كانت رواية ياسر شعبان الأولى (أبناء الخطأ الرومانسي) من الروايات الثلاث التي أثارت ما عرف باسم أزمة الروايات الثلاث في المواجهة بين وزير الثقافة المصري والتيار المتأسلم، والتي عصف فيها الوزير برؤساء تحرير السلاسل الأدبية التي أصدرت هذه الروايات، وسحب الروايات من السوق. وهذه هي روايته الجديدة ننشرها هنا كاملة.

ابناء الديموقراطية

رواية

ياسر شعبان

 

 
إهداء: إلى صديقي المبدع والمترجم الجميل سيد عبد الخالق

قبل الكتابة:

بعد أيام من انتهاء هجمة قوات التحالف على العراق بمزاعم مختلفة، وخلال إحدى جولاتي بين باعة الكتب القديمة، اشتريت مجموعة من الكتب بمبلغ أظنه أرضى البائع فجاملني بمجموعة من الكتب كهدية، ووضعها في كيس من البلاستيك الأسود. وبعد أن وصلت إلى البيت أخرجت الكتب التي اشتريتها وقمت بتصنيفها لأضع بعضها في المكتبة والبعض الآخر أضعه في متناول يدي لأقرأه. ونسيت أمر الكيس البلاستيكي الأسود. ومرت أسابيع وهذا الكيس ملقى إلى جوار المكتب، حتى سألتني زوجتي هل تريد هذا الكيس، فسألتها عما يحتويه. وعندما فتحته ابتسمت ثم ناولته لي وهي تقول: كتب كالعادة..!! أخذت الكيس وأخرجت ما بداخله من كتب، وكانت جميعها بلا أغلفة، كأن هناك من تعمد نزع أغلفتها.. وكانت أوراقها صفراء متآكلة الحواف. تصفحتها تباعاً، وإذا بعيني تقعان على هذه السطور على سبيل الإهداء:

باسم الذين كتب عليهم الموت لأنهم جحدوا مبادئ الديمقراطية..

باسم من قضى نحبه وباسم من ينتظر.

باسم الدماء الزكية الطاهرة التي تخضبت بها رمال الصحراء في آسيا وأفريقيا..

باسم الدماء التي سفكها السفاحون فسالت أنهاراً..

باسم الشعوب التي اندثرت صروح ماضيها، وطواها الاستعمار في ردائه القاتم، فحق على أهلها لعنة قبور الآباء والأجداد..

باسم يوم الوعيد المنتظر الذي تخشع فيه الأرض رهبة وتفتح السماء جميع أبوابها لتستقبل الملايين من أرواح البشر..

ذلك هو يوم حصاد الأرواح على يد أبناء الديمقراطية...

 وعندئذ قررت قراءة هذا الكتاب/ الرواية لأكتشف أنه بمثابة محاكاة ساخرة لواقعنا الراهن من هجمة غربية على العراق، وتدخل في شئون الدول، والتلاعب بمصائر الشعوب، وخلط الدين بالسياسة، والكلام عن الديمقراطية كأنها اكتشاف، واستخدام المساجين والبلطجية كجنود في الحروب وكرجال شرطة في المظاهرات. وفاجأني هذا المؤلف (المجهول بالنسبة لي) بإدراكه العميق للمفارقات الشائنة التي تتبدى ليس للمتأمل بل لكل شخص قادر على التساؤل. وبعد الانتهاء من قراءة هذا الكتاب / الرواية، قررت كتابة رواية بعنوان " أبناء الديمقراطية "، متناصاً معها في الجانب التاريخي الساخر.

 وكذلك قررت إهدائها إلى هذا المؤلف المدهش الذي استطاع قبل عدة عقود أن يكتب مستشرفاً ما سنواجهه بكل هذه المرارة والسخرية.

أيها المعلم

أهديك روايتي

التي هي امتداد لروايتك

 ولك كل التقدير

 ياسر

* * * * *

لست نبياً أو مرسلاً، ولكنني مجرد إنسان مذنب يحمل رسالة لا يعرف فحواها أ وجدواها.. وحكايتي تبدأ ليلة إعلان الحرب على العراق "فعلياً كان ذلك ليلة اصطدام الطائرتين ببرجي التجارة في أمريكا، ولكنني الآن أعتبر أن هذا الحادث كان تمهيداً ليس فقط لضرب أفغانستان بل لغز والعراق واستعماره ". كانت الشوارع شبه خالية، فقد احتشد الناس أمام شاشات التليفزيون وعلى وجوههم ذلك التعبير الذي كثيراً ما صادفته وأطلقت عليه "انفعال المتعلقين بالأمل في الخلاص".. (فعند اصطدام الطائرتين ببرجي التجارة ظن الناس ذلك انتصاراً، وعندما بدأت الحرب على العراق قالوا ستكون فيتنام أخرى). وتركت الجميع للجلوس شبه منومين أمام شاشات التليفزيون، واتجهت إلى البحر حيث جلست على الرمال محدقاً.. فقط محدقاً، وظللت هكذا حتى أشرقت الشمس، فقررت التوجه إلى أقرب مقهى لأتناول طعام الإفطار وأشرب شاياً، وأدهشني أن رواد المقهى ما زالوا يتحدثون عن اصطدام الطائرتين ببرجي التجارة، والانتقام الإلهي ونبوءة " نوستراداموس "، وبداية النهاية للإمبريالية الأمريكية. والكلام ذاته ردده المذيعون والمحللون على شاشة التليفزيون. وسيطرت علي رغبة عارمة في الاختلاء بنفسي لأكتب، ولم أعرف لحظتها هل سأكتب، أ وعن أي شيء سأكتب، وكيف وأين... فقط سيطرت علي تلك الرغبة التي تجعلني لا أفعل أي شيء سوى الجلوس أمام الورق حتى لواكتفيت بالشخبطة ورسم الوجوه الطوطمية والدوائر... الكتابة.. طقسي التطهري عندما أشعر بالضعف، بعدم القدرة على الفعل أ والقول.. طقسي التطهري الذي يبدأ بترديد هذه السطور:

 رعب أكبر من هذا سوف يجيء

فانفجروا أ وموتوا....

طقسي التطهري الذي أجلد فيه نفسي.. أطأ الجمر وأتابع انبجاس الدم من جروح خلفتها الأشواك التي أنزعها وأغرسها مرة بعد أخرى.. طقس تطهري، فأنا مذنب.. مجرد إنسان مذنب.. أشعر أنني أحمل رسالة لا أعرف فحواها أ وجدواها...

* * * * *

وحكايتي تبدأ ليلة اندلاع الحرب على العراق، عندما كنت أتابع أخبار الحرب على الإنترنت " بوصفي كائناً معلوماتياً رقمياً ".. وإذا بإشارة من الكمبيوتر تنبهني إلى وصول رسالة إلكترونية إلى صندوق البريد الخاص بي..

 سيدي المحترم

أنا مواطن أمريكي من أصل عربي، هاجر والدي إلى أمريكا قبل نصف قرن حيث تزوج إنجليزية، وكثيراً ما كان والدي يحكي لي عن طفولته على ضفاف أحد الأنهار العربية "لا أستطيع أن أتذكر اسمه الآن"..  وبعد موت والدي وجدت هذه " الرواية " المكتوبة بخط اليد وباللغة العربية، ولأن الورق كان قديماً للغاية ويكاد يتفتت، قررت أن أكتبها على الكمبيوتر لكنني واجهت مشكلتين:

الأولى: عدم قدرتي على المتابعة بالعربية لجهلي باللغة وعدم امتلاكي لـ"لوحة مفاتيح" عربية،

والثانية: خوفي أن يطلع عليها أحد لأنني لا أعرف فحواها أو جدواها.

وهكذا قررت أن أقوم بتصويرها " I decided to scan it" وإرسالها إلى بعض العناوين البريدية التي تحمل أسماء عربية.. ويعني ذلك أنها ليست مرسلة لك وحدك، وكذلك أنني لا أعرف أحداً ممن ستصلهم هذه الرواية رغم احتمال وجود قريب لي بينهم..

تحيتي وتقديري.

 وانتهت الرسالة، ورغم أنني لم أهتم بفحواها أو جدواها، لم أحذفها كما أفعل عادة، بل غامرت بفتح الملف المرفق به الرواية ـ حسب زعم هذا المرسل الغامض ـ رغم ما قد يحمله ذلك من فيروسات قد تفسد جهاز الكمبيوتر، وتتسبب في فقداني لجزء من ذاكرتي المعلوماتية الرقمية الكونية. لكنه الفضول ربما.. أوالشعور الغامض بأنني بحاجة إلى رسالة لا أعرف فحواها أو جدواها ليتعمق داخلي الشعور بالذنب.

ومنذ السطور الأولى شعرت أنني على وشك التورط في كتابة أقرب إلى التعويذة، فلقد بدأت هكذا:

باسم الذين كتب عليهم الموت لأنهم جحدوا مبادئ الديمقراطية.

باسم من قضى نحبه وباسم من ينتظر.

باسم الدماء الزكية الطاهرة التي تخضبت بها رمال الصحراء في آسيا وأفريقيا.

باسم الدماء التي سفكها السفاحون فسالت أنهاراً.

باسم الشعوب التي اندثرت صروح ماضيها وطواها الاستعمار في ردائه القاتم، فحق على أهلها لعنة قبور الآباء والأجداد.

باسم يوم الوعيد المنتظر الذي تخشع فيه الأرض رهبة وتفتح السماء جميع أبوابها لتستقبل الملايين من أرواح البشر.

ذلك هو يوم حصاد الأرواح على يد أبناء الديمقراطية.

باسم هؤلاء جميعاً أكتب عن رسل الديمقراطية "حاصدي الأرواح".. أنا المذنب الهالك بسبب رسالة لا أعرف فحواها أو جدواها ورغم ذلك سأدونها، ربما من أجل من هلكوا ولم يقرءوها أو هؤلاء الذين سيهلكون رغم قراءتها.

 وعندئذ قررت أن أرسل له مستفسراً ربما "عنه ـ عن الرواية ـ عن أبيه"، وضغطت على Reply وكتبت:

 صديقي

 لا أعرف من أنت

لا أعرف هل أنت شخص حقيقي. أم جزء من الواقع الافتراضي الذي يحيط بنا.

لا يهم.. لكنني أشعر بعلاقة غامضة تربطني بما أرسلته

 ولا أعرف ـ كالعادة ـ هل أطلب منك مزيداً من التفاصيل ؟

هل أطلب منك أن ترسل إلي أية أوراق تخص والدك؟

صديقي..

هل تريد التواصل معي ولوعبر البريد الإلكتروني؟

هل تريد أن نبتدع واقعاً افتراضياً خاص بنا، نعيد خلاله تشكيل مفردات الواقع وتبديل المقدرات والعبث بالأحداث التاريخية؟

في انتظار ردك..

واسمح لي أن أطلع على رواية والدك "هل بمقدورك ألا تسمح؟"

وإلى لقاء افتراضي..

* * * * *

... هبطت مدينة الإسكندرية ظهر اليوم الثامن من شهر مايو سنة 1945، وكان نبأ استسلام ألمانيا في الحرب العالمية الثانية قد أعلن في اليوم السابق على هذا التاريخ وأذيع النبأ في كل مكان وكان له صداه في مدينة الإسكندرية. فقد وجدتها تموج بعشرات الآلاف من جنود الدول المتحالفة. كانوا يسيرون في الطرقات على غير هدى، ينشدون بلغات مختلفة. وبعضهم يرقص على نغم الأكف، ويخيل لمن يراهم أنهم قد حصلوا على عفو بعد حكم قضى بإعدامهم. ورأيت أن أختلي بنفسي، فاتجهت إلى ركن قصي بأحد المقاهي حيث أطفأت النور لأجلس محدقاً في الظلام لأجمع أطراف ما أرغب في كتابته تحت غلالة الصمت السوداء. وفجأة تعكر صف والمكان، فقد سمعت جلبة ووقع أقدام بداخل المقهى أعقبهما صياح، فنظرت متلصصاً من خلف ستار النافذة الداخلية فوجدت على مقربة مني شرذمة من بحارة الأسطول الإنجليزي يهتفون احتفالاً بالنصر.. لتحيا الديمقراطية.. لتحيا الديمقراطية، وبعد تكرار هذا الهتاف انطلقوا ينشدون:

 أيتها الديمقراطية

 تراث الخلد يا تاج السنين

 ورثنا المجد لسنا غاصبين

 وحول العرش نهتف طائعين

 جنوداً في سجل الخالدين

 قطعنا البحر كنا ظافرين

 وفى الأعناق أطواق اليمين

 بطهر الاسم نعلوا الساجدين

 وويل للعصاة الجاحدين

واستمروا في ترتيل هذا النشيد مرات ثم نادى أحدهم زميلاً له قائلاً:

أتذكر يا " ماكسويل " يوم أن كنا في بحار الجنوب منذ عامين وأمسكت بذلك السعف المضفر الذي التقطناه من على سطح الماء وأخذت تقهقه ضاحكاً وكلما سألك أحد منا عن سر الضحك، كنت تعود إليه مرة ثانية وقد أقسمت بعد هذا إن نجوت من الحرب سالماً ستفضي إلينا بسر الضحك وتقص علينا قصة "أبناء الديمقراطية".

وحينما أجاب البحار المخاطب، رأيته جالساً على منضدة وقد دلى ساقيه باسترخاء، وأجاب قائلاً:

ـ اغفروا لي هذا القسم فإنه يكشف عن سر لا أستطيع أن أبوح به، وقد عاهدتكم في ذاك اليوم لأنني كنت قريباً من الموت الذي كنت أسمع نداءه صادراً من قاع المحيط في كل لحظة.

لكن البحارة أبوا أن يستجيبوا لرجائه وارتفعت أصواتهم تطالبه بالوفاء بما عاهد به.

فصاح في ضجر قائلاً:

ـ إن الذي تطلبون سماعه مجهول لكم، ولوأدركتم مدى خطورة كشف هذا السر لقبلتم رجائي مرغمين. إن في إذاعته خطراً يهدد كيان الإمبراطورية في المستعمرات والدول التي استقلت منا بمعاهدات.

واستطرد قائلاً:

ـ وقد أقسمنا نحن "آل ماكسويل" أن نحتفظ بهذا السر وإلا فنحن خائنون للوطن.

 وعندما سمع زملاؤه هذا القول تهامسوا فيما بينهم لحظات، ثم ركبوا رءوسهم واندفعوا في جنبات المقهى آمرين الرواد بمغادرته. وتولى ثلاثة منهم أمر العاملين بالمقهى، واقتادوهم إلى الخارج , بينما هرول صاحب المقهى في كل مكان مجادلاً دون أن يسمع لجداله أحد. ومضت لحظات من الهرج انتهت بطرد جميع الرواد والخدم، ثم تتابع البحارة والتفوا حول المنضدة التي جلس إليها " ماكسويل ". وظل صاحب المقهى خلف ظهورهم دون أن يتوقف عن الكلام والجدال وتسبب صوته في إخفاء الحديث القصير الذي دار بينهم. ثم رأيت أيديهم تضع نقوداً في يد صاحب المقهى الذي خرج بعد أن وعدوه بالحفاظ على محتويات المقهى. وبعد خروجه التقط سمعي صرير الباب الخارجي وهو يغلق من الداخل. ولقد كانت أمامي فرصة ذهبية لأهرب فيها أمام أبصارهم إلى الخارج ولكنني أطعت الفضول وظللت حبيساً في الظلام وعندما تم لهم ما أرادوا، حملوا "ماكسويل" على الوفاء بوعده بأن يفضي لهم بهذا السر الخطير.

وظل " ماكسويل " لبرهة يتلفت يمنة ويسرة ويصوب بصره نحوالسقف كمن انتوى ارتكاب جرم ويخشى عقابه، ثم جذب ساقيه ووضعهما فوق المنضدة وبدأ قصته قائلاً:

- إنها قصة جدي الأكبر "ماكسويل" الذي عاش حتى نهاية القرن الثامن عشر، فقد رواها لأبنائه ودونها في مذكرات آلت إليَ أخيراً، وحفظتها عن ظهر قلب. ولم يترك ميراثاً للعائلة سوى هذه القصة وكنوز ما زالت مخبأة داخل جزر وأحراش مات دون الاهتداء لمكانها. وكان يفخر بأنه ولد على ظهر مركب، فأبوه كان صياداً، وفي يوم حملت أمه الطعام لأبيه؛ ففاجأها المخاض ليولد على ظهر المركب. ورغم أنه كان وحيد أبويه، فلقد وهبته الحياة قوة فشب يكافح أمواج البحر حتى تغلب عليها وحمل اسم "القرصان الصامت". ولم يكن يحلم بأن يطوف البحار تحت علم القرصنة حتى وقع ذلك الحادث الذي غير مجرى حياته. فعندما بلغ الحادية والعشرين من عمره. كان الفتى المرموق بين فتيات القرية. فقد كان وسيم الطلعة.. مفتول الساعدين.. قوي البنية. كان فخراً لأهل "قرية الصيادين" التي كانت إحدى ضواحي "ليفربول" ثم امتدت إليها المدينة وابتلعتها من زمن. وكان لوقع خطواته في طرقات القرية رنين في آذان الفتيات، ومع هذا أعرض عن حبهن عدا فتاة يتيمة الأم تدعى "ماري" وكانت تعيش مع أبيها صاحب المطعم الوحيد بالقرية. ولقد أفاض جدي في مذكراته في وصف جمالها، وكيف أحبها حباً ثرثر به عجائز القرية وتهامس به الشباب وتغنى به الأطفال.

وظهر أحد الأيام اقتحم "جدي" باب المطعم وقد تلطخ وجهه بالدماء أثر مشاجرة على الساحل بسبب تناول علاقته بـ "ماري " بتهكم، وتغلب خلالها على اثنين من أقرانه وقد علقت دماؤهما بوجهه، وعندما رأته "ماري" ظنت أن مكروهاً أصابه فهتفت في خوف قائلة:

- عزيزي " ماكسويل "...... ماذا أصابك ؟

كانت تسير حاملة الطعام لبعض الزبائن، فتعثرت وانكفأت على وجهها ونظراتها مشدودة إلى وجه جدي، فتناثر ما في الأطباق من حساء ولحم على ثلاثة من رواد المطعم كانوا يتناولون طعامهم، فانفجروا غاضبين ومترحمين على الفضيلة وشاركهم في هذا باقي الرواد وانصرفوا جميعاً تاركين طعامهم على الموائد. وهكذا خلا المكان على جدي و"ماري" وأبيها وحاول جدي التدخل لحمايتها من ضربات أبيها. ودفعه بعيداً فارتطم جسده بأحد المقاعد ونهض متثاقلاً وفى عينيه غضب حزين. وعندئذ أدرك جدي أنه أخطأ فأخذ يتوسل إليه بأن يعفوعنه. ولكن أباها صم أذنيه وأمره بمغادرة المطعم.

* * * * *

وسمعت صوت صفارة تفيد بوصول رسالة إلكترونية فتركت الرواية للاطلاع على هذه الرسالة وبي رغبة أن تكون من هذا الصديق الافتراضي. ولم تكن رسالة واحدة، بل كانت مجموعة من الرسائل تحمل موضوعاً واحداً، وهو(الحملة العالمية ضد الحرب "الأنجل وأمريكية" على العراق)، وهي عبارة عن دعوة للانضمام إلى هذه الحملة بالتوقيع بداية على أحد البيانات ثم المساهمة بالكتابة أو بتنظيم اللقاءات والمظاهرات والمشاركة بما يساهم في فضح الأهداف الفعلية للحرب على العراق، بعيداً عن المزاعم بوجود أسلحة دمار شامل أو بتورط النظام العراقي مع الجماعات الإرهابية خاصة تنظيم "القاعدة" أو حتى الترويج لدعاوى الإصلاح ونشر الديمقراطية في المنطقة العربية. وقعت دون تردد، ودهشت عندما وجدت أن توقيعي جاء بعد أكثر من نصف مليون توقيع وأحزنني أن المساهمة العربية لم تتجاوز الألف توقيع.. حتى في التظاهرات الافتراضية نحن متخاذلون وكأن الأمر لا يخصنا وكأننا لسنا مستهدفين...!! ووجدت داخل الرسالة مجموعة من الروابط "links" التي قادتني إلى مواقع مناهضة للعولمة والإمبريالية والنظام العالمي الجديد والحرب الأنجلو-أمريكية، وداخل تلك المواقع وجدت روابط أخرى قادتني إلى مواقع أخرى عن الإسلام وحوار الأديان والحضارات وحقوق الإنسان وحرية التعبير وحقوق الأقليات... مواقع من داخل مواقع، نشرات وبرامج ومشروعات وتمويل، مواقف ومواقف مضادة..... واقع افتراضي مذهل، لكن المثير للدهشة والغضب أننا في هذا الواقع الافتراضي نقتات على الفتات رغم أننا مستهدفون....!!

* * * * *

وظل المطعم مغلقاً لخمسة عشر يوماً، خلالها حبست "ماري" داخل حجرة لا نوافذ لها حتى لا ترى حبيبها. وبعد فترة قصيرة باع أبوها المطعم بثمن بخس ورحل بها تحت جنح الظلام إلى " ليفربول". وعندما علم جدي بالخبر قطع المسافة عدواً حتى وصل إلى الميناء فوجدهما قد استقلا سفينة أبحرت إلى أمريكا الشمالية قبل وصوله بساعات. ومضى عليه عام أدمن خلاله شرب الخمر، فلقد فارقته حبيبته. ثم توفى والده. وبعدها باع المركب التي ورثها عن أبيه. حتى القرية ضاقت به فقد كان الأطفال يطاردونه مرددين أغنيات الحب وقد استبدلوا باسميهما أسماء العشاق التي خلدتهم مثل تلك الأغنيات. وكان يقضى معظم أوقاته متنقلاً بين حانات " ليفربول " ينتظر أخبار "ماري" وقلبه يحدثه بأنها ستفي بالوعد الذي قطعته على نفسها. وصدق حدسه، فلقد جاءته منها رسالة تخبره بأنها تعيش مع أبيها في "بوسطن" وتطلب منه الحضور فقد ساءت صحتها بعد رحيلها. وأخبرته أن أباها قد وافق على زواجها منه وتأكيداً لذلك وقع أبوها على الرسالة وكتب بخط يده:

ـ ابني العزيز.. صفحت عنك. أرجوأن تحضر سريعاً.

ووجد " ماكسويل " بعض المال مرفقاً بالرسالة وملفوفاً في ورقة مكتوب عليها "نفقة السفر". وفوق أول سفينة سافر "جدي" في أول رحلة يعبر فيها المحيط. وظل طوال الرحلة صامتاً ومحدقاً في خط الأفق، بينما روحه لم تتوقف عن مناجاة حبيبته. وفي منتصف الرحلة اعترضتهم "سفينة قراصنة"، وعن هذا الحادث قال في مذكراته:

" في الليلة الرابعة عشر بعد رحيلنا من ليفربول وكان الظلام يكتنف المحيط , فوجئت بارتطام سفينتنا بجسم صلب اعتقدت بأنه جبل من الثلج، لكن جرس الخطر أخذ يدق وارتفع صوت البحارة يردد كلمة واحدة "القراصنة.. القراصنة". وإذا بثلاثة بحارة يصعدون على ظهر السفينة وقد حمل كل منهم في يديه أسلحة بيضاء وألقى إليَ بـ "سيف". وحتى هذه اللحظة لم أكن مخططاً للحرب، وتلاصقت السفينتان فقاتلت قتال من جن وقضيت على ثمانية من القراصنة وأصبت بجرح في كتفي. وتشجع الملاحون وبعض المسافرين الذين انضموا إليهم فقاتلوا بشدة، ثم فوجئت بشخص يقفز فوق كتفي ويهوي بي من على ظهر السفينة إلى الماء، وكان منافسي على كأس الحياة قوياً يجيد السباحة فاستمر النضال على الفوز بهذه الكأس فترة طال أمدها وحينما افترق عني في الطريق إلى قاع المحيط بحثت عن السفينتين فلم أجد لهما أثراً. وأخذت أسبح على غير هدى مدة من الزمن لم أعلم مداها وإذا بصوت يلتقطه سمعي قادماً من مكان بعيد فسبحت نحو مصدره وكلما اقتربت منه كان الصوت يعلو منادياً بنطق إسباني "فرانشيسكو.. فرانشيسكو" وحينئذ أدركت بأن سفينة القراصنة على مقربة مني وأن غريمي الذي ابتلعه المحيط لم يكن قرصاناً أجيراً على ظهر السفينة ولذلك ظلت تبحث عنه. وقد أخذ المنادي يهتف بهذا الاسم وطافت السفينة حولي عدة مرات ثم سمعت ارتطام جسم بالماء وتلاه آخر وثالث ورأيت ثلاثة أشخاص يغادرون السفينة وبيد كل منهم مصباح وقد هبط كل منهم في زورق وسارت الزوارق الثلاث كما تبينتها من نور المصباح في اتجاهات مختلفة وقد وقف حامل المصباح في مقدمة كل زورق منادياً فرانشيسكو.. فرانشيسكو. ولقد أدركت أن بكل زورق شخصاً آخر كان يقوم بالتجديف. وما إن رأيت ذلك دبرت أمراً وسبحت بعيداً عن السفينة بدون صوت واقترب مني أحد الزوارق فسبحت تحت الماء على عمق لا يترك أثراً على صفحة الماء يظهره نور المصباح. وقدرت مسافة يمر فيها الزورق فوق مني ولبست ثوب اللعب الذي أرتديه مع شباب القرية حينما أستولي على زورق أحدهم وأدعه يسبح خلفي. وقد تم الأمر وكأني أعبث مع أصدقائي غير مدرك بأني ألعب لعبة خطرة، ولكنها كانت تساوي حياتي. فدفعت الزورق من جانبه إلى أعلى فقذف ما في جوفه إلى الماء. وبنفس السرعة أعدته إلى وضعه قبل أن ينقلب ثم دفعته إلى الأمام بقوة وقفزت فيه من الخلف وكان به مجداف فجدفت مبتعداً به وارتفع صوت القرصانين من خلفي يصيح أحدهما بالفرنسية والثاني بلغة أسبانية وقد جدّا في السباحة خلفي ولكني كنت بعيداً عنهما.

وعندما أطلقت سفينة القراصنة مشاعل من فوق ظهرها كي تنير سطح الماء بحثاً عني، كنت أرى وميض الشعاع وأنا مندفع بالزورق داخل حلقة الظلام وظل الأمر مدة ثم انطبق الظلام من كل جانب وكأني الوحيد بهذا المحيط وحينئذ شعرت بالوهن فقد كان بكتفي اليسرى جرح لم أشعر بألمه سوى في اللحظة التي تحققت فيها من نجاتي , فتمددت في الزورق وغلبني النوم وتركت مصيري معلقاً بيد الأقدار. واستيقظت في ظهر اليوم التالي على يد تلمس رأسي وفتحت عيني بفزع فوجدت شخصاً يتفرس في وجهي وسألني عن اسمي ووطني فأجبته، وطلب مني أن أنهض. وحينما رفعت رأسي رأيت سفينة تحمل العلم الإنجليزي، وبجوار هذا الشخص اثنان آخران وقد ربط زورقي إلى زورقهم وصعدت إلى السفينة وجذب زورقي إلى سطحها. وكانت سفينة بضائع، واستجوبني قبطانها ولكنه لم يصدق روايتي وحجته في هذا أن سفن القراصنة لم تكن ترتاد هذا المكان إلا إذا كانت ضالة في البحار أومطاردة من وحدات الأسطول.

* * * * *

صفارة أخرى ـ رسالة أخرى ـ متنفس افتراضي آخر لطاقة الغضب والعجز والضحك والشجن والنسيان.. واقع افتراضي يجعلك جزءاً افتراضياً من عالم كنت تتمناه وتشير إليه بـ "هناك". رسالة جديدة من موقع يحمل اسماً ملفتاً "المفيد للباحث عن مزيد: كيف تحمل لقب إرهابي". ودون تفكير ضغطت على الرابطة الخاصة بهذا الموقع لأجد نفسي أمام عشرات الموضوعات ومررت على عناوينها سريعاً قبل أن أختار مقالاً يحمل هذا العنوان "ملهاة الألفية الثالثة":

هذه هي المشكلة.. أمريكا في حالة حرب ضد أناس لا تعرفهم، لأنهم لا يظهرون كثيراً على شاشة التليفزيون. وقبل أن تتعرف بدقة أ وحتى تبدأ في تفهم طبيعة عدوها , تعجلت الحكومة الأمريكية، بضغط من الهياج الجماهيري والبلاغة الخطابية المؤثرة , وقامت بالدعوة إلى تحريك جيشها وقواتها الجوية والبحرية ووسائل الإعلام ودفعت بها إلى المعركة. وتكمن المشكلة أنه بمجرد ذهاب أمريكا إلى الحرب لن تستطيع الرجوع دون محاربة أحد. وإذا لم تجد عدوها , سوف تصنع عدواً لترضي الجماهير الغاضبة عند العودة للوطن. وبمجرد أن تبدأ الحرب , ستكسب قوة دافعة ومنطقاً وعدالة خاصة بها , لدرجة أننا لن نذكر لأجل ماذا أعلنت الحرب في البداية ... ... كرة الثلج – نيران الحقد المقدسة – أعداء الحرية والديمقراطية – الإرهابيون.. كلمات في أروع حالات تجسدها تظل افتراضية وتصبح مصدراً لإثارة السخرية والتهكم عند استخدامها بثقة مفرطة للإشارة إلى شيء أو إلى مفهوم أو آخر غير واضح المعالم.

          قمت بتمرير الرسالة إلى صديقي الافتراضي، وما إن فعلت ذلك حتى شعرت بالغباء فهو كما جاء في رسالته لا يعرف العربية، وكذلك لم يكلف نفسه عناء الرد على رسالتي السابقة.

* * * * *

وبعد ذلك تم تسليم جدي "ماكسويل" إلى السلطات، وبعد التحقيق معه تم الإفراج عنه. وبعد شهور معدودة كان اسمه على لسان كل فرد سمع بقصة نجاة السفينة التي استقلها من "ليفربول" بفضل شجاعته، وقد بالغ القبطان في وصف تقريره بأن جدي قضى بسيفه على عشرين من القراصنة. وقد ألحق بهم الهزيمة ففروا بسفينتهم ثم مات ميتة الأبطال بعد أن قذف به الأعداء إلى اليم. لكنه لم يمت. وهكذا تم استدعاؤه ليكون جندياً في الأسطول، لكن الملك أنعم عليه ومنحه رتبة ضابط البحرية. وهكذا أصبح جدي الأكبر ضابطاً في الأسطول الإنجليزي.

ولم ينس " ماري " وطلب منحه إجازة يذهب فيها إلى "بوسطن" حتى يتسنى له عقد قرانه عليها. وبعد صعاب أجيب إلى طلبه وسافر إلى " بوسطن" وبحث عن عنوانها الذي ذكرته. فسأل عنه أول شخص صادفه وكانت دهشته بالغة حين سأله ذلك الشخص إذا كان يعني بهذا العنوان المنزل الذي كانت تقيم فيه "ماري" حبيبة "ماكسويل"، وعقدت الدهشة لسان جدي فسأله عن سر شهرتها. فأجابه بأن الشارع الذي كانت تقيم به سمي باسمها تخليداً لذاكرها، وأن الرصيف الذي رست عليه السفينة التي أنقذها حبيبها أطلق عليه "رصيف ماكسويل"، وصنعت له تمثالاً ما زال في مدخل هذا الرصيف. وأخبره أيضاُ بأن الصدمة كانت قاسية عليها فلم تحتمل خبر وفاته، فتوفيت بعد شهر من بلوغها نبأ استشهاده. أما أبوها فقد عرض عليه أصحاب السفينة التي مات مدافعاً عنها، عرضوا عليه وظيفة بالشركة في "بوسطن" لكنه رفض وهاجر إلى الغرب.

وأخذ هذا الرجل يسأل جدي عن حقيقة الأنباء التي وردت من إنجلترا بأن "ماكسويل" ما زال على قيد الحياة وأنه أصبح ضابطاً في الأسطول , ثم أخذ يدقق النظر في وجهه منادياً المارة:

ـ إنه البطل "ماكسويل".. أقسم أنه هو.. نفس الوجه الذي وصفته "ماري" للمثال.

ويقول جدي في مذكراته:

لم أر وجه أحد ممن كانوا يعانقونني، أو يلتفون حولي، وجه واحد لم يفارق بصري هو وجه "ماري" يوم أن دخلت المطعم لآخر مرة، وقد أفلتت زفرات الحب لسانها فهتفت في جزع على الملأ قائلةً:

- عزيزي "ماكسويل"! وعيناها عالقتان بي وأبوها يصفعها بكلتا يديه.

وحملت نفسي وزر ما أصابها , فقد كنت السبب في تعاستها ثم جاء القرصان وقضى على حياتها. لقد خاب أملى في الحياة فقد تصورتها خلال الرحلة وأنا متنكر في شارب طويل. ودار بيني وبينها حوار أخفيت فيه معالم صوتي:

ـ هل أنت الفتاة التي تدعى "ماري"؟

ـ نعم يا سيدي.

ـ هل تعرفين شخصاً يدعى "ماكسويل"؟

- نعم.. نعم.. إنه حبيبي.

- أتحبين هذا الصعلوك.. لقد سرق تاج الملكة وهرب به من إنجلترا وجاء ليهديه لك، وقد جئت لأقبض عليك.

- وأين هو الآن؟

- إنه أمامك يا "ماري".

ولطالما رددت هذا الحوار على ظهر السفينة آلاف المرات بيني وبين نفسي، ولما لم أجد من يحاورني ضاقت بي الأرض، ولو أنى خيرت في هذه اللحظة بين عرش إنجلترا وبين روح هذا القرصان اللعين لاخترت أن أزهق روحه وأعدم شنقاً. وهكذا بنى جدي مستقبله على كأس يشربها من دم القرصان. وجاهد رجال الشرطة في تفريق هذه الجموع الحاشدة التي أحاطت به، فقد عطل الناس أعمالهم وهرعوا من ديارهم ومتاجرهم ليروا البطل المغوار الذي ظل في مكانه مسمر القدمين. ثم سأل عن قبرها، فأخبروه أنه خارج المدينة وأحضروا له عربة لكنه رفض ركوبها. وسار على قدميه وسط هذا الموكب. وعن ذلك الموقف قال في مذكراته:

كان يخيل إلي بأنني ميت وأن هذه الجموع جاءت تشيعني إلى مقري الأخير.  ووصل القبر بعد ساعتين من السير. ولم ير بنيانه فقد وضع الأهالي عليه هرماً من الزهور. وعند القبر صلى وأقسم بأنه سينتقم لها من هذا القرصان أينما كان على ظهر البحار.

* * * * *

وهنا قررت أن أتدخل في هذا النص. لأن موقف هذا الـ "ماكسويل" غريب، فلقد ابتدع لنفسه عدواً يفرغ فيه غضبه على اندفاعه الأحمق الذي تسبب في قرار الأب بإغلاق المطعم ومغادرة إنجلترا كلها ومعه ابنته "ماري"، وغضبه كذلك من الموقف المتعنت من هذا الأب، واحتجاجه على ألاعيب القدر. وهكذا أصبح القرصان عدوه ـ رغم أن معركتهما جعلته يصبح بطلاً وضابطاً وعاشقاً مشهوراً ـ الذي عند القضاء عليه ستقر حبيبته في مثواها الأخير ويتطهر هو من كل آثامه ليستكمل حياته وقد تملكته خفة الكائن التي لا تحتمل..!!

* * * * *

وقضى ليلة لم يذق خلالها طعم النوم بعد أن رفض مستر "ليفي" أن يمنحه سفينة يطوف بها البحار بحثاً عن ذلك القرصان، وكذلك نبهه أنه سيعد هارباً من الخدمة لأنه ضابط في البحرية الإنجليزية. وهكذا فكر أن يستولي على سفينة مهما كلفه الأمر، فقد رسم لنفسه طريق العودة إلى إنجلترا مصمماً على القيام بحركة تمرد على ظهر سفينت،ه ويطلق لها العنان في البحار حتى يعثر على هذا القرصان. وطاف يسأل عن مكان القراصنة، والطريق التي يسلكها حتى يهتدي إليهم. وأشاروا عليه أن يقصد "الملكة" صاحبة ملهى يسمى باسمها فقد كانت عشيقة لأحد القراصنة. وقد رافقته على ظهر البحار لسنوات ثم استقر بها المقام في "بوسطن" بعد مقتله. وتوجه إلى مقرها وأفضى إليها بسره. وإذا بها تمطره بوابل من السباب وكأنها ودت أن تأخذ بثأر حبيبها منه. وعندما لم يجد من ورائها نفعاً يرجى ترك ملهاها وتوجه إلى النزل الذي كان يقيم به. وتنازعته أفكار مضطربة , فلم يجد جواباً شافياً عند أحد، ورأى أن الطريق التي تفصله عن القرصان بعيدة ومظلمة، وأقنع نفسه بأن يعود إلى البحرية ويظل على وعده الذي قطعه على نفسه عند قبر حبيبته ويرتدى ثوب الأبطال حتى تسند إليه قيادة الأسطول فيطارد القراصنة وينتقم منهم جميعاً.. وطابت نفسه لهذه الصور التي تتراقص في مخيلته حتى غلبه النعاس.

وفجأة استيقظ على طرق باب الحجرة. فاستفسر عن الطارق. سمع صوت امرأة ترجوه أن يأذن لها بالدخول. وبعد أن أغلق الباب رفعت نقاباً عن وجهها. وعلى ضوء المصباح تذكر بأنها الفتاة التي كانت تقف بجوار الملكة عند سؤاله لها. وأخبرته الفتاة بأن اسمها "إيزابيلا" وأنها شقيقة الملكة وقد شاركتها طواف البحار وقد أحبت قرصاناً يدعى "فوكس" ثم قضت عامين في ملهى الملكة. هربت خلالهما ثلاث مرات كي تلحق بحبيبها ولكنها لم تستطع فقد أعادتها الملكة إلى جحرها. ولقد أدركت قصده أثناء حديثه مع شقيقتها، فسعت إليه كي يفتح لها الطريق إلى "فوكس" وفي مقابل ذلك يقوده حبيبها إلى خصمه. وقد كانت صفقة خاسرة لعائلة "ماكسويل" فما زالت العائلة تعانى الفقر والحرمان بسبب هذه الصفقة.

* * * * *

صفارة متقطعة وضوء أحمر أسفل الشاشة.. لقد تعرضت للهجوم، تم اختراق جهازي، سقطت أنظمة الحماية التي طالما يخبرنا المتخصصون أنها الأفضل، وأنها قادرة على منع الجواسيس والقراصنة. ورغم ذلك تعرضت للهجوم، وأظلمت شاشة الكمبيوتر لثوان معدودة قبل أن تضيء مجدداً ويظهر الموقع الخاص بالحكومة الأمريكية وقد تناثرت عليه بقع الدم وتوالت عليه صور ضحايا الحرب وفجأة تتدافع الطائرات عبر الموقع لتصطدم تارة بما يشبه برجي التجارة أو تقصف مواقع مدنية أو تتبادل القصف فيما بينها.. وأخيراً تجلجل ضحكة ويظهر " تنين" عجوز ليقول: "نيران صديقة". وتظلم شاشة الكمبيوتر مرة أخرى ثم تضئ على رسالة تقول:

 من شهداء الميدان السماوي

إلى كل شهداء العالم الدامي

نقدم لكم موقع يسخر من الحكومة

الأمريكية والصينية وكل " ية " مستبدة.

* * * * *

كانت صفقة خاسرة لعائلة "ماكسويل" ما زالت العائلة تعانى الفقر والحرمان بسبب هذه الصفقة. وتوسلت إليه باكية بكاء الأطفال. وقبل أن يفصح عما في نفسه علا صرير الباب الخارجي للنزل، وسمعا حواراً بين صاحبته وأشخاص سائلين عن فتاة دلفت داخل باب النزل قبلهم. وكان جدي مثل من وجد فجأة فوق كتفه جثة قتيل، فأراد أن ينج ومن ذنب لم يرتكبه (يذكرني هذا التشبيه بما كتبت في روايتي "أبناء الخطأ الرومانسي" حيث وضعت شخصاً ميتاً فوق شخص حي. أو جعلت شخصاً حياً ينزل أسفل شخص ميت، وتجثم على روحه المخاوف ويشعر بذنب من يحمل رسالة لا يعرف فحواها أ وجدواها). فقد فزعت "إيزابيلا" وهرعت إلى النافذة قابضة على يده وبعينها حلقات من الرعب. ولبى نداءها! وتسللا من النافذة وسار معها متلصصاً في ظلام الليل البهيم. وساقه الخوف على حياته من شر أعوان الملكة إلى منزل مستر "ليفي" الذي أقام له فيه حفل العشاء. وطرق الباب ففتح لهما خادم عرف مكانة الضيف في قلب المضيف، فلم يسأله عن قصده وقادهما إلى حجرة انتظرا بها لحظات حتى استيقظ رب الدار الذي جاء ومعالم الاستياء بادية على وجهه، يجاهد إخفاءها ببشاشة مصطنعة. وأخبره جدي عن سبب السلوك المعيب الذي وجد نفسه مرغماً على اتباعه. وقص عليه ما دار من حديث بينه وبين الملكة و" إيزابيلا". وبعد أن فرغ من حديثه سأله مستر "ليفي" عن المكان الذي يبغي الوصول إليه. وأجابت " إيزابيلا " نيابة عنه. وأخبرته بأن وجهتهما المكسيك. فقبل مستر "ليفي" أن يقدم له العون في محنته ويأويه بمنزل بحار متقاعد حتى يحين موقع إقلاع إحدى السفن إلى المكسيك.

ومكث " جدي" و" إيزابيلا " ثلاثة أيام بمنزل هذا البحار وخرجا منه داخل صندوقين ألقي بهما على ظهر سفينة بضائع متجهة إلى المكسيك. وبعد أن خرجت السفينة من مياه "بوسطن" أخرجا من الصندوقين. وأعيدت إليهما حريتهما. وكانت هذه هي الوسيلة الوحيدة لنجاتهما من بطش أعوان الملكة. وفي المكسيك قادته " إيزابيلا " إلى مزرعة إيطالي يدعى " أنطوني" وأخبرته بأن صاحب المزرعة هو حبيبها "فوكس" ويعمل " أنطوني" أجيراً عنده. وأقاما لمدة شهر تقريباً في هذه المزرعة. وفى إحدى الليالي استقلا زورقاً، وبعد ساعات صعدا منه إلى سفينة القرصان "فوكس" الذي عانق " إيزابيلا " عناقاً حاراً، واحتفى بجدي مقدراً له حسن الصنيع.

ولقد كانت صفقة جدي الأكبر "ماكسويل" مع " إيزابيلا " سبباً في تعاسة عائلته التي كتب عليها الحرمان حتى الآن , فلم يقرأ اسم فرد منهم إلا على قبورهم. وقد وجدت فجوات كبيرة في مذكرات " جدي" لتباعد الأحداث , فما إن صعد على ظهر سفينة القرصان " فوكس" حتى وجدته محمولاً موثوق اليدين. ولقد أفضى إليَ عمي " توني" بما حواه هذا الجزء والسر وراء نزعه. فقد كنت وحيد أبوي ولم ينجب عمي " توني" أطفالاً , وخشي أبي أن أموت ضحية ما جاء في هذا الجزء من المذكرات، لأني كنت الوارث الوحيد لعائلة "ماكسويل". وأراد أبي أن يحفظ هذه السلالة، فقام بنزع هذا الجزء من مذكراته. فقد لاقى ثلاثة من عائلة "ماكسويل" حتفهم عندما اطلعوا على هذا الجزء. وأولهم الجد " تومي" النجل الأكبر للجد "ستيوارت" والثاني "روبرت" النجل الأوحد للجد "تومي" ثم "فرانكس" العم الوحيد لأبي وعمي "توني". كان الجد الأكبر قد دخل عالم القرصنة وسلب كنوزاً من المجوهرات خبأها في جزر وأماكن حدد مواقعها في هذا الجزء من مذكراته. وجذب بريق هذه الكنوز "تومي" و"روبرت" و"فرانكس" فرحلوا فرادى في أوقات متباعدة كي يعودوا بها، وانقطعت أخبارهم من تاريخ رحيلهم. وكنت أحتال على عمي " توني" منذ أن بلغت العاشرة من عمري كي يقص علي ما ورد بهذا الجزء المفقود من المذكرات. ولشد ما كنت أجد لذة في سماعه في كل مرة. وقد كان عمى " توني" يغمرني بعطف أكثر مما أجده عند أبي. وعندما أبوح له برغبتي يهمس في أذني قائلاً في كل مرَةً:

أوصاني أبوك بكتم هذا السر عنك حتى لا تعلم أن جدك الأكبر كان قرصاناً ولصاً من لصوص البحار. فتظاهر بأنك ترغب في الخروج.

 وانفذ الخطة المتفق عليها. ونسير جنباً إلى جنب صامتين حتى نخرج من الحي الذي كنَا نقيم به في "ليفربول" ثم ينعطف في طريق تعود عليها. ويتركني خارج مشرب اعتاد عليه. وقبل أن يدعني على قارعة الطريق يبتسم في وجهي ابتسامة من يخدع نفسه ويقول:

 إنك تعرف صديقي "ستامب" فهو ينتظرني في الداخل لأتحدث معه قليلاً وأعود إليك، وكنت أعرف حقيقة أمره مستطيباً لخداعه. فقد كان أبي يخاصمه مراراً بسبب إدمانه على شرب الخمر. ومجيئه إلى الدار ليلاً محمولاً على أكتاف أصدقائه. ثم نستيقظ على صياحه ولعناته على الجد الأكبر "ماكسويل". ويظل يستمطر اللعنات على الجد "ماكسويل" حتى يصبح الصباح. ثم يخرج إليَ بعد لحظات وقد تجرع كئوساً من الخمر لأسير جواره في انتظار عادتي التي كانت تدفعني إلى الإلحاح عليه مراراً لكي يتلو ما جاء بهذا الجزء من المذكرات فقد كان يوحي إليَ بأنني رجل مثله أؤتمن على السر.  وأظل متلهفاً حتى تمتد يده اليمنى إليَ , فأقدَم له يدي اليمنى وأتل والقسم:

"أعاهدك يا عمي "هاري" ألا أبوح بسر هذه القصة لأحد مدى حياتي، وسآخذ المواثيق على أولادي بأن يحفظوا هذا السر الذي تضمنته مذاكرات الجد “ماكسويل”، وأقسم لك يا عمي بأنني حينما أنجب بناتاً لن يكون من بينهن من تحمل اسم "ماري" أو "إيزابيلا" , وسأوصي أولادي بأن يحرموا هذه الأسماء اللعينة ولا يمنحونها لبناتهم". وبعد تلاوة القسم يبصق عمى "هارى" على الأرض عدة مرات. ثم ينطلق لسانه بالسباب واللعنات على الجد الأكبر "ماكسويل" و"ماري" و" إيزابيلا"، ويقول جملته المعتادة:

" لو لم تدخل هذه الغانية (إيزابيلا) في حياة الجد الأكبر (ماكسويل) لدخل جميع أفراد العائلة القصر الملكي".

ويغمز لي بعينه وهو يقول:

 إنك تريد أن تعرف أخبار جدك الصعلوك بعد صعوده على ظهر سفينة القرصان "فوكس". ويصمت لبرهة قبل أن يبصق ثم يستأنف حديثه: لقد أفضى للقرصان "فوكس" برغبته في الانتقام من القرصان عدوه. ويذكر له اسم "فرانشيسكو" الذي أغرقه في المحيط. ويخبره " فوكس" بأن هذا القرصان يدعى "المارد" وسفينته يطلق عليها اسمه "فرانشيسكو" وأنه كان شقيقاً له. ويظل الجد مساعداً للقرصان "فوكس" على ظهر سفينته لمدة ثلاثة أعوام. ثم يقابل "المارد" في مكان بـ "أمريكا الجنوبية" ويقتله. وعندئذ يقهقه عمي "هارى" ضاحكاً كالعجوز ويصيح في تهكم قائلاً: يا لفخر عائلة " ماكسويل " , لقد قتل جدهم الأكبر القرصان الملقب بالمارد. وانتقم لحبيبته "ماري" وبذلك سجل اسمه في عالم الأبطال، ويكمل: وبعد أن تحقق له حلمه الكبير بالانتقام من المارد ذاع اسمه في عالم القرصنة ولقب بـ "القرصان الصامت" لأنه من شدة حزنه على "ماري" كان نادراً ما يتكلم. وبعد فترة أصبح مالكاً لسفينة أطلق عليها اسم "ماري"، وظل على حاله في القرصنة ثمانية أعوام. جمع فيها كنوزاً من الأسلاب خبأها في أماكن ما زالت مجهولة بسبب غباوة عقله، فلم يستطع رسم الطريق إليها بوضوح في مذكراته، لذلك دفع وهو في قبره ثلاثة من نسله إلى الهلاك في طريق هذه الكنوز... ثم قبض عليه رجال الأسطول وهو يغط في نومه بإحدى الحانات قرب الدار البيضاء. وحملوه إلى إنجلترا حيث حوكم أمام مجلس عسكري، ووجهت إليه مجموعة من الاتهامات منها: الهروب من الخدمة العسكرية ـ السطووالسلب ـ وتعريض سلامة الإمبراطورية للخطر في البحار.

 وتجلى غباؤه أمام القضاة عندما حاول الدفاع عن نفسه مبرراً هروبه من الخدمة العسكرية بسعيه إلى الانتقام من القرصان الذي كان سبباً في وفاة حبيبته. وعندما سمع القضاة هذا القول منه، ضحكوا ساخرين من منطقه، وأدركوا بأنه غبي جاهل. ولذلك قضوا عليه بالسجن المؤبد بدلاً من الإعدام، وقد أخطأوا في حكمهم، يا ليتهم أعدموه قبل أن يتزوج، ونخرج من نسله ونكفر عن غباوته الخالدة. وعند هذا الحد من القول يصمت عمي "توني" لحظة يستجمع فيها قواه، ثم يندفع لسانه بالسباب على الجد "ماكسويل" وقضاته الذين ضلوا طريق العدالة وتركوه حياً لم يعدموه. ثم يهز رأسه ويقول حكمته:

إن ألف مجرم ينشرون فساداً

في مجتمع،لا يشينونه ,

ولكن غباء قاض واحد

يورث الشقاء للمجتمع

مئات السنين.

* * * * *

 وما زال البحث جارياً عن أسامة بن لادن..

 وما زال البحث جارياً عن صدام حسين...

جملتان تتكرران كثيراً في كل وسائل الإعلام. وكأن المسألة قد تحولت إلى لعبة عسكر وحرامية (مرَة عيل صغير عمل صباعه كدا مسدس وضرب في صاحبه طريخ طراخ، قام صاحبه ساق فيها وعمل له ميت وقالوا أهله دا صاحبه طخه طخ.)

وأن السلم العالمي لن يتحقق إلا بالقبض على هذين الرجلين..

فكرة قديمة جداً.. اختزال مشكلة / مشاكل الجماعة في شيء أو شخص، ثم تصدر الجماعة قراراً بإقصائه ـ عزله ـ  قتله.. وثمة مقولة مدهشة لـ " جان جينيه " – الفيلسوف والصعلوك – بشأن التمرد والخروج على قواعد الجماعة وقوانينها. وكيف أن ذلك لا يتحقق ويتأكد إلا بالقبض على المتمرد أو مصادرة الفكرة. هكذا لا غنى للمجتمعات عن السجون. وطالما هناك سجون وسجَانون فلابد من أن تفرز كل جماعة خارجين عنها وتدفع بهم إلى السجون.. !!

* * * * *

ومن عاداتي عدم إغلاق الكمبيوتر. وكذلك عدم إغلاق البرامج التي أعمل عليها، وهكذا أشعر أنني على اتصال دائم بعوالمي الافتراضية. لأفر إليها كلما ضاق بي عالمي المعيش.

كانت " الرواية / المذكرات " التي أرسلها لي ذلك الصديق الافتراضي ما زالت موجودة. وكذلك بريدي الإلكتروني ونافذة لأحد المواقع الإباحية. وكانت جميع قنوات التلفزيون تذيع وقائع القبض على "صدام حسين" في مخبأه الذي يشبه جحور القوارض، وبدت هيئته مزرية للغاية ومثيرة للشفقة وعشرات الأسئلة. وانتقلت لمتابعة ما يتم تداوله من أخبار على الإنترنت.. لم أجد رسائل جديدة في بريدي الإلكتروني. أما الرواية... فقد لاحظت أنها ذات صفحات أقل من الأمس، لا أعرف تحديداً لكن هذا ما خمنت. ووجدت أمام عينيَ فصل يحمل هذا العنوان المثير "سجن العظماء"، وتأكد لدي الشعور بأن هناك رابطاً خفياً بيني وهذه الراوية. وأنه ربما يكون هناك من يتجسس ليس فقط على الكمبيوتر الخاص بي، بل وعلى دماغي ذاته. وشعرت برغبة شديدة في الإطلاع على محتويات هذا الفصل، وكأنها تعويذات ستفتح أمامي العوالم المسحورة..

* * * * *

في موكب من الحراس شبيه بمواكب الملوك والعظماء نقل "جدي" إلى سجنه موثوق اليدين، ولم يحظ بكرم ضيافة محافظ السجن الذي قال له في تهكم وهو يتصفح أوراقه:

- لا شك أنك أحد العظماء يا "ماكسويل" وقد رفعك ماضيك إلى ذروة المجد فأصبحت عظيماً بولوجك باب هذا السجن. ولعلك سمعت به وبشهرة نزلائه الذين يسيرون الآن على نهج قويم. فحذار أن تسلك طريقاً معوجة يكون فيها هلاكك. وضاعف من شقائه إعراض المساجين عنه منذ اللحظة التي هبط فيها السجن، وكان في نظراتهم ما يوحي إليه بأنه المذنب الوحيد وسط جمع من القديسين. فقد وجد نفسه منبوذاً من جميع نزلاء السجن غارقاً في لجة من الأسباب، فلم يتحدث إليه فرد أو يستمع إلى حديثه سجين. وحز َ في نفسه أن يكون مهاناً ذلك الذي كان متوجاً على عرش البحار.  وحتى الذين شهدوا مجده ونظروا إليه وعيونهم تفيض بالإعجاب وسعوا إلى ساحة عرشه كي يكونوا جنوداً مرتزقة في مملكته، نأوا عنه. فقد كان بالسجن عدد من القراصنة نفروا جميعاً منه، وكانت الأحاديث تتداول على أفواه المساجين، وتصل إلى سمعه دون أن يسمح له بالاشتراك فيها. وطاف بداخل السجن وحيداً من غير مرشد، ورأى قلعة متسعة يوحي بناؤها بأنها شيدت في القرن الثاني عشر. وكانت أشبه بمعتقل , فلم يكن هناك عمل يكلف به المساجين. ولقد اتخذ محافظ السجن وحراسه جناحاً لهم يؤدي إلى الباب الخارجي ويفصله عن المساجين باب السجن. وبدت ظواهر الأشياء لجدي مبهمة. فقد كان الحراس أشبه بالخدم للمساجين. ويجلبون لهم الطعام من الخارج، وكان كأطعمة الصدقة لا يشبع بطونهم الجائعة لذا كانوا موضع أذى المساجين. ولم يكن يجري بالسجن تفتيش، وبالليل يظل خمسة حراس بالداخل في أماكن متفرقة يقضون ليلهم في النوم العميق.

كان السجن يحوي قرابة ألفي سجين يعيشون بين جدرانه بحرية تامة، أبوابهم تقفل وتفتح حسب رغباتهم فيما عدا باب السجن وصعود السطح. كانت حياة المساجين تسير وفقاً لأوضاع يعجز العقل عن فهمها، فقد بدوا لـ "جدي" وكأنهم مقيدون فيما بينهم من روابط المعاملات؛ في شجارهم ومشاكلهم؛ بقوانين صارمة. وقد خيل لي أن في وسعهم الهرب من السجن متى أرادوا، وصمتهم عن هذا الفرار يخفى سراً. ولقد كانوا يعيشون في عزلة عن العالم، فقد توفى سجين بعد قضاء جدي بالسجن أربعين يوماً، فصلى عليه سجين آخر يدعى "جون" وكان يرتدي ثياب السجن. ويضع حول رقبته رباطاً أبيض يميزه عن باقي المساجين. ولم يكن جدي قد رآه قبل هذا إلا مرة واحدة، وكان محترماً مهاباً من الجميع. أما صلاته على الميت فكانت قصيرة لم تخرج ألفاظها من بين شفتيه.

 وهكذا حار جدي واختلطت أفكاره، فتبلد عقله أمام تلك الظواهر الغريبة. فاعتكف منفرداً بنفسه وكشف له هوان تلك الأيام عن فلسفة الحياة. فسطر في مذكراته بأنه لا يحمل ضغينة على قضاته الذين شيعوه إلى مقره الأخير بداخل السجن وما انطوى عليه ذلك من ضيق وعنت. كذلك لم يلق لوماً على "ماري" و" إيزابيلا" ولا على نفسه التي انتقم منها، فلو أنه ظل في البحرية لأصبح قاضياً يحكم على المجرمين، وليس مجرماً يحاسب على ذنبه. ويسترسل جدي في مذكراته:

لا فرق بين الحاكم والمحكوم والقاضي والمتهم فهذا وذاك بشر، وقد يكون القاضي مقترفاً لذنب أعظم من جرم هذا الذي يكون تحت رحمة قضائه. وقد يكون الحاكم على خطأ يغفر له ويحق الموت على من اقترفه من رعاياه. وفى هذا ناموس الحياة. فالناس جميعاً يخرجون من بطون أمهاتهم وكلهم يبغون المجد. ويضل منهم من أعد العدَة لقطع الطريق. ويصل من كان ضالاً في بدايتها. وجميعاً يتقابلون في ساحة الموت، وهكذا نعيش في عالم ملئ بالأسرار.

* * * * *

بدأ الملل يتسلل إليَ من رتابة هذا التناوب بين ما "أزعم أنه نص وصلني بالبريد الإلكتروني وبين ما "أزعم " أنه تعليقات للراو/ الشخصية الروائية. لكن مهما بلغت درجة الموهبة والحرفية، فهناك حدود تضطرك للتحايل والتغافل والتظاهر بتقديم تقنية تعتمد على التناوب والتداخل بين مجموعة من المستويات الروائية السردية..... !  وكلما شعرت بالضيق والغضب، زادت حساسيتي , وبالتبعية نفوري، تجاه الكتابة. وتتبدى لي مجرد وجه آخر لهلوسات الجنون عند العجز حتى عن البوح.

(ومرة واحد خط بصباعه فى الهوا

 وقال كتابة

 قام الناس ساقوا فيها

 وقالوا آه وقالوا لا

فبصلهم تانى وقال.. كتابة

قالوا: وبدا الملك يبتسم ببلادة..

قال كتابة

أو ما قالش

آهي خيابة..)

* * * * *

بدأت أعبث بما يحتويه الكمبيوتر من ملفات لعلني أجد ما يسهم في تخفيف ما أعانيه من اكتئاب وخواء وهشاشة.. وكلما اطلعت على ملف، أشعر كما لوكنت أفتش بذاكرتي، وكلما تماديت زاد إحباطي لأنني لا أجد سوى القليل من لحظات البهجة والنشوة حتى وأنا داخل ما ألجأ إليه من عوالم افتراضية. وفى أحد الملفات وجدت مقالاً كنت قد كتبته خلال أزمة عرفت باسم "أزمة الروايات الثلاث"، وشعرت بأن بعض فقراته متوافقة تماماً مع حالتي وكذلك مع مخططاتي للكتابة الآن:

(إنها لحظة كابوسية لا تخلومن هزل، ولا تتوقف عن التمدد والتضخم لتبتلع داخلها كل شئ.. حتى الوعي والحواس. لحظة كابوسية تذكرك براوية "المحاكمة" لـ "كافكا"، لحظة لا تخضع فقط لمنطق الحلم؛ بل تتجاوزه بفعل آليات نسخ تكاد أن تكون لا نهائية. لتجد نفسك أمام آلاف النسخ ... حالة تتجاوز استخدام الأقنعة فالقناع يشير إلى وجود وجه أسفله، أما النسخ فتوهم بأن الوجوه حقيقية، ولأشخاص حقيقيين. وهكذا تبدت لي الهوجة كما لوكانت نسخة من معركة، وتبدى لي المتعاركون كما لوكانوا نسخاً من متعاركين آخرين.. فارتبكت وسألت نفسي: أين موقعي مما يحدث؟ أين نسختي التي أستطيع المشاركة بها؟ وهل أنا نسخة بالفعل؟ وإذا كنت نسخة فعن أي شئ (أصل أو نسخة) قد نسخت؟ وعندما ترتضي أن تصبح نسخة. يجب أن تستسلم ليطبق عليك قانون "ساكسونيا" ـ حسب ما جاء في فيلم لـ" عادل إمام " ـ الذي ينص على أنه إذا ارتكب رجل قوي جريمة ضد آخر ضعيف، لا يحاكم الرجل القوى على جريمته، بل يحاكم ظله. ويعني هذا أن الرجل الضعيف بالكاد يماثل ظل الرجل القوي..!! ولكي يكتمل هذا الموقف، يسعى الضعفاء إلى التشبه بظلال الأقوياء (وليس بهم) وقد يتبادر للذهن أنهم يفعلون ذلك بغرض التقرب أو توهم أنهم ينتمون ولو إلى ظلال الأقوياء.. لكنني أرى أن الأهم أنهم يهدفون إلى الاحتماء وراء حيلة دفاعية بأنهم ليسوا حقراء تماماً لأنهم يشبهون ظلال الأقوياء..!!

يا له من هزل مؤلم ومحزن ومخجل..!! هزل تزداد كثافته لحد العتم، عندما تخايلك ظنون بأن كل ما تعرفه مجرد نسخ، الدولة المدنية مجرد نسخة من فكرة الدولة المدنية، وكذلك مشروع التنوير والثقافة والمبدعون والإبداع.......كلها مجرد نسخ. إذن كل ما لديك، وظننته يخصك ويميزك، لا يعد وأن يكون مجرد نسخة. حتى وهم الانحراف عن السائد ومحاولة نقده وتجاوزه ليست سوى محاولة انحراف عن نسخ. فهل هي مجرد نسخة من فكرة الانحراف والتجاوز؟ العتم يزداد كثافة ويكاد أن يتحول إلى أسوار صلبة تحيط بي وتطبق علي ... وثمة ضجيج يشي بأن ثمة انهيار لابد يحدث. انهيار لن يترك وراءه سوى الأطلال والخرائب وناس يرتعدون خوفاً من مواجهة أعداء مجهولين أو غير متوقعين..!!

* * * * *

وظل جدي ثلاثة أشهر ضالاً في فيافي الشك غارقاً في تأملاته، وبعد نهايتها سمع من يهتف باسمه، وكان المنادي "جون" القسيس الذي أشار عليه بأن يسير خلفه فتبعه في دهليز انتهى بهما إلى حجرة صغيرة بها درج يؤدي إلى باب قبو طرقه "جون" حسب اصطلاح، فسمعا صوتاً من الداخل يأذن لهما. وعلى ضوء مصباح كان ينير ظلام القب رأى جدي شخصين كانا يجلسان في مكان قرب الباب. ولم يكن قد رآهما قبل الآن. وكان القبو ممتد الأرجاء لا يصل ضوء المصباح إلى أركانه. وكان أحدهما شاحب الوجه هزيل الجسم، يبدوعليه المرض بصورة واضحة، وكان مضطجعاً في جلسته وقد ارتدى ثياباً تختلف عن لباس المساجين. أما الآخر فكان جالساً، وعلى نقيض الشخص المضطجع يرتدي ثياب السجن، وكان عملاقاً ضخم الجثة والرأس، منظره يثير الفزع في قلوب الجبناء. وقدمهما "جون" إلى جدي، مشيراً إلى الشخص المريض قائلاً: إنه مستر "إدوارد رايت". وأشار إلى العملاق قائلاً: إنه "بيتر ستون". واستطرد قائلاً: أما أنا فاسمي "جون" وأنت معروف لنا ولجميع المساجين.

 وبعد أن صافح جدي الثلاثة ـ بما فيهم "جون" الذي جاء به ـ جلس وابتدأ الشخص المريض يخاطبه قائلاً: إننا نعرف مقدار كل شخص يضمه هذا المكان وقد بلغتنا أنباء محاكمتك. ولم تكن متوسلاً لقضاتك، أما تاريخ حياتك فهو مكشوف لنا من يوم نشأتك، وقصتك مع "ماري" وسفينة القراصنة، وقد كان لهذا شفاعة أرسلتك إلى هذا المكان.  واستطرد قائلاً:  نحن نقدر فيك البطولة وقد رأينا أن نصطفيك معنا، فأحطناك بالرقابة وتركناك في عزلة خلال هذه الفترة مثلك مثل من سبقك ممن أشركناهم معنا. وقد اجتزت امتحانك بنجاح. وقد سلكنا هذا الإجراء مع قلائل كي نختبر مدى قدرتهم على تحمل رسالتنا. وانتهى الاجتماع عند هذا الحد من قول مستر "إدوارد" دون أن ينطق أحد سواه.

 وخرج جدي في أثر " جون " وعشرات الأسئلة تتراقص ألفاظها على شفتيه، فلم تطب نفسه لطريقة "جون" في التعريف. فقد قدمه لأشخاص محيطين بكل صغيرة وكبيرة عنه وهو يجهل أمرهم وطريقة علمهم بأسراره. وكان لحديث مستر "إدوارد" معه ما يدعوه إلى الثرثرة بحثاً عن الحقيقة. وعند نهاية الدهليز همس "جون" في أذنه:

عهدنا فيك حمل الأمانة، فاحتفظ لنفسك بسر مقابلة مستر " إدوارد " وكذلك اسمه.

 وخرجا إلى ساحة السجن، وعندما وقع بصر المساجين على جدي برفقة "جون" أحاطوا به معانقين، وأبدى القراصنة اعتذارهم له. وهكذا أصبح جدي عضواً في هذا المجتمع. ولم تمض به أيام قلائل حتى تكشفت أمامه الحقائق وطرد من ذاكرته علامات الشك والاستفهام. وعرف أن هذه القلعة كانت مقراً لسجن أفراد العائلة المالكة وأنصار "شارل الثاني". وتخليداً لذكرى هؤلاء العظماء، ووفقاً لتقاليد الشعب الإنجليزي الذي يقدس المحافظة، ظلت هذه القلعة سجناً وأطلق عليه (سجن العظماء)، لا يطرق بابه إلا أكابر المجرمين، وعظماء الرجال أمثال "جدي" ممن كبرت ذنوبهم عن جهالة أو أولئك الذين سبقت منهم حسنى في مطلع حياتهم، واستحق هؤلاء جميعاً الموت على ذنبهم. ولتلك الشفاعات يحكم عليهم بقضاء بقية حياتهم داخل " سجن العظماء".

 وقد اقترنت أغلب أسماء نزلائه بقصص وأساطير فيما عدا بعض أشخاص قلة كانوا مغموري الاسم في عالم الإجرام، وقد هبط هؤلاء السجن بناء على توصيات ومساع بذلها أشخاص لهم نفوذ. وكانت هذه القلعة على مسيرة يوم واحد من لندن، وقد اتخذ السهل المحيط بها مقراً لحامية لندن، فأحاط بها جنود الحامية من كل جانب وأغلقت الطريق المؤدية إليها. وبذلك استحال على المساجين الهرب ولم تكتب النجاة لمن سولت له نفسه؛ وأقدم على الهرب. إلا أشخاص قلائل يعدون على أصابع اليد. وكان جنود الحامية يقبضون على كل هارب ويعيدونه إلى السجن كي يراه المساجين مكبلاً بالأغلال. ثم يساق إلى الخارج ولا يعلم أحد من المساجين بعد هذا شيئاً عن أمره. وتتلى (روايات) عدَة عن مصيره مصدرها أذهان المساجين.

* * * * *

إنذار يشير إلى تعرض جهازي للاختراق.... هاها ـ لأول مرة أرى أمامي عملية اختراق.. لأول مرة أتابع عملية دخول أحد قراصنة الكمبيوتر، وعبثه بالملفات الخاصة بي.. يااه إنه يقتطع أجزاء من "النص / الرواية" الذي أرسله لي صديقي الافتراضي، ولا يكتفي بذلك بل يقحم أجزاءً والمدهش أن لها نفس المواصفات.. فهي مكتوبة بخط اليد على ورق قديم، وتم نقلها إلى الكمبيوتر بواسطة الـ " سكانر/ الماسح الضوئي". ولم أسارع إلى غلق جهاز الكمبيوتر حسب الإرشادات، وتركته كما لو كنت أستمتع بهذا الاختراق لذاكراتي المؤقتة. وعندما أصدر الكمبيوتر صفارة تفيد بخروجه وأن الجهاز أصبح آمناً، سارعت للإطلاع على المقاطع التي أقحمها:

·                     العقوبات في مصر القديمة:

-                                                        عقوبة الإعدام

-                                                        الإعدام البسيط

-                                                        التعذيب بالنار

-                                                        التعذيب بالصلب

-                                                        التعذيب بالحرق حياً في غرفة الرماد

-                                                        عقوبة الأشغال الشاقة العامة

·                      العقوبات الاستثنائية:

- قطع الأطراف والحرق تحت الشوك لقاتل أبيه

 - حمل الجثة ثلاثة أيام في الطرقات لقاتل أبنائه

·         العقوبات التعبيرية "لجعل المرء عبرة":

-                                                          قطع يد المزيفين والمزورين

-                                                          قطع لسان الجواسيس ومن يكشفون أسرار الدولة

-                                                          قطع يد المرأة المتهمة بنكاح المحارم

-                                                          قطع العضوالتناسلى لمغتصب الأعراض

-                                                          كسر أداة الجريمة حتى لا تستخدم مجدداً

-                                                          المصادرة

-                                                          الجلد

-                                                          الإغراق

-                                                          الكي بالنار

-                                                          النفي

·         العقوبات في عصر "محمد على":

-                                                          ضرب الأعناق بالسيف

-                                                          الشنق

-                                                          الموت رمياً بالرصاص

-                                                          التغريق

-                                                          الصلب

 -                    الخوزقة

-                                                          قطع الأطراف وإتلاف الأعضاء

-                                                          الجلد

-                                                          الإرسال إلى جبل فيزاوغلي بالسودان

-                                                          الحبس في المصلحة التابع لها المحكوم عليه

-                                                          التشغيل في الأبنية الميرية

-                                                          الاستخدام في الخدمات الدنيئة

-                                                           النفي

·                                                                                             إلى السودان في حالة الجرائم الخطيرة

·                                                                                             إلى " أبي قير " في حالة الجرائم الإدارية

-                                                          العقوبات المالية " الغرامة – المصادرة.. "

-                                                           الإرسال إلى الجهادية / الجيش

·         السجون في مصر الحديثة:

-                                                           الليمانات: لتنفيذ عقوبة الأشغال الشاقة على الرجال الذين لم يبلغوا سن الستين

-                                                          السجون المركزية

-                                                          السجون الثانوية

-                                                          الأوردي: إذا كان محل الشغل على مسافة بعيدة من السجن العمومي، ينشأ للمسجونين سجن مؤقت يسمى "أوردي" ولا يجوز تشغليهم به.

* * * * *

لماذا أقحم هذه المقاطع ؟ هل يحثني على البحث والاستقصاء بهذا الاتجاه ؟ لماذا أنا ؟ أم ترى هو نوع من التحذير أو التهديد أو العبث.. !!

* * * * *

ويقول جدي في مذكراته:

قد يجد الإنسان نفسه مثقلاً بوزر لم يسبق له أن ارتاد طريق معصيته، وتلك أعاجيب القدر. ولقد كان هذا حال مستر "إدوارد" فقد خشي أن يجد جند الحامية في أثر قائدهم عن طريق النفق، وكان الصباح قد أصبح فأمر بنقل الأسرى وإغلاق فتحة النفق بأحجار ثقيلة لم يستطع حملها أحد سوى "ستون". وكان "ستون" يرى أن توزع الأسلحة على المساجين استعداداً لأي هجوم، ولكن مستر "إدوارد" قد اعترض على رأيه. ووضعت الأسلحة في إحدى الحجرات وتولى حراستها ثلاثة من الزعماء. وظهر مستر "إدوارد" أمام المساجين والحراس فالتف المساجين حوله معانقين وبعضهم كان يبكي فرحاً لهذا اللقاء. ولما حان وقت الظهر كان سجن العظماء كعبة للأنظار، فقد وفد إليه عدد من كبار الشخصيات وعلى رأسهم الوزير الأول، وبعض اللوردات وقائد الجيش، ونفر من أصحاب الصحف وذوي الأقلام. وتوسل المحافظ حتى بُح صوته وهو ينادي من الخارج راجياً الإفراج عن الأسرى، وإعادة الأسلحة. وبين وقت وآخر كان "ستون" يزأر من الداخل قائلاً:

ـ إذا فتح الباب عنوة فسيقتل جميع الأسرى.

          ثم صعد الوزير فوق السطح وأخذ يقسم بشرفه بأن مرسوم العفوعن المساجين سيصدر إذا أخرج الأسرى والأسلحة. وعندئذ رأى مستر "إدوارد" أن يخرج جدي و"جون" لمقابلة الوزير الأول، ويعقدا معه صفقة بمقتضاها يعفي عن المساجين عفواً عاماً دون قيد على حريتهم. وفي مقابل ذلك يفرج عن الأسرى وتعاد الأسلحة. وكان لهم ناصحاً ومحذراً من دهاء الوزير الأول وخبثه. فصاح "ستون" من أسفل يخاطب الوزير الأول قائلاً:

ـ إننا نرسل وفداً فأمر بفتح الباب كي يخرج الوفد. وحذار من دخول أحد، وإلا فالهلاك للأسرى.

 وقابل "جدي" و"جون" الوزير الأول بحجرة المحافظ، وبدا لهما مكترثاً بخطورة الحادث غير أنه بذل محاولة كي يصل إلى هدفه بأسلوب ماكر. ولكنهما ظلا صامدين عند نصح مستر "إدوارد". ولما أعيته الحيل توجه إلى لندن وعاد بعد الغروب. وكان جدي و"جون" في انتظاره بمكتب المحافظ فاستلما منه مرسوم العفو، وعندما قرأه مستر "إدوارد"، وتبين أنه عفوعن حادث أسر الضابط، وسرقة الأسلحة، فعادا إلى الوزير الأول وسلماه مرسوم العفو وأبلغاه وجهة نظر المساجين وهى: ملازمة جدي و"جون" للوزير حتى يوقع الملك أمامهما على مرسوم العفو. فتجهم وجهه لحظات. ثم عاد إلى لندن متأبطاً صورة الملك وقد جلس جدي و"جون" إلى جوار سائق العربة. وقرب الفجر فتح لهم باب القصر الملكي. وكان الملك في انتظار الوزير الأول. وبدون إجراءات مراسم، تقدم جدي و"جون" نحوالملك الذي كان يجلس على مقعد، ولم ينحنيا أو يركعا أمامه تنفيذاً لمبادئ مستر "إدوارد". وقد أثار هذا السلوك شعوره فغمغم:

ـ نعم، نعم.. بلغني أن هذا الخائن ما زال على قيد الحياة؛ وقد أفسد عقول المساجين. وأخذ جدي و"جون" يتفرسان ملامح وجهه وفي الصورة خشية خداع الوزير الأول لهما، فقد شك المساجين في نواياه وأوصيا جدي و"جون" بأن يتحققا من شخصية الملك قبل توقيع المرسوم. ولما تأكد من شخصه أومأ جدي برأسه للوزير الأول ليسير في الإجراءات، وكان الملك ينظر إليهما وفى عينيه دهشة غضب. وأخذ الوزير الأول في صياغة مرسوم العفو بخطه، فلم يكن بالقصر موظفون في هذه الساعة، ثم وقع الملك على المرسوم وحمله جدي في جيبه وصحبهما الوزير الأول إلى السجن. ولما اطلع مستر "إدوارد" على مرسوم العف ووقد جاء به بعد الديباجة: "يفرج عن مساجين (سجن العظماء) وتعاد إليهم حريتهم كاملة حسب ما يسفر عنه الاتفاق بعد إجراء المحادثات".

ولهذا أبدى اعتراضه على هذه الصيغة وقال جملة أوردها جدي في مذكراته:

 خير لكم أن تقعوا في مخالب الوحوش الضارية فقد تكتب لكم النجاة، من أن تصابوا بمخالب السياسة الإنجليزية ففيها هلاك محقق نتيجة ألفاظها التي تحتمل التأويل.

 وعاد جدى و"جون" إلى الوزير الأول بحجرة المحافظ، وأبلغاه رأي المساجين في المرسوم وما جاء به من ألفاظ قد تؤدي بهم إلى الهلاك. ورأى الوزير الأول أن المساجين قد تمادوا في تطاولهم وإهانة الملك. ودفاعاً عن الشرف الملكي، دخل السجن بدون حرس، واجتمع بالمساجين وأخذ يندد برأي من اعترض على الصيغة التي وردت بالمرسوم، ثم ذكر لهم بأن عدة لجان قد شكلت بأمر الحكومة من زمن لدراسة مشكلة مساجين (سجن العظماء) وذلك بغية الانتفاع بمواهبهم بعد خروجهم من السجن أحراراً بحق العفو. وكان قد حمل من حجرة المحافظ بعض الصحف التي نشرت أخبار هذه اللجان، فألقى بعضها فوق رءوس المساجين ـ في حركة قصد بها إزالة الشك من نفوسهم ـ ثم صاح في صوت جهوري:

ـ إن اللجان قد فرغت من مهمتها ورشحت جميع المساجين لشغل وظائف ذات مراكز مهمة، وستدركون خطأكم فيما لواطلعتم على اقتراح هذه اللجان. وأراني مضطراً للبوح بسر هذه اللجان، وأذكر لكم على سبيل المثال اقتراحها بإسناد منصب وزير المالية إلى "جيمس لامبسون" نظراً لماضيه وكفاءته، فقد كان مديراً لمصرف معروف قبل أن يحل بـ "سجن العظماء"، وأضاف: وقد جاءت هذه الصيغة بالمرسوم تنفيذاً لرغبات الملك، فقد رأى أن تستفيد الدولة بخبرة المساجين ولذلك رُشحوا جميعاً لشغل وظائف، أما المحادثات التي جاء ذكرها في المرسوم ؛ فقد قصد بها أن يكون لكم رأي في المناصب التي ترى الحكومة إسنادها إليكم. وإني أتيت لكم بسجل به أسماءكم ليقترح كل منكم الوظيفة التي يرغب فيها. وستجرى المحادثات على هذا الأساس. وإذا كنتم ترغبون في محو هذه العبارة من المرسوم، فإن الحكومة على استعداد لتحقيق رغبتكم. وإحضار مرسوم بالعفوعنكم دون شموله بهذا العطف الملكي، بشرط أن تخرجوا بياناً للرأي العام تعلنون فيه بأن الحكومة غير مسئولة عنكم بعد العفو. وعليكم أن تكسبوا معاشكم بأنفسكم.

 وقد كسب الوزير الأول هذه الجولة وخسرها مستر "إدوارد"، فقد ارتفعت أصوات أغلب المساجين بالموافقة على إبقاء هذه الجملة في مرسوم العفو، وأخذ أحد السجناء السجل من يد الوزير الأول الذي خرج بعد لحظات ومعه الأسرى والأسلحة محمولة على أكتاف الحراس، وأغلق باب السجن خلفه. والتف المساجين حول من بيده السجل معلناً كل منهم رغبته في المنصب الذي تصبو إليه نفسه. وبعد ثلاثة أيام قضاها المساجين مجتمعين حول السجل، حضر أحد موظفي وزارة الخارجية إلى السجن وقد جاء ليبلغ المساجين بأن يختاروا من بينهم ثلاثة يكونوا نواباً عنهم في المباحثات التي ستجري بعد غد بحجرة مكتب محافظ السجن.

 وأجاب مستر "إدوارد" رغبة المساجين، وقبل أن يكون رئيساً لوفدهم، اختار جدي و"جون" عضوين معه.

* * * * *

وفجأة انهالت على جهازي عشرات الصور التهكمية، بعضها للرئيس الأمريكي "بوش" وقد وضعوا وجهه على جسد قرد؛ أو تلاعبوا بوجهه ليصبح لوجه القرد أقرب. أو وضعوا وجهه على جسد غانية تتصيد رجالاً من أمثل "أسامة بن لادن" و"الملا عمر" و"صدام حسين". وصور أخرى لـ" صدام حسين " مرتدياً ملابس رعاة البقر وقد امتطى أحد الصواريخ وأمسك بيده سوطاً. وصاحب تلك الصور بيانات شجب وإدانة للمخطط الأمريكي الإمبريالي لإعادة استعمار المنطقة العربية تحقيقاً للحلم الصهيوني "من النيل إلى الفرات"، واستنزاف ما تبقى من ثروات نفطية. ولفت انتباهي ما احتوته بعض البيانات من مصطلحات جديدة على المعجم السياسي الثوري العربي، مصطلحات مثل: الإصلاح ـ التغيير ـ الديمقراطية ـ انتخاب رئيس الجمهورية ـ إلغاء قوانين الطوارئ. وبدا الأمر لي تهكمياً، فكيف نطالب بتحقيق كل الأفكار دون سعي لذلك ـ دون محاولة لخلق حياة سياسية متنوعة وحرَة. كيف نطالب بكل ذلك وما زلنا في انتظار البطل المخلص. فرداً كان أو جماعة أو دولة، ولكن ماذا بوسع النسخ أن تفعل عندما يطلب منها (أوتؤمر) أن تتقمص ما يمكن أن نطلق عليه أشخاصاً حقيقيين. نحن نعيش في عصر النسائخ التي تم استخدامها لتفريغ كل شئ من محتوا.ه ولتتماه الأشياء والأفكار وتزول الأطياف الفاصلة بين ما هو واقع وافتراضي، جاد وتهكمي، وطني وعميل.

وما زال الآخر يقول: لا فائدة.

* * * * *

وجاءت الليلة التي سبقت إجراء المفاوضات، فهجر المساجين مضاجعهم، عدا مستر "إدوارد"، وأقاموا حفل وداع بكى فيه من غلبت عليه عاطفته خشية عاقبة الفراق. وتبارى خطباؤهم وشعراؤهم مسبحين بحمد تلك الأيام التي جمعتهم بين جدران (سجن العظماء) وحسبوا أن فلك هذه السنين قد انتهى بدورة صعدت بهم إلى سماء مقاعد الحكم ومناصب لم يجرؤوا على التفكير بها حتى في أحلامهم. وطال عناقهم وفى ألسنتهم مواثيق وعهود بألا يقطعوا رباط الحب مدى الحياة فيتزاورون وتتصاهر ذرياتهم حتى تستمر صلة القربى بينهم أجيالاً وهم في قبورهم. وبعد الحفل أمسك سجين بالسجل الذي حمله إليهم الوزير الأول، وأخذ يتلوعلى الأسماع اسم كل سجين بالسجل والوظيفة التي اختارها. وبعد تلاوة الأسماء ظل الجميع على مراكزهم عدا خمسة مسـاجين طلبوا استبدال وظائفهم بمناصب أخرى وأجيبوا لطلبهم.

 وقد ضرب المساجين مثلاً عالياً في إنكار ذواتهم. فلم يطمع سجين منهم في منصب اختاره زميله. ولقد قنع أحدهم بمنصب وزير المالية، وكان ذلك السجين "جيمس" وقد جلس صامتاً متكبراً مما جعل السجين المجاور له يطلب استبدال رتبة كولونيل في الجيش التي كان قد اختارها من قبل بمنصب وزير الداخلية، وفى ماضيه شفاعة، فقد كان جندياً وأبلى بلاءً حسناً في ثلاث معارك ثم هرب من الجيش وألف عصابة للسطو هددت الأمن سنين طوال في بلدته. وبعد أن تحقق طلبه نظر إلى "جيمس" نظرة طويلة ثم عدل جلسته واتكأ في كبرياء.

أما جدي فقد طلب أن يكون قبطاناً لسفينة حتى يسعى وراء كنوزه. واكتفى "جون" بمنصب مشرف على "معهد" طلابه الأطفال المشردون. وقد حوى السجل وظائف ورغبات جميع المساجين سوى مستر "إدوارد" الذي كان موقناً بخداع الوزير الأول، كما أنه كان رسولاً ذا رأي حر ومحال تقييد أمثاله بالمناصب والوظائف، وسار "ستون" خلفه ليحمل الرسالة على كتفه وساعديه. وقرب الفجر أحاط المساجين بجدي و"جون" وغمروهما بالنصح حتى لا يحيدا عما جاء بالسجل. إلا إذا كان الاقتراح الخاص بالحكومة قد جاء بدرجات أعلى في مناصبهم. وأصر بعض المساجين على وظيفته التي اختارها دون عدول، مهما كان عرض الحكومة من إغراء بمنصب يسموعلى منصبه الذي اختاره.

 ثم جاءت اللحظة المرتقبة التي فتح فيها باب السجن وخرج مستر "إدوارد" وجدي و" جون"، وقد حمل جدي تحت إبطه سجل وظائف المساجين. واستقبلهم المحافظ على باب حجرة مكتبه، حيث كان يجلس أعضاء وفد الحكومة في الداخل. وبعد أن قدم أعضاء الوفدين، انسحب من الحجرة وأغلق بابها خلفه. وكان وفد الحكومة يتألف من ثلاثة أعضاء، يدعى رئيسهم مستر "سميث" ويشغل منصباً بوزارة الخارجية، والعضوالثاني يدعى مستر "ريتشارد" ووظيفته مشرف اجتماعي بمصلحة السجون، وكان خبيراً بعلم النفس، أما العضوالثالث فكان يدعى "طومسون" وكان مسجل عقود في لندن؛ وتم إلحاقه بوزارة الخارجية ليكون عضواً في لجان المفاوضات. وكانت خيبة الأمل قاسية عندما قهقه مستر "سميث" بعد اطلاعه على سجل وظائف المساجين. أما مستر "إدوارد" فلم تكن مفاجأة له. فقد كان موقناً من كذب الوزير الأول.

 ولما تبين لمندوبي المساجين سخرية أعضاء وفد الحكومة مما حواه سجلهم، قال مستر "إدوارد" مخاطباً مندوبي الحكومة:

ـ إن هذا السجل وما حواه من وظائف قد أعد بناء على توصية الوزير الأول الذي قدمه للمساجين، ولقد طلب منهم إبداء رغباتهم وقطع على نفسه عهداً بتحقيق هذه الرغبات. وابتسم مستر "سميث" في خبث وقال:

ـ حتى بفرض صحة صدور هذا القول من الوزير الأول، فلا حجية له على الحكومة، فكل قول أو فعل يصدر منه بصفته الشخصية يسأل عنه وحده، وما نسب إليه مجرد وعود سياسية، قصد بها الإفراج عن الضباط الأسرى.

 وأنهى كلامه طالباً إغلاق باب المناقشة حيث أن الحكومة لا تحاسب على جميع أقوال وأفعال الوزير الأول. وبدأ مستر "طومسون" في تدوين محضر الجلسة بذكر الوقت والتاريخ ومقدمة بها أسماء أعضاء الوفدين وصورة مرسوم العفو. ثم تحدث مستر "سميث" قائلاً:

ـ إن الحكومة أحالت الموضوع الخاص بالمحادثات إلى وزارة الخارجية التي رأت أن الأساس الذي ستجرى عليه المحادثات هو منح المساجين حريتهم خارج إنجلترا.

 وصعق المساجين عند سماع القول، وقال مستر "إدوارد":

ـ لا شك أنكم أخطأتم يا سادة، فإن مرسوم العفو لم يقيد بهذا الشرط.

 وفى برود علق مستر "سميث":

 ـ لقد جاء مرسوم العفومقيداً، وبسبب هذا القيد نتحادث الآن. وطلب من مستر "طومسون" تلاوة مرسوم العفو بصوت جهوري. وبعد أن فرغ طومسون من تلاوته، أكمل مستر "سميث": لقد سمعتم الجملة الأخيرة التي جاء بها: (حسب ما يسفر عنه الاتفاق بعد إجراء المحادثات)، وإننا بصدد هذه المحادثات الرسمية. ووجهة نظر الحكومة أن الأساس الذي تجرى عليه هو منح المساجين حريتهم خارج البلاد. ولو أن المرسوم جاء خالياً من هذه الجملة لأفرج عن المساجين فور توقيعه من جلالة الملك بلا قيد أو شرط.

قال جدي:

ـ معنى هذا أن المرسوم تضمن نفي المساجين خارج إنجلترا.

 ولكن مستر "سميث" أبدى استياءه لجهل جدي الذي لم يفهم ما جاء بالمرسوم؛ شارحا ً لهم بأن النفي لا يحتاج إلى محادثات، إذ أن الحكومة في حاجة إلى خبرة المساجين في الخارج، وستجني ثمار هذه الخبرة، وحينئذ يكون لهم حق العودة في أي وقت يرغبون. وهنا طلب مستر "إدوارد" إثبات اعتراضه في محضر الجلسة على ما جاء بوجهة نظر الحكومة، واتهمها بالغدر والخيانة في محادثاتها ومفاوضاتها مقرراً الانسحاب. وهمَ بالوقوف ولحق به جدي و"جون". ولكن دهاء مستر " سمث " أعادهم جلوساً في مقاعدهم ثانية، فقد صاح بنغمة مثيرة قائلاً:

ـ لا تتعجلوا الذهاب على هذه الصورة وإنني على يقين بأن جميع المساجين سيرحبون بخروجهم من البلاد عندما يدركون أن الملك سيركع أمامهم يوم خروجهم.

 وقد هزت هذه الألفاظ مشاعر مستر "إدوارد" الذي كان يتمنى اليوم الذي يرى فيه الملك راكعاً أمام الشعب، فجلس ثانية ومن خلفه جدي و"جون" واتجه بصر وفد المساجين إلى شفتي مستر "سميث" وهما تنطقان:

ـ سيخرج المساجين من إنجلترا آباء مبشرين بالدين.

 وعندما سمع "جون" هذا فغر فاه وأخذت أصابعه تعيث بشعيرات لحيته، كمن رأى شبحاً مخيفاً في الظلام ثم أخذ يغمغم وبصوته نبرات شك، قائلاً:

ـ هذا مستحيل... وكرر كلمة مستحيل أكثر من عشر مرات ورأسه تهتز في حركات جنونية.

أما جدي فقد ابتسم في بلاهة كمن يعتقد في مزاح من يحادثه. وتمالك مستر " إدوارد " أعصابه وقال:

ـ كيف يحدث هذا وسواد المساجين الأعظم لم يطأ أعتاب الكنائس من تاريخ مولده عدا اليوم الذي حمل فيه رضيعاً كي يُعمد، كما وأن معظمهم لا يعرف القراءة والكتابة. ولا شك أن هذا الفعل يعتبر خيانة لحرمات الدين والبشرية بأجمعها. وعلق مستر "سميث" على قوله:

ـ لقد أُعد لكل شئ عدته، فسيمكث المساجين عاماً يدرسون خلاله تعاليم الدين والقراءة والكتابة وأصول التبشير.

فسأله مستر "إدوارد":

 ـ ما وضعهم بالنسبة للكنيسة عندما ترفض الاعتراف بهم. وحينئذ بأي حق يدعون باسم الدين مبشرين.

فأجاب مستر "سميث":

ـ فى هذه الحال سيظلون أبائاً مبشرين تابعين لوزارة الخارجية بوصفهم قسساً مدنيين.

واعترت الدهشة مستر "إدوارد" فقال:

ـ  ومن ثمَ ستكون رسالتهم في التبشير سياسية، أي دعاية للاستعمار باسم الدين.

 ولم يصادف هذا القول هوى في نفس مستر "سميث" فأبدى امتعاضه من أسلوب مستر "إدوارد" وصمت. وعندئذ تحدث العضو الثاني، مستر "ريتشارد" مخاطباً مستر "إدوارد":

ـ إذا كان الاستعمار في نظرك أنت وأتباعك جريمة، فيحق لي أن أقول بأنك لست إنجليزياً، فهذا الشعب يعيش من أجل مبدأ واحد وهو (استعبد غيرك من الشعوب، وإلا يأتيك يوم تستعبد فيه). واستطرد قائلاً: إن رسالة المبشرين ستسير وفق تعاليم وزارة الخارجية، وذلك يحث الشعوب على طاعة شعبنا وأبنائه. وطال الجدل واحتدم النقاش بين مستر "إدوارد" وبين أعضاء وفد الحكومة، وأنهى مستر "إدوارد" اعتراضه فى محضر الجلسة قائلاً:

ـ خير للمساجين أن يظلوا بالسجن حتى يدركهم الموت من أن يكونوا أداة شر واستعمار باسم الدين.

وعاد الوفد إلى السجن وقد احتشد جميع المساجين خلف الباب في انتظار ساعة الخروج لاستلام مناصبهم. وأصيبوا بذهول عندما رأوا أعضاء وفدهم قد لاذوا بالصمت، وكأنهم قد عادوا بعد تشييع جثمان عزيز عليهم إلى مقره الأخير. ولم يكن بيد أحدهم سجل الوظائف، فقد تركوه على مائدة المحادثات بحجرة المحافظ، فلم يعد من وراء حمله سوء العناء. وقد كفاهم ما أصابهم من سخرية بسببه. والتف المساجين حول أعضاء الوفد سائلين، فاعتذر مستر "إدوارد" عن الإجابة لسوء صحته وتوجه إلى الفراش. وقد بدا على وجهه حزن عميق. أما "جون" وجدي فقد أحاط بهما المساجين من كل جانب، فلم يستطيعا فكاكاً. فأعلن "جون" على سمعهم ما تم في الاجتماع وقرأ ما جاء بمحضر الجلسة. فارتفعت الأصوات من كل مكان صارخة في دهشة:

ـ آباء.. مبشرون.. مبشرون.. وتعالت الضحكات فترة طويلة ثم تفرق المساجين، وكأنهم غرقى في بحر متلاطمة أمواجه وقد ضل سبل النجاة.

ويقول جدي في مذكراته:

بعد انحسار موجة الفزع التي أثارها هذا النبأ في قلوب المساجين، أخذوا يجتمعون في حلقات، بعضهم يقلد القسس في إلقاء الموعظة ومنح البركة. وأحاط نفر منهم بـ "جون" طالبين منه أن يعلمهم الصلاة التي يحفظها. ولما لم يستطع التملص منهم، لقنها لهم. وكانت قصيرة يرددها على روح الأموات، وفى كل مناسبة لم يكن يعرف صلاة سواها وهى (اللهم اغفر لنا خطايانا). وأخذ المساجين يرتلونها عدة مرات بنغم مختلف. وفي حلقة أخرى تمدد سجين على الأرض مثل الأموات. وانطلق بعض المساجين يصلون عليه بألفاظ لا يفهمها أحد حتى الذي كان ينطق بها. ووقف سجين يمثل دور المبشر وأمامه سجين آخر يمثل دور الوثني الذي يستعطف المبشر كي يهديه للدين. فيقول له المبشر وقد أمسك بأذنه:

ـ عليك أن تتبع رسالة وزارة الخارجية البريطانية! فهي وكيلة عن آلهة السماوات في الأرض! حتى ترسل اسمك إلى السماء كي يحجز لك مقعداً في الجنة، وإذا لم تنفذ تعاليم وزارة الخارجية البريطانية فسترسل لك عدداً من الشياطين، يحيلون حياتك جحيماً حتى تهلك على أيديهم، وتخلد بعد هذا في النار.

 ويقول الوثني مخاطباً المبشر:

ـ ما تعاليم وزارة الخارجية التي أتبعها حتى أضمن مقعدي في الجنة؟!

 ويجيبه المبشر:

ـ تؤمن بتعاليم وزارة الخارجية البريطانية، وتظل عبداً خاضعاً لأوامرها، وتجعل ظهرك مطية لها. أما أموالك فهي مباحة لهم يتمتعون بها في الدنيا ولك عوض في عطفهم ورضائهم. فهم رسل ووكلاء عن الآلهة. ثم يبسط المبشر كفيه ويستأنف مخاطبة الوثني قائلاً: امنحني مالك فإني أحد الرسل الكرام، وقد أرسلت إليك بتفويض من وزارة الخارجية البريطانية.

فيجيب الوثني:

ـ  إنني فقير.. لا مال لديَ..

فيهز المبشر رأسه غاضباً ويشيح بوجهه بعيداً ثم يقول:

ـ أغرب عن وجهي فأنت وثنى مأواك النار. ولن ينالك شرف الرق والاستعباد على يد أبناء الشعب الإنجليزي.

فيبكي الوثنى ويقول متذللاً:

ـ إننى أستطيع السجود أمام صورة الملك أياماً ثلاثة دون أن أرفع رأسي. أليس في ذلك شفاعة تدخلني الجنة..!!

فيقول المبشر:

ـ إن الملك لا يقبل صلاة المفسدين ولا دعاءهم، فهم يطيلون في صلاتهم ويكثرون من دعواتهم خداعاً ونفاقاً كي يحقق أمانيهم.

 ويستمر الوثني في بكائه وتوسله ثم يقول للمبشر:

ـ أبتي إني أرجوك.. أن تتخذ ظهري مطية لك.. حتى أحظى بثواب رضاء الرسل.

فيقول له المبشر:

ـ إن هذا أضعف الإيمان برسالتنا. ولكن شفقة بك ورحمة منى سأمنح ظهرك البركة.

ثم ينحني الوثني راكعاً، فيمتطيه المبشر، ويسوقه كالحمار يطوف به داخل ساحة السجن. ثم يهبط من على ظهره وحينئذ يتضرع الوثني أمام المبشر قائلاً:

ـ إني عبد طائع لرسالة وزارة الخارجية، وبربك يا أبتي تخاطبها كي تنقل والديَ من النار إلى الجنة في مقعدين مجاورين لمقعدي، فقد ماتا على الوثنية، ولهما عذرهما فقد كانا يجهلان وكالة السماوات في الأرض.

فيصيح المبشر:

ـ  إن هذا الفعل ليس من اختصاص وزارة الخارجية، فعقد وكالتها محصور في رفع أسماء الطائعين كي تحجز لهم مقاعد في الجنة. أما طلبات الانتقال من النار إلى الجنة فهي من اختصاص الملك وحده، وهذا لا يتأتى لك سوى بالصلاة للملك صباحاً ومساء، والركوع أمام أفراد الشعب الإنجليزي لدى رؤيتهم، وحملهم على ظهرك حتى يتقوس، ولا تستطيع الوقوف على قدميك كالبشر، فتسير على أربع كما تسير الدواب.

ويتساءل الوثني:

 ـ أليس هناك وسيلة أخرى ألجأ إليها لأدخل ووالداي الجنة؟

فيقول المبشر:

 ـ نعم.. نعم.. هناك وسيلة وهى أن تبذل دمك فداءً للتاج البريطاني فتحارب بأمره حتى يمتد نفوذ استعماره على بقعة أخرى خلاف بقعتك وبهذا ترضى عنك الملائكة والرب أجمعين. وتحقق جميع رغباتك في الآخرة.

 وأصبحت ساحة السجن مسرحاً يمثل على خشبته فصولاً مختلفة في آن واحد، وبدا المساجين كأنهم سكارى وما هم بسكارى ولكن الدهشة أذهلت عقولهم. ولقد ختمت هذه الصورة بصورة مفجعة، لم يكن يتوقعها أحد. ومن هولها أخرس الجميع وران على السجن سكون مخيف. فقد كان سجينان ينتسبان لقرية واحدة، يدعى أحدهما "هايد" والآخر "جيكل". وكانا متهمين في حادث قتل، وحكم القضاء عليهما بالمؤبد مدى حياتهما، فتوسط أحد اللوردات لهما وهبطا بـ "سجن العظماء" وظلا متلازمين حتى جاء يوم المحادثات، وسرى الهرج بين المساجين. وجلس "هايد" ممثلاً دور القسيس الذي يسمع اعتراف مذنب أمامه، وجلس "جيكل" يعترف بذنبه. وقد غمرته نشوة الموقف، وخيل إليه أنه أمام قسيس حقيقي فأخذ يعدد خطاياه ودعا له "هايد" دعوة كفّرت عن جميع ذنوبه، فقد أمسك حجراً وانهال على رأسه حتى فارق الحياة. وبرر "هايد" فعلته مدعياً بأن "جيكل" قد اعترف له بأنه كان على صلة بامرأة أحبها هو قبل دخول السجن، وما زال يغار عليها. وسُلم "هايد" للحراس فقادوه ليُحاكم في لندن. وبعد هذا الحادث عاد المساجين إلى حالتهم الأولى قبل المحادثات. وتركوا الدين والموعظة ووزارة الخارجية. أما مستر "إدوارد" فكتب مقالاً اتهم فيه الحكومة بالكذب وتضليل الرأي العام. وتعديها على حرمات الدين والكنيسة. وساق في المقال ما جاء بحادث "هايد" و"جيكل" وأرفق به صورة محضر جلسة المحادثات.

وبعد نشر المقال تم التحقيق مع الحراس، وانتهى التحقيق بنقلهم جميعاً واستبدالهم بحراس جدد. وكادت الحملة الصحفية التي تلت نشر هذا المقال أن تطيح بالحكومة، وخاصة أن الكنيسة أصدرت بياناً أبدت فيه استياءها من سوء سياسة الحكومة، وامتهانها للدين بهذا الأسلوب، ورغبتها في استعمار الشعوب على حساب الدين. وختمت الكنيسة بيانها بأنها بريئة مما تفعله الحكومة من أفعال مشينة. وتؤكد عدم اعترافها بالمساجين تابعين لها كمبشرين، وأن الملابس السوداء التي تمنحها الحكومة لهم هي شعار للاستعمار.

وأسقط في يد الحكومة فقد وجدت نفسها في مأزق حرج أمام الرأي العام. فاستعملت الحكومة إحدى ألاعبيها السياسية وأرسلت إلى السجن رسولاً يحمل رسالة للمساجين مضمونها أنها تبدي أسفها بعدم الاعتراف بـ "مستر إدوارد" كمندوب عن المساجين في لجان المحادثات، بعدما تبين لها أنه لا يوجد سجين في (سجن العظماء)، وأن من يدعى "إدوارد رايت" كان سجيناً وقد توفي منذ سنوات طويلة، وله قبر في لندن غير مجهول. وبما أن الشخص الذي أنابه المساجين عنهم في لجان المحادثات مجهول الشخصية لانتحاله اسم شخص توفى، لذلك فالحكومة لا تقبله مفاوضاً باسم المساجين في لجان المحادثات، التي ستنعقد بعد ثلاثة أيام بمكتب محافظ السجن، وفى هذه الحالة على المساجين أن يختاروا شخصاً آخر. وأحدثت هذه الرسالة أثراً سيئاً في نفوس المساجين الذين لم يروا مناصاً من الانسحاب من تلك المحادثات. ولكن مستر "إدوارد" رأى بأن يستمر المساجين حتى نهاية الطريق ليدركوا الخطوة التالية للحكومة بعد هزيمتها أمام الرأي العام. ورشح "ستون" ليحل محله في لجنة المحادثات فقد يكون في ساعديه ما يذلل صعابها.

* * * * *

رسالة من صديق ترشح لي متابعة المواقع الدولية لحقوق الإنسان لأنها تفضح وحشية الأنظمة العربية والغربية بحد سواء. ووجدت عشرات التقارير حول حقوق الأقليات، وحقوق المرأة وتمكينها، واضطهاد حملة الأقلام من كتّاب وصحفيين،وتعذيب سجناء الرأي. وكل هذه التقارير مدعمة بالصور التي يشيب لهولها الولدان! وقادني البحث إلى موقع وزارة الخارجية الأمريكية،حيث وجدت ملفات تحمل هذا العنوان "سيناريوهات المستقبل" ويضم دراسات حول مستقبل دول وشعوب وتكتلات وعلاقات دولية. ووجدت ملفاً لـ"سيناريوالحرب على العراق"،وآخر يخص إيران ـ سورياـ لسعودية ـ مصر. لكن ما لفت انتباهي كان ملفاً بعنوان: "أوراق الديمقراطية"، وكان مترجماً إلى اللغة العربية بلهجة لبنانية، ويطرح الديمقراطية بوصفها مخططاً استعمارياً جديداً لإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط، اعتماداً على تعطش الشعوب العربية إلى مجرد تداول الحديث عن الديمقراطية – الإصلاح – التغييرـ اختيار الحاكم بين أكثر من مرشح. وبعد قراءتي لهذا الملف، استقر بأعماقي خوف عظيم فلقد تكشفت أمامي تفرعات مفزعة لمخطط أمريكا لنشر الديمقراطية، وتجلت بدايتها من الإصرار على طرح النظام الفيدرالي بديلاً حتمياً لمركزية الحكم في البلاد العربية. ولا يخفى على أحد ما سيصحب ذلك من تشجيع للأقليات العرقية والدينية للمطالبة بحق تقرير المصير، الذي غالباً سيمهد الطريق إلى الانفصال.. وهكذا يتم تفتيت البلاد العربية إلى "تجمعات / فيدراليات" يسهل إقناعها بالمشروع الأكبر وهو "الشرق الأوسط الكبير".  سيناريو مخيف لكنه منطقي..!!

* * * * *

 أنباء متتالية عن تظاهرات كردية في شمال العراق مطالبة بحق تقرير المصير.. أنباء أخرى عن تحركات للشيعة في الجنوب ملوحة بما يتمتع به الشيعة من قوى حربية وروحية. أتباع طائفة المسلمين السنة يشعلون وسط العراق بالمقاومة الشرسة ومعارضة مطالب الأكراد والشيعة. "جون جارانج" زعيم المتمردين بجنوب السودان يجلس إلى مائدة المفاوضات مع الحكومة السودانية للاتفاق على صياغة فيدرالية للحكم في السودان. تمرد في منطقة دارفور.. مشاحنات بين المسيحيين والمسلمين تمتد من جنوب مصر إلى الدلتا ثم القاهرة. ويتبادل الطرفان اتهامات بإغواء الإناث للتخلي عن عقيدتهن. ومظاهرات مسيحية تنطلق من داخل كاتدرائية العباسية وبقية كنائس مصر المحروسة..!! مظاهرات تطالب رئيس الجمهورية بالتنحي أو عدم التجديد لفترة رئاسية جديدة. مظاهرات ضد توريث السلطة في مصر. "كفاية" شعار مرفوع في وجه الحكومة المصرية ورئيسها.

* * * * *

وللمرة الثانية وقف محافظ السجن على باب حجرة مكتبه ليقدم عضو لجنة المباحثات الذي حل محل مستر "إدوارد". ولما رأى "ستون" في المقدمة وخلفه "جدي" و"جون" توقع حدوث شر. وتراقصت على شفتيه ابتسامة فزع مضطربة، ولشدة جزعه أخطأ ونسى أن "ستون" سجيناً، فقدمه ولسانه يتعثر في النطق قائلاً: إنه مستر "بيتر ستون". وبدأ مستر " سميث " يملي على الكاتب مقدمةً طويلةً موجزها أن الحكومة قد تبين لها بعد الرجوع إلى ملفات المساجين استحالة هدايتهم للدين. وتخشى فشلهم في أداء الرسالة المقدسة، وهى التي تحافظ على الدين وتقاليده وتجند نفسها لنشره. ولهذه النتائج التي تتوجس منها خشية قد عدلت عن رأيها الذي أبدته بمحضر الجلسة السابق فيما يتعلق بجعل المساجين أبآءاً مبشرين، مع تمسكها بالمبدأ الذي يتخذ أساساً لإجراء المحادثات وهو تمتع المساجين بكامل حريتهم خارج إنجلترا، وذلك وفقاً للاقتراح الذي تبديه الحكومة اليوم. وقد أغفل مستر "سميث" في هذه المقدمة ذكر أي إشارة لبيان الكنيسة أو الرأي العام. ثم نهض مستر "ريتشارد" العضو الثاني، واتجه نحو دولاب جوار الحائط، وكان بداخله سجلات المساجين، فأخرج من بينها سجل "ستون" وبعد أن تصفحه عاد إلى المائدة، وهمس في أذن مستر "سميث"، ثم غادر الاثنان قاعة الاجتماع إلى الخارج، وملف "ستون" بيد مستر "ريتشارد". وبعد لحظات عادا ثانية إلى مقعديهما. ثم نشر مستر "ريتشارد" خرقة كانت مطوية أمامه منذ بداية الاجتماع، وأشار إلى مندوبي المساجين بأن يتطلعوا إلى الرسم الذي حيك على الخرقة، وكان صورة لامرأة بجناحين على هيئة ملاك.

 وقال مستر "سميث":

ـ إن هذا الذي ترونه أمامكم هو (علم الديمقراطية)، وتحته سيبحر المساجين في سفن تعدها الحكومة لهم، وذلك بعد إعدادهم بالسلاح والمؤن التي تكفيهم لمدة عام. واستطرد قائلاً:

ـ ورسالتهم نشر (مبادئ الديمقراطية) في ربوع البلاد الجاهلة التي مازال أهلها متأخرين. وقبل أن يكمل حديثه قدم لـ "ستون" رشوة قيدته في مقعده بدون حراك فقد قال:

ـ سنعد من المساجين جيشاً له قائد عام هو "ستون"، وسيُمنح رتبة جنرال في جيش جلالة الملك، بعد احتلال هذا الجيش واستعماره لإحدى المناطق.

أما جدي فكان كالنائم الذي استيقظ وفى سمعه نبأ سار، فقد كان يعشق البحر واطمأن إلى كنوزه المخبأة ورآها بين يديه وهو يجلس على مائدة المحادثات وبجواره "ستون" مغمضاً عينيه على حلة الجنرال. وكان وفد المساجين على جهل تام بمعنى الديمقراطية، ولم يسمع أحد منهم هذا اللفظ من قبل. فكلمة (الديمقراطية) لم تكن متداولة في هذا العصر سوى في محيط الساسة وأصحاب الثقافة الرفيعة. وقد كانت هناك جماعة من أفراد الشعب يطلقون على أنفسهم الديمقراطيين. ولكن المساجين لم يكونوا يعلموا من أمرهم شيئاً. لذلك سأل "جون" عن معنى الديمقراطية التي يرمز لها هذا الشعار. وأفاض مستر "سميث" في شرح الديمقراطية، ومدى ما يصيب البشرية من خير باتباع مبادئها. وقام "جون" بتدوين هذه المناقشة الشفهية، وتبين لي منها أن المفاوض الإنجليزي أستاذ في هذا المضمار. فهو يتعمق في درس وتحليل الشخصيات التي يتفاوض معها، وينهج في مفاوضته أسلوباً يتفق مع طبيعة هذه الشخصيات، وإنني أرثي لحال الشعوب التي تتفاوض مع الشعب الإنجليزي، فمهما بلغ مندوبها من البراعة السياسية، وحصلت هذه الشعوب على معاهدات تضمن استقلالها، فإن هذه المعاهدات لن تعدو إلا أن تكون صكوك استعمار، يمنحها لهم التاج البريطاني بصيغة ترضيهم بهذا الاستعمار. وما جاء في مذكرات جدي، على لسان مستر "سميث"، شرحاً لمعنى الديمقراطية هو آية لفصول مسرحية هزلية. فقد قال مستر "سميث" لمفاوضيه: "ستون" و"ماكسويل" و"جون" بعد أن أدرك حدود أفكارهم:

ـ إن الديمقراطية ولدت في بلاد الإغريق قبل ميلاد المسيح، ومنحت سر الخلود. وحينما اكتملت أنوثتها كانت معبودة الجميع لجمالها وصفاتها، ولكن القياصرة والأباطرة أمعنوا في اضطهادها، فهربت داخل مقاطعات أوروبا ودولها وكانت تنادي بالمحبة والإخاء والسلام، ولجأت إلى فرنسا في عهد "لويس الرابع عشر" الذي أراد أن يعتدي على عفافها. فاستقلت زورقاً وعبرت بحر المانش تحت جنح الظلام. ومن هذا التاريخ تعيش في إنجلترا حبيسة داخل وزارة الخارجية، وقد فرضت الحكومة حراسة مشددة عليها خوفاً من الاعتداء على حياتها. وتوجد في آسيا وأفريقيا شعوب تخر ساجدةً عند سماع اسمها، وقد جند أهل هذه الشعوب أنفسهم لخدمتها فهم يعبدونها ويرسلون لها المؤن والهدايا. وبذلك أصبحت مصدر رزق الشعب البريطاني. والصورة التي على علم صورتها. وقد أجاد "سميث" الإلقاء، فتأثر أعضاء وفد المساجين بقصة الديمقراطية، وما أصابها من اضطهاد. وكان جدي خبيراً بأعلام الدول التي ترفع على السفن فقال:

ـ لم أرى هذا العلم على أي سفينة خلال مدة طوافي بالبحار. فلم لا نبحر تحت العلم الإنجليزي حتى لا نتعرض لهجوم السفن المعادية للديمقراطية ؟ وأخفى مستر "سميث" الحقيقة عن جدي وزميليه، فقد بحث هذا الأمر في وزراة الخارجية، وانتهى البحث بعدم منح المساجين العلم الإنجليزي، حتى لا تتعرض الحكومة لنتائج طيشهم مع الدول الأخرى. وأجاب مستر "سميث":

 ـ إنكم أشجع أبطال عرفتهم إنجلترا حتى الآن ويكفى أن السجن الذي يضمكم يسمى بـ (سجن العظماء) ولا يوجد من يخاطر بالإبحار تحت هذا العلم إلا أنتم، وحينما تنجحون في أداء مهمتكم سيكون فخراً للإنجليز والديمقراطية وضربة قاضية للأعداء. وتطلع "جون" إلى صورة الديمقراطية التي كانت على العلم وسأل قائلاً:

ـ هل مازالت تتمتع بجمالها؟ ولماذا لم تأت طائرة في الجو من فرنسا ما دام لها جناحان، بدل أن تستقل زورقاً؟ !

 وتصنع مستر "سميث" الحزن وكادت عيناه تدمعان، وقال في صوت متهدج:

ـ كانت تطير في العهود الماضية ولكن "يوليوس قيصر" أحد أباطرة الرومان الذي كان عدواً لها، سمع بأنها طارت إلى إنجلترا، وكان هذا قبل الميلاد، فجاء بجيشه خلفها وقذفها برمح فكسر جناحاً لها، ومن هذا التاريخ ظلت مهيضة الجناح.

 ولقد هز هذا القول شعور "ستون"، فبدا الحزن على وجهه وسأل مستر "سميث":

ـ وهل الديمقراطية مريضة الآن أم تتمتع بصحة جيدة ؟

وقبل أن يجيب مستر "سميث" وضع يده على جبينه متظاهراً بأنه يرى مصاباً أمامه. وأطرق ساهم الطرف يغالب حزناً عميقاً، ثم قال في صوت أثقلت ألفاظه فداحة المصاب:

ـ إن الديمقراطية تعاني مرضاً عضالاً، ولو أنها قضت نحبها، سيعاني شعب إنجلترا بأكمله الجوع بعد وفاتها.

 ولأول مرة رأى جدي دمع "ستون" الذي انهمر من عينيه حسرة على الديمقراطية. وعندئذ قال مستر "سميث":

ـ هل نبدأ المحادثات الرسمية؟

لم يسمع جواباً منهم، واهتزت رءوس الثلاث بالموافقة، وأخذ يملي على مستر "طومسون" حديث الطرفين، وكلما أشار إلى "ستون" و"جون" و"جدي" ليبدوا رأيهم فيما يدون على لسانهم بمحضر الجلسة، كان جوابهم الموافقة بالإيماء وهم يجهلون ما يُسطر. وانتهى الاجتماع، وبصم "ستون" ووقع "جون" و"جدي" على محضر الجلسة، وتصافح أعضاء الوفدين، وسلم مستر "سميث" لـ "ستون" صورة محضر الجلسة وعلم الديمقراطية وهز يده قائلاً:

ـ أنتم وزملاؤكم المساجين أبناء الديمقراطية البررة، وسأبلغها تحياتكم وسؤالكم عن صحتها فور عودتي لوزارة الخارجية.

 وسأل "ستون" في بلاهة:

ـ وهل الديمقراطية متزوجة؟ ومن زوجها؟

 وأخطأ مستر "سميث" خطأ فاحشاً، فقد فاض به شعور الانتصار باستحواذه على عقل مندوبي المساجين، فضّل طريق الخداع وذكر الحقيقة:

ـ إنها لم تتزوج مطلقاً في حياتها.

 وصاح "ستون":

ـ ما دمت قد ذكرت لنا بأننا (أبناء الديمقراطية) وهي لم تتزوج، فمعنى هذا أننا أبناء خطيئة.

 وخانت "ستون" أعصابه وحدث ما توقع مستر "إدوارد" فكال اللكمـات لمستر "سميث"، وانفرد جدي بمستر "ريتشارد" و"جون" بمستر "طومسون". وكانت معركة حامية انتصر فيها فريق "ستون" انتصاراً باهراً. ولكن المحافظ الذي كان يجلس في الحجرة المجاورة سمع ضجة واستغاثة مستر "سميث" وزميليه فاستدعى الحراس، وبعض جنود الحامية من الخارج، وقد انتقم هؤلاء من فريق "ستون" شر انتقام، ثم حملوهم إلى داخل السجن وقذفوا بهم ومن ورائهم محضر الجلسة وعلم الديمقراطية، ملطخين بالدماء، وأُغلق باب السجن. وهال المساجين رؤية أعضاء وفدهم يقذف بأجسادهم والدماء تسيل بغزارة، واستفسروا منهم عما ألم بهم. وفى حشرجة أخبرهم "ستون" بأن مستر "سميث" ذكر لهم بأن المساجين أبناء امرأة زانية تدعى (الديمقراطية).

* * * * *

إشارة بوصول رسالة إلى بريدي الإلكتروني سارعت إلى فتحها، وإذا بها تحتوي على هذه الجملة:

 Delivery failure

 Recipient account is not found.

 لم يتم توصيل الرسالة، لعدم العثور على عنوان المرسل إليه.

* * * * *      

إنذار بتعرض الجهاز للاختراق، وإذا بالنص يختفي تماماً كأنه لم يكن موجوداً. وعندئذ قررت أن أعيد كتابته تحت عنوان "رحلة أبناء الديمقراطية".