم البعض بسببها.

وتواصلت بعدها أعماله التي يكتبها ويمثلها ويخرجها، والتي يتسم الكثير منها بشاعرية وتوتر درامي كبيرين. فوجدي معوّض، وهذا ما يجمعه مع المسرحي العربي الوحيد الذي سبق أن شاهدت له عرضا في آفينيون، وهو المسرحي التونسي المرموق، الفاضل الجعاييبي، يكتب مسرحياته على الركح ـ كما يسميه إخواننا في تونس ـ أي على خشبة المسرح، ومن خلال التجارب الشاقة والشيقة معا مع الممثلين وبهم. ويستخدم في هذه الكتابة كل عناصر الفرجة المسرحية من ألوان وتكوينات وحركات، ومن استخدام خلاق لجسد الممثل الذي يكتب به العرض كما يكتبه بالكلمات والأضواء والحركة. فكيف قدم ثلاثيته لأوسع جمهور في أفينيون، وهو جمهور قاعة الشرف في القصر البابوي؟

ثلاثية وجدي معوض Wajdi Mouawad المسرحية Le Sang des promesses

يحرص مهرجان آفينيون على أن يبرز كل عام أعمال مسرحي أو أثنين، فيتيح لكل منهما أن يجلب أكثر من عرض واحد للمهرجان، وأن يعرض أحد هذه العروض لأسبوع أو أكثر في أكبر فضاءات المهرجان، وهي ساحة الشرف في القصر البابوي. وكان وجدي معوض هذا العام من بين ثلاثة مسرحيين برمج المهرجان عروضهم في هذا الفضاء المسرحي المهيب الجميل. وقد اختار المسرحي اللبناني الكندي الذي جاءته هذه الفرصة الكبيرة وهو في شرخ كهولته وأوج نضجه ليقدم خمس من أعماله بدلا من ثلاث، وهو الحد الأقصي لبرمجة أعمال المسرحي المختار. إذ قرر، في عرضه الأساسي الذي سيعرض في ساحة الشرف بالقصر البابوي، أن يعيد جمهوره الفرنسي الكبير إلى مهد المسرح الغربي، وطقسه الأغريقي القديم الذي كان يستغرق فيه العرض يوما بطوله، تعرض فيه ثلاثية مسرحية تتخللها أستراحات طويلة بين أجزائها تتيح للمشاهدين تناول الطعام والشراب. لكنه اختار ـ بسبب الحر أولا، والضوء ثانيا ـ أن يستغرق العرض ليلة بطولها، وأن يعرض فيها ثلاث مسرحيات (الشاطئ) و(حرائق) و(غابات)، والتي تشكل مع (سماوات)، والتي عرضها أيضا في المهرجان، وإن في قاعة منفصلة في الأسبوع التالي لعرض المسرحيات الثلاث، رباعيته المسرحية (دم الوعود Le Sang des promesses). فكان عرضه في القصر البابوي يبدأ في العاشرة مساءا، ولا ينتهي حتى تشرق الشمس في السادسة صباحا. وهو تحد أو اختبار صعب، وضعه المسرحي لنفسه ولجمهوره معا، وحقق فيها نجاحا مرموقا، لأن أكثر من ثلثي الجمهور صمدوا معه في الاختبار، وواصلوا المشاهدة حتى نهاية المسرحية الثالثة التي انتهت حوالي السادسة صباحا. ولم أكن اتوقع ـ وقد تقدم بي العمر ـ أنني سأصمد حتى الصباح، وقد انصرفت أسفا بعد المسرحية الثانية في الثالثة فجرا، ولكن ليس قبل أن ألاحظ أن الذين انصرفوا بعد المسرحية الأولى لم يتجاوزوا المئة أو المئتين على أكثر تقدير، وهو رقم ضئيل بالنسبة لضخامة جمهور يقترب من الألفين، وأن الذين عادوا لمشاهدة المسرحية الثالثة كانوا أكثر قليلا من ثلثي الجمهور، وقد تدثروا بالبطاطين التي زودهم بها المسرح بعد أن ابتدأ الجو في المسرح المفتوح في البرودة.

وليس ممكنا في هذه المقالة الحديث عن كل ما انطوت عليه المسرحيتان الأولى والثانية، ولكن لابد من إشارات سريعة إلى ما حققه وجدي معوض في هاتين المسرحيتين أو بالأحرى في رباعيته الطموحة التي عرضها على جمهور المهرجان. فمع أن وجدي معوض قد تحقق مسرحيا في كندا وينتمي فنيا وفكريا وموقفيا معا إلى ميراث المسرح الغربي والكندي منه خاصة ـ وأنا على ثقة من أنه لو ظل في لبنان لما استطاع أن يحقق شيئا مما إنجزه مسرحيا ورؤيويا معا ـ فإنني أيضا ومن خلال عرض العام الماضي في آفينيون، وعروض هذا العام، أستطيع أن أؤكد بأنه يحمل على كاهله في إبداعه المسرحي، وضميره الإنساني معا، صليب تجربته اللبنانية، وجراح حربها الأهلية التي لاتندمل. فقد استطاع أن يحقق المعادلة الصعبة بين الارتباط بتجربة محددة، وبين الانطلاق عبرها لمخاطبة العالم. لأنه مسرحي شديد الوعي بضرورة الارتفاع على تجربته الذاتية والتسامي بها إلى آفاق إنسانية أرحب. بالصورة التي استطيع القول معها، بأنه رغم محاولته لفتح التجربة على أفق إنساني أوسع، فأنه من المستحيل سبر أغوار عالمه المسرحي دون الوعي بقسوة تجربة الحرب الأهلية اللبنانية، وما تركته من بصمات واضحة على مخيلته الإبداعية والدرامية معا، وعلى رؤيته لنفسه وهويته وتصوره للعالم المحيط به.

كما أنني أزعم أنه من الصعب أيضا سبر أغوار تجربته المسرحية فنيا دون الوعي بالإنجاز المسرحي الكبير لأبرز مسرحيي كندا المعاصرين روبير لوباج، بمنهجه المسرحي المتميز في الكتابة الركحية، وإطلاق العنان للخيال، والتجريب بالممثل على الخشبة قبل تثبيت النص، وبمفردات لغته المسرحية البصرية والحركية الشيقة. وأهم من هذا كله بوعيه المرهف بالإيقاع اللغوي والبصري معا. ليس فقط لأن وجدي معوض بدأ حياته المسرحية في المدينة التي انجبت روبير لوباج، وفرضت نفسها بتجربته المتميزة على المسرح العالمي، وهي مونتريال، ولكن أيضا لأن وجدي معوض بدأ العمل المسرحي بعدما سيطر لوباج على المشهد الكندي فيه. وبعد أن أطلق العنان لخيال المسرحيين التاليين له. لكنني وقد تابعت تجربة لوباج منذ مسرحيته الأولى (ألة كشف الكذب) التي أتي بها إلى لندن في ثمانينات القرن الماضي، وكتبت عن الكثير من مسرحياته التي جاء بأغلبها إلى لندن التي فتحت له ذراعيها، وأرجو أن تفعل الشيء نفسه لوجدي معوض، استطيع القول بأن وجدي معوض استفاد من تجربة لوباج، ومن مفرداته الحركية واللونية، ومضى بها للأمام ليسبغ عليها طابعا سياسيا وإنسانيا أعمق. وأن يحيل حيل لوباج المبهرة بصريا وحركيا، والبالغة البساطة مسرحيا في الوقت نفسه، إلى أجرومية درامية ـ أي لغة لها مفرداتها وقواعدها السياقية والتركيبية ـ قادرة على التعامل مع مشاكل عصرنا المعقدة وقضاياه الشائكة. لغة تزاوج بين مفردات لوباج المبهرة بصريا ورؤية بريخت الواعية سياسيا واجتماعيا والمثيرة للأسئلة. فكيف حقق وجدي معوض ذلك في رباعيته التي شاهدتها له في أفينيون؟

لقد شاء المخرج والمؤلف والممثل ـ فهو فنان مسرح شامل ـ أن يعرض على جمهور المهرجان الذي غصت به قاعة الشرف في القصر البابوي ثلاث مسرحيات في ليلة واحدة. هذا فضلا عن مسرحيتين عرضتا بعد هذا العرض الطويل الحافل في فضاءين مختلفين. وتشكل مسرحيات العرض الطويل الثلاثة، مع مسرحية رابعة هي (سماوات) رباعية مسرحية يتعامل فيها الفنان المسرحي الموهوب مع إرثه الثقافي اللبناني، وتجربة الحرب الأهلية اللبنانية التي عاشها صغيرا، وخلفت عليه آثارا بصرية وحركية وتصورية لعبت دورا كبيرا في تفجير طاقاته وخيالاته المسرحية. وتبدأ المسرحيات الثلاث التي عرضها في ليلة مسرحية شاملة تبدأ في العاشرة مساء وتستمر حتى بزوغ شمس اليوم التالي بمسرحية (الشاطئ). وهي المسرحية التي عرضت لأول مرة عام 1997، ثم حولها إلى فيلم سينمائي عام 2004.

وتبدو على المستوي السطحي المباشر وكأنها مسرحية شاب يعيش في مونتريال ويريد دفن جثة أبيه المتوفى في بلده التي تمزقها الحروب الأهلية، وتتناثر في فضاءاتها الفعلية والمعنوية الجثث. ولا يحدد وجدي معوض هذا البلد، فهو حريص على ألا يربط تجربته المسرحية بأمراس المحلية، وعلى الأنطلاق بها إلى أفق الإنسانية الرحيب، وأن يحيلها إلى شهادة على التاريخ وعلى الواقع في نهاية القرن العشرين. فقد يكون هذا البلد هو لبنان، وقد يكون بلدا آخر من سائر بلدان عالم تمزقه الحروب، وتنهض أمام إنسانه الحدود المصطنعة وغير المصطنعة من رواندا ودارفور وحتى البوسنة والهرسك أو أفغانستان والعراق. فالمسرحية تناقش قضايا الهوية وأعباء الإرث التاريخي والثقافي والقيمي الذي يحمله كل إنسان، على كاهله. مهما اختلفت جنسيته أو تنوعيت مصادر ثقافته. فموضوع البحث عن الجذور وعن الأصل أو الهوية هو من الموضوعات السارية في عدد من أعماله التي تقع تحت وطأة الموت الفعلي أو المعنوي. وتسعى إلى تأطير الذكرى وتثبيتها، وتقاليد الدفن والموت وأعرافهما هي أحد القضايا التي تتأملها هذه المسرحية، وكيف أن هذا التأطير لا يحول فحسب دون بروز الهوية الفردية واستقلال الفرد، ولكنه يثبت حتى أرهف المشاعر ويسطحها.

وتواصل المسرحية الثانية في الليلة، (حرائق أو ترمدات) والتي بدأت بعد الواحدة صباحا سبر أغوار هذا الإرث الثقافي/ الحضاري/ الفردي. فهي مسرحية عن الميراث الغامض والملتبس الذي تتركه أم «نوال» لابنيها التوأمين.  فقد اعتصمت نوال بالصمت طوال السنوات الخمس التي سبقت وفاتها، وها هو المحامي يفض وصيتها ويشرح تفاصيلها للإبنة جانين، وللإبن سيمون. حيث على جانين أن تسلم خطابا لأبيها الذي يعتقد الأخوان أنه مات منذ زمن بعيد، وعلى سيمون أن يسلم خطابا آخر لأخيه الذي يعرف بوجوده لأول مرة في حياته. وتنص الوصية على أن إكمال كل منهما لمهمته هو الشرط لوضع شاهد على قبرها يعلن حقيقة وفاتها. وكأنها تريد أن تلم شمل الأسرة المشتتة بطريقتها الخاصة قبل أن تستسلم للراحة الأبدية. ويأخذهما البحث إلى البلد الذي ولدت فيه الأم، وهو بلد تمزقه الحروب أيضا، وقد خلفا وراءهما الحياة الرتيبة والمنظمة التي اعتاداها في الغرب. وتتحرك المسرحية على محورين متوازيين ومتصارعين معا. في رحلتي بحث يتخلق عبرهما تاريخ الأم، وتتجسد على المسرح مسيرتها. فتنهض من خلال البحث نوال ـ التي تلعب دروها ثلاث ممثلات مختلفات ـ  ونتعرف معهما من خلال صراعهما معا (الأخ وأخته) من ناحية، ومن خلال كشفهما عبر تقنية الاسترجاع «فلاش باك» تاريخ الأم السري نكتشف معهما تاريخا مترعا بالنزاع والقسوة، امتد لخمسين سنة من عمر نوال، تاريخا مأساويا بكل معنى الكلمة يكشف عن الجراح الفردية والجرائم الجماعية التي ارتكبت والتي تحمل نوال قروحها في داخلها ولا تستطيع منها فكاكا ولا خلاصا.

فقد انتزعت أسرتها منها طفلها الأول ـ وهو ابن سفاح ـ وهي لاتزال مراهقة في ربيع العمر، عقب ولادته وأخذ إلى خارج القرية. وما أن تحاول نوال العثور عليه حتى تندلع الحرب، ويكتسب البحث وسط الحرب، ومن خلال أواصر الصداقة التي تعقدها نوال مع سوداء الأمية التي تعلمها الغناء، نتعرف على مسيرة حياة تعرك المرأتين وتنضجهما، وقد استحالت الحرب إلى طريقة قاسية للحياة. وقد استحالا في دروبها الصعبة إلى صورة عصرية وشرقية معا «للأم شجاعة». فالمسرحية برغم كشفها عن تناقضات الحرب، وعن مفارقاتها التي تتجلى بعض جوانبها في شخصية القناص «نهاد» المولع بالموسيقى، برغم قسوته وقنصه الأبرياء بدم بارد، ليست مجرد مسرحية عن الحرب، ولكنها أيضا مسرحية عن الحرب الداخلية في النفس البشرية، وفي أكثر الوحدات الاجتماعية أولية، وهي الأسرة. فأثناء الحرب فإنك لاتسطيع أن تختار أسرتك، ولا تستطيع الانفلات منها. وهو الاكتشاف الذي يلقي نوال في هوة الصمت العميق لخمس سنوات. والمسرحية في مستوى من المستويات هي محاولة لفهم هذا الصمت، ولمنح الأم الصوت من جديد كي تحكي قصتها. وفي المسرحية إحالات إلى أحداث حقيقية في الحرب الأهلية اللبنانية مثل حريق الباص الشهير في عام 1975، ومذبحة صبرا وشاتيلا في عام 1982 كلها موجودة بتجليات درامية مختلفة في المسرحية. لأن المهم في المسرحية ليس رواية التاريخ، وإنما تجسيد واقع محتمل ومفتوح على الكثير من التواريخ الدامية لإنسان القرن العشرين. حيث تتحول الحرب الأهلية إلى اللوحة التي يكتب وجدي معوض فوقها قصة نوال، كما تتحول إلى أداة لسبر أغوار النفس والغوص في قيعانها وتحليلها.

سأكتفي بهذا القدر من العرض، لأننا لا نستطيع أن نتابع في هذا المقال القصير تفاصيل ما دار في المسرحيات الثلاث، ولابد قبل أن أنتقل إلى عمل آخر من أعمال هذا المهرجان، من الحديث عن لغة وجدي معوض المسرحية، وهي لغة تستفيد كثيرا من طاقة الخيال البصرية والحركية المدهشة التي أطلقها روبير لوباج في المسرح الكندي، وتواصل استقصاءاتها المبدعة، وتضيف إليها جانبا جديدا هو اللون، ورسم اللوحة التشكلية المسرحية العفوية الملونة على الخشبة أثناء العرض، بصورة لايستخدم فيها الفرشاة، بل يحيل أجساد الممثلين إلى فرشاته التي يرسم بها على جدران المشهد، وعلى أرضية الخشبة تشكيلاته اللونية، التي يترك فيها الممثل بصمات جسده أمامنا، وبالألوان، ويتفاعل المشهد والحوار والحركة مع هذه البصمات طوال العرض. فهذه هي بصمة وجدي معوض المميزة والتي تركها في وجدان المسرح، وهي إضافته التي ساهمت في إرهاف محتوى الشكل في بنية العمل المسرحي. فالبصمات اللونية المختلفة التي يتركها الممثلين على الخشبة وعلى جدران المسرح هي في حقيقة الأمر عمل أبداعي عفوي مواز يستخدم فيه المخرج الألوان، والملاءات احيانا، والحوائط المتحركة، ويزاوج بين هذه التقنيات مابعد الحداثية وتقنيات الكورس الأغريقية القديمة وخيال الظل والأقنعة.

تحت عيون أوديب Sous l’Oeil d’Oedipe

كانت المسرحية التالية التي شاهدتها هي تأويل جول جوانو Joel Jouanneau لمسرحية أوديب التي يقول أنه استخرجها من نصي سوفوكليس ويوربيديس بعنوان «تحت عيون أوديب Sous l’Oeil d’Oedipe» وهو عمل يدور على مساحة فارغة يجلس على جانبيها الجمهور من الناحيتين، ويقدم شخصياته الأغريقية، وقد استهدف أن يقدم كل أحداث الثلاثية كلها منذ حل أوديب للغز وتنصيبه ملكا على المدينة وزاجه من الملكة أوجستا، وحتى عودة الطاعون والكشف عن أنه هو الذي جلبه بمعاشرته لإمه واستيلادها البنين والبنات، وصولا إلى سمل أوديب لعينيه، وقيادة ابنته له، وانتهاءا بتمرد أنتيجوني وسعيها لدفن أخيها المقتول، في عمل واحد لايتجاوز عرضه مدة ساعتين. وقد بدأ العرض بداية غير مقنعة، حيث أنه يستخدم الملابس العصرية، لكنه لا يجعلها عصرية بحق، وإنما تظل تتأرجح بين عصرين! وكذك الأمر بالنسبة للأدوات المسرحية: فما معني استخدام فرع شجرة معوّج، وآلة كاتبة قديمة، وبعض الكراسات والكتب في المشهد الحديث؟ وما معنى أن يلجأ المخرج لتقنيات مسرحية تجريدية حيث يستخدم بعض التقنيات المسرحية الغريبة، بمعنى أيكزوتيك، مثل خيال الظل، ولكنه يعود فيرتد إلى ما هو أقرب من المسرح الطبيعي منه لأي شيء آخر؟ بل ويقدم لنا قدما متورمة حقا وبشطل حرفي، كمعادل في حالة أوديب. والواقع أن هذا التخبط بين الأساليب والمناهج المختلفة في الإعداد والأخراج كان له أثر سيء على العرض. فتركه كثير من المشاهدين بعد انتهاء النصف الأول من العرض.

الأرجنتيني فيديريكو ليونFederico Leon وأنا في المستقبل Yo en el Futuro

أما العرض الارجنتيني «أنا في المستقبل Yo en el Futuro» فهو عرض شيقيردنا مرة أخرى إلى موضوع أوجاع البحث عن الهوية الذي تناولته مسرحيات وجدي معوض. إذ يسعى فيه كاتبه المسرحي للجمع بين مارسيل بروست وخورجي لويس بورخيز في عمل مسرحي شيق، لأنه يجسد لنا على خشبة المسرح، ومن خلال مزج التزامن والتجاور معا المراحل المختلفة من حياة زوجين، باستخدام الحوار بين جنسيين بصريين هما السينما والمسرح. فعندما ندخل المسرح نجد امرأة تعزف على البيانو، ثم تنفتح الستارة عن ولد وبنت فيما بين السابعة والعاشرة من العمر. ثم يدخل المسرح عجوزان ومن خلال عملية تبادل المراكز بين العجوز والمرأة، وبين المرأة والطفلة التي تعزف بدورها على البيانو، تتخلق على الشاشة المرحلة الثالثة من العمر: مرحلة الصبا والمراهقة، ثم الرابعة: مرحلة النضج والتألق. ثم تبدأ عملية التقاطع والتحاور والتكامل بين ما يعرض على الشاشة وما يدور على الخشبة، حيث تبدو الشخصيات وكأنها تخرج من الشاشة إلى الخشبة، ومن الخشبة إلى الشاشة. وبالتدريج نكتشف بأننا بإزاء المراحلة العمرية الأربعة لنفس الشخصيتين، في محاولة من الحاضر للعودة للماضي، ومن الماضي وقت أن كان حاضرا لاستشراف المستقبل. وتلتقط المسرحية مجموعة من اللحظات المحورية في حياتهما، فقد عرفا بعضهما منذ أن كانا طفلين، وها هما الآن ـ أم تراهما في المستقبل ـ وقد بلغا الشيخوخة. فقد عاشا معا معاكسات الطفولة، وذاقا معا طعم القبلة الأولى، وتعرفا معا على عدد من تجارب الحياة الأساسية.

إننا هنا بإزاء عمل مسرحي يتأمل كر الزمن، ويسعى للقبض على الزمن المفقود، فما أن تتم استعادته حتى يصبح زمنا مفقودا من جديد. وقد عثرت المسرحية على تقنية الجدل بين المسرح والسينما، ليكون الشكل الفني للجدل بين الماضي والحاضر، بمعنى أن محتوى هذا الشكل الحواري بين الفنين نفسه، هو ما تتغياه المسرحية من إدارة جدل خصب خلاق بين الماضي والحاضر، وقد أخذت صوره تتبدى على مراياه. كما ان التقنية نفسها هي التي تبلور لنا هذا التشظي من فتات لحظات منتقاة بعناية دون شك، ولكنها تبدو لنا وكأنها لحظات اعتباطية، لم تستفد على مستوى البنية المسرحية العامة من تفتيت الشخصية وتشظيها، لأن التأطير كتقنية تسعى للكشف عن دلالات للتزامن وتراكب الأزمنة، وتعكس مرحلة من مراحل حياة الشخصيتين على مرايا مرحلة أخرى. حيث كان هناك إطار داخل إطار داخل إطار يعكس ما يدور على الخشبة. فالمسرحية في مستوى من مستويات المعنى المتعددة فيها هي مسرحية بحث الإنسان عن نفسه، ومحاولته إسباغ معنى ما على ما دار في حياته، ليس فقط لمعرفة ما دار، وإنما لتحقيق قدر من التصالح مع ما آل إليه الوضع في الحاضر.

ولننتقل الآن إلى عمل آخر تناول موضوع أوجاع البحث عن الهوية، ولكن بطريقة المسرح التجريبي المتقشف. طريقة المهرجان الهامشي Avignon Off

مصير المهاجرين السريين Le Destin du Clandestin لسي بوسعنا  Bou-Saana

يختلف هذا العرض السنغالي كثيرا عن عروض المهرجان الرسمي لا من حيث جودة المستوى الدرامي، وإنما من حيث تقشف العرض الذي يدور في غرفة كبيرة، لا أستطيع حتى أن أسميها صالة اجتماعات، لأن المسرح ـ وهو مساحة خالية بامتياز ـ يستخدم نصفها، بينما لايكفي نصفها الآخر إلا لأربعة صفوف من المقاعد. والعرض الذي جاء إلى آفينيون من جنوب السنغال: من زيجنكور Zigyinchor, Senegal من عروض الممثل الواحد، ولكن لهذا الممثل السنغالي قدرة خارقة على الاستحواذ على انتباه الجهور بسبب حضوره المسرحي الملحوظ. كما أن له خيالا خصبا

في استخدام مجموعة من الأدوات البسيطة التي يخلق عبرها مناخا خاصا، أو يغير بها موقع الحدث أو زمنه. كما استطاع برغم صغر الخشبة أو المساحة الخالية التي يدور عليها العرض، أن يقنعنا بأن عرضه ملئ بالحركة. ويقدم العرض شابا سنغاليا، كان من الممكن أن يكون مغربيا أو كرديا أو حتى مصريا، ليس لديه إلا خيارين: أن يعيش في عذاب أو أن يترك وقد ينتهي مصيره إلى الهلاك. وتبدأ المغادرة بمحاولة عبور حدود البلاد التي لابد فيها من التنازل عن الكثير من أجل الحصول على المال المطلوب للهجرة.

يقول لنا في البداية/ في أفريقيا ليس لدينا نقود أو عمل أو ماء، ولكن لدينا الكثير من الوقت. ولذلك فإنهم منذ طفولتهم يتعلمون الفرنسية. منذ أيام جده الذي حارب مع الفرنسيين في أفريقيا. ومن هنا يدلف بنا ـ ولكن بطريقة تهكمية ساخرة ـ إلى أوجاع التجربة الاستعمارية، وأبوة الاستعمار الكاذبة التي تركت أبناء القارة الأفريقية كالأيتام على مائدة اللئام. وهو خير مثال لهؤلاء الأيتام على مائدة اللئام. فهو يبحث عن عمل، وعن حياة كريمة، وعن فتاة، لا يهم إذا ما كان اسمها مريم أو جاكلين أو كريستين، ولكنه لا يجد سبيلا لأي من هذا كله، خاصة بعدما وصل الصينيون لأفريقيا وأغرقت بضائعهم الرخيصة أسواقها. ولكن عندما تأتيه رسالة من صديقه صديقه المهاجر السري يعله له فيها، أنه وصل إلى جزر الكناري ـ مدخل الفردوس الأوروبي كما يسميه ـ حتى يقرر أن يلحق به مهما كان الثمن. صحيح أنه يدرك أن هناك خمسة ملايين في موريتانيا المجاورة ينشدون الهجرة، أو هم في طريقهم الضال إليها، ولكنه يقرر الهجرة. ويقترب من حلمه قاب قوسين أو أدنى، وهو يسمع من تركهم وراءه يطلبون منها كومبيوترات محمولة وكاميرات وأحذية ذات ماركات مشهورة وغير ذلك من آيات الاستلاب الاستهلاكي الذي يدفع أبناء أفريقيا إلى الموت، بينما الصينيون يستولون ببضائعم الرخيصة على أسواقهم المحدودة.

وإذا كان الأمر قد انتهيى بصديقه إلة أو وضع ينتهي على طائرة متجهة إلى السنغال، بعدما كان قد طرق بيديه بوابات الفردوس المنشود. فإن حظه هو كان أفضل قليلا، لقد دخل الفردوس المنشود، فقد وصل إلى فرنسا بعدما فتح المجتمع الأوروبي بواباه لأبناء أوروبا الشرقية فأغرقوا أسواقها مرة أخرى بالعمالة الرخيصة. ولم يستطع الحصول على أي عمل، وأنتهى به الأمر هو الآخر إلى الاستجداء في الشانزليزييه. ولا تكتفي المسرحية بعرض هذه الرحلة، ولكنها تناقشها أثناء عرضها، وتدرك أن التجربة الاستعمارية مسئولة عن الكثير مما حاق بأفريقية، لكنها لا تعفي الأفارقة، وحكوماتهم المسماة بالوطنية من المسئولية. ويتطرق العرض لموقف القانون من المهاجرين، وسعيه المستمر إرسالهم إلى المكان الذي جاءوا منه. ولكنه يقول لنا أعيدوا الأرصدة التي أودعها أبناء بلده في بنوك فرنسا لاستثمارها هناك وسوف يكون هو أول من يعود. فالعرض يدرك أن آليات النهب الاستعماري لثروات أفريقيا مازالت مستمرة، ولكن بعدما قام العملاء الوطنيين بالدور القذر الذي كان من قبل موكولا بالمستعمرين.

كارولين وكازيمير Casimir et Caroline ومسرح الصدمة الشامل

أما هذا العرض الذي يعود بنا إلى المهرجان الرسمي، فإنه عرض هولندي جاء من مسرح جنت الوطني يعتمد على التعاون بين المخرج الهولندي يوهان سيمونز  Johan Simonsوالموسيقي الهولندي أيضا بول كويك Paul Koek ولهما تاريخ طويل من التعاون المسرحي الذي يسعى لجعل الموسيقى عنصرا أساسيا من عناصر التأويل المسرحي، وأحدى لغات مخرج العرض المهمة في بلورته لرؤيته الدرامية للعمل. ومع أن فرقتهما الهولندية تلك معروفة بأنها تأخذ عروضها عادة إلى أماكن غير عادية مثل المصانع والمحاجر والجراجات الضخمة وملاعب الكرة وحتى الشوارع، إلا أن المهرجان قدم لهما ساحة الشرف في القصر البابوي ـ أكثر فضاءات المهرجان أهمية ـ كي يقدما فيها عرضهما، فاستفادا بحق من الارتفاع الشاهق لجدران القصر البابوي الحجرية، ونصبا سقالات على عدة مستويات يدور عليها العرض المسرحي. وقد ناسب ذلك مفهومهما للمسرح الذي يمزج العرض بعناصر المشاهدة أو عناصر الفرجة، لا من أجل التسلية، وإنما من أجل إحداث صدمة من خلال المواجهة بين تراجيديا المسرح وبين العالم المعاصر بما فيه من استغلال وتحرر واستهلاك مفرط وأسر ممزقة. لأن منهجهما المسرحي يعتمد على خلق نوع مغاير من المسرح الموسيقي، هو مسرح شامل بالدرجة الأولى، وإن كان للموسيقى دور ملحوظ ومتميز فيه.

أما المسرحية التي قدماها، وأخضعاها لمفهومهما المتميز للمسرح الشامل فهي واحدة من أشهر مسرحيات هذا الكاتب المجري الألماني أودن فون هورفات Odon von Horvath الذي لمع نجمه كالشهاب في سماء المسرح قبل أن يختطفه الموت وهو في السابعة والثلاثين. وتدور المسرحية أثناء مهرجان الجعة الشهير في ميونخ، وتتناول الصراع بين العقل والضمير، بين الفرد والمجتمع، وكيف يفقد الإنسان نفسه حينما يخسر من يحب، فلنا جميعا قلوب تتوجع وتصبو لتحقيق ذاتها إنسانيا، قدر صبواتها في التواصل مع الآخر. ويجد المشاهد نفسه من البداية أمام مناخ كرنفالي واضح، فهناك سيارة حقيقية على خشبة المسرح، وهناك مستويات متعددة ـ أربعة مستويات في الواقع ـ منصوبة من خلال تلك السقالات المعدنية، وترتفع فوقها لافتة نيون ضخمة تدعو الجميع للاستمتاع Enjoy ولايقل ارتفاع كل حرف من حروفها عن قامة الإنسان العادي، لأنه حينما تتشعلق كارولين فيما بعد، وتتخلل حروف الكلمة، ندرك أن كل حرف من حروفها بحجم كارولين. أما على المستوى الأرضي فهناك فرقة موسيقى وأدوات عزف وألعاب متعددة كتلك التي نجدها في الملاهي. ويدخل كازمير ومعه حبيبته كارولين، ويلعب بعض ألعاب الموالد، وكلما كسب أضيئت لافتة Enjoy وكأنها المكافأة التي تقدم له على فوزه.

وسط هذا المناخ الكرنفالي تتخلق تفاصيل الأحداث وتتابع، فبعد أن كان الوئام يسود علاقة الحبيبين في البداية، وبعد رقصة مواقعة جميلة وغير برنوجرافية على الإطلاق، يبدأ واحد في مغازلة كارولين، وهو غزل مرسوم إيقاعيا وإخراجيا بشكل جيد، بينما يكون كازيمير وقتها تحت السيارة مسحوقا. ومن خلال تتابع الأحداث على تلك الخشبات المتراكبة والمتحاورة تبدأ علاقتهما في التخثر، وتتخلق بهذا التخثر أبجديات الضياع الفردي، بصرف النظر عمن كان المسئول فيما جرى. لأن تراكب مفردات العرض، من حوار وموسيقى ـ حيث تتصادى الموسيقى مع الحوار، تكمله ولا تكون مجرد حاشية له ـ ومفردات كرنفالية متعددة تعزز عناصر الفرجة وتكشف لنا كل هذه المفردات في تفاعلها وتحاورها عن تعدد مستويات الفعل الإنساني وتراكب دلالاته. ولا يمكن هنا أن نتناول كل الحبكات الثانوية الأخرى والمصاحبة للحبكة الأساسية، وهي كيف تتخثر علاقة البطلين في ليلة واحدة، وقد بنياها في شهور وسنوات، وبصورة تدفع كازيمير لمحاولة الانتحار. وكيف تتقاطع مصائر الغرباء، وتتداخل مع مصائر الأصدقاء في شبكة علاقات تعتمد على التوازيات والمفارقات. وكيف تتخلق العوائق التي تحول دون عودة المياه إلى مجاريها الطبيعية القديمة. لأننا بإزاء عمل يتناول مسئولية الإنسان الوجودية عن أفعاله، واستحالة التملص من تبعاتها.

توحيد الآذان Radio Muezzin عمل مركب سويسري مصري

آخر الأعمال التي أود أن اتناولها في هذا المقال هو عرض يجمع بين التوثيق والتخييل، بين السينما والمسرح، بين الشرق والغرب. لأن صاحب فكرة هذا العمل الشيق هو مخرج سويسري الأصل اسمه ستيفن كاجي Stefan Kaegi يعمل في برلين، حيث كون فيها مع مجموعة من المسرحين من مجايليه فرقة مسرحية تدعى في ترجمتها الحرفية «مرور حي» أو «مرور الحياة» ولكني أفضل ترجمتها ب«تدفق الحياة Life Trafficking». وهو اسم يشى بطبيعة المنهج الدرامي الذي بلورته هذه الفرقة، والذي يطمح لأن يقبض على تدفق الحياة، ويضعه بطزاجته أو بأقرب ما يكون إلى تدفقه وطزاجته على خشبة المسرح. وقد سبق له أن جاء في العام الماضي إلى مهرجان آفينيون بعمل من نفس نوع هذا المسرح الوثائقي، أو مسرح تدفق الحياة الذي يطمح إلى أن يضع الحياة بزخمها الحي على خشبة المسرح. فقد أتى في العام الماضي بدستة من المراهقين الذين ينتمون إلى جنسيات مختلفة، ولكن جمعتهم مدرسة للباكالوريا الدولية في لوزان. وأعد من خلالهم عملا يتحدث فيه كل صبي أو صبية عن تصوره للمستقبل، وذهب بكل منهم إلى بلده كي يصور هذا التصور، عملا بمنهجه الذي يستخدم كلا من السينما والمسرح، ويجعل كلا منهما يرهف وعينا بما يدور في الآخر.

هذا العام ذهب ستيفن كايجي إلى مصر، واستلهم عمله الجديد من الآذان والمؤذنين. فقد صدمه ـ كما يصدم الكثيرين ـ تصادي المآذن عند كل آذان، وتشويش بعضها على البعض الآخر، ناهيط عن الضجة الرهيبة التي تصدر عن تلك المكبرات، التي تذيع الكثير منها تنويعات على أنكر الأصوات في كثير من الأحيان. إلى الحد الذي يقول معه أن ضجيج هذه الآذانات الجمعية المتكررة بميقات كان بمثابة أهم التجارب الصوتية التي عاشها. وحينما عاد إلى برلين، وبينما هو ما يزال مشحونا بتلك الشحنة الصوتية الضخمة، قرأ في أحدى الصحف أن ثمة محاولة من وزارة الأوقاف لتوحيد الآذان، وإذاعة أذان موحد من الراديو، أو حتى من مختلف الميكروفونات المعلقة على المآذن. فقرر العودة للتعرف على ما يدور عن كثب، واختار عددا من المؤذنين للعمل معهم على المسرح، وصحب كل منهم إلى بيته، وصور بيته من الداخل والحي الذي يعيش فيه، ومكان عمله، وأدار معه حوارا طويلا عن حياته وكيف أصبح مؤذنا، وما هي دوافعه، ورؤيته لفكرة الآذان الموحد الذي ستطبقه وزارة الأوقاف. وكان من بين المؤذنين الذين اختارهم واحد من حفنة المؤذنين الذين نجحوا في اختبار وزارة الأوقاف واختير ليكون ضمن الذين سيؤذنون ويذاع آذانهم في الراديو وفي المساجد المختلفة. وعمل معهم لعدة شهور وجهزهم ليقف كل منهم على المسرح ويحكي لنا قصته، وكيف جاء إلى عالم التأذين، وماذا سيحدث له حينما يطبق القانون الجديد بتوحيد الآذان. وقد وفق في أختيار مؤذنين مختلفين إلى أقصى حد، من مؤذن وزارة الأوقاف الذي يقوم بكل شيء من كنس المسجد إلى قراءة القرآن فيه، إلى الآذان، إلى المؤذن الشيك الذي كسب الكثير من مسابقات التلاوة الدولية، والذي يقرأ القرآن في البعثات التي تذهب لقراءة القرآن في الكثير من المدن الإسلامية من إيران وأندونيسيا إلى ماليزيا وجزر المالديف، إلى المؤذن المتطوع الذي يؤذن في المساجد غير المرخصة، والذي كان كهربائيا، ثم بعد تعرضه لحادثة سيارة بدأ في العمل مؤذنا.

وحينما يفد المشاهدون إلى العرض الذي كان يدور في واحد من أديرة أفينيون القديمة يجدون أرضية الخشبة مفروشة بسجاجيد عليها موتيفات القبلة، مثل كثير من تلك التي نجدها في أي مسجد. وهناك عدة مناضد وكراس. ومنضدة عليها أجهزة راديو داخلية، والعامل الذي سنكتشف فيما بعد أنه سيشرف على جهاز ضبط توقيت بث الآذان الموحد عبر هذا الجهاز الذي ابتكره. ونبدأ بمؤذن كفيف من طنطا يحكي كيف أن هذه المهنة: مهنة الآذان وقراءة القرآن كانت المهنة الوحيدة المتاحة لمثله. ويحكي لنا قصة التأذين وتطورها التاريخي في مصر، وكيف كان المؤذن يصعد إلى قمة المئذنة في الماضي، ولكنه الآن أصبح يكتفي بالآذان في الميكرفون. فهو لم يؤذن حقا من المئذنة إلا مرة واحدة في حياته. وتكمل الشاشة تفاصيل قصته، فحينما يتحدث عن بيته، تأخذنا الشاشات الثلاثة العريضة في خلفية المسرح إلى داخل هذا البيت الحقيقي الذي صورة كايجي في مصر فعلا. وحينا يتحدث عن دوره في تدريس القرآن واللغة العربية لتلاميذ الحي، في محاولة منه لرفع دخله البسيط من الآذان والقراءة، تأخذنا الشاشات إلى حصة حقيقية من تلك الحصص صورها المخرج في طنطا. وحينما يتحدث عن دوره في قراءة القرآن في المأتم والأفراح، تعرض علينا الشاشات ليلة من ليالي تلك المأتم.

ويأتي بعده مؤذن آخر، كان يعمل كهربائيا، وجند وحارب في حرب أكتوبر، ثم ذهب للعمل بالسعودية لمدة 14 سنة، ثم عاد في مصر واستقر بها، وفتح محله الكهربائي الصغير. ولكن ضربه مايكروباس ذات يوم وكسرت ساقه، ونقل إلى المستشفى بين الحياة والموت، وأصبح يمشي على عكازين، وأصيب بالاكتئاب، فنصحه شيخ المسجد بقراءة القرآن في المسجد، فأخذ في التردد عليه حيث حصل فيه على قدر من الطمأنينة، وفي يوم من الأيام غاب المؤذن فطلب منه الشيخ أن يؤذن بدلا منه، ومن يومها استحسن التأذين واستمتع به. وهو لذلك من أشد المعارضين للآذان الموحد لأنه سيحرمه من الدور الذي يلعبه، والذي يضفي على حياته الشقية قيمة ما. ثم يأتي مؤذن ثالث وهو مؤذن رسمي من مؤذني وزارة الأوقاف من بني عدي بمنفلوط. وقد جند هو الآخر لسنوات في الجيش، وبعد ذلك عاد للعمل بالفلاحة، ولكن ضيق الرزق يدفعه للذهاب للقاهرة بحثا عن عمل، فعمل في مخبز في إمبابة، ثم سمع أن وزارة الأوقاف تطلب خدم مساجد ومؤذنين، فتقدم وقبل طلبه، وبرغم قلة المرتب، إلا أنه سعيد بالدعوة وثوابها، ولن يؤثر عليه الآذان الموحد، وإن كان سيعفيه من جانب واحد من جوانب عمله، فسيظل مسؤولا عن فتح المسجد وإغلاقه وعن تنظيفه. وبينما يشرح لنا هذا المؤذن قواعد الوضوء والصلاة تقدم لنا شاشات كبيرة في خلفية المسرح مشاهد حقيقية مصورة سينمائيا للوضوء في المساجد المصرية، والصلاة الجماعية في عدد من مساجد القاهرة وشوارعها.

ويحدث الشيء نفسه مع المؤذن الرسمي الذي استأثر ألبوم صوره المثير مع ملك المالديف، ورئيس وزراء إيران، ومع وجهاء عدد من البلدان الإسلامية الآسيوية، بالكثير من الشاشات، الثابتة منها والمتحركة، كما أن شقته الفسيحة تتناقض كلية مع غرفة عامل الكهرباء الفقير، لكن أهم ما يميزه كان صوته القوي الرخيم الذي تصدع له القلوب حقا! ومن خلال التجاور والتتابع بين هذه الحكايات الإنسانية الأربعة، والتي يقدمها أصحابها بأنفسهم، وبالعامية المصرية بالطبع مع ترجمة مكتوبة في أعلى المسرح، نكتشف أن العرض المسرحي وإن اهتم فقط  بتجسيد حياة هؤلاء المؤذنين قد قدم لنا دراسة حية في الواقع المصري في هذا العقد من القرن الجديد بتناقضاته ومشاغل عدد من بسطائه. إنه مسرح تدفق الحياة بالفعل، لاتمثيل فيه، ولكن شخصيات حية تعرض لنا حياتها على خشبة المسرح. ونكتشف أيضا أن المسرحي السويسري استطاع حقا ان يكتب بتلك الشخصيات المصرية دراما مصرية من نوع خاص، لها زخم الدراما وقوة تأثيرها الذي يتجاوز أي تخييل.