يتناول الناقد المصري في هذه الدراسة وبمنطلق مغاير للإرث الميتافيزيقي الغربي والعربي معا أطروحة الجسد باعتباره الصورة المتعينة للوجود في علاقة الإنسان بالجنسي والمقدس معا، بطريقة يفكك فيها الميراث الثقافي العربي في هذا المجال.

الاشتغال الانطوبلاغي للجسد

حسام نايل

ملاحظة فى المسألة الجنسية

لا يمكننا التفكير فى الوجود بمعزل عن تعينه الدقيق: الجسد. أليس كذلك؟ وذلك على الرغم من أن هذا النوع من التفكير يخالف كل الإرث الميتافيزيقى الغربى والعربى على السواء. إن الجسد وحده هو المعنىُّ بجعل الوجود واقعةً وحدثًا. هذا معناه أيضًا أن التفكير بخصوص الجسد هو على نحو واضح تفكير بخصوص الوجود. لابد أن نشدد على حتمية هذا النوع من التفكير قبل أن نمضى إلى ما ننتويه هنا. إن ما نقرره يثير إشكالات عديدة تتعلق بالميتافيزيقا والأنطولوجيا. والحق أنه يندرج ضمن هذه الإشكالات بالفعل. غير أننا سنرجئ الكلام بهذا الخصوص إلى فرصة أخرى، وذلك بغية أن نتلمس الحدود العامة لنوع مغاير من التفكير بخصوص الجسد فى حضارتنا العربية. ولاشك أن هذه الأرض بعيدة الغور نظرًا لاتساعها وتراكم طبقاتها.

حتى لا نطيل، سنعرض المشكلة على الفور: على أى نحو تبدو العلاقة بين القدسى والجنسى فى سياق حضارتنا العربية؟ لقد سبق أن طرحت هذا السؤال على نص أدبى معاصر يعود إلى إدوار الخراط(*). وقد أثارتنا النتائج إلى حد بعيد، وبخاصة أن هذا النص يفرض نوعًا من الاشتباك مع الإرث الحضارى العربى بكامله الخاص بهذه العلاقة. وسوف نجرب الآن النظر إلى "نص/كتاب" لا يقدم نفسه بوصفه أدبًا. واللافت فى هذا "النص/الكتاب" أنه يتضمن خلاصة المسألة الميتافيزيقية فى حضارتنا العربية تضمنًا مثيرًا للانتباه سواء لو أخذنا فى الاعتبار الظروف الراهنة أو اهتماماتنا الحالية. ينطوى كتاب عبدالوهاب بوحديبة المعنون بـ"الإسلام والجنس" فى نسخته العربية(1) على محاولة تبغى إعادة تقديم الإسلام. إعادة تقديم هى بالأحرى إعادة كتابة للإسلام. وفى هذه الإعادة بحديها يتم اجتلاب الحقل الرمزى للإسلام بكامله. ونحن نقصد بالحقل الرمزى كل التمظهرات التى تمكِّن الإسلام من العمل والاشتغال بوصفه بنية نسقية تميزه تفصيلاً وإجمالاً عن غيره، وتتيح له حتى فى أدق التفاصيل الإحالة المستمرة والدائمة إلى الله: الواحد الأحد. أما كيفيات هذه الإحالة وطرائق عملها فسوف نطلق عليها القانون الرمزى، أى كيفيات الاشتغال التى تصر فى كل مرة صراحةً أو ضمنًا على الحضور إلى الله: الواحد الأحد. لنرجع مرة أخرى إلى فكرة الإعادة، يبدو لنا أن كل إعادة تتضمن حتمًا وبالضرورة جهدًا تفسيريًا وتأويليًا على التوالى. أى سوف نكون مواجهين على طول الكتاب بعمليات مضمَّنة من التفسير والتأويل تتيح إعادة كتابة الإسلام وإعادة تقديمه من جديد. ولن نتورط هنا فى دفع نظرية بأخرى أو إجراء منهجى بآخر، وإنما سوف ننتهز هذه الفرصة السانحة التى يوفرها لنا بوحديبة فنستثمرها حتى نتمكن من ترسيم بنية نسق الإسلام فى تحديدها لموقع الجنس ومن ثم الجسد.

1- بنية النسق وتوليد القانون الرمزى:

إن الفهم الأفضل لمسألة الجنس يبدأ من منطلق إرادة الله الموحى بها فى القرآن الكريم، وليس من منطلق حاجة الفرد والجماعة الداخلية. وحتى يتحقق هذا الفهم على أفضل وجه علينا العودة إلى النموذج الذى جسده يومًا رسول الله (بوحديبة، 29).

يتمتع الخطاب المنعقد حول "الجسد فى الإسلام" بوضع بلاغى(2) ، ذلك أن هذا الخطاب لا يتكلم عن الجسد "فى ذاته"، وإنما يتكلم عن الجسد حال كونه فى علاقة مع "آخر". ولا أقصد هاهنا بهذا "الآخر" ما تنطوى عليه علاقة الرجل بالمرأة، بل إن هذا الآخر هو الآخر "الواحد"، الآخر المطلق: الله الواحد الأحد. ولابد من ملاحظة التشديدات الحاسمة فى المتن القرآنى التى لا تنى تؤكد أن الله هو الآخر المطلق على الدوام، هو الآخرية ذاتها كانفصال دائم ومستمر. وعلينا شحذ الانتباه اليقظ الذى لا يفتر إلى هذه الكينونة بوصفها انفصالاً أصليًا. ولنلحظ أيضًا فى هذا المتن أن كينونة الانفصال الأصلى هذه، تمنح "الكون الكبير" منزلة الدليل والعلامة، إذ ليس له مزية أو أفضلية فى نفسه إلا من حيث كونه دليلاً وعلامة. ومن ثم يتحتم على المسلم اعتبار الكون والتفكر فيه وتأمله من حيث هو دليل وعلامة. ولذلك يضفى هذا المتنُ أهميةً كبرى على دوال النظر والبصر والاستبصار والبصيرة المؤدية جميعها إلى التفكُّر العميق فى "الجمال والجلال". وحتى يقوم الدليل بدوره وتحيل العلامة إلى مرجعها بصفاء ونقاء دون أدنى تشويش أو تعكير فعلى المسلم أن يعتبر نفسه ويتفكر فيها ويتأملها، وحال أن يحدث ذلك فسوف يكتشف نفسه "كونًا صغيرًا" ينعكس على صفحته "الكون الكبير" فيتكرر الدليل وتتضاعف العلامة، على النحو الذى معه تتأكد الإحالة وتطمئن إلى مرجعها الأعلى: الانفصال الأصلى. إن العلامة ونظرية الدليل التى نستشفها على طول المتن القرآنى ليست هى المرجع فلا تتطابق معه ولا تنغلق عليه فى عملية من التماهى المطلق، ذلك أنها مجرد وسيط يؤول فى النهاية إلى التلاشى والعدم. نقول هذا الكلام ونحن نفكر الآن فى المشهد الرهيب الذى يعقب إعدام الأكوان جميعها بمن فيهم حملة العرش والعرش نفسه فلا يبقى عندئذ إلا وجه الواحد الأحد.

علينا أن نضع نصب أعيننا باستمرار طالما أننا فى جوار الإسلام ومعه بنية النسق هذه، التى تتمركز حول الواحد الأحد. وإذا هممنا بتحديد موقع للجسد ومن ثم للجنس فى الإسلام فسوف نكون ملاحقين على الدوام بهذه المركزية الأحدية. وهذا معناه أننا لن نعثر فى الإسلام بكامله على خطاب ينعقد خالصًا لـ"الجسد فى ذاته". وعندئذ فلابد من الانتباه إلى أن بنية نسق الإسلام ليست إلا النقطة العليا فى تحدار جينالوجى مغرق فى القدم، يبدأ من المتن التوراتى ويمر بالمتن المسيحى وينتهى عند المتن الإسلامى الذى أحكم إحكامًا بالغًا هذا التمركز المشار إليه. ولننتبه أيضًا إلى أنه على الرغم من أننا لن نعدم اختلافات واضحة بين هذه المتون الثلاثة فإننا لن نعدم بحالٍ ما يكاد يشبه التواتر أو بشكل أدق الإنماء المتواتر- لهذا التمركز وما يجرُّه من غيابٍ لخطابٍ ينعقد خالصًا لـ"الجسد فى ذاته".  ما الذى نستشفه أولاً من ترسيمنا لبنية النسق هذه؟ سلسلة التعارضات الآتية: الله/ الإنسان، الروح/ الجسد، الحضور/ الغياب، المرجع/ الدليل. وهى سلسلة التعارضات التى لا يكتسب فيها الطرف الثانى معنى أو حضورًا أو حقيقةً إلا من خلال الطرف الأول. لابد إذن من عملية رجوع الطرف الثانى واستناده إلى الطرف الأعلى حتى تكون له قيمة. إن الغياب الذى أشرنا إليه منذ قليل هو حركة استحالة تفرضها بنية نسق الإسلام وما تولِّده من تعارضات. هناك استحالة معينة تخص الجسد ضمن حدود هذه البنية. نحن نعرف أن البنية أية بنية كى توفر لنفسها شرعية أن تكون بنية وتمنح لنفسها هذا الامتياز، لابد أن تنغلق على نفسها وتتطابق مع نفسها، وتكون مهمة كل عناصرها هضم أية اختلافات قد تسنح فى الطريق.

لعله قد استبان ملمح أساسى نحدد من خلاله موقع الجنس فى الإسلام، ولنرجع مرة أخرى إلى بوحديبة وبصفة خاصة فى مفتتح "القرآن والمسألة الجنسية": "ولا يملك المرء إلا أن يعجب من الموقع الرئيس الذى يحتله الحب الإنسانى، فالعلاقات الجنسية تقوم بحكم طبيعتها التبادلية بدور الوساطة فى هذه العملية الكونية، التى تبدأ بالتفاوض وتستمر من خلال التعاقب لتبلغ أوجها فى التسبيح" (بوحديبة، ص31). كيف تبلغ العلاقة الجنسية درجة التسبيح أو تكون تسبيحًا للواحد الأحد؟ وعلى الفور نلتمس الإجابة فى سورة "المؤمنون" التى تعرض وصفًا تفصيليًا لعملية الخلق داخل رحم المرأة (بوحديبة، ص 33- 34). ما هوية الطفل إذن حسب المتن الإسلامى الخاص بعملية خلق الجنين؟ إن هويته لا تتحدد بكونها حدًا ثالثًا ينتج عن تزاوج هويتين مختلفتين، وإنما تتحدد هويته بوصفها الدليل الذى يتولد عن التقاء الأدلة ولا يتم للهوية تمامها إلا عبر دورة متضاعفة من الموت والحياة "يرجع فيها الطفل إلى الله"(3) مؤشرًا عليه. ولعل مسألة النبى إبراهيم كما يقررها المتن الإسلامى تدعم على نحو أكيد افتراضنا هنا.

إن الموقع الذى يمنحه الإسلام للجنس هو موقع العلامة والدليل على الآخرية المطلقة والانفصال الأصلى، "وهكذا نجد أن إعمال البدن ليس مشروعًا فحسب طبقًا لمشيئته تعالى وانسجامًا مع النظام الكونى، بل إنه فى الأساس آية من آيات الله الكبرى وعلامة على قدرته تعالى. فإعمال البدن معجزة متجددة مستمرة، كما أنه مصدر للحياة وخلاصة للمتناقضات" (بوحديبة، 33). إننا فى كل مرة نُعْمِلُ فيها البدنَ نُعْمِلُ الإشارةَ والعلامةَ على كينونة الواحد الأحد. كما أن إعمال البدن- حتى لو لم يأتِ بطفل- ينطوى على معنى الوفاء بالعهد مع الله، إذ يسعفنا ابن إياس الحنفى عند ذكره قصة آدم عليه السلام برواية أبى موسى الأشعرى ومؤداها أن الله لما خلق "فرْج" آدم قال له: "هذا أمانتى عندك فلا تضعها إلا فى حقها"(4). إن كل مرة نضع فيها "الفرْج" فى حقه يكون الله حاضرًا عبر وفائنا بالعهد معه. لابد من الوفاء لله حتى يحضر الله. وإذا لم يحدث فلن يكون إلا الانقطاع الدائم والشقاء الأبدى، وهذه بالضبط هى حضرة الشيطان: الثالث الذى يخل بالعهد ويفسخ العقد ويبلبل الوفاء. صحيح أنه أيضًا فى هذه الحالة يحدث الوفاء إلا أنه "الوفاء لأكثر من واحد" مما يشوش المركزية الأحدية ويخلعها. ونحن هنا نستدعى بالذات ملاحظة دَريدا بهذا الخصوص، التى نفهم منها أن أية بنية نسقية منغلقة على نفسها تنطوى بحكم انغلاقها ذاك على ما يشوش عليها من الداخل.(5) ولن نطيل هاهنا لأن الإطالة تحتم علينا فحص ما يمكن تسميته بـ"أنطولوجيا الشر" فى الإسلام، أى الجانب الآخر المكبوت فيه، الإسلام الآخر، وآخرية الإسلام التى ينطوى عليها الإسلام نفسه (ونحن نتعمد هذا الوصف بدلاً من "شر الشر" الذى يميل إليه فتحى بن سلامة(6)).

فى بنية النسق التى يولدها الإسلام وتولد بدورها الإسلام يصبح مفهوم العائلة المسلمة مفهومًا خاضعًا لعمليات من الضبط والتقنين والتشريع الجنسى، على النحو الذى يجعل "الجنس"- الذى هو أساس هذا المفهوم- يتنازل عن نفسه لحساب الله الواحد الأحد. هو "آية الآيات المعجزة" (بوحديبة، ص32). وعملية التنازل هذه تمثل فارقًا دقيقًا لابد من تبيانه والتنبيه إليه وبخاصة عند مقارنة مفهوم العائلة فى الإسلام بمفهوم العائلة المقدسة فى المسيحية؛ ذلك المفهوم الذى يمحو العملية الجنسية بكاملها محوًا أصليًا، ومن ثم الجسد. ونحن نعتبر هذا المحو الأصلى الأساس المفسر للتشدد الرهيب الخاص بمسألة المرأة والجسد عمومًا فى المسيحية وما ينشأ عنها من رهبنة. لن تضطلع المسألة الجنسية بعد الآن إلا بوضعية العلامة والدليل الذى يؤشر على الواحد الأحد بالذات. ومن هنا يتم اختزالها إلى الأوضاع الشرعية كالنكاح الشرعى والجماع بين الزوجين المدفوعين دائمًا بالحب الذى يقتضى الملاعبة، أى فن الحب الصحيح الذى نبه إليه الرسول وأوصى به (بوحديبة ص 190 191)؛ ذلك الذى يضطلع حسب الانغلاق الإلهى الأصلى بدور مزدوج: فمن ناحية هو وسيلة الله فى عملية الخلق واستمرارها ولذلك فهو ابتغاء لـ"كتابة الله"، كتابة تكتب الله فتؤشر عليه وتشير إليه، وهى أيضًا كتابة ثانية تنفذ ما قد كتبه الله لنا، الله الذى "عنده أمُّ الكتاب" (سورة الرعد، آية 38). ومن ناحية أخرى "ترجع قدسية المهمة الجنسية إلى نشر الحياة وإنماء الوجود، حيث يقوم الإنسان بالمشاركة فى تنفيذ إرادة الله الذى تتجلى عظمته فى إعطاء معنى جديد لوجوده تعالى من خلال الجنس، وذلك بمدِّ كثافة الحياة وبسطها" (بوحديبة، ص39). إذن يمسُّ الحبُّ المادىُّ فى جانبٍ منه النظامَ الاجتماعىَّ مسًا وثيقًا. ولن يكون النظام الاجتماعى بكامله- المقود بعلاقة الحب حسب الإسلام- سوى عملية "تعويض وهمى مؤقت" (بوحديبة، ص 36) عن السقوط عن جناب الله فى جنة عدن.

مرة أخرى ننبه إلى أن المسألة الجنسية تتحول على النحو السالف إلى مجرد تنظيم للغريزة عند رجل وامرأة يميل أحدهما إلى الآخر تبادليًا، وهذا التحول يضفى طابعًا عَرَضيًا على الجنس بما يجعل منه مجرد علامة ودليل: عَرَضٌ من الأعراض التى يمتلئ بها الكون وتؤشر على هذا الحضور المركزى الأحدى. وإذن لا تحيلنا المسألة الجنسية عند بوحديبة إلى مفهوم للجسد بقدر ما تحيلنا إلى تخيل لاهوتى عن الجسد. وعملية التخيل هذه التى بمقتضاها يشتغل الجسد فى الإسلام تمكننا من وصف وضعية الجسد بكاملها بأنها أنطوبلاغية (والمصطلح لنا)، ذلك أن وجود الجسد ومعنى هذا الوجود وحضوره وحقيقة هذا الحضور لا قيمة لها إلا بالاستناد إلى الآخرية المطلقة، كينونة الانفصال الأصلى: الله. ومن اللافت هنا التنبيه إلى أن كل عناصر النسق تشتغل بالطريقة نفسها، وهو مبدأ بنيوى راسخ ومستقر، فعلى سبيل المثال نلمح أنه منذ ما يزيد على العقدين تتمحور قيمة الجسد فى الادعاء الإسلامى المتشدد (=الجهادى) حول الشهادة: الإنهاء البيولوجى للجسد من أجل الله عبر فعل يتخذ أبعادًا جيوسياسية.

تبقى ملاحظتان بخصوص إعادةِ كتابةٍ تعيد تقديم بنية نسق متطابقة مع ذاتها ومنغلقة على نفسها، تتعلق الأولى منهما بما ينشأ عن مجال الجسد من علامات لغوية متباينة ومختلفة يستخدمها بوحديبة بالمعنى نفسه الذى يعقده التشريع الجنسى فى الإسلام، على سبيل التوسع والزيادة: الشهوة، الجنس (ص30). الزوجية والتزاوج، العلاقات الجنسية (ص31). الجماع، الحب، المتعة (ص32). إعمال البدن (ص33). الحب المادى، التناسل (ص35). العشق (ص38). الغريزة (ص41). الزواج، النكاح (ص42). الرابطة الجنسية (ص43) ... إلخ. إذ هناك إصرار على توحيد التجربة التى تلازم كل مفردة من هذه المفردات، على الرغم من الاختلاف والتباعد المتنافر أحيانًا. فعلى سبيل المثال تتأرجج السلسلة الدلالية لمفردة "حب" بين علاقتين، الأولى هى علاقة بين إنسان وإنسان رجلاً كان أو امرأة: الرجل الصديق والمرأة الزوجة دون أدنى إلماح جسدى أو شهوى. والثانية هى العلاقة بين إنسان والله(7). ومن الواضح أن التجربة التى لها صفة "الحب" تنطوى على علاقة اجتماعية تتميز بالوداد والألفة: تجربة متعلقة بميل قلبى منضبط أخلاقيًا على النحو الذى يجعل منها تجربة مظللة بالشرعية والحقوقية التى تضبط العلاقة بالآخر. الألفة والوداد من أجل الرب، من أجل الله، بغية الوصول إلى العلاقة المقننة والمنضبطة بـ"الله". وعلى الضد من ذلك السلسلة الدلالية لمفردة "عشق" التى تتحدد أساسًا بأنها زيادة وفضلة، زيادة الحب وفضلته(8)، تُهَيِّجان كلتاهما شدة الهوى والتهتك الجسدى الملازم للشهوة المشتاقة(9): إنها الزيادة التى تفتح الجنون والصمت والموت. ومن الواضح أن التجربة التى لها صفة "العشق" هى تجربة ما لا ينضبط ولا يقبل التحديد لا شرعيًا ولا حقوقيًا بل هى تجربة التهتك الجسدى المستمر. هى تجربة الزيادة فى الحب، تلك الزيادة التى تتضاعفُ باستمرار وتُوَصِّلُ إلى الصمت والجنون والموت، ولا تكف عن أن تزيد. هى تجربة مالا يقبل الانضباط بحالٍ، ويتأبى عليه، أى هى تجربة جوع مستمر لجسد لا يشبع أبدًا.

أما بوحديبة فهو يوحد بين التجربتين اللتين تحيل إليهما المفردتان. واللافت للانتباه هنا عملية الإغلاق الدلالى لهذه العلامات اللغوية المتغايرة والمتنافرة، إغلاق دلالى يتم من خلال توحيد حقولها الدلالية فى دلالة واحدة تفضى إلى العلاقة الشرعية بين الرجل والمرأة. وكأن اللغة- مع القانون الرمزى الذى ينتجه حقل الإسلام الرمزى- تتنكر لما يتعدد ويتباين ويختلف ويتردد فيها، وتلك بالضبط ضرورة العنف الرمزى واضطراره الذى تُوَلِّدُه أيةُ بنية نسقية مغلقة على نفسها. ولا تبعد الملاحظة الثانية عن مبدأ الملاحظة الأولى، وتتعلق بطبيعة النهج السوسيولوجى الذى ينتهجه الجزء المعنون بـ"المسلمون والجنس" وهو نهج وظيفى إدماجى يحوِّل خوارج بنية النسق إلى مجرد "شكمانات" تحفظ على البنية طريقة اشتغالها، فى حين كان واقع المسلمين- كما نلمح مما يذكره بوحديبة نفسه- موارًا بالاختلافات والتشققات التى أبعدتْ بنيةَ نسق الإسلام وابتعدتْ عنها. الحال أن ما يتم البرهنة عليه هاهنا ليس قانون الجنس وليس من ثم قانون الجسد، وإنما تتم البرهنة على مبدأ القانون، المبدأ الذى يرجع إليه كل قانون: الله. 

2 ـ توزيعة الأصل: حركة قلب دون إزاحة:

ها نحن أولاء قد رأينا بنيةَ نسقٍ تخص الإسلام ذات طابع مركزى أحدى (نسبة إلى الأحد) يشتغل فيها الجسد اشتغالاً أنطوبلاغيًا. وهى بنية يمكن القول عنها أيضًا إنها ذات طابع مركزى قضيبى، ولا نقصد بالقضيب هنا الإحالة إلى فعل جنسى أو إلى وسْم بيولوجى معين وإنما تحيل مركزية القضيب إلى حالة من اللاوعى بمقتضاها تنشأ مقولةٌ فاعلةٌ وناشطةٌ ومع ذلك يتعذر إدراكها، مقولةٌ لها قيمةٌ لاهوتيةٌ رمزيةٌ تُعيد القضيبَ فى كل مرة إلى كونه حالة من النقص والغياب على المستوى الأنطولوجى. وسوف نشرع الآن فى محاولة القيام بـ"قلب" مركزية القضيب دون إزاحة ما قد قلبناه حتى نخلخل حقل التعارضات المهيمن الذى نحن بصدده، من أجل رؤية الجهة الأخرى والوجه الآخر، مخالفين بذلك عن قصد وتباطؤ فكرة دَريدا بخصوص الحركة المزدوجة التى يتحتم أن تنطوى عليها استراتيجية التفكيك، وذلك بِنِيَّةِ النظر إلى إمكان هيئة أخرى من مركزية ليست قضيبية، وإنما يمنحها دَريدا اسمHymeneal Centricism ، ومفردة هيمن  Hymen وتعني حرفيا غشاء البكارة من المفردات التى يستحيل ترجمتها عند دَريدا، غير أنه يعنى بها البكارة بوصفها حجابًا وخرقًا للحجاب فى آنٍ معًا. وكما تشير سبيفاك سيصبح الـ"هيمن" عند دَريدا بنيةً تجسد لعبة الحضور والغياب، ذلك أنه يحل التعارضات لأنه يَفعل مثلما يُفعـل به.(10)

ويتحتم من أجل إمكان النظر إلى هذه الهيئة الأخرى الانتقال إلى حقل رمزى ينتج قانونًا رمزيًا مختلفًا، ثم نعود بعد ذلك إلى بوحديبة والإسلام. أقصد الحقل الرمزى للتوراة. إذ لابد من الاشتغال عبر الجينيالوجية التى نظنُّ أنها قد شيَّدت بنية نسق الإسلام. وقد يُعترض علينا بحجة أننا بذلك نقيم خارج الإسلام، لكن هذا الاعتراض مدفوع بالفكرة الجينيالوجية التى تتيح لنا فى الوقت الذى نكون فيه خارج الإسلام أن نكون داخله فى اللحظة نفسها. إنه اضطرار، غير أن هذا الاضطرار سوف يتكشَّف ـ وهذا ما لا ننوى القيام به الآن ـ عن التشابهات المثيرة للغرابة بين ميتافيزيقا الواحد فى التوراة والإسلام على السواء، وأنا أفكر الآن بهذا الخصوص فى سورة البقرة. وكأن المسيحية تقف حجابًا حاجزًا، ولن نعدم عند النبى محمد أقوالاً تؤشر على هذا الحجز حيثما يُنَسِّبُ النبىُّ نفسَه عبر القرابة الزمنية إلى النبى عيسى تنسيبًا يؤشر ضمنًا على عملية جهد مبذول على المستوى الرمزى من أجل إقصاء موسى والابتعاد عنه، فى الوقت الذى نجد فيه عند النبى محمد فى كلامه الشخصى سكوتًا تامًا بخصوص هذا النبى البعيد.  يشتغل حدث السقوط فى المتن التوراتى حسب قانون حكائى يولد قانونًا رمزيًا يمكِّننا ـ لو أننا استبصرناه ـ من الوقوف على اشتغال أنطوبلاغى للجسد يخص المرأة بالذات دون الرجل، مما يجعلنا نرى أن المرأة حواء ونحن بذلك نستعجل حركة القلب التفكيكى هى أول من استنَّ الرغبة التى تشتهى الواحد الأحد عبر الانتهاك: انتهاك احتجاب الله فى جنة عدن.

فى جنة عدن، كان الحس الوجودى للرجل آدم الذى خلقه الله على صورته حسًا وجوديًا شاعرًا بالاتصال الأصلى. لكن الرجل آدم كان فى جنة عدن منفصلاً عن الله انفصال هوية. إنه حقًا يحمل قبسًا من الله لكنه ليس الله. آدم ليس هو الله وإنما هو شبيهه فقد خلقه الله على صورته. وإذن فإن هذا الحسَّ الوجودىَّ الشاعرَ بالاتصال الأصلى مستمدٌ أساسًا من كون الرجل شبيه الله، ليس هذا فحسب بل مستمد أيضًا من كينونته إلى جوار الله: أُنْس القُرْب من الله فى جنة عدن. لقد كان آدم ينعم بأنس الاتصال الأصلى دون أن يعرف أن ذلك ليس معناه أنه هو الله. إذن هناك إرادة جهل أساسية تصمم أنس الاتصال الأصلى: لم يشتغل الحس الوجودى الشاعر بالاتصال الأصلى إذن إلا من خلال انفصال أصلى دون معرفة هذا الوضع المزدوج. ونحن بذلك نخالف قراءة هيجل لقصة السقوط، وهى القراءة التى اعتبرها الفيلسوف الألمانى تمثيلاً على المستوى الدينى لفكرته عن السير الجدلى للروح، حيثما يُعتبر فيها هذا الوضعُ الأولىُّ لآدم حالةً من الاتصال الأصلى الذى لا يشتغل إطلاقًا من خلال الانفصال، كما يُعتبر فيها أن الانفصال قد جاء الحسُّ به فى مرحلة تالية بعد الإطعام من ثمر الشجرة المحرمة (=العصيان). ومن خلال العمل الذى يقوم به الإنسان على الأرض (=العقاب) يتحرر الإنسان ويتصالح مع الطبيعة فتعود الروح إلى وضعها الأول(11). ويجد هيجل سندًا لقراءته فى عبارة النبى عيسى التى يفتتح بها متى إصحاحه الثامن عشر: "الحقَ أقول لكم إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات"(12)، إذ بالعمل وحده يتصالح الإنسان مع الطبيعة فيرجع إلى حالة البراءة الساذجة التى كان عليها مثل الأطفال.

لكن ما الذى يجعلنا نخالف هذه القراءة؟

منذ اللحظة الأولى التى أوكل الله فيها لـ"شبيهه" جنةَ عدن أوصاه بعدم الأكل من الشجرة التى فى وسط الجنة، شجرة معرفة الخير والشر: "وأوصى الرب الإله آدم قائلاً من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً. وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها. لأنك يوم تأكل منها موتًا تموت"(13). وإذن نفهم من ذلك أن الرجل آدم قد كان له الخلد فى جنة عدن كمثل الأصل الذى هو على شبهه، ولكنه الخلد المشروط بعدم الأكل من شجرة معرفة الخير والشر التى سوف تأتى لآدم بالموت. إن ما يرثه آدم عن الله فى جنة عدن- وفعل الوصية هو أساسًا فعل وراثة وتوريث- هو الكينونة إلى جوار الموت و"احتجاب الله احتجابًا أصليًا" وامتناعه على آدم. وهو احتجاب يشرع فى الإعلان عنه فعلُ الوصية منذ البدء. وإذن فإن كينونة آدم فى جنة عدن تلك التى تفترض اتصالاً أصليًا كما يرى هيجل تفترض فى اللحظة نفسها انفصالاً أصليًا يتمثل فى الوصية التى تُقَرِّبُ الموتَ وتحجب الله وتمنعه على آدم. لنلحظ كيف يؤكد المتن التوراتى ويشير إلى احتجاب الله احتجابًا أصليًا، فقد قال الرب الإله لنفسه "ليس جيدًا أن يكون آدم وحده، فأصنع معينًا نظيره"(14)، وحتى يصنع هذا المعين النظير "أوقع الرب الإله سباتًا على آدم فنام. فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحمًا. وبنى الرب الإله الضلع التى أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم. فقال آدم هذه الآن عظم من عظامى ولحم من لحمى. هذه تدعى امرأة لأنها من امرء أخذت"(15). لنلحظ أن آدم قد قام للمرة الأولى بفعل التسمية بمفرده، وليس هذا إلا تأكيدًا لـ"اعتزال الله" اعتزالاً أصليًا. لم يكن آدم الرجل يعرف أن وصية الأصل له معناها احتجاب الأصل ولم يكن يعرف أن شبيه الأصل ليست له حظوة الأصل: ليس هو الأصل. لم يكن آدم يعرف أن هناك اختلافًا أصليًا يرجئ بذاته الاتصال الأصلى. وقد امتثل الشبيه لوصية الأصل امتثالاً بديهيًا ليست له على التحقيق طبيعة الامتثال وما تنطوى عليه من علاقة إخضاع. ومكث آدم مع نظيره المعين فى جنة عدن حيث "كانا كلاهما عريانين آدم وامرأته وهما لا يخجلان"(16).

وعند هذا المستوى لابد من ملاحظة توزيعة الأصل التى حسبها يشتغل المتن التوراتى الخاص بقصة السقوط: أن الله هو الأصل الأصلى الذى يحتجب ويعتزل، احتجابًا واعتزالاً أصليًا. وأن آدم هو شبيه الأصل الذى لا ينى يشير بعلاقة المشابهة إلى احتجاب الأصل واعتزاله. وأن المرأة التى مع الشبيه هى شبيه الشبيه. ولا يشير المتن التوراتى إطلاقًا إلى أن حوارًا دار حتى هذه اللحظة بين الله والمرأة ولكن ما نفهمه أن الرجل آدم قد تكفل بـ"نقل" وصية الرب الإله إلى المرأة التى معه، وهذا النقل غير المشار إليه صراحة يحوِّل شبيه الأصل الأصلى إلى أصل بالنسبة للمرأة التى معه. هل كانت المرأة التى مع آدم تعرف هذه التوزيعة التى لم يكن يدريها آدم؟ نحن لا نعرف على سبيل الجزم والمتن التوراتى غامض بهذا الخصوص: "وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التى عملها الرب الإله. فقالت للمرأة أحقًا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة. فقالت المرأة للحية من ثمر شجر الجنة نأكل. وأما ثمر الشجرة التى فى وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا. فقالت الحية للمرأة لن تموتا. بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر. فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون وأن الشجرة شهية للنظر. فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضًا معها فأكل. فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان. فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر"(17). القراءة التقليدية ترى أن الحية قد أغوت المرأة التى مع آدم ثم أغوت المرأةُ الرجلَ الذى معها. أليس كذلك؟ وهذا معناه التسليم بأن الغواية خارجية كما يشير هيجل. لكن ما نلحظه أن آدم يقوم من تلقاء نفسه بإعادة تسمية المرأة التى معه بعد واقعة العصيان والطرد، فيمنحها اسمًا جديدًا هو: حواء. وهو الاسم الذى يلفت النظر ويُذَكِّرُ باسم آخر هو اسم الحية. إن إطلاق الاسم لابد أن تسبقه فى نفس القائم بالتسمية خبرةٌ حسيةٌ تجعله يطلق هذا الاسم دون غيره. وإذا كان ذلك كذلك أفيشير الاسم حواء إلى قوة نفسية ومفكرة تمتعت بها المرأة وكان لها اسم الحية؟ وعندئذ يصبح اسم "الحية" إشارة وعلامة على قوة مفكرة تمتعت بها المرأة من دون الرجل. ومن هذه القوة يشتق الرجلُ آدمُ الاسمَ الجديدَ للمرأة التى معه: حواء. إن حواء الحية هى التى تُغوى نفسَها لكن على النحو الذى يجعل من الإغواء سبيل تعرُّفٍ تقوم به المرأة من لدن نفسِها. إن الفعل الحاسم والخطير الذى قامت به المرأة أنها "رأت". وحدث الرؤية يشير إلى الرؤية بمعنى الإبصار كما يشير إلى معنى العِلم والمعرفة. والدلالتان كلتاهما حاضرتان سياقيًا. ذلك أن رؤيةَ المرأة للشجرة على أنها بهجةٌ للعيون وشهيةٌ للنظر نابعةٌ أساسًا من رؤيتها متعة الكينونة/عارفًا/كـ/الله. إذ لم تلتفت المرأة إلى الشجرة التى كانت متاحة لها على سبيل الرؤية والنظر إلا بعد أن عرفت أن الأكل منها يترتب عليه انفتاح العين والكينونة/عارفًا/كـ/الله. إذن عرفت المرأة قبل أن تأكل من شجرة المعرفة. لكن ما الذى عرفته قبل أن تعرف؟ لقد عرفت أن الكينونة فى جنة عدن معناها كينونة فى النقص الأصلى، نقص هو انفصال عن الله نابع من احتجاب الله احتجابًا أصليًا فأرادت عبر انتهاك الوصية أن تفض هذا الاحتجاب. إن عطيتها للرجل آدم من ثمر الشجرة بعد أن أكلت منها ليس سوى هبتها له الكينونة/عارفًا/كـ/الله. وهى معرفة سوف تجعل آدم عارفًا للمعنى المضمَّن فى الوصية.

تُنتِجُ توزيعةُ الأصل إذن حسب المتن التوراتى إرادةَ معرفةٍ تعود إلى المرأة وإرادةَ جهلٍ تعود إلى الرجل فى جنة عدن. لقد كان الرجل متمتعًا بإرادة جهلٍ فى جنة عدن تجعل الشبيه يظل شبيهًا إلى الأبد دون قدرة منه على لمح أنه شبيه الأصل. أما المرأة الحية حواء فمنذ اللحظة الأولى عرفت أن الكينونة فى جنة عدن تنطوى على نقص أساسى ومتضاعف بالنسبة إلى حالتها بالذات. ولذلك تحملت المرأةُ عبءَ الهبةِ أولاً فوهبت نفسَها الكينونةَ/عارفةً/كـ/الله ثم وَهَبَت رجلَها الذى معها ما قد قررت أن تمنحه لنفسها. ولا شك أنها كانت ستمضى فى الطريق إلى منتهاه نحو الكينونة إلهًا كاملاً بالأكل من شجرة الحياة: "وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفًا الخير والشر. والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا ويأكل ويحيا إلى الأبد فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التى أخذ منها"(18). تنجح المرأة فعلاً فى فض احتجاب الله لكنه الفض الذى يجعل من الاحتجاب شروعًا مستمرًا من جهة الله فى ديمومة الاحتجاب، ومن جهة المرأة يجعل فضُّ الاحتجاب من الرغبة فى الكينونة إلهًا شروعًا فى النقص المستمر. تنطوى الهبةُ الأصليةُ التى تَهَبُ الأصلَ على مغادرةِ الأصلِ على النحو الذى يُبدِى الأصلَ أثرًا. إن الحضورَ الأساسىَّ للأصلِ هو حضورُ الأثر، وذلك بحكم اختلافٍ أصلىٍّ قارٍّ فى أصل الهبة الأصلية. وإذا كان التقليد التوراتى بكامله يلقى بعبء الخطيئة الأصلية على عاتق المرأة فينشرها على طول متنه زانيةً وساقطةً، ثم يطور المتنُ المسيحىُّ التقليدَ نفسَه الذى يَقْرِنُ المرأةَ على الدوام بشرور الجسد وآلامه، فإن هذا التقليد لا ينتبه إلى أن المرأةَ لم تكن راغبةً إلا فى الصيرورة إلهًا، رغبة شَرَعَت المرأةُ للمرة الأولى فى إنفاذها وتحقيقها. ولذلك فإن ما قد كان معتبرًا إغواءً وسقوطًا هو نفسه ما يُعْتَبَرُ إعلانًا عمليًا عن الرغبة فى الكينونة إلهًا. لم يكن وعد المرأة للرجل بإطعامه من الثمرة التى أخذتها وعدًا بالكينونة إلى جناب الله وإنما هو الوعدُ بـ"الكينونة إلهًا" لكن من خلال عدم إنفاذ الوصية: الوعد المُغوى والفاتن بالديمومة إلهًا فى جنة عدن من دون انقطاع. وعدٌ لم يكن إنجازُه الوحيدُ والوفاءُ به إلا إخلافَه: السقوط عن جوار الله. لكن هذا السقوط لن يقدم بعد الآن مسألة الله بوصفها احتجابًا أصليًا بل بوصفها ما يشرع فى النقصان المستمر. أليس من اللافت اللافت هاهنا أن الفعل الأول الذى قام به الرجل آدم بعد السقوط هو فعل جنسى مُعَبَّرٌ عنه بالمفردة "عَرَفَ": "وعرف آدم امرأته حواء فحبلت"(19). إذ تصبح المعرفة على علاقة وثيقة بالفعل الجنسى أو هى نفسها فعل جنسى، أهذا ما كان محرمًا على الرجل فى جنة عدن، المحرم الذى من خلاله سيصير الرجل والمرأة عارفين كـ الله؟ أهذا هو؟ نحن لا نعرف على سبيل الجزم.

3- مقام النبوة: الانتعاظ  وخلخلة الأصل:

يتساءل بوحديبة: "هل يمكن لنبى أن يقع فى حب امرأة متزوجة؟"(ص53). إن الإجابة على هذا السؤال تستدعى الحقل الرمزى للإسلام بكامله، ذلك أنها تستثير فحصًا دقيقًا لطبيعة النبى كما تستثير الجدل بين القدسى والجنسى فى الآن نفسه. وما يستثير السؤال منذ البدء حالة النبى يوسف وليس محمد. ولعلها مصادفة سعيدة أن بوحديبة والخطيبى يتعرضان لهذه الحالة، كل على طريقته. وما قد دفعنا إلى اختيار حالة النبى يوسف علاقة المشابهة التى ينطوى عليها القانون الحكائى مع حدث السقوط: الرجل آدم/النبى يوسف، المرأة حواء/امرأة العزيز، الرب الإله/برهان الله، الوصية بعدم الأكل من شجرة المعرفة/ الوصية المضمَّنة بعدم التعرف إلى جسد امرأة العزيز (=الأمانة). وعلى الرغم من تباين المنطلقات النظرية لكل من بوحديبة والخطيبى(20) إلا أن كليهما يستجيبان للقانون الرمزى الذى يحتمه الحقل الرمزى للإسلام، أىْ يستجيب كلاهما لكل علامات التفسير ذى الطابع البلاغى (بوحديبة) والتأويلى (الخطيبى) اللاهوتيين. فنحن نلحظ عندهما الآتى:

ـ  زليخا امرأة متوهجة بالشهوة، ويفضل الخطيبى أن يجعل منها الكائن الأقرب إلى الشيطان، ذلك أن الفجور لابد له من إرادة فاجرة، وهذا هو معنى حضور الشيطان بين الرجل والمرأة.
-  يوسف نبى يجتهد من أجل الوصول إلى الحقيقة القدسية وامتلاكها "ومن يسلك طريق الغواية لا يمكنه الوصول إلى الحقيقة القدسية ليس لكونه ابنًا متبنى فحسب ولكن لأن الأمر يتعلق بكبيرة الزنا" (بوحديبة، صـ 53)، فى حين يستسلم الخطيبى لوصف نسوة المدينة فيجعل من يوسف نبيًا ملكًا، ويحدد الملك بأنه "ظهور انبثاق لا يُسْلِمُ نفسه" (الخطيبى، ص197). وبذلك يهيئ كلاهما الموقف بأكمله لإنفاذ برهان الله.
ـ  برهان الله، الذى يجعل من الجسد إسلامًا خالصًا باستمرار للواحد الأحد، وبصفة خاصة جسد نبى.

لابد من ملاحظة أن بوحديبة والخطيبى يجتمعان معًا على أن امرأة العزيز هى التى تقوم بالإغواء وهى التى تحاول دفع النبى إلى مغادرة مقام النبوة. فما الذى حدث بعد أن همَّت به وهمَّ بها، أى كادا أن يفعلا؟ لنقتبس من النيسابورى ما يقوله ابن عباس الذى يروى الحوار الذى دار بين المرأة والنبى قبل أن يقعد منها مقعد الرجل من المرأة:

قالت: يا يوسف ما أحسن شعرك! قال: هو أول شئ يبلى إذا مت، قالت: يا يوسف ما أحسن وجهك! قال: ربى تعالى صورنى فى الرحم، قالت: يا يوسف قد أنحلت جسمى بصورة وجهك، قال: الشيطان يعينك على ذلك، قالت: يا يوسف الجنينة قد التهبت نارًا قم فأطفئها، فقال: إن أطفأتها فمنها احتراقى، قالت: يا يوسف الجنينة قد عطشت قم فاسقها، قال: من كان المفتاح بيده فهو أحق أن يسقيها منى. قالت: يا يوسف بساط الحرير قد بسط لك قم فاقض حاجتى. قال: إذن يذهب نصيبى من الجنة، قالت: يا يوسف ادخل معى تحت الستر فأسترك به، قال: ليس شئ يسترنى من ربى تعالى إن عصيته. قالت: يا يوسف ضع يدك على صدرى تشفنى بذلك، قال: سيدى أحق بذلك منى، قالت: أما سيدك فأسقيه كأسا فيه زئبق الذهب فيتناثر لحمه ويتساقط عظمه، ثم ألقيه فى الإستبرق وألقيه فى القيطون... لا يعلم به أحد من الناس وأوليك ملكه قليله وكثيره، قال: فإن الجزاء يوم الجزاء. قالت: يا يوسف إنى كثيرة الدر والياقوت والزمرد، فأعطيك ذلك كله حتى تنفقه فى مرضاة سيدك الذى فى السماء فأبى يوسف.

قال ابن عباس: فجرى الشيطان فيما بينهما، فضرب بإحدى يديه إلى جنب يوسف وباليد الأخرى إلى جنب المرأة حتى جمع بينهما، قال ابن عباس: فبلغ من همّ يوسف إلى أن حل الهميان وجلس منها مجلس الرجل الخائن(21). (التشديد من عندنا).

وعند هذه اللحظة يَحْضُرُ اللهُ برهانًا على النحو الذى يجعل من الجسد إسلامًا خالصًا له:
فقد حل سراويله وقعد منها مقعد الرجل من المرأة، فإذا بكف قد بدت فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم مكتوب فيها (وإن عليكم لحافظين كرامًا كاتبين يعلمون ما تفعلون) فقام هاربًا فارًا؛ فلما ذهب عنهما الروع والرعب عادت وعاد، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته إذ الكف قد بدت بينهما ليس لها عضد ولا معصم مكتوب فيهما (واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله) الآية، فقام هاربًا وقامت؛ فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته إذ الكف قد بدت بينهما ليس لها عضد ولا معصم مكتوب فيها (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً) فقام هاربًا وقامت؛ فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته قال الله تعالى لجبريل عليه السلام: ياجبريل أدرك عبدى قبل أن يصيب الخطيئة، فانحط جبريل عاضًا على أصبعه أو كفه، وهو يقول: يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله فى الأنبياء؟ قال الله تعالى (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين)(22). (التشديد من عندنا).

مرة أخرى نكرر السؤال: ما الذى حدث؟ إن بوحديبة والخطيبى كليهما يقفزان مباشرة إلى ما يلى ما قد حدث، أى إلى رؤية يوسف لبرهان ربه من حيث هى "الحد الذى تُحتجز فيه الشهوة ويعلقها برهان الله فجأة، وهى قريبة من الإشباع، حد جنونى حيث على النبى الملائكى وغاويته، وقد فقد رشده، أن يستهلكا الشهوة المحرمة روحيًا فقط" (الخطيبى، ص 198). أما بوحديبة فلا يعلق على مشهد رؤية البرهان مكتفيًا بـ"تنبه يوسف إلى أن مبدأ الحق يهدم مبدأ اللذة" (بوحديبة، ص55)، وإنْ كان يُلمح إلماحًا إلى عقدة أوديب بالمعنى الفرويدى الخالص، أى بمعنى أن يوسف قد أصابه كف جنسى حال رؤيته لصورة أبيه النبى يعقوب، غير أنه لا يمضى خلف الفرضية الفرويدية. لكن ما يلفت الانتباه تعليقه على مشهد نسوة المدينة اللائى قطعن أيديهن: "حيث يتضمن البرتقال والسكين فعل الحب الذى اشتهته النساء والذى قوبل بالرفض القاطع من يوسف، ذلك الذى أدت رؤيته فقط لشعورهن الجماعى بالنشوة، والإثارة تنبع هنا من السماء ومن هيئة يوسف الملائكية، فالحب والنبوة متطابقان والجمال يعكس القدسية" (بوحديبة، ص57).

وعلينا أن ننتبه إلى مغزى الإصرار عند الاثنين على الإنجاز الرمزى للفعل الجنسى الذى يأباه النبى المؤيد من السماء. لماذا لا نقول أيضًا إن المتن القرآنى نفسه يشى بهذا الإنجاز الرمزى عندما يقول "فقطعن أيديهن" حيث يستدعى سيلان الدم إشارة التضحية بالدم والإشارة نفسها التى ينطوى عليها فض بكارة المرأة بوصفها عملية تضحية، لكنْ هذه المرة مَنْ تُفض بكارته رمزيًا هو النبى الملك. إن القراءتين تستحثان بكل سبيل إنجاز فعل جنسى ما، مرة على المستوى الروحى ومرة على المستوى الرمزى. ذلك أن عدم الإنجاز على أى نحو كان، يتعلق باستحالة معينة تخص الجسد البشرى. وبخصوص هذه الاستحالة نحيل مباشرة إلى روايتى ابن عباس السابقتين. وقد يُعترض علينا وعلى ما نلمح إليه بدفع روايتى ابن عباس، وبخاصة أننا فى حضرة نبى ملك. غير أننا سوف نستأنس فورًا بالإمام القشيرى الذى يعلق على فعل الهمِّ بالطريقة الآتية: "ما ليس بفعل الإنسان مما يعتريه بغير اختياره ولا بكسبه كان مرفوعًا لأنه لا يدخل تحت التكليف، فلم يكن الهم منه ولا منها زلة وإنما الزلة من المرأة كانت من حيث عزمت على ما همت به، فأما نفس الهم فليس مما يكسبه العبد"(23). لو أننا فهمنا فعل الهم كما يلمح القشيرى وفى ضوء روايتى ابن عباس فسوف نكون أمام الغرابة الشديدة التى تكل المخيلة عن متابعتها: انتعاظ النبى. لنسترجع الآية مرة أخرى: "ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه". إن "لولا أن" تحجب الإيلاج وتمنعه غير أنها لا تمنع المخيلة من تصور انتعاظ نبى وإلا لما احتاج القشيرى أن يقول كلامه السابق.

وتصور انتعاظ النبى يلفتنا بشدة إلى تعليق غامض وغريب يقوله بوحديبة، تعليق يظهر مثل نتوء عارض لكنه لا يكف عن الإشارة إلى نفسه، إذ بعد تحليله لمشهد الإغواء يقول: "فالمرء لا يملك سوى أن يقع فى حب نبى، ولكنه هيهات يظل عاجزًا عن استدراجه، فالنبى لا يقع فى الخطأ" (بوحديبة، ص57). ما يستثير الغموض والغرابة هنا أن بوحديبة فى الصفحة التالية مباشرة يستنكر أن يأبى أى فقيه أن يماثل يوسف، وهذا معناه ضمنًا الإعلان عن رغبة أى فقيه فى لقاء زليخا. أما هو فإنه يود أن يماثل زليخا، أى ثمة رغبة خفية وغامضة فى لقاء يوسف. إن هذا التبديل فى المواقع غريب ولافت ويستدعى عدة كاملة من التحليل الفرويدى، ويدفعنا إلى قلب سؤال بوحديبة الذى افتتحنا به هذا الجزء من المقال: "هل يمكن لنبى أن يقع فى حب رجل بالمعنى الشهوانى للحب؟!". وبالطبع لا نقصد تعريضًا ساذجًا وإنما نلمح إلى ضرورة تحليل كيفيات تلقى النبى أى نبى- للوحى عن الله تحليلاً نفسانيًا ضمن نظرية الجنس الفرويدية بتطويرات لاكان. ويمكن هاهنا اعتماد حالتين هما حالة النبى موسى التى تتوفر بخصوصها مرويات توراتية تتيح هذا الدرس، وحالة النبى محمد التى تتوفر بخصوصها أيضًا مرويات عدة.

نعود مرة أخرى إلى مشهد يوسف. يكتب بوحديبة شارحًا المشهد على نحو بلاغى: "هل يمكن ألا يؤخذ الإنسان بغزارة الرموز الجنسية هنا؟ ذلك الرمز المتعلق بالباب، الباب المغلق الذى يعدو المرء ناحيته ليجد خلفه زوجًا ينتظر، فكل محظور ومستور يقع خلف الأبواب. يوسف يأبى الدخول إلى مخدع العزيز وزليخا من ناحيتها تريد أن تكشف له ما تستره كل الأبواب. ويظل الباب مغلقًا وحين يفتح يفاجأ العزيز الغيور بالشاب الصغير ممزق الثياب، بعد أن أوقفته صورة والده وهو على عتبة باب الإثم الكبير. إن الموقف معكوس ومشوب بالسخرية أيضًا، امرأة تمزق ملابس رجل من خلف! إنه لجدل رائع للعاطفة: فالقميص الممزق، يزيد رغبة المرأة اشتعالاً" (بوحديبة، صـ55). إن قراءة المشهد معكوسًا عبر قلب أدوار الرجل والمرأة بدلاً من التعمية البلاغية على هذا القلب للأدوار سوف تؤدى إلى نتائج مروعة. يوسف النبى يضطلع بدور المرأة فى مشهد الإغواء. هو المرأة المتمنعة بعد أن قامت بإغواء زليخا التى تضطلع بدور الرجل. أليست الإثارة نابعة من السماء ومن هيئة يوسف الملائكية؟ (ولنا أن نستدعى هاهنا هذا الثلاثى: الرب الإله/الرجل آدم/المرأة حواء)، وتمنُّعه الظاهرى الذى يؤكد عليه المتن القرآنى ليس مفهومًا إلا من خلال هذا القلب للأدوار؛ إذ يصبح يوسف هو مَنْ يضطلع بدور المرأة التى تشتهى السماء: الرب الإله.

إن المضى خلف تتبع قلب الأدوار هذا، سوف ينقل ميتافيزيقا الواحد من كونها ميتافيزيقا ذات طابع مركزى قضيبى إلى كونها ميتافيزيقا ذات طابع مركزى هيمنيالى حسب إشارة دَريدا، مما يهدد بنية النسق التصورى التى يولدها المتن الإسلامى الثابت والمستقر بوصفه حقلاً رمزيًا من ناحية، ويولدها القانون الرمزى الذى تشتغل ضمنه الشروحات والتفاسير والتأويلات ذات الطابع اللاهوتى من ناحية ثانية. إنه تهديد يعمل هذه المرة ويشتغل لحساب المرأة بعد أن يتم تبديل المواقع وقلبها، حتى ولو كان هذا الاشتغال رمزيًا.

ننتوى الآن الانتقال من مستوى الحقل الرمزى الخاص باشتغال البرهان والحجة اللاهوتية والحقيقة وعمومًا كل ما ينضوى تحت لواء "الحق" فى الإسلام إلى جانبه الآخر، إلى مستوى الظن والوهم والادعاء الكاذب.

4 ـ النبوة السليبة والسخرية المثيرة للضحك:

إن أهمية "مسيلمة بن قيس" التى جعلت التراث الرسمى والشعبى يحتفظ به لا تعود إلى أنه كان يعارض النبى محمد سورة بسورة كما فعل بسورتى "الفيل" و"الكوثر"، وإنما تعود إلى المعجزات التى كانت تتواتر على يديه. وعلينا أن ننتبه إلى ذلك جيدًا:

وكان مما يعارض به أيضًا إذا سمع النبى صلى الله عليه وسلم وضع يده على رأس أقرع فنبت شعره وتفل فى بئر فكثر ماؤها ووضع يده على رأس صبى فقال عش قرنًا فعاش ذلك الصبى مائة عام. فكان قوم مسيلمة إذا رأوا ذلك يأتون إليه ويقولون ألا ترى ما فعل محمد فيقول لهم أنا أفعل لكم أكبر من ذلك. فكان عدو الله إذا وضع يده على رأس من كان شعره قليلاً يرجع أقرع من حينه، وإذا تفل فى بئر كان ماؤها قليلاً يبس. أو كان حلوًا رجع مرًا بإذن الله. وإذا تفل فى عين أرمد كف بصره لحينه. وإذا وضع يده على رأس صبى وقال عش قرنًا مات فى وقته(24). (التشديد من عندنا).

"أنا أفعل لكم أكبر من ذلك"، أليس كذلك؟ إن النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم يحوِّل "التلاشى" إلى "كثافة"، وأما مسيلمة النبى فيحوِّل "الكثافة" إلى "التلاشى". إننا أمام حركة مزدوجة لـ"شئ واحد مقسوم على نفسه"، وفى هذه الحركة بالذات يكمن مأزق النبى السليب. ذلك أن ما يقوم به مسيلمة يستلزم ضمنًا نزول الملك جبريل، فلاشك أن الإعجاز على أى نحو كان يستلزم تدخلاً ملائكيًا، أليس كذلك؟  إن النبى الذى يحول "التلاشى" إلى "كثافة" يبغى أن تصبح "الكثافة" دليلاً على "الواحد الأحد" تمهيدًا لأن "تتلاشى" فيه بالعودة إليه، وهذه بالضبط هى الدورة المضاعفة للموت والحياة التى ينص عليها المتن القرآنى. أما النبى الذى يحول "الكثافة" إلى "التلاشى" فإنه يبغى أن يشير الدليلُ إلى نفسه منغلقًا على حدوده ومنقطعًا عن "الواحد الأحد". وهذا الانغلاق المنقطع يجرُّ النبى السليب إلى "الموت" و"العدم": التلاشى والزوال.

سنتقدم مع الشيخ النفزاوى حتى نفهم هذه الوضعية الغريبة. تصادف أنه كانت على عهد "مسيلمة" امرأة من بنى تميم يقال لها "سجاح التميمية" ادعت النبوة. ولا ريب أنه عند هذه اللحظة سينشأ بالضرورة تنازع حول امتلاك "الحق"، وبالفعل يتلقى مسيلمة من النبية المرأة رسالة أدرك ما فيها:
"فحار فى أمره وجعل يستشير قومه واحدًا بعد واحد فلم ير فيهم ولا فى رأيهم ما يشفى الغليل فبينما هو كذلك حائرًا فى أمره إذ قام إليه شيخ كبير من بين الناس وقال يا مسيلمة طب نفسًا وقر عينًَا فأنا أشير عليك إشارة الوالد على ولده" (النفزاوى، ص 42-43).

وبعد أن قدم الشيخ الحكيم مشورته الثمينة قال مسيلمة: "أحسنت والله نعم المشورة هذه". أفلا يذكرنا الشيخ الحكيم الذى لجأ إليه مسيلمة بالعلاقة الغامضة التى انعقدت بين النبى محمد وورقة بن نوفل عبر السيدة خديجة، وهى العلاقة التى قد تثير الريبة لو أننا أخذناها مأخذ الجد، ريبة سوف تصل إلى حد فتح ثغرة فى بنية النسق التصورى الذى يولده الحقل الرمزى للإسلام. بهذا الخصوص نحن لا نعرف ولا نستطيع الجزم بشئ حتى الآن فى ضوء ما توفر لدينا من مصادر تخص هذه العلاقة.

نعود إلى الشيخ النفزاوى والنبى مسيلمة. ما المشورة الثمينة التى أسداها الشيخ الحكيم؟:
قال إذا كان صبيحة غد اضرب خارج بلادك قبة من الديباج الملون وافرشها بأنواع الحرير وأنضجها نضجًا عجيبًا بأنواع المياه الممسكة من الورد والزهر والنسرين والفشوش والقرنفل والبنفسج وغيره فإذا فعلت ذلك فادخل تحت المباخر المذهبة بأنواع الطيب مثل عود الأقمار والعنبر الخام والعود الرطب والعنبر والمسك وغير ذلك من أنواع الطيب وأرخ أطناب القبة حتى لا يخرج منها شئ من ذلك البخور فإذا امتزج الماء بالدخان فاجلس على كرسيك وأرسل لها واجتمع بها فى تلك القبة أنت وهى لا غير فإذا اجتمعت بها وشمت تلك الرائحة ارتخى منها كل عضو وتبقى مدهوشة فإذا رأيتها فى تلك الحالة راودها عن نفسها فإنها تعطيك فإذا نكحتها نجوت منها ومن شرها وشر قومها (النفزاوى، ص43).

يفترض العطرُ "كثافةً" معينة لا تشتغل من حيث كونها "كثافة" إلا بـ"التلاشى". سنكون إذن أمام حركة مزدوجة وقسمة لـ"شئ واحد يشتغل ضد نفسه على الدوام"، ففى اللحظة التى يبغى فيها العطرُ الإشارةَ إلى نفسِه بوصفه عطرًا نراه يأخذ فى "التلاشى". لاشك أن مسيلمة لم يكن نافد الصبر وهو يستمع إلى وصية الشيخ الحكيم الذى يرصف أنواع الروائح الطيبة ومباخر الطيب التى طالت إلى حد ما. إن مسيلمة كان مأخوذًا بمقام النبوة إلى الدرجة التى جعلته يذهل عن "الكثافة" فغاب عنها وغابت عنه، فلم يدر ما يصنع فى أمر النبية التى تنازعه امتلاك "الحق". غير أن سرد الشيخ لأنواع العطور أعاده مرة أخرى إلى "الكثافة" مما هيأه إلى إدراك ما يرمى إليه الشيخ الحكيم على غرابته فى هذا الموقف.

ثم إنه فعل لها جميع ما قاله ذلك الشيخ فلما قدمت عليه أمرها بالدخول إلى القبة فدخلت واختلى بها وطاب حديثهما فكان مسيلمة يحدثها وهى داهشة باهتة فلما رآها على تلك الحالة علم أنها اشتهت النكاح فقال لها شعرًا: ألا قومى إلى المخدع/فقد هيئ لك المضجع/فإن شئت فرشناك/وإن شئت على أربع/وإن شئت كما تسجدى/وإن شئت كما تركعى/وإن شئت بثلثيه/وإن شئت به أجمع. فقالت به أجمع هكذا أنزل على يا نبى الله (النفزاوى، ص 43-44).

حين سألها قومها عن الذى حدث قالت لهم: "إنه تلى ما أنزل الله عليه فوجدته على حق فاتبعته". إن العودة إلى "الكثافة" معناها عودة إلى "الجسد" وإلى كل المجال الذى يولده الجسد: الارتخاء والدهش والانحلال، أى إلى كل ما يتعلق بالشهوة الجسدية. إن "الحق" و"حقيقة الحق" هاهنا تعود إلى "الجسد". وترجع القيمة الكبرى لهذا المتن الحكائى أنه يستحضر علاقة الرجل بالمرأة حال التنازع حول "الحق"، غير أن هذا التنازع يأخذ شكل الانقطاع المتضاعف عن "الحق الواحد الأحد" بالذات. ذلك أن "حقيقة الجسد" تعود إلى ملازمته لنفسه منغلقًا على نفسه ولا تعود إلى "الواحد الأحد"؛ مما يسمح لنا بالكلام عن "أنطولوجيا الجسد" بوصفها انقطاعًا دائمًا عن "الواحد الأحد". أكتب هذه العبارة الأخيرة وأنا أفكر فى المشكلة الصعبة التى افتتحها الفلاسفة المسلمون منذ زمن بعيد، وهى المشكلة المتعلقة بحالة الإنسان بعد الموت: البعث والنعيم والعذاب، هل يكون بالجسد أم بالروح أم بالاثنين معًا. لا شك أن هذا النوع من التفكير يمثل ختامًا مناسبًا.

يروى الشيخ النفزاوى أن مسيلمة قتل على عهد أبى بكر الصديق، أما سجاح فقد تابت إلى الله وتزوجها رجل من الصحابة.

_______________________________________

فى كتاب لنا قيد الطبع بعنوان (أرشيف النص: درس فى البصيرة الضالة). أما المقال الحالى فهو نص الورقة التى ألقيت فى المعهد السويدى بالإسكندرية بمناسبة تكريم أستاذ الاجتماع التونسى عبد الوهاب بوحديبة فى الفترة من 21 ديسمبر حتى 23 ديسمبر2004م.
(1) صدرت النسخة العربية لأول مرة عام 1986 أما النسخة الحالية التى اعتمدناها فصدرت عام 2001م. واللافت للنظر اختلاف العنونة العربية عن الأصل الفرنسى la Sexualite en Islam - عبدالوهاب بوحديبة: الإسلام والجنس، ترجمة وتعليق هالة العورى، (بيروت، دار رياض الريس، طبعة ثانية2001م).
(2) حتى لا نشوش على القارئ، نحن نقصد بالبلاغة هاهنا كل خطاب يتكلم عن التعين الدقيق لموضوعه فنراه يفسره بالإحالة إلى غيره، على النحو الذى يجعل من هذا "الغير" علة له وأصلاً مفسرًا.
(3) عبدالكريم الخطيبى: الجنس فى القرآن الكريم ، ترجمة محمد بنيس، ضمن كتاب الجنس عند العرب نصوص مختارة، الجزء الثانى (ألمانيا، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 1997)، ص194.
(4) ابن إياس الحنفى: بدائع الزهور فى وقائع الدهور (القاهرة، مطبعة الحسين الإسلامية، دون تاريخ) ص33.
(5) جاك دريدا: الوفاء لأكثر من واحد ـ استحقاق الميراث حيث غياب الجينيالوجيا، ترجمة عبدالكبير الشرقاوى، ضمن كتاب لغات وتفكيكات فى الثقافة العربية ـ لقاء الرباط مع جاك دريدا (المغرب، دار توبقال للنشر، طبعة أولى 1998) ص 193- 232 .
(6) فتحى بن سلامة: الجنس المطلق، ترجمة حسين قبيسى، ضمن كتاب الجنس عند العرب، الجزء الثانى (سبق ذكره) صـ 225.
(7) بخصوص مادة "حبب"، راجع: ابن منظور: لسان العرب، (بيروت، دار إحياء التراث العربى ومؤسسة التاريخ العربى، الطبعة الثانية1997)، الجزء3، صـ.صـ7- 8، صـ11.
(8) راجع إشارة الجاحظ بخصوص العشق فى: الحصرى القيروانى: المصون فى سر الهوى المكنون، دراسة وشرح وتحقيق د.النبوى عبدالواحد شعلان، (القاهرة، دارالعرب للبستانى، 1989م)، صـ79. وفى هذه الإشارة جمع لكل الأدلة المتهتكة التى ينبغى إحباطها.
(9) بخصوص مادة "عشق"، راجع: ابن منظور: لسان العرب، (سبق ذكره)، الجزء 9، صـ244.
(10) انظر ترجمتنا لـ: جايتريا سبيفاك: مدخل إلى الجراماتولوجيا، ترجمة حسام نايل ضمن كتاب صور دريدا (القاهرة، المشروع القومى للترجمة، 2002) ص91. (والكتاب بكامله قيد إعادة الترجمة مرة أخرى حتى نفى بوعدنا للقارئ). وبخصوص الحركة المزدوجة لاستراتيجية التفكيك، انظر مواضع متفرقة من السابق، ومن الفصل الثانى من كتاب: Jonathan Culler, On Deconstruction, Cornell University Press,1982.والكتاب كاملاً قيد النشر لصالح المجلس الأعلى للثقافة بمصر.
(11) هيجل: موسوعة العلوم الفلسفية، ترجمة وتقديم وتعليق د.إمـام عبد الفتاح إمـام، (القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، دون تاريخ)، صـ.صـ 109 ، 114 .
(12) الكتاب المقدس، العهد الجديد، إنجيل متى، الإصحاح 18، الآية 3، صـ32.
(13) الكتاب المقدس، العهد القديم، التكوين، الإصحاح الثانى، الآيتان 16 - 17، صـ 5.
(14) السابق نفسه، الآية 18.
(15) السابق نفسه، الآيات 21 ، 22 ، 23، ص6.
(16) السابق نفسه، آية 25.
(17) السابق نفسه، الإصحاح الثالث، الآيات 1-7، ص6.
(18) السابق نفسه، الآيتان 22، 23، ص7.
(19) السابق نفسه، الإصحاح الرابع، الآية1، ص7.
(20) راجع الصفحات من ص 52 حتى ص61 عند بوحديبة، والصفحات من ص 197 حتى ص 200 عند الخطيبى (سبق ذكرهما).
(21) النيسابورى: قصص الأنبياء المسمى عرائس المجالس، (القاهرة، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبى، الطبعة الرابعة 1954م)، ص 119. (22) السابق نفسه، ص 120.
(23) الإمام القشيرى: لطائف الإشارات- تفسير صوفى كامل للقرآن، المجلد الثانى، (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة التراث، 2000م)، صـ 178.
(24) الشيخ النفزاوى: الروض العاطر فى نزهة الخاطر، ضمن كتاب الجنس عند العرب، نصوص مختارة، الجزء الأول (سبق ذكره) صـ 42.