يعود باب علامات لمجلة "المورد الصافي" ليقتطف رحلة كتبت عام 1929، وفيها يسرد محرر المجلة تفاصيل رحلته من بيروت باتجاه الشمال الساحلي نحو اللاذقية، وفيها يأتي على ذكر تقاصيل تاريخية منسية من الذاكرة المحلية للمنطقة قبل أن تستقر الخريطة الحالية، والتي كان للاستعمار يد في رسمها خطوطها وحفر معالمها.

الشاطئ الفينيقي من بيروت إلى اللاذقية

جرجس الخوري المقدسي

إعداد وتقديم أثير محمد علي

 

أنشأ المربي والصحفي والخطيب اللبناني جرجس الخوري المقدسي (1869-1941) مجلة "المورد الصافي" عام 1909، ومنها تقتطف "الكلمة" لباب "علامات" مقالة نشرت عام 1929 موقعة بقلم محررها، فيها يسرد جرجس الخوري المقدسي تفاصيل رحلته عبر ساحل المتوسط من بيروت باتجاه اللاذقية شمالاً، ولا يغفل عن تدوين انطباعاته حول محطات السفر المتعددة، إضافة لمروره على الذاكرة التاريخية المحلية للمنطقة التي يجول فيها، قبل أن تستقر الخريطة الحالية والتي كان للاستعمار يد في رسمها خطوطها وحفر معالمها.

 

ولد جرجس الخوري المقدسي في مدينة طرابلس اللبنانية، وتلقى علومه الجامعية في الكلية الأميركية في بيروت، حيث تخرج منها سنة 1888. عمل في مهنة التدريس في مدينته إلى أن دعي من قبل الجامعة الأميريكية سنة 1905 للعمل وإلقاء الدروس فيها حتى سنة 1935.

إضافة لمنجزه في النقد الأدبي والتاريخ يعتبر جرجس الخوري المقدسي من المهتمين بجمع النوادر والنكات العربية، وأصدر في هذا المجال كتاب حمل اسم "المناهل" في أربعة أجزاء متتالية، جمع فيه مختاراته من النوادر، خاصة التهذيبية والتعليمية منها، والتي التقطها من أفراد عائلته والمحيط الشعبي الذي احتك به.

من مؤلفاته الأخرى نذكر "اللغة العربية" عام 1903، "الخدمة المدرسية" سنة 1922، نهلة الظمآن في الخطابة والكتابة والشعر والبيان" عام 1926، و"أعظم حرب في التاريخ وكيف مرت حوادثها" سنة 1928. وفيما يلي نص رحلة جرجس الخوري المقدسي:

 

الشاطئ الفينيقي من بيروت إلى اللاذقية

قبل انتهاء عطلة الربيع شعرنا بملل فرأينا الواجب الصحي يدعونا إلى رحلة نروّح بها النفس قبل استئناف الأعمال المدرسية. رحلة يكون طريقها سهلاً ولا نحتاج فيها إلى قطع جواز سفر لأن قطع الجواز يكلف مشقة كبيرة هذه في الأيام. وعليه رضينا أن تكون سياحتنا القصيرة ضمن منطقة الانتداب. ركبنا الأوتوموبيل من بيروت بعد ظهر الجمعة الواقع في 16 نيسان 1926 ووجهتنا طرابلس فانطلق بنا انطلاق السهم فلم تستوقف أنظارنا أودية لبنان وجباله الشامخة القائمة عن يميننا ولا تلك الأنهار التي مررنا فوق قناطرها ولا ذلك البحر المتلاطم الأمواج عن شمالنا. وسبب ذلك أنا قد ألفنا هذه المناظر الساحرة لأنا نشاهدها كل يوم فأصبحت أموراً عادية لا نكترث لها مع أن السياح الغرباء يفتتنون بها أي افتتان.

 

بلغنا طرابلس بساعتين ونصف وقضينا فيها ليلة نستنشق طيب أزهار جناتها الفياحة. وقبل ظهر السبت 17 نيسان ركبنا السيارة قاصدين اللاذقية. ولما خرجنا من طرابلس بدأنا نشعر بابتهاج لأن العين أصبحت تقع على جبال وأودية وأغوار وأنجاد وسهول وغياض مرَّ علينا نحوعشرين سنة لم نشاهدها. فأخذنا نحدق بها ولكنَّ السير في الأوتوموبيل لا يروي غليل النفس من منظر فتمر الأشياء أمام المسافر مرور مشاهد السينما.

 

مررنا بالقرب من مقام السيد (البدوي) وشاهدنا البركة التي يعيش بها السمك آمنناً بجوار ذلك الولي. ثم أشرفنا على المنيه وهي بلدة في سفح جبل تربل كثيرة المياه تتصل جنائنها بأملاك طرابلس فتذكرنا حادثة تاريخية رواها لنا سيدي الوالد، قال: خرجت يوماً من طربلس في زمن الفتوة مع بعض رفاقي نروح النفس في بساتين المنيه. وكان ذلك حوالي سنة 1858. وبينما نحن هنالك إذ انتشر الخبر أن معركة نشبت بين فرسان الدنادشة وفرسان النصيرية. وأخذ المتحاربون يقتربون فتسلقنا الأشجار فرأينا فرسان النصيرية قد لازموا شاطئ البحر يدافعون عن نفوسهم والدنادشة يهاجمونهم من جهة البر، وكان كلما قتل شخص من جانب تحتدم الموقعة لأن كل فريق كان يحاول أخذه. ولما أصبح المتحاربون أمام المنيه خاف النصيرية أن ينجد أهلها الدنادشة لأنهم سنيون من مذهبهم ولذلك رفع النصيرية علماً أبيضاً، وقالوا هذا هوعلم أهل المنية. عندئذ وقف شيخ البلدة على مرتفع وقال مخاطياً السكان (تعلمون أن الأثمار التي تخرج من بساتيننا تباع في بلاد صافيتا فإذا نحن نصرنا الدنادشة على النصيرية جعلنا هؤلاء أعداءَنا، فيمنعونا من بيع أثمارنا في بلادهم. إذاً ليس من مصلحتنا الدخول في هذه المعمعة. فأوقف بذلك النجدة التي كان ينتظرها الدنادشة من أهل المنيه. وهذا دليل على أن الحرب إنما تسوق إليها في الغالب المصلحة أكثر من العاطفة الدينية، حتى يقال أن الحروب الصليبية نفسها التي زعموا أنها حروب مقدسة كان الدين فيها ليس إلا ستار لمصالح الزعماء المادية.

وكان فرسان النصيرية يسيرون غرباً مدافعين عن زعيمهم اسماعيل بك ملازمين الشاطئ يحمي ظهرهم البحر حتى بلغوا برج السباع بالقرب من الاسكلة واعتصموا به. أما الدنادشة فدخلوا طرابلس من ناحية باب التبانه، فوقفت قوة السلطة بينهم وبين أخصامهم النصيرية ومنعتهم من الالتحام. ثم واصل اسماعيل بك السير مع رجاله إلى دمشق فاراً في لبنان.

 

وسبب هذه الموقعة على ما يرويها الوالد هي أنه كان في تلك الأيام ثلاث زعامات تتنازع السيادة في بلاد الحصن وصافيتا، وهي :

-                                 مشايخ بني موسى الحنا المسيحيون.

-                                 بكوات النصيرية أسرة خير بك العلويون.

-                                 يكوات الدنادشة السنيون.

وحدث أن الشيخ ملحم ابراهيم من زعماء بني موسى الحنا قتل في مقاطعة الدنادشة، فاتهم المسيحيون الدنادشة بقتله، واشتدت العداوة والبغضاء بين الفريقين. فلما حكم البلاد خير بك العلوي أقنع زعماء بني موسى الحنا وزعماء بني دندش بالاجتماع عُزلاً من السلاح عند جسر الصاحب الواقع على نهر راويل شرقي قلعة الحصن، قصد أن يصلح بينهم. وبينما كانوا مجتمعين في ذلك المكان الآمن يتعاتبون وإذ نهض كمين مسلحٌ من المسيحيين وفتكوا ببعض زعماء الدنادشة الآمنين أخذاً بثأر ملحم ابراهيم، فتفرق الجمهور والحقد ملءُ قلوب بني دندش على خير بك النصيري لزعمهم أنه تواطأ مع النصارى على هذا العمل. وظلوا يترقبون الفرص حتى مات خير بك وحكم ابنه اسماعيل بك مكانه. وفي ذهابه حوالي سنة 1858 إلى الشام عن طريق طرابلس لاقاه كما ذكرنا فرسان الدنادشة للأخذ بالثأر وكان بين رجاله عدد من المسيحيين فبدأت المناوشات من خان عرقا فالعبده، ولولا ملازمة فرسان النصيرية شاطئ البحر واقتصارهم على المدافعة لما تمكنوا من الوصول إلى طرابلس لأن أعداءَهم كانوا كثيرين في ذلك السهل. على أن اسماعيل خير بك بعد رجوعه من الشام شق عصا الطاعة على الدولة العثمانية، فسيّرت عليه حملة فقتل حوالي سنة 1859، والمتقدمون في السن لا يزالون يذكرون الأمن الذي أحدثه اسماعيل في أيام حكمه على بلاد صافيتا والحصن. حتى يقال أن أحد المكارين وقعت منه في البرية خصلة حرير، فظلت أياماً لا يتجاسر أحد من المارة على مسها، هذه خلاصة مما كان يجري في تلك الأيام بين الزعماء.

 

وبعد المنيه أشرفنا على خان العبده وانفتحت أمامنا السهول ومن ورائها الجبال، فابتهجنا بتلك المناظر الجميلة وبنضارة حقول القمح المتسعة. هذا السهل الذي نسير فيه يفصل جبال عكار ولبنان عن جبال صافيتا ممتداً إلى حمص. قطعنا فيه عدة أنهار منها نهر البارد بالقرب من المنية ومصدره من جبال الضنية بالقرب من سير، ونهر عرقا ومصدره من جبال عكار بالقرب من فنيدق، ونهر الخريبة ومصدره نبع الشيخ جنيد فوق بينو، والنهر الكبير (العريضة)، ونهر الأبرش ومخرجه نبع الشيخ حسن بالقرب من الكفرون. وأهم هذه الأنهار النهر الكبير ليس لأنه أغزرها ماء بل لأنه يمر مسافةً طويلة في سهول فسيحة. فإن لهذا النهر ثلاثة مخارج فالأول من جبل الحلو بالقرب من مقعبره والكيمة، والثاني نبع الناصرية في أعالي البقيعة، والثالث نبع الصفا من وادي خالد هذا عدا عن مجارٍ عديدة تنحدر إليه. ويسمى هذا النهر في أعاليه (راويل)، ولعّل هذه اللفظة مشتقة من "ريع ايل" أي بركة الله، وفي أسفل سهل البقيعة يسمى (العريضة) وفي سهل عكار يسمى النهر الكبير. ولو تمكن أهل الفن من استخدام كل مائه للري لزادت ثروة البلاد زيادة عظيمة.

 

وكان معنا في الأوتوموبيل أحد الأجانب وهو من الذين يتاجرون بالماكنات الزراعية وقد وقفنا بضع دقائق نشاهد تلك الآلات تحرث الأرض ولعلها تزداد في المستقبل فتأتي بفائدة جزيلة.

ومن الأماكن التي مررنا بها الحميدية (المهاجرين) وهي بلدة جميلة بناها مسلمون من مهاجري اكريت – بعد انفصال هذه الجزيرة عن أملاك الدولة العثمانية – وأخذوا يحرثون الأرض فأفادوا واستفادوا.

ثم أقبلنا على طرطوس وهي مركز متصرفية القسم الجنوبي من بلاد العلويين، والجبل عند طرطوس يهاجم البحر فيصبح السهل ضيقاً. وقفنا هناك قليلاً لاصلاح خلل طرأ على السيارة فشاهدنا بعض آثار المدينة كالسور والكنيسة المشهورة. وأمام طرطوس قائمة جزيرة ارواد ومنظرها جميل. هذه الجزيرة الجميلة الصغيرة كان لها شأن في التاريخ، فإنها طالما ناوءت الفاتحين ومنهم الاسكندر الكبير فإنه ظل عدة أشهر يحاربها حتى تمكن من الاستيلاء عليها. ويقال أن عدد سكانها اليوم نحوسبعة آلاف. وهم من بقايا الفينيقيين القدماء الذين سلكوا البحار وجابهوا الأمواج بمراكبهم الهوائية، فكانوا يحملون الثروات إلى سورية من أطراف المعمورة يوم لم تكن لندن ونيويورك وغيرهما من المدن الحديثة موجودة.

 

ثم سار بنا الأوتوموبيل شمالاً وأخذ السهل يتسع بين البحر والجبل وقد زاد ابتهاجنا بتلك المناظر لأننا لم نشاهدها من قبل. وما لبثنا حتى أشرفنا على متن آل عرنوق وهورابية جميلة خصيبة بينها وبين البحر سهل بصيرة الواقعة على الشاطئ والأملاك هناك تدل على اعتناء ففيها الزروع وأغراس التوت والزيتون. وبعد ذلك بلغنا بلدة بانياس ويمر بجانبها النهر المسمى باسمها، وفوقها على رأس الجبل قائمة قلعة المرقب المشهورة. وبانياس بلدة قديمة مشهورة بمحصولات الحرير. روى أحد المؤرخين أنه لما كانت تجارة الإسلام في سالف الزمان زاهية كانت حلب تصدر البضائع إلى أوروبا عن طريق اللاذقية والسويدية وبانياس وأين نحن اليوم من تلك الأيام.

وعند بانياس يعود الجبل فيزحم البحر فيضيق السهل مسافة قصيرة، ثم يأخذ بالانفراج. ولما بلغنا جبلة وجدنا أنفسنا وسط سهول متسعة خصيبة. وجبلة بلدة زراعية وفيها مقام السلطان ابراهيم الأدهم، زهد في الدنيا فترك عزة الملك مختاراً على أثر سماعه قارئاً يتلو(الملك لله).

ذكرت النور أن ابراهيم بن أدهم بن منصور من سلالة بكر بن وائل ولد في ببلخ في خرسان، وقدم سوريا فسكن فيها وكان متزهداً منقطعاً إلى عبادة الله، وقد ذكر ابن الوردي خبر وفاته في حوادث سنة 161 للهجرة، ولكن لم يعين المكان الذي توفي فيه، وإنما نقل ما حدَّث يه ابراهيم بن أدهم عن نفسه، فقال : "إنه ابن ملك من ملوك خرسان غادر بلاده وسار منها إلى العراق ثم إلى الشام ثم إلى طرسوس ثم تركها".

والطريق من طرطرس إلى اللاذقية معبَّدة وهي غاية في الاتقان، تمر فوق قناطر جميلة تجري من تحتها أنهار غزيرة، ومنها نهر السين (ولعل الصليبيين سموه بهذا الاسم)، ونهر الروس ونهر الصنوبر والنهر الكبير وهذا الأخير على مقربة من اللاذقية ويقال أنه طغى هذه السنة فأغرق أحد عشر شخصاً.

 

وبعد سير نحو أربع ساعات من طرابلس بلغنا اللاذقية ظهر السبت فانزلنا في بيته الصديق الخواجا توفيق عوض. وبعد الغدا والاستراحة سار بنا يرينا شوارع المدينة ومعظمها مستقيم متسع على الطراز الحديث كشارع السرايا وشارع البلدية وشارع الفنار وشارع غورو وشارع نيجر وشارع كيلا وهذا طوله نحو كيلومترين. وشاهدنا الحديقة الجميلة والفندق الجديد الذي بني حديثاً على آخر طرز، ففي الغرفة الواحدة كل معدات الراحة. وهنالك عمود قديم أُقيم تذكاراً للجنرال بيلوت لأنه أنار المدينة بالكهرباء وجرَّ إليها ماء ديفة مؤخراً بأنابيب حديدية عن بعد نحو25 كيلومتراً، فأغنى السكان عن ماء الآبار. وقد صعدنا إلى الحاوز على مرتفع شرقي المدينة وشاهدنا تدفق ذلك الماء الصافي. وهي مأثرة جميلة زادت اللاذقية بهاء وأملاكها قيمة.

قيل أن أحدهم كان يؤجر قطعة الأرض من أملاكه بثلاث ليرات عثمانية سنوياً، فلما جرت مياه ديفة إلى اللاذقية ابتاع منها كمية لسقي تلك القطعة، وزرعها قصب سكر فأجّرها ب 48 ليرة عثمانية ذهباً، وهذا دليل على أهمية استخدام الماء في إنماء ثروة البلاد.

 

وقد شاهدنا عدة آثار قديمة في المدينة منها الكنيسة المعلقة وفيها آثار ونقوش رومانية، ومنها كنيسة العواميد وهي قائمة على عمد ضخمة، ويظن البعض أن البنائين كانا هيكلين لعبادة الأوثان فحولها المسيحيون إلى كنيستين، ثم حولها المسلمون إلى مسجدين. ثم صعدنا إلى جامع المغربي وهو على ربوة شرقي اللاذقية تعلو78 درجة عن أرض المدينة، فصعدنا في قلب المئذنة بسلَّم لولبية علوها 82 درجة. من رأس هذه المنارة التي تعلو عن أرض اللاذقية 160 درجة يرى الواقف منظراً يتجلى فيه الجمال والجلال, فإلى الغرب البحر المتسع الذي شهد تقلبات الزمان وإلى الشرق السهل الأخضر الخصيب تحدق به جبال العلويين. جبال متوسطة العلو ليست صخرية بل جيدة التربة صالحة للزراعة. رؤوس هذه الجبال تشرف على وادي العاصي المبارك وعلى سهول حماة وحلب التي كانت قديماً تضم الملايين من السكان فيعيشون منها ويصدرون من خيراتها.

 

وإذا سرَّحت الطرف شمالاً وأنت على رأس منارة ذلك الجامع يمتد بصرك إلى الجبل الأقرع جبل انطاكية والسويدية، وإلى الجبل الأحمر جبل اسكندرونه، وجبال كيليكيا. وإذا توجهت جنوباً تقع العين على سلسلة جبال لبنان معممة بالثلوج تناطح برؤوسها السحاب. مشاهد تقصر عن وصف جمالها وجلالها الأقلام فسبحان مبدع الكائنات. نزلنا من ذلك المكان الساحر وقلوبنا لم تزل فيه. واستأذنا بدخول الجامع فسمح لنا بشرط أن نخلع أحذيتنا ففعلنا عن طيبة خاطر لأن أصابع أرجلنا بعد سير عدة ساعات كانت في حاجة شديدة إلى الاستراحة، فجلسنا على طنافس الجامع الجميلة يحدثنا خادمه بلطف عن طيب حياة المغربي الذي بني المقام على اسمه.

 

ثم سرنا حول المدينة وكانت الشمس على وشك المغيب فالتقينا بمئات من سكان المدينة نساء ورجالاً يسرحون على الطرقات بين الزروع. وعند المساء زارنا عدد من أفاضل الأدباء والأصدقاء. وصباح الأحد حضرنا اجتماع العبادة في الكنيسة الأنجيلية، وفي اللاذقية عدة مدارس راقية منها أميركانية وفرنساوية وأهلية وقد قضينا نهار الأحد في زيارة بيوت الأصدقاء وابتهجنا بلطف أحاديثهم.

وعدد سكان اللاذقية نحو عشرين ألفاً وهي عاصمة الدولة العلوية. وسكان هذه المنطقة بحسب إحصاء الحكومة الأخير سنة 1926 يبلغون 278011 نسمة، منهم 176285 علويون و52778 سنيون و35148 أرثوذكس و5263 موارنة و4457 اسماعليون و1039 روم كاثوليك و1112 بروتستانت وما بقي منها أرمن وكلدان وسريان وجعفريون ودروز واسرائيليون(1). والحكومة آخذة اليوم بمد طريق سيارات من اللاذقية إلى حلب ومتى تمَّت يمكن قطع المسافة بين المدينتين بنحو خمس ساعات.

وأهم مداخيل بلاد اللاذقية الحبوب والزيتون والحرير والدخان وهذا الصنف الأخير يزرع في السواحل والجبال وهو ثلاثة أنواع:

- التنباك، وكان محصوله منذ نحو أربعة سنوات يزيد على ثلاثمئة ألف كيلو. ولكن المكوس التي وضعت عليه، ومزاحمة التنباك العجمي له أسقطت محصوله إلى ثمانين ألف كيلو في السنة.

- دخان السيكارة المسمى بشك البنت، وهذا كان محصوله عادة بين الخمس مئة ألف كيلو ولكن احتكار الريجي له جعل الفلاح يزهد في زراعته، لأن هذه الشركة ترغمه على بيع الدخان لها بأبخس الأثمان وتجبره على مشتراها منها بأغلاها.

- دخان الغليون المسمى بـ "أبي ريحة"، وهذا يصدرونه إلى بلاد الانكليز، وقد ارتفعت أسعاره جداً في أول الاحتلال، فأغنى كثيرين ولكنها هبطت هذه الأيام.

 

هذه لمحة من سياحة يومين على شاطئ فينيقية الشمالية. وقبل ظهر الاثنين الواقع في 19 نيسان ودعنا الأصدقاء، وقفلنا راجعين من اللاذقية نمتع النفس بالمناظر البهية من جبال ووهاد ومروج وأزهار وانهار، فبلغنا بيروت بأقل من سبع ساعات. والمسافة التي قطعناها تبلغ نحو260 كيلومتراً، فيحتاج المكاري أكثر من سبعة أيام لقطعها، فالسيارات كم قرَّبت الأبعاد على أنه متى انتظم السير بالطيارات تصبح السيارات (موضة) قديمة. ولقد صدق من قال إن هذا العصر عصر السرعة والايجاز.

ولكن هل زادت يا ترى بهذه السرعة سعادة البشر؟! تلك مسألة فيها نظر.

 

الهوامش

(1) تشير نسبة "الاسرائيلي" إلى معتنق الديانة اليهودية، ولا تحمل، بأي حال من الأحوال في السياق التاريخي للمرحلة، أية إشارة إلى نسبة قوميّة سياسية كما هو راهن الحال.