كان للحصار الدامي على العراق طوال التسعينات آثاره الاقتصادية والبشرية البشعة، ولكن كانت له كذلك سلبياته الثقافية التي ساهمت في غياب الكثير من أصواته الأدبية عن الساحة العربية الأوسع. وسليم جواد من الأصوات العراقية الجديدة التي لم يتعرف عليها القارئ العربي على نطاق واسع بعد.

آل أبراهيم

سليم جواد

مدخل ..

(1)
لايفعل الشعر فعله الا في الخفاء ..
والا في الاعماق القصية للنفوس .. وفعله هذا ، ماهو
الا فعل الزمن نفسه ، قد لاترى آثاره بالعين المجردة
- آنيا - الا انها تظل آثارا ساحقة ..
ان له عقل يفكر .. مخيلة تعمل ، ويد ، تجبل الوردة من
العدم ، لتضعها امام ابصارنا في اوج تفتحها ، ولتضعها
تحت متناول استنشاق ارواحنا . كما ان له ارادة تستقصي
ترجيعات الحقيقة واندياحات امواجها ، على فطرة الكائن
وقسمات وجوده ..
ان الشعر ابتكار خطر وما هو الا الاخ الند للزمن ..
فكلاهما له المظهر اللين المسالم الذي يبدو خلاله وكأنه
لايفعل سوى ان يدلي بكلمته ثم يمضي الى سبيل حاله، بينما
هو في الحقيقة ، يفرض رؤآه عميقا وبعيدا ، ويثبتها على
صفحات القلوب ..!! 

(2)
هذه القصيدة ، ليست متخاذلة ، وليست مستسلمة
ولاتنتاب خواطرها ، افكار ، تتلبسها الحيرة ، وان لم
تكن - وهل ذلك بيدها - تمتلك ما لليقين من صلابة
ومن رسوخ ، وادعاء ، وعجرفة ، وغثيان ..!!
كما انها ليست خائنة ابدا ، وليست جبانة او خائفة
وليصب بسكتة قلبية ، كل من يمكن ان يتهمها اتهامات
باطلة ..!!
هي فقط قصيدة ذات نزوع انساني لامحدود ، ذي رفعة
انسانية لامحدودة ، ونبرة اخوية مغايرة ..
وهذا النزوع وتلك النبرة لايبدوان الا طموحا مشروعا ايضا .

اذ انها حين تتأمل نفسها ، في مرآة الله ، بافتتان نرسيسي
فهي لاتنكر ، افتتانها ايضا ، بما للكون من جمال وفتنة ..
لذلك فانها لاتريد مغادرته ، دون محاولة منها لتترك
اثرا من نفسها فيه .. كما انها لاتسأل شاعرا ما ، حتى
لوكان ذلك الشاعر هو المتنبيء ذاته ، ان يكتبها ..

لا.. ليس غرورا ، ما يدفعها لذلك والا لكانت الزهرة مغرورة
وكانت الصخرة على حافة البحر والتي اتخذت لنفسها شكل
نسر يحدق في غزارة المياه وانبساطها ، مغرورة ايضا .
انها ، تريد تجريب ، كتابة نفسها ، بنفسها .

فهذه القصيدة ، اذن ، ليست برزخا للهروب من المسؤولية
والواجب ، وليست تنطعا على المواضعات ايضا ، وانما هي
مناسبة ممتازة للتفاهم ..
لقد جربنا ، كل الطرق والوسائل ، فلم نصل عبر تجريبنا لها
الا الى ساحة القتال .. فلنجرب القصيدة والشعر ايضا ، فلعلنا
نصل الى الكافتيريا ..
ان بخار القهوة ، في صبيحة مبكرة غائمة ، يمكنه ان يأسر
لبها بسحره ، فقط لان ذلك يمنحها طمأنينة وسلاما ، لاحدود
لعمقهما ..
وان ترى جسرا ، يحمل السيارات على ظهره ، اكثر جمالا
عندها من ان ترى جسرا تحمله السيارات - كسرا وقطعا -
لتفرغه بعد حين خارج المدن فوق الانقاض ..
كما انها تفضل بيتا عامرا بالدفء العائلي ، قائما بذاته
يأوي اهله في ظليل اركانه ، على بيت تأويه ذاكرة اهله
في ظلمات اركانها ، حين يصبح اثرا بعد عين .
لكنها اذا ترى بيتا يغادر حميمية جغرافيته ليسكن الذاكرة
فانها ، لاتتمكن من ان تمسك ، نفسها ، عن البكاء ..
هي اذن - ايضا - قصيدة ذات دموع ، ودموعها ساخنة .
انها قصيدة شريفة ، ذات نوايا شريفة ، تتطلع الى سلام صلب..
سلام يعمل الجميع - باستثناء الحكومات طبعا ، لان هذه لاشرف
لها ، وباستثناء مشعلي الحرائق ، لان هؤلاء قتلة - لاجل صنعه وارسائه ..
...................................................................

صوت..!!
ايتها القصيدة ..
هل اتاك حديث الدموع ؟؟
ان لم ................ فاخبريني ..!!
انا اتلوه على اسماعك
في لحظتك هذه .. !!
الدموع .............................!!
نحن نذرفها
وننتظر يدك الحريرية لتكفكفها
الدموع التي حفر مجراها
خدودنا
الدموع التي قيل انها تبرقع الهواء .
منذ ارم ذات العماد و حتى الفتى لوركا
والى لحظتنا هذه
انت .. لاتجهلين مبعث انهمارها ..

القصيدة ..!!
تتفتح القصيدة - لنفسها - على
مرأى من نفسها ، ومن الكون ..
تتفتح في صبيحة حانقة ، صبيحة
ملتبسة النوايا ، مضطربة الافكار
ولاتخصها ..
لاتسأل نفسها ، لماذا تختار مثل
هذا الوقت لكي تلد نفسها خلاله ..!!
ان اصغر حصاة .. اصغر برعم .. اتفه
حشرة ، تعرف الجواب .
تتطلع :
لاشيء معدا لها ..................؟؟
الديكور فظ .. خشن ............؟؟
تنتاب سريرتها ، خاطرة حنق
فتنزل ، على خدها الايسر ، دمعة
تنبثق عميقا من قلبها ..
رويدا تتفتح القصيدة ..!!
تحشد ، جماع افكارها ، لئلا تتيح
لمغرض ما ، ان يحشر ، فكرة ما ، مغرضة
بين تضاعيف معانيها ..
تلملم الافق بنظرة ، ثم تبعثره بنظرة ثانية ..
تتمتم مع نفسها ، بكلمات من اجتراح
اللحظة ، وتحدس تذبذب السماء ، فلا تعجبها
زرقتها الكاذبة .

منذ دهور ، وهي تحلم ان تكتب نفسها
بنفسها ، ولكنها كلما باشرت بذلك تدخل
الشعراء وعندئذ يفسد عمل مخيلتها ..

كانت تحلم ببساتين مورقة وعصافير تزقزق
وصبية يمشون حفاة دون الخشية من ان يجرح
زجاج النوافذ المهشمة اقدامهم ..
تحلم بفتيات ، لايحرق قلوبهن
موت من يحببنه ..
موته في حرب لايربحها احد
ولايخسرها الا الجميع ..
بمن فيهم اؤلئك الذين يشربون القهوة بالحليب
وهم مسترخون ، يتمتعون بشرفاتهم مساء
وينعمون بالسلام ،
على الجهة الاخرى من الكرة الارضية ..!

تود - لو انها بمعجزة ما - تصوغ نفسها
بعيدا عن تدخل المخيلة
فتتمطى على فراش من الزهر ..
تقترب رويدا من انبثاق نواياها
والبخار يتضوع منها ..
كما لو من حساء حار .!!

الحرائق تشوي المخلوقات ................. لكن
بلبل لاتعرف اسمه
ولاتعرف له عنوانا
او صندوق بريد ..
يستقر امام عينيها
على غصن شجرة محترقة ..
فينقذ المشهد
من جحيميته ..!!
ومع انها لاترى ايد تعزف عليه
فان الموسيقى
تنبعث منه ........................................؟؟
تنصت :
الموسيقى تنبعث
كما لو كانت موسيقى يوم سلم ....!!
اتراه ، غير مكترث بالحرائق ..؟؟
ام هو لايعي بغضاءها ..؟؟
ام اختلط عليه ايقاع زمنين ..؟؟
أأخطأ ، أغنيته ؟؟
أتوقيته مضطرب ؟؟

وغير مكترث ، بحيرتها ..
البلبل - معزوفا عليه بايد خفية - يمنح
الفضاء المحترق
نغمة سلم ........................................ !!

تتمتم القصيدة بسملتها .. تهمس بها همسا
تقول :
يانار ................................................!
يانار ................................................!
فتتوقف النار عن اوارها منتبهة .
فتكمل :
كوني بردا وسلاما على آل ابراهيم
هي لا تستثني احدا من الطرفين ....!!
ولاتنحاز الى احد من الطرفين
القصيدة ، ليست غبية ، او مغفلة ..
وتعرف من هم آل ابراهيم ................. ؟؟؟؟

صوت ..!!
ايتها القصيدة ..
هل اتاك حديث الجنون ؟؟
ان لم .............................................. فانا
الناجي الوحيد منه يمكنني
ان ....................... !!
انا تجرعت شوكرانه قسرا .................... ومن
قطرة من نكتارك - انت - اطلب
الشفاء ..
فانا نجوت ولم انج .................................؟؟

القصيدة ..!!
في صباح شحيح ..
تصنعه ازاميل الفوضى ..
لايحتوي على ماء ، او كهرباء ، او تلفونات
او على مواصلات ..
تجد القصيدة ، الكثير الذي عليها فعله .
ترتبك ؟
نعم ..!!
تداهمها لحظات يأس ؟
نعم ..!!
تأخذها الخشية
ان تساء دوافعها ؟
نعم ..!!
لكنها لاتتكاسل
وتبعد اليأس عن نفسها ......................... !!
تنصرف للتأمل قليلا
ثم تبترد خشيتها
ويزول ارتباكها .
اذ يفهمها الطفل ذو الذراع المبتور
وتفهمها الساقية المخربة اهمالا او قصفا
والجسر ذو الظهر المنقصم
والحقل المهمل في اوان نضجه
والتفاحات المتلألئة ، في المرج المنعزل
والسيارة المتفحمة امام البيت المتهدم
ورضاعة الحليب المدفونة بين الانقاض
ولعبة الطفل المكسورة ..
والعمارة الشاهقة التي لم تشفع لها
نواياها الحسنة ، فقصمتها القنابل
والطرفان المتحاربان ............................؟؟

صوت ..!!
ايتها القصيدة ..
( كأنك من صنع نفسك ..!!)
من علمك كل هذه الحكمة
وانت لم تذهبي الى اية مدرسة
لم تصغي الى اي فيلسوف
لم تدوني حرفا واحدا من قبل ..!!
يدي هذه بيضاء منك.. لم اضمها
تحت
جناحي من قبل لتصبح كذلك
انا لم اكتب حرفا واحدا منك
انا لست كاتبك او مدونك ........!!

القصيدة ..!!
تستجيب القصيدة لايحاء نفسها
كما يستجيب القلب لدفق نبضاته !!
تسلخ اهابها ..
لتتعرى في الهواء اللامع
وتتلبث مستسلمة لحبات المطر :
للقصيدة انوثة
لانوثتها رحيق ..!!
للرحيق سطوع
للسطوع شهقة
للشهقة اختلاجة
للاختلاجة ضوع
للضوع انحناءات افق مترف
يخلف قمرا من اسى شفيف
لامسية من حنان تنصرم
على مهل
لتضيع في دروب شتى ..
وللدروب نشيد من ذهب
وللذهب بريق مثمر
و ..........................................!!

للقصيدة قلب يتسع لاحتواء الجميع
وحتى لطرفين ملطخي الحراب بدماء
بعضهما .. !!

صوت ..!!
ايتها القصيدة ..
هل اتاك حديث الجنود ؟؟
اؤلئك الذين تسلقوا الجبل
وقطعوا السهل والواد ..؟؟
لاتغرنك المظاهر .......!!
ان هم الا فتية ابادت
قلوبهم امان بسيطة ..
وقلبت الايام نفوسهم المزبدة
بالحزن ، على بطانتها
حتى نشفت وجفت .

اكتافهم المتصلبة لم تسترح
من ثقل البنادق .
لم يفكوا ، انطقتهم منذ عاد
وثمود ..
لم يشربوا ، البيرة الا خلسة
من رؤسائهم - مزورة على
انها ماء - في زمزمياتهم

اي مختبر يمكن ان يحلل لنا
دموعهم ؟؟
ليعطينا الفرق بين دمعة
الشفق ودمعة الغسق ..!!
اية كافيتيريا ستظمهم مع حبيباتهم
وقد هجرنهم منذ مساء العماليق ؟؟
اية كافيتيريا ستضمهم ؟؟
ليعيشوا يوما دون اوامر
عسكرية ؟؟
اي سر رهيب ، يمكن ان يعفيهم
من حفظ - سر الليل - كعادتهم كل ليلة ؟؟
ايتها القصيدة ..
اعدي متكأ لرؤوسهم الضاجة بصدى
الطلقات ولمعان الحراب الخاطف
وامنحيهم سلاما مورقا ..
امنحيهم سلاما ، مضجرا ، بطرا ..!!
سلاما شغوفا بنفسه ومأخوذا بها ..
امنحيهم سلاما لاتنتاب قلبه
خاطرة ضعف
سلاما لايغدر بصاحبه او يخونه
او يخلعه او يدل القتلة عليه
او يتحالف معهم ضده ..!!

القصيدة ..!!
في عالم نافر .. لايحتضنها
القصيدة ، تحتضن ركبتيها
وتسرح ..!!
تسرح
مثل فتاة مراهقة ، تحتضن
ركبتيها ، وهي تجلس عند
الاستيقاظ - لحظة - على
فراش نومها
قبل الذهاب الى المدرسة

الفتاة تحلم بعسل الايام المقبلة
وعيني حبيب مغرم ، تأكلانها
اكلا ..!!
والقصيدة تحلم بعيني قاريء
مغرم تأكلانها ، اكلا ..
قاريء مغرم بالقصيدة المغرمة
به ، وهما الاثنان مغرمان باصباح
مغرمة بالطمأنينة المغرمة
بالامان المغرم باطفال نائمين
وهم يحلمون باجنحة ملائكية
حقيقية تأخذهم الى سماء
شديدة الرقة والحنو ..!!
اصباح ..
توقظهما من كسل لذيذ ، فيترددان
لحظة ، يزيحان بالثؤباء
خلالها ، كل نعاسهما ..
قبل ان ينهضا
للذهاب ، الى عملهما ، وهما ، لايفتآن يرددان :
السلام عليكم وعلينا وعليهم
السلام لكم ولنا ولهم ..السلام ، السلام ، السلام
السلام ..
ليس( السلام) العجول ، الضئيل، الصغير، انما :
السلا ممممممممممممممممممممممممممم ..!!
السلا ممممممممممممممممممممممممممم ..!!
ولماذا البخل ..؟؟
السسسسسسسسسسسلالالالالالالالالالاللام ..!!
يعني :
السسسسسسلالالالالالالاممممممممممممم ..!!

الولايات المتحدة/العراق