يتناول الباحث المغربي مدرسة نقدية لها إسهامها المهم في النظرية النقدية الحديثة، وهي مدرسة فرانكفورت، وإن لم تحظ بالاهتمام الجديرة به في الثقافة العربية. وبعد استعراض إسهامها وتاريخها يركز الباحث على أبرز نقادها، وهو تيودور أدورنو ليعرفنا بمنهجه وإنجازات

الأدب النقدي والبربرية القاتلة: مدرسة فرانكفورت وأدورنو

يحيى بن الوليد

مدرسة فرانكفورت وفكر أدورنو الأدبي

ثمة سؤال يفرض ذاته بقوة وحدة حول الجدوى من العودة إلى مدرسة ـ ورغم تطوراتها اللاحقة ـ ارتبطت بفترة محددة، بل وتم انتقادها، وفي أوج نشاطها، ومن قبل من أسهم فيها بشكل وازن. ونقصد، هنا، إلى النقد الذي وجهه هربرت ماركيوز إلى مدرسة فرانكفورت خلال الستينيات حين ذكر أنها لا تمتلك المفاهيم والأدوات التصورية القادرة على سد الفجوة بين الحاضر والمستقبل كما أشار إلى ذلك نوم بوتومور في كتابه "مدرسة فرانكفورت" (ص 207). غير أنه، وهو ما سنلاحظه في غضون هذه الدراسة كذلك، فتصورات مدرسة فرانكفورت لا تزال قابلة لـ"الترهين" Actualisation ولا من ناحية جهود يورجن هابرماس اللاحقة وحسب، وإنما من ناحية ما انطوت عليه من أفكار وسواء في مرحلتها الأولى "الماركسية" أو في مرحلتها الثانية التي اتسمت بـ"معاداة السامية". لقد قدمت نقدا قويا لـ"العصر" الذي نعيشه، ولا سيما من ناحية "البربريات المنظمة" و"الأصوليات القاتلة" أو من ناحية "خندق الهاوية الكبير" بتعبير جورج لوكاتش أحد أبرز الذين مهدوا لمدرسة فرانكفورت. فلا يزال تأثير هذه المدرسة بارزا في الفلسفة الغربية، وخصوصا من ناحية ما يعرف بـ"النقد الثقافي" Cultural Criticism الذي برز، وإن في العالم الأنجلوسكسوني، خلال العقود الثلاثة الأخيرة. وقد جرت العادة أن يتم التأريخ لبروز هذا النقد بمقال أدورنو الشهير "نقد الثقافة والحضارة" المتضمن في كتاب له ويحمل العنوان نفسه ومترجم إلى الفرنسية، وفي هذا المقال يتطرق أدورنو إلى "البربرية المنظمة" وانجراف "البنية الداخلية" لـ"العقل" نتيجة تمكن "الفاشية" من "المجتمع المعاصر". هذا بالإضافة إلى أنه في الفترة التي يكثر فيها السؤال حول أزمة الأنظمة، بل وأزمة التاريخ، تكمن أصالة مدرسة فرانكفورت كما يقول بول لوران آسون في كتاب "مدرسة فرانكفورت" (ص 131). ويهمنا، هنا، أن نعرض، وفي منظور المدرسة، لدور الأدب على مستوى "المواجهة": مواجهة "البربريات". والأدب، هنا،  أو بالأدق "الأدب النقدي"، من حيث هو عنصر يتأطر داخل "الفن الأصيل" الذي هو "صورة مجازية" عن "الثقافة" في سعيها إلى "فك" التباس البربريات سالفة الذكر.

1 ـ في النظرية النقدية:

سيبرز داخل ألمانيا، وبعد فترة الحرب العالمية الثانية، تياران بارزان، هما: تيار "مدرسة فرانكفورت"، وتيار "الهرمينوطيقا" تحت تأثير هانس جورج غادمير (1900 ـ 2002) الذي سيكون له تأثير واسع على أعمال "جمالية التلقي" Esthétique De La Réception وعلى وجه الخصوص أعمال هانس روبير ياوس ومن التف حوله وتلاه. وتعد مدرسة فرانكفورت، وهو الاسم الذي ستشتهر به ابتداء من الستينيات، من أهم المدارس الفلسفية في القرن العشرين. غير أن ظهورها، وإن تكاثفت جهودها في الستينيات، يعود إلى عام 1923. وقد ارتبطت باسم كارل كرونبورج (Karl Grunberg) (1861 ـ 1940)، وقد اتسم نشاط المعهد في هذه الفترة الأولى بطابع ماركسي واضح جنبا إلى جنب الاهتمام بالقضايا الاقتصادية. أما ماكس هوركهايمر Max Horkheimer فلم يتسلم رئاسة المعهد (معهد فرانكفورت) إلا عام 1923 ونتيجة تدهور الحالة الصحية لكارل كرونبورج، ومعه ستتضح معالم "النظرية النقدية" التي ستصبح علامة على نشاط المعهد. وقد انتقل نشاط المدرسة، ونتيجة اختياراتها الفلسفية "الماركسية"، ونتيجة تحدر أبرز أعضائها من أصول يهودية، إلى جامعة كولومبيا بنيويورك. وكل ذلك حصل في أثناء التحول الذي عرفته ألمانيا بسبب من وصول الحزب النازي إلى الحكم عام 1933 حيث سيقوم وبعد فترة وجيزة بإغلاق المعهد وإتلاف مكتبته. غير أن المدرسة ستتمكن من العودة ثانية إلى ألمانيا عام 1955 حيث سيبرز من جديد نشاطها تحث الجهود المكثفة لماكس هوركهايمر (1895 ـ 1973) وتيودور أدورنو T. W. Adorno  (1903 ـ 1969) اللذين ظلا يتطلعان لهذه العودة بسبب من عدم انسجامها مع الوضع في أمريكا، عكس زميليهما هربرت ماركيوز H. Marcuse (1898 ـ 1979) "فيلسوف الطلبة" و"التمرد" الذي تكيف مع الأوضاع في أمريكا بل وظل يدرس في جامعاتها إلى أن وافته المنية.

ويتصور ميكال أبنسورMiquel Abensour ، وهو أحد أهم مقدمي تصورات مدرسة فرانكفورت للعالم الفرانكفوني، في كتابه "مدرسة فرانكفورت" (1984)، وهو في الأصل سلسلة من الحوارات كان قد أجراها معه الكاتب المغربي اليهودي إدمون عمران المالح في جريدة "لوموند" (Le Monde) الفرنسية (القسم الثقافي)، أن تسمية "مدرسة" تبدو "جامعية" و"دوغمائية" ولا تعبر عن "نشاط" معهد فرانكفورت الذي كانت تعبر عنه مقالات مجلتهم النشيطة "البحث الاجتماعي"، ويؤثر في مقابل ذلك تسمية "جماعة" و"دائرة". ويشدد فيل سليتر بدوره، في كتابه "مدرسة فرانكفورت"، على التحفظ نفسه حيث يتصور أن اسم "مدرسة فرانكفورت" "فضفاض" (ص 57). وفي الحق لقد سعى أعضاء المدرسة إلى التحرر من الصورة النمطية للفيلسوف أو العالم، وهذا ما جعل كتاباتهم في شكل "مقالات" قوامها، وعلى صعيد الكتابة ذاتها، "التشظي" و"الحدس" لا "التماسك المنهجي" أو "الترابط المنطقي" للأفكار. هذا بالإضافة إلى أنهم رفضوا تسميات "عضوية" كانت رائجة بشكل واسع مثل مفهوم "الوطن" و"الدولة" وغيرهما من المفاهيم المتحدرة  من التراث الهيجلي والماركسي والتي كان أدورنو ـ الذي سنعنى به أكثر في هذه الدراسة ـ يراها "متواطئة" مع "النسق الاجتماعي"، مما كان يجعلها ـ في النظر الأخير ـ شكلا من أشكال "التعذيب". غير أن ما سلف لم يحل دون انتشار تسمية "المدرسة" التي ستشتهر بها أعمال هوركهايمر وأدورنو وماركيوز.

2 ـ مرجعية الأدب النقدي:

يرفض أعضاء مدرسة فرانكفورت قراءة الأدب من خلال الواقع، بل ويرفضون "الواقعية" عامة كما كان ينظر إليها جورج لوكاتش G .Lukacs ألمع ناقد أدبي في تلك الفترة كما سنلاحظ بعد حين. و"الأدب النقدي"، وتبعا لـ"النظرية النقدية" التي اشتهر بها أعضاء المدرسة، لا ينصاع لمثل هذا الافتراض؛ إنه "نفي" Négation للواقع الذي يشير إليه، ونقد Critique يتحقق بواسطة "المقاومة". النقد الذي لا يركز على "الإجابات" فقط، وإنما على "الأسئلة" أيضا؛ و"النقد الحقيقي"، كما قيل، "لا يحلل الإجابات بل الأسئلة". ودون أن نتغافل، هنا، عن أن مفهوم "النفي" يقضي بنا إلى مفهومين آخرين، هما: "النقض" و"السلب"، لكن على النحو الذي يكشف عن انمحاء "التفاعلات التراتبية" بين هذه المفاهيم الثلاثة كما يقول الدارس العربي علاء طاهر في كتابه "مدرسة فرانكفورت" (ص 20). فمن الجلي إذن أنه ثمة مفاهيم تتأطر داخلها تصورات "النظرية النقدية" للأدب، ومنها مفهوم "النقد" و"النفي" اللذين اشرنا إليهما ومفهوم "التمايز" Non-Identité الذي لم نشر إليه. وتجاور هذه المفاهيم، وفي نظرية محكمة، هو ما مكن أعضاء مدرسة فرانكفورت من تقديم تصور متميز للأدب، والإسهام ـ بالتالي ـ في السؤال المحير: "ما الأدب؟". غير أن أعضاء المدرسة أقدموا على الإجابة على هذا السؤال انطلاقا من محاورة الإرث الفلسفي الألماني بأكمله، وهو ما منحهم فرادتهم وتميزهم. ويقع الفيلسوف إيمانويل كانط Kant في مقدم هذا الإرث. وكل ذلك من خلال "نظرية المعرفة" Théorie De La Connaissance التي كان وراء تأسيسها والتي سعى من ورائها إلى "محاكمة العقل" بدليل أنه لم يتقدم، ومنذ الفترة اليونانية وحتى فترته، "قيد أنملة"، ولأجل ذلك ميز بين "الظاهر" و"الشيء في ذاته" وبين "الفهم" و"الإدراك"... إلخ. وأما هيجل Hegel، وبدلا من أن ينتقد العقل على نحو ما فعل كانط في "مثاليته النقدية"، فسيؤكد على دور العقل وسيعتبره قوة إيجابية وقبل الإقرار بالواقع ذاته كما يقول هوركهايمر في مقاله/ كتابه اللافت "النظرية التقليدية والنظرية النقدية" (1937) الذي يعد البيان النظري لمدرسة فرانكفورت (الترجمة العربية، ص 27). ستستفيد مدرسة فراكفورت من الحوار بين كانط وهيجل، وستستثمره في أفق الإفادة من كتابات كارل ماركس (الشاب) باعتباره واحدا من مفكري "التحرر الإنساني". وكما ستنفتح على تصورات أخرى مثل تصورات ماكس فيبر الاجتماعية وتصورات فرويد في مجال النفس الإنسانية والحضارة الإنسانية، وكما ستستفيد من تصورات الفلسفة الفينومينولوجية وتصورات شوبنهاور ونيتشه وجورج زيميل... إلخ. وهذا ما جعل دارسو "النظرية النقدية المعاصرة" يتصورن أن "النظرية النقدية" "شكل أرحب من التحليل الاجتماعي" (رمان سلدن: النظرية النقدية المعاصرة، ص 63).

وما يلفت الانتباه، أكثر، على صعيد المرجعية، أو الحوار سالف الذكر مع التراث الفلسفي، هو الماركسية التي كانت في أساس ظهور المدرسة. ويتصور بول لوران آسون، في كتابه السابق، أن الماركسية ليست "عقيدة خارجية" في الإشكالية الفرانكفورتية، وإنما هي أكبر مرجع نظري مشرع للنظرية النقدية (ص 77). غير أن "الماركسية النظرية"، وكما كان قد تم تطويرها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وبألمانيا ذاتها، بدت كنظرية علمية شبه منتهية. فقد كان ينتظر منها أن تشكل قوانين التطور الاجتماعي مثلما ينتظر من العلوم الفيزيائية أن تشكل قوانين المادة. وفي هذا السياق سيتم، وكما يشرح جان ماري فنسنت، في كتابه المتميز "النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت"، الربط بين النظرية والتطبيق نتيجة الأزمة الحاصلة في النظام الرأسمالي ونتيجة فشل الحركات الثورية في أوروبا عامة (ص 53). ومن ثم لن يبدو "نقد الاقتصاد السياسي" الأداة الأنجع لمواجهة الإيديولوجيا، فهذا النقد سيجد نفسه مضطرا لأن يترك المجال لنقد من نوع آخر يفيد من الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع. وكل ذلك من أجل بلورة تصور متكامل لحركة التاريخ يتم بموجبه "تجاوز" النظرية النقدية الماركسية في نزعتها الاقتصادية الأحادية. وفي الحق فقد كان لوكاتش، الذي تزامن ظهور كتابه "التاريخ والوعي الطبقي" (1923) مع ظهور المعهد، سباقا إلى هذا النوع من النقد، وخصوصا من ناحية مفهوم "الفيتيشية" (فيتيشية العلاقات الاجتماعية). وقد ساير كارل كورش Karl Korsch (1886 ـ 1961) جورج لوكاتش في هذا "النقد" الذي ستفيد منه مدرسة فرانكفورت. إجمالا، وكما يلخص جان ماري فنسنت في كتابه السالف، ينبغي الاعتراف بأن مدرسة فرانكفورت لم تكن فقط مجرد أداة للنقد الذاتي للماركسية، وفي المنظور الذي يسعى إلى تجاوز بعدها الأحادي، وإنما كانت أيضا إعلانا عن مرحلة جديدة للماركسية ولتصفية حسابات مع العقل الشائخ للدولة (ص 153).

إلا أن ما يلفت الانتباه، ضمن الحوار الفلسفي لمدرسة فرانكفورت مع التراث الفلسفي الألماني بل وتراث الفلسفة برمتها كما يقول هوركهايمر، وعلى صعيد الأدب، هي أفكار هيجل. لقد جاءت مدرسة فرانكفورت لتقدم تصورات للأدب مغايرة لما كانت تدعو إليها بعض الاتجاهات التي مارست عليها "الهيجلية الجديدة"، ومنذ عشرينيات القرن الماضي، تأثيرات واسعة، وخصوصا على نحو ما تجسد عند الهيجيلي الهنغاري والفيلسوف الماركسي والناقد الأدبي جورج لوكاتش (1885 ـ 1971) الذي سلفت الإشارة إليه أكثر من مرة وتلميذه الروماني/ الفرنسي لوسيان غولدمان (1913 ـ 1970)، وكل ذلك في نطاق ما يسمى بـ"المدرسة الهيجلية الجديدة" في "النقد الماركسي ولاحقا تيار "البنيوية التكوينية" Structuralisme Génitique. غير أن القول بـ"إخفاق الهيجلية" لا يفيد البتة أن مدرسة فرانكفورت لم تأخذ من هذه الأخيرة، بل إن تداول أفكارها، ولا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية، أو "مرحلة المعهد الأمريكية" كما ينعتها بول لوران آسون (ص 67)، ما كان له أن يتحقق ـ وبالصورة التي تحقق بها ـ لولا بعدها الهيجلي. ودون أن نتغافل عن عوامل أخرى ساهمت في تداول أفكار المدرسة يمكن تأطيرها ضمن الانتقال من التحليل الماركسي القائم على تحليل الرأسمالية إلى التحليل القائم على العقلانية الأداتية والعلم والتكنولوجيا كما يتصور ويلسون H.T.Wilson في مقال له حول "النظرية النقدية في الولايات المتحدة الأمريكية (1938 ـ 1978)" ضمن كتاب جماعي حول "انتشار مدرسة فرانكفورت" (La Postérité De L Ecole De Francfort) (2004).

وتقرر الفلسفة الجمالية الهيجلية أن الواقع لا يمكن فهمه إلا كـ"كل متسق" وكـ"كلية دالة"، ومهمة الفيلسوف هي فهم العالم كـ"كلية متنامية" ذات "دلالة تاريخية". ومن هذه الناحية فقد وصفت هذه الفلسفة بـ"العقلانية" و"الواقعية"، لأنها تتصور أن "كل ما هو واقعي عقلاني وكل ما هو عقلاني واقعي". و"الحقيقة"، وكما يضيف هيجل في "ظاهرية الروح"، تكمن في "الكلية" التي هي ليست إلا "الجوهر الذي يتحقق في الصيرورة". وهذا "الجوهر الخفي"، والذي يكمن وراء الظواهر، هو ما سيعتمده لوكاتش في تصنيف الرواية في كتابه المبكر "نظرية الرواية" (1916) الذي تم توصيفه بـ"الهيجلي" و"الوسيط ما بين المثالية الألمانية ونقد أورباخ" كما يقول عنه جون  إبف تاديي Jean Yves Tadie في كتابه "النقد الأدبي في القرن العشرين" ( La Critique Littéraire Au 20 siècle) (ص 157). وهو الجوهر الذي لا توافق عليه مدرسة فرانكفورت، موازاة مع مفهوم "الكلية" في التباسه بـ"النسق الاجتماعي". ويشرح إيان كريب، في كتابه "النظرية الاجتماعية"، بأن مفهوم "الكل" عند لوكاتش "مفهوم أساسي" ويشير إلى إمكانية "وجود وحدة بين الطبيعة والمجتمع" و"قيام معرفة عقلانية تجمع بين الاثنين"... أما عند منظري مدرسة فرانكفورت فتأخذ "الكلية" معنى "سيئا"؛ فـ"فكرة الكل" لم تعد مرتبطة بتحرير الإنسان بل أضحت مرتبطة بقهره، وأصبحت محاولة اكتساب المعرفة الكلية (الشاملة) هي بالضبط هدف المجتمع الشمولي. ومن ثم فإن "المكان الوحيد" الذي قد نعثر فيه على الحقيقة، حسب أدورنو، ليس هو في الكل أو الوحدة الكاملة، بل في تلك الأجزاء المغفلة من تجربة الفرد التي نجت من وطأة هذا الكل (ص 221). وكما ستتصدى المدرسة لمفهوم "الهوية" على نحو ما صاغها هيجل، ويشرح بول لوران هذه الفكرة قائلا: "إن الدعوى الفلسفية الأساسية "للنظرية النقدية" هي دحض "نظرية الهوية" التي أعطاها هيجل شكلها المكتمل.

 وهوركايمر هو أوضح من عبر عن ذلك فيما كتبه عام 1932 حول "هيجل والميتافيزيقا" (ص31). هذا بالإضافة إلى مفاهيم أخرى تصدت لها مدرسة فرانكفورت مثل "التشيؤ" و"الاغتراب" و"الهيمنة"... إلخ، وهو ما قد يفضي بنا إلى ما يحيد عن إطار هذه الدراسة أو بالأحرى هو ما كنا قد عالجنا جانبا منه في دراسة سابقة حول "الكتابة الأليغورية"، ولا تحيد بدورها عن "الأفق الفلسفي" لمدرسة فرانكفورت.

إن ما سلف ذكره، عند لوكاتش، يندرج، وعلى صعيد "الممارسة النقدية"، في نطاق فكرة "المطابقة مع الواقع" ذات الجذور الهيجلية، وخصوصا من ناحية فكرة "التساوق" Systématicité (التنساوق الفلسفي) التي تتخذ شكلين عند هيجل: تماهي "التصور" مع "الموضوع"، و"الإدماج الدولتي" أو تماهي "المجتمع" مع "الدولة". ولا توافق النظرية النقدية على فكرة "التماهي": تماهي الذات مع الموضوع داخل الفكرة المطلقة التي تجسدها الدولة عند هيجل، وبالقدر نفسه لا توافق على فكرة "التنساوق" سواء اتخذت طابع "العلاقة المنطقية" أو طابع "العلاقة الاجتماعية" كما يشرح ميكال أبنسور في كتابه سالف الذكر. والنسق الهيجلي، كما يلخص بيير زيما، في الكتاب الذي خصصه للمدرسة ذاتها، هو "نتاج مجتمع السوق" (ص 74) الذي تعارضه المدرسة. وغير بعيد عن هذا السياق تمت معارضة فكرة كارل ماركس حول "الكلية التاريخية" أو فكرة "تمجيد التاريخ" التي تقابل فكرة "تمجيد الدولة" عند هيجل. وليس غريبا أن يتم انتقاد مدرسة فرانكفورت من ناحية إهمال التاريخ أو من ناحية ما عبر عنه توم بوتومور بـ"النهج غير التاريخي" الذي جعلها تميل إلى معالجة "الظواهر الآنية" وأحيانا "الظواهر السريعة الزوال التي لا تدوم إلا لفترة محدودة للغاية" (ص 128-129). وتجدر الملاحظة، هنا، إلى أن هذا النهج (المغاير) هو ما جعل المدرسة تمهد لـ"النقد الثقافي" الذي سلفت الإشارة إليه من قبل. وعندما ترفض النظرية النقدية فكرة "التماهي" فإنها تطرح مفهوما مقابلا هو مفهوم "التمايز" الذي يشكل قاعدة "الجدلية النافية" Négation Dialictique أو "الجدل السالب" كما يترجمها عبد الغفار مكاوي في كتابه "النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت" (ص 36). ويلخص أدورنو "الجدلية النافية"، وفي كتاب يحمل العنوان نفسه، بأنها "الوعي"، أو بالأدق، "الوعي الدقيق"، بـ"التمايز" (بيير زيما، ص77).

3 ـ الأدب النقدي عند أدورنو:

وليس من السهولة ملامسة "الأدب النقدي" في مدرسة فرانكفورت التي هي مدرسة "متنوعة" كما قال جان ماري فنسنت أو في نظريتها النقدية التي هي "نظريات نقدية" لا "نظرية نقدية واحدة" كما يلاحظ ميكال أبنسور. والنظرية، وفي بدايات التشكل في الثلاثينيات التي طغى عليها البعد الماركسي، ليست هي النظرية في الستينيات التي طغت عليها مشكلات أخرى... وليست هي النظرية التي سيمنحها يورجن هابرماس، فيما بعد، ومن خلال ما أسماه بـ"العقل التواصلي" Raison Communicationnelle آفاقا أخرى. وفيما يتعلق بالأدب النقدي، وداخل هذا الفضاء المتنوع، فإن التصور النقدي لا يمثل إلا جانبا ضمن التصور الفلسفي الشامل للمدرسة الذي شمل جوانب أخرى مثل الفلسفة والموسيقى والفوتغراف والعلوم الاجتماعية. وكل ذلك في منظور الذي لا يفارق ما ينعته هوركهايمر بـ"البراكسيس الاجتماعي" الكاشف عن تمفصلات مفاهيم مثل "الأسرة" و"السلطة" و"الدولة"... إلخ. والنظرية، وكما يواصل هوركهايمر، في كتابه سالف الذكر، تأخذ كموضوع لها الناس بصفتهم منتجين لكلية الأشكال التي تكتسبها حياتهم في التاريخ (ص75). هذا بالإضافة إلى أن حضور الأدب شاحب في تصورات أدورنو، بل إنه يمثل مرحلة لاحقة على الرغم من أنه خصه بكتاب دسم "ملاحظات حول الأدب"Notes Sur La Littérature (في جزأين 1958، 1969). وهو ما عبر جون إبف تاديي، في كتابه سالف الذكر، بقوله: "لم يكن أدورنو يتعاطى الأدب إلا في أوقات فراغه" (ص 171). غير أن ما سلف لا يفيد أن الأدب لا ينطوي على أي قيمة في النظرية النقدية، بل إنه يحتل مكانة هامة في هذه النظرية، ولذلك حضر منذ أول عدد من أعداد المجلة طالما أنه "مجال" يمكن من "مقاومة" هيمنة "المجتمع الشمولي". وقد تكون أعمال فالتر بنيامينWalter Benjamin (1892 ـ 1940)، الذي ارتبط ـ ولو لفترة قصيرة ـ بمدرسة فرانكفورت، أكثر تعبيرا عن موضوع أهمية الأدب.

وقد رفض جورج لوكاتش، في كتابه "معنى الواقعية المعاصرة"، ما كان ينعت، في تلك الفترة، بـ"أدب الطليعة" على نحو ما كانت تجسده نتاجات كل من فرانز كافكا وصمويل بكيت ووليام فوكنر. إلخ. ويرجع رفضه لهذا الأدب، الذي يعده داء متفشيا في نزعة الحداثة، إلى ارتباطه بـ"النزعة الفردية" التي كان يعدها "مظهرا رأسماليا". هذا بالإضافة إلى ما انطوى عليه "أدب الطليعة" من مظاهر ("تيار الوعي" و"الريبورتاج" و"التشظي" و"عدم التسلسل"...) لم تسمح للوكاتش باكتشاف "التجانس" و"التناسق" وغير ذلك من المفاهيم الهيجلية. ولقد توج انتقاده لهذا الأدب بكونه لا يقترب من "الواقع" على نحو ما عبرت عنه "واقعية" من نوع آخر مثلتها نتاجات بلزاك ووالتر سكوت وتوماس مان... في نطاق ما ينعته (لوكاتش) نفسه بـ"الواقعية العظيمة". ويتصور أدورنو أن الأدب لا يتحدد من اتصاله المباشر بالواقع الذي يشير إليه، بل يتحدد من خلال تباعده عن هذا الأخير؛ وهذا المسافة هي التي تمنحه قوته على مستوى نقد الواقع. وإذا كانت أشكال الفن الجماهيري مضطرة إلى التواطؤ مع النسق الذي يشكلها فإن أدب الطليعة يتميز بالقدرة على "النفي" و"الانفلات" من هذا التواطؤ، وهو ما لا يمكنه التحقق إلا عن طريق كتابة "نصوص تجريبية صعبة". يقول أدورنو: "إن الفن هو المعرفة النافية للعالم الفعلي"، ويقول صديقه هوركهايمر: "إن الجماهير ترفض أدب الطليعة، لأنه يعكر من صفو إذعانها الغافل والآلي الذي يمارسه عليها النسق الاجتماعي". ويضيف: "العمل الفني، إذ يتيح للبشر المسحوقين صدمة الوعي بوضعهم اليائس، ينادي بتلك الحرية التي تجعلهم يستشيطون غضبا" (رامان سلدن، ص65).

لا يتصور أدورنو أن الأدب مجرد انعكاس "مكثف" للشكل السائد في المجتمع كما يرى لوكاتش الذي كان وراء التصور النقدي الشهير حول "الشكل" باعتباره "العنصر الاجتماعي الحقيقي" وحول "التاريخ" باعتباره "تاريخ الإطاحة التي لا تتوقف بالأشكال الموضوعية التي تشكل حياة الإنسان". الأدب، عند أدورنو، هو وسيلة لتجاوز الواقع ولما يتطلبه هذا الأخير من سهوله الاندماج في اللغة الاتصالية والقوالب المألوفة المستهلكة. إن ما يشكل، في تصوره، هاجسا لأدباء الطليعة هو تمزيق صورة الحياة الحديثة وتفتيتها بدلا من السيطرة على آلياتها. الأدب، عنده، "مستقل"؛ وتوازي هذه الاستقلالية، وعلى صعيد الفن، استقلالية الفرد تجاه المجتمع والإيديولوجية التي تسيطر عليه. ومن بين التجليات الأساسية لهذه المقاومة رفض مبدأ السيطرة وقيمة المنفعة الكامنة خلف الاتصال الخاضع للسوق والتوسط عبر قيمة التبادل. إن النسق الخاضع للسوق ينزع إلى تذويب الفن والإنسان سواء، بل ويجعلهما مجرد "أشياء" أو "سلع". وفي هذا السياق يمكننا فهم فكرة "الثقافة المصنعة"  Culture Industrielleالتي أثارها هوركهايمر وأدورنو؛ بل ولابد من أن نعود، هنا، وإن في سياق معكوس، إلى فالتر بنيامين الذي ارتبط بمدرسة فرانكفورت كما أسلفنا وبتيودور أدورنو نفسه ولو لفترة قصيرة (رمان سلدن، ص67). وعكس أدورنو يتصور فالتر بنيامين، وفي واحدة من أشهر مقالاته "الفن في عصر الاستنساخ الآلي" L'Oeuvre d'Art à l'Epoque De Sa Reproduction Mécanisée (1936)، وهي المقالة التي تؤرخ للمرحلة الأولى لما يعرف بـ"ما بعد الحداثة" ("توجهات ما بعد الحداثة"، نيكولاس رزبرج، ص 35)، أن "الثقافة الحديثة" أسهمت في تغيير مكانة "العمل الأدبي"، بل وأفقدته "هالته" (Aura) شبه المقدسة.

لقد غدت "الاستقلالية" مطلبا محوريا في النظرية النقدية، خصوصا وأن الحرب العالمية الثانية ـ والتي لم تكن الأخيرة ولا الكبيرة كما كان يقال وقتذاك ـ أفقدت الإنسان حريته واستقلاليته أي أنها أفقدته ما هو "نوعي" فيه. ثم إنه حتى "الوجودية"، وخصوصا في مظهرها الهايدجري الذي انتقده أدورنو بشدة، لا تمثل إلا أدنى "حد وجودي". وهذا التحول هو الذي جعل النظرية النقدية عند هوركهايمر تُركز على "تقهقر المواقف الدفاعية" للإنسان في الستينيات بعد أن كانت "ماركسية ثورية" ـ بل وتشدد على "البروليتاريا" ـ وعند هوركهايمر وأدورنو سواء ـ في الثلاثينيات. ويبقى أن نسأل الآن: كيف "يقاوم" الأدب (النقدي) "ماكينات" الفاشية أو ما كان أدورنو نفسه قد عبر عنه بـ"الكارثة" التي أخذت مكانها في "المجتمع المعاصر"؟ ومن هذه الناحية فهو يرفض أن يكون الأدب النقدي نتاجا لـ"الممارسة الاجتماعية" التي لا تحيد، في النظر الأخير، عن نتاج "السوق". وكما يرفض أن يكون الأدب مجرد لغة تواصلية مرجعية مفهومية، ويرفض أن يتم اختزال الأدب إلى معادل مفهومي أو إيديولوجي. ولكي يبرز "اللحظات غير المفهومية" للأدب يصر على دور الدوال المتعددة المعاني Polysémiques؛ إنه، في هذه النقطة، يتبع "الشكلانيين الروس" و"حلقة براغ" وخاصة موكاروفسكي Mukarovsky كما يقول بيير زيما (النقد الاجتماعي، ص 55). وفي السياق نفسه لا يمكن اختزال الأدب إلى ذلك النوع من "الخطية المحاكاتية"، وخصوصا في المنظور الذي لا يجعلها تفارق "التسليع" و"التشييء". ثمة محاكاة من نوع آخر يخصها بـ"المحاكاة الإبداعية" التي تمكن العمل من مقاومة "التقليد" اللانقدي لما هو موجود ومن معارضة الفكر الأداتي التسويقي أو الإيديولوجي. فالفن نقد، وطريقته، في ذلك، هي النفي والتحمس لما هو غير موجود. واضح، إذا، أن النفي لا يخلو من "موقف": "موقف نقيض".

4 ـ بين أدورنو... وسارتر وغولدمان:

يؤكد جان بول سارتر J.P.Sartre، في كتابه "ما هو الأدب؟" (Qu est Ce Que La Littérature) (1948)، على مفهوم "الالتزام" Engagement... فيما يؤكد لوسيان غولدمان L Goldmann، في كتابه "الإله الخفي" (Le Dieu Caché) (1959)، على مفهوم "رؤية العالم" Vision Du Monde. وأن يكون للأدب جوهر مفهومي، أو أن يكون قابلا لأن يختزل إلى هذا الجوهر، هو ما يشكل نقطة خلاف حادة أو محورية بين أدورنو وكل من جان بول سارتر ولوسيان غولدمان. ويبقى أن نبحث، وبطريقة موجزة، في انتقاد أدورنو لكل مفهوم أو تصور على حدة. يعد كتاب "ما الأدب؟"، وبدون منازع،  كتاب الأربعينيات، وكتاب الأوساط الفرنسية وغير الفرنسية على السواء. ويتصور سارتر، فيه، أن الأدب ينهض على أساس "اختيار عميق" قرين مفهوم "الالتزام" الذي ينصرف إلى ذلك الموقف المحدد الذي يتخذه الكاتب؛ وهذا الموقف هو بمثابة إمكانية الوجود الوحيدة أمام حياد الجمهور، فلا وجود لـ"البراءة" (ص31). غير أن الالتزام، هنا، لا يفيد البتة عدم حرية الكاتب. فالكتابة "فعل" مرتبط بالحرية، وأن "يكتب" الكاتب معناه أن يحقق "حريته". ويشكك أدورنو، في دراسته حول "الالتزام" المتضمنة في كتابه "ملاحظات حول الأدب"، في أن يكون الأدب ناتجا عن "الالتزام" الذي اهتدى إليه سارتر من خلال "الجوهر المفهومي" للأدب الذي هو قرين "الدلالات" التي يشتغل عليها الكاتب. وكما يشكك في أن يكون الأدب ناتجا عن "الفن للفن" الذي يقابل "الفن الملتزم"، بل إنه يتصور أن الأدب تولد من الشكوك في مقدرته على أن يتناوب بين الفن الملتزم والفن للفن. إضافة إلى أن هذا الأخير لم يوجد ليفصل في ما بين الحدود في ساحة العالم (ص286). ثم إن الالتزام بقضية معينة يسيء إلى "الحرية" التي ينادي بها سارتر؛ ومقولة "الاختيار" ذات الجذور الكيرجاردية، تأخذ عند سارتر، وكما يواصل أدورنو، معنى مخالفا أشبه بما يقوله المسيح: "كل من ليس معي فهو ضدي". وهو ما يجعل سارتر، في نظر أدورنو، يقصي الحرية التي ينادي بها.

ويسلم غولدمان هو الآخر بجوهر مفهومي للأدب بأخذ عنده تسمية "رؤية العالم"، غير أنه لا يفصل بين الشعر والنثر سيرا على نهج سارتر الذي أخرج الشعر من جمهورية الالتزام. وقد خص لوسيان غولدمان لهذا التصور كتابه "الإله الخفي" الذي سلفت إليه الإشارة؛ ويعد هذا الكتاب أهم ما أنجزه غولدمان، بل وأهم ما أنجز في مجال "سوسيولوجيا الأدب". وقد ظل غولدمان، وعلى مدار عمره الدراسي، يسلم بأن الأدب والفلسفة، وإن على صعيدين مختلفين، يعبران عن "رؤية العالم". و"رؤية العالم"، عنده، "مجموعة من الطموحات والتشوقات والأفكار التي توحد جماعة معينة (وفي الغالب طبقة اجتماعية) وتجعلها تعارض مجموعات أخرى" (ص 26). وكما أن هذه الرؤية ليست معطى تجريبيا، وإنما هي أداة مفهومية ضرورية لفهم التعابير المباشرة لفكر الأفراد (ص24). ورؤية العالم عند باسكال وراسين، اللذين هما محور "الإله الخفي"، ذات "وعي مأساوي جانسيني". والجانسيني هو من لم يتمكن من الفرار من الحياة التي يدينها ويرفضها، غير أنه عليه أن يعيش في عالم ــ هو في نظره ــ قاس ومتعارض مع إيمانه. ويشكل هذا الرفض للعالم داخل العالم Intramondain البنية الدالة Structure Signifiante لـ"أفكار" باسكال ومسرحيات راسين. وكما لا يحيد غولدمان عن هذا الإطار المفهومي في تعامله مع الرواية: النوع أو الجنس الأدبي الأكثر استجابة للتحولات التي عرفتها العلاقات المجتمعية في ظل الرأسمالية. وفي هذا المنظور يشدد على مفهوم "التناظر" Analogie بين الرواية وبنية المجتمع البورجوازي، لكن من خارج دائرة أي نوع من "الحتمية الاقتصادية العمياء" التي تجعل من "الأشكال" الروائية مجرد إفراز للتحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ويعد الشكل الروائي، ومن حيث المباشرة والفورية، أكثر الأشكال الأدبية ارتباطا بالبنيات الاقتصادية في معناها الدقيق، أي بنيات التبادل والإنتاج من أجل السوق ("الرواية والواقع"، ص 40). إن المشكل لا يقع في "السوق" الذي أفضى إلى "التسليع" و"التسلط".. أو بالأحرى في "النسق الهيجيلي" الذي هو نتاج السوق، وإنما في "الثقافة" ذاتها وبما في ذلك "الثقافة الشعبية" أو "الثقافة الجماهيرية" التي أولتها مدرسة فرانكفورت أهمية بالغة. فما يحرك المجتمع لا يكمن في "الإنتاج" فقط، وإنما في "الثقافة" أيضا؛ فما حصل، وسواء في ألمانيا النازية، أو أوروبا الرأسمالية، مصدره الثقافة ذاتها. ولا بأس من أن نعيد، هنا، ما كان قد قاله ألان باديو، في "بيانه" الشهير/"بيان الفلسفة"، من أن "النازية" "فضيحة فلسفية".

ولا يحيد اختلاف أدورنو مع غولدمان عن السند (الفلسفي) نفسه الذي يسند اختلافه مع سارتر، فصاحب "الماركسية والعلوم الإنسانية" بدوره يسلم بنوع من "العمق الدلالي" الذي يفهم في ضوئه مسألة "الرفض" عند باسكال وراسين. الأدب، عند أدورنو، لا يثبت معنى، وكما أن الواقع لا يمد هذا الأدب بمعنى. ومن هذه الناحية يدحض فكرة "التماثل" (Analogie) التي بلورها غولدمان في "الإله الخفي" و"من أجل علم اجتماع الرواية"، ويرفض مفاهيم هيجلية أخرى وردت عند غولدمان كمفهوم "الكلية" و"التجانس" و"الاتساق".

5 ـ الاستقلالية والتاريخية:

يبدو واضحا من خلال ما سلف أن أدورنو لا يوافق على اختزال الفن في موقف مفهومي أو إيديولوجي، ولذلك نراه يلح على دور "اللغة" و"المقاومة". وكل ذلك في المنظور الذي أفضى به إلى التشديد على "أدب الطليعة" الذي يميل إلى إضعاف الوظيفة المفهومية والمرجعية للغة وإلى التخلص من قوالب اللغة الاتصالية ومن لغة الإيديولوجيا والتجارة. ومن هذه الناحية تبدو الجماليات الأدورنية، وفي كثير من الأحيان، وكما يتصور بيير زيما، كـ"تنظير" نقدي للممارسة الكتابية لمالارميه وفاليري وبروست... (النقد الاجتماعي، ص111)، أي كل من جعلوا من اللغة "أداة حربية" إذا جازت عبارة ميشال فوكو. ودون أن نتغافل، وفي سياق التشديد على النفي والصفة المتشردمة والمتناقضة لفن الطليعة، عن مسرحيات بكيت التي لا تملك، في تصور أدورنو، إلا "القشور الجوفاء" للفردية و"القوالب المفتتة" للغة. هذا بالإضافة إلى "الانقطاعات اللامعقولة" و"التشخيص المختزل" و"الافتقار إلى الحبكة"... وغير ذلك من الأشكال التي تساهم في تقديم معرفة "نافية" للوجود الحديث ("النظرية النقدية المعاصرة"، ص65). غير أن رفض المعنى، في أدب الطليعة، لا يعني أبدا عدم إمكان التوصل إلى معنى اجتماعي قي هذا الأدب. فالأعمال الفنية "مستقلة" وتمثل "أحداثا اجتماعية" في الآن نفسه، ومن ثم منشأ "الطابع المزدوج" لهذه الأعمال في النظرية الجمالية عند أدورنو ("النقد الاجتماعي"، ص112). ولذلك فإن التشديد، وفي نطاق تصور أدورنو للأدب، على المفاهيم التي تطرقنا إليها سابقا ("النقد" و"النفي" و"التمايز") لا يعني أن الأدب لا يدخل في حوار مع "التاريخ"، إنه لا يفر من "التاريخية" Historicité التي تكمن في أساس "الطابع المزدوج" الذي سلفت الإشارة إليه قبل قليل. وحتى فيما يخص الالتزام يدعو أدورنو إلى التمييز بين "الالتزام" و"النزوع إلى الاعتقاد" (ملاحظات حول الأدب، ص284). أجل ثمة، وفيما يخص أدورنو، "تنقل" بين "السؤال السياسي" كما يلاحظ ميكال أبنسور، إضافة إلى أن اختياره يتحدد من عدم الارتباط بشيء أو الأخذ بـ"شيء" وبالمعنى القوي للكلمة، طالما أن الأمر يتعلق بالابتعاد عن "مجتمع الخطأ" بل وبـ"عناد المفكر المفرد" الذي يشير إليه إدوار سعيد في أثناء الحديث عن فيلسوفه الأثير أدورنو (تأملات في المنفى، ص 364).

غير أن ما سلف لا يحول دون ربط مدرسة فرانكفورت بـ"التحرر الإنساني" والسعي إلى "عقلنة المجتمع". وغير بعيد عن السياق السابق يقول هوركهايمر في كتابه "النظرية النقدية والنظرية التقليدية": "بهذا المعنى وعلاوة على تراث المثالية الألمانية، فإن النظرية النقدية تحافظ على تراث الفلسفة برمتها، فهي ليست فرضية ما للبحث تشهد بصلاحيتها في النظام القائم، بل عاملا لا ينفصل عن الجمود التاريخي في سبيل خلق عالم ملائم لحاجات الإنسان ولملكاته[...] فهي لا ترمي إلى مجرد تنمية العلم (le Savoir) بصفته كذلك، وإنما إلى تحرير الإنسان من القيود التي تجثم عليه" (ص77). والنقد الذي وجهه هوركايمر وسواء في كتاب "أفول العقل" الذي كتبه بمفرده أو في كتاب "جدلية العقل" الذي كتبه بالاشتراك مع أدورنو، وقد كتبا في سياق تداعيات الحرب العالمية الثانية، لا ينسف التنوير، وإنما ينتقده من ناحية الأساس الذي قام عليه وهو أساس "العقل" ذاته. العقل الذي عده هوركهايمر "المقولة الأساسية" للتفكير الفلسفي، والمقولة الوحيدة التي تربطه بمصير الإنسانية. غير أن و"البربرية" و"التشييء" و"الاغتراب"... إلخ. فالتنوير لا يزال، ومع الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت"، ولا سيما يورجن هابرماس ــ أحد أهم المعبرين عنها من الأحياء، قابلا لـ"الترهين". وتكمن أهمية هذا الأخير في كون أنه "تجاوز" النقد "العدمي" الذي تعرض له "العقل" وإلى الحد الذي أفضى إلى "تهشيم" هذا الأخير وسواء من قبل بعض أعضاء مدرسة فرانكفورت من الجيل الأول أو من قبل فلاسفة "ما بعد الحداثة" وخصوصا من أتباع نيتشه. فالتنوير، في تصوره، لم يستنفد بعد جميع إمكاناته، بل ولا بديل عنه لكن شريطة الوعي بجميع الانحرافات التي تعرض لها على مدار المائتي سنة الماضية التي تفصلنا عن كانط وهيغل.  

يحيى بن الوليد
(ناقد وباحث من المغرب)
yahya7205@yahoo.fr

المراجع المعتمدة في الدراسة:

ـ إدوار سعيد: تأملات في المنفى، ترجمة ثائر ديب، دار الآداب، بيروت، 2004.
ـ إيان كريب: النظرية الاجتماعية، ترجمة محمد حسين علوم، عالم المعرفة، العدد 244، 1999.
ـ بول لوران آسون: مدرسة فرانكفورت، ترجمة سعاد حرب، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1990.
ـ بيير زيما: النقد الاجتماعي، ترجمة عايدة لطفي، دار الفكر، القاهرة، 1991.
ـ توم بوتومور: مدرسة فرانكفورت،  ترجمة سعد هجرس، طرابلس، ليبيا، دار أويا،1998.
ـ جماعي: الرواية والواقع، ترجمة رشيد بنحدو، عيون المقالات، الدار البيضاء، 1988.
ـ جورج لوكاتش: نظرية الرواية وتطورها، ترجمة نزيه الشوفي، دمشق، 1987.
ـ حسن محمد حسن: النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز، دار التنوير، بيروت، 1993.
ـ رامان سلدن: النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة جابر عصفور، دار الفكر للدراسات والنشر، القاهرة، 1991.
ـ عبد الغفار مكاوي: النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، حوليات كلية الآداب، مجلس النشر العلمي، جامعة الكويت، الحولية 13، الرسالة 88، 1992 ــ 1993.
ـ علاء طاهر: مدرسة فرانكفورت : من هوركهايمر إلى هابرماز : مدخل إلى نظرية النقد المعاصرة، مركز الإنماء القومي، بيروت، [ـ19؟].
ـ فيل سليتر: مدرسة فرانكفورت، ترجمة خليل كلفت، المجلس القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الثانية، 2004.
ـ ماكس هوركايمر: النظرية التقليدية والنظرية النقدية، ترجمة مصطفى الناوي، عيون المقالات، الدار البيضاء، 1990.
ـ نيكولاس ريزبرج: توجهات ما بعد الحداثة، ترجمة ناجي رشوان، المجلس القومي للترجمة، القاهرة، 2002.

- Jean Yves Tadie : La Critique Littéraire Au 20 siècle, Belfond, 1986.
- J.P.Sartre: Qu est Ce Que La Littérature, Ed Gallimard, 1948.
- J.M.Vincent, Ed Galilée, 1976.
- Lucien Goldmann : Le Dieu Caché, Ed. Gallimard, Paris, 1959.
- La Postérité De L Ecole De Francfort, (Collectif), Ed Syllepse, Paris, 2004.
- P. Zima : L Ecole De Francfort, Ed PUF, Paris, 1974.
- Adorno : Notes Sur La Littérature, Flammarion, 1984.
- Theodor Wiesengrund Adorno: Prismes : critique de la culture et société, trad. de l'allemand par Geneviève et Rainer Rochlitz, Paris, Payot, 2003