يتناول الباحث المغربي في مقالته مشروع الرافعي في القصة القصيرة جداً. يؤكد على سمة التجريب فيه، وعلى والتحول واللااكتمال في البنية السردية. كما ويصفه بالخنوثة، لأنه يقع على تخوم الشعرية والقص دون أن ينتهي للانتماء لأي منهما بفعل تقنياته الفنية الخاصة.

خبايا القص المضاد

قراءة في مجموعة «اعتقال الغابة في زجاجة» لأنيس الرافعي

محمد رمصيص

ينهض المشروع القصصي لأنيس الرافعي على خلفية الوعي الجمالي بقيمة النقص واللااكتمال اللذين يقفان خلف تجاوزه نفسه باستمرار. إذ تعيش تجربته القصصية بداية متواصلة وتتطلع لنهاية مؤجلة إلى ما لانهاية. وهذا راجع لوعيه بأن الاستقرار على حالة ثابتة ليس إلا الوجه الآخر للبوار والموت. ولهذا فديدنه هو التحول والترحال كقانون ناظم لفعلي الكتابة والتخييل.. منتهياً إلى أن التجريب هو فن التجاوز والإضافة أو لنقل الشوق الدائم للعبور إلى الضفة الأخرى.وبسبب هذا فهو يفتح نصوصه على احتمالات فنية لامتناهية جراء رهانه على كتابة مضادة تروم القفز على الألفة، أو الاطمئنان للمكرس. ولكل هذا فقصصه صادمة لذائقة التلقي التقليدية لأنها ارتضت بكل بساطة القص خارج السرب والمتشابه. ولأنها قصص تجريبية فهي تتوفق في جعلنا نرى وجه العالم المخبوء وتسقط تلك الألفة التي تعتمه وتغطيه.وهذا مبتغى جمالي سخر له القاص ألاعيب سردية من قبيل التكرار، فيضان الوعي واللاوعي، التدعيات الحرة فضلاً عن فوضى الزمن السردي، والقص للعين جراء اعتماده المشهد كبنية حكائيّة إلى جانب اللغة الإيحائية في الغالب والكتابة عبر النوعية أو لنقل النص المفتوح على كل الأنواع. الأمر الذي يصوغ لنا مشروعية وصف قصصه بكونها قصص "خنثى" فهي لا تحسب لا على الشعر رغم كثافة اللغة والترميز ولا تحسب على السرد رغم توفرها على بنية أحداث متواترة.

1- ألاعيب السرد المضاد: حفلت هذه المجموعة القصصية بجملة من التقنيات السردية تربع على قمتها التكرار. والتكرار يمنح القصة كثافة شعورية كالتي يمنحها الإيقاع الغنائي في الشعر. ويتصف التكرار عند أنيس الرافعي بكونه يأتي مفردة واحدة أحياناً وأحياناً أخرى يأتي جملة ونادراً ما يأتي مقطعاً بكامله كما في قصة "الزجاجة" تكرار مرتهن لكتابة حلزونية ترسم دوائر قصصية غير مكتملة.. دوائر مفتوحة عند نهاية كل جملة، علماً أن جمل هذه القصة اتصفت باستقلالية معنى كل جملة على حدى وعدم ارتباطه بما سبقه وما تلاه.يقول السارد في ص19: "ضفادع على العشب: أصابع على البيانو. أصابع على البيانو: زخات على النافدة. زخات على النافدة: نقرات على الطبل. نقرات على الطبل: موجة، تتبعها موجة". وهذا الإخراج البصري المخاتل للنص يوحي بانتسابه لقصيدة النثر جراء اعتماده تكثيف اللغة والشكل العمودي للسطر الشعري فضلاً عن كيمياء الدلالة التي تتولد جراء تجاور الكلمات. كتابة سرعان ما تجعل وهم انتسابها للشعر يتهاوى في نهاية القصة عندما يخطها القاص في شكل أفقي دون أن يعني هذا أن قصيدة النثر شكلاً بصرياً وحسب. لنتوقف عند هذا الشكل الثاني في إخراج النص.ص21: "ضفادع على العشب، أصابع على البيانو، زخات على النافدة، نقرات على الطبل، موجة، تتبعها موجة.."، غير أن الأهم من هذا التوصيف هو البحث عن الوظيفة الجمالية للتكرار، غاية تفرعت بين خلق إيقاع سردي جديد منح المتلقي إحساساً خاصاً بالجمل المعادة، إعادة أعطت القارئ فرصة مضاعفة لتأمل المعنى فضلاً عن الوظيفة الدلالية لهذا التكرار والتي تمثلت في التشديد على حالة الظمأ والحرمان الذي عاشه البطل في مكان افتراضي في بعض مفاصل القصة. يقول السارد في ص20: "قلب يخفق في رسالة غرامية لم تفتح أبداً.."، وهذه التعمية الزمنية والمكانية تروم إعطاء الأهمية للحدث على حساب الشخصية وزمكان تواجدها. وهذا معطي تقني وجمالي هام جداً يترجم عدم اكتراث القاص بالمرجع والواقع العيني والمحدد، لأن القاص التجريبي ينتقي مرجعاً لا يرى للآخرين فهو وحده الرائي وبسبب كل هذا يتوفق في شطب تلك الألفة الزائفة التي تربطنا بالواقع المعتاد. وهذا الاستنتاج يتساوق مع كون "الحقيقة الأدبية" مغرقة في الذاتية، تلك الذات التي تشكل مصدر الوهم والدهشة وبالتالي فهي مرجع نفسها، ولا علاقة لها بصوغ الواقع/ المرجع. إن تخييلاً مماثلاً لا يمكنه إلا أن يكون متوحشاً وحروناً يرفض التدجين ويخاصم الألفة ويصاحب الشك والقلق.. قلق يكشف عن رغبة الرافعي في الرسو على شواطئ قص بكر بغاية إنتاج كتابة مضادة للتعفن والاستنساخ. ولهذا صح نعته بسلمون القص المغربي رفقة أقلام مجاورة عشقت التجريب حتى الاحتراق.

أما الملمح الثاني من ألاعيب الرافعي السردية فهو هيمنة تقنيات تيار الوعي على مجمل قصص المجموعة حيث قوض بنية الحكاية التقليدية وتمرد على سلطة السارد التقليدية وشتت زمن السرد وحول الأنظار من العوالم الخارجية إلى أعماق الشخصية وركز على أزمنتها النفسية. يقول السارد في مستهل قصة الشاطئ، ص25: "أنا.. أنا تقريباً أبدأ في الصراخ هذا الصراخ ذاته، جنحة مضمونة ضد الصمت. أما أنت فقد كنت في مفترق الطرق بين اليقظة والنوم. أنا..أنا تقريباً أرفع وثيرة الصراخ، وهذا الصراخ، هذا الصراخ ذاته: مثل تبطين معطف إذ قلبه أحد ما عثر على الصمت. أما أنت فقد انقلبت فعلاً وانطويت على نفسك كشارع جانبي صغير... أنا. أنا تقريباً أضخ قوة أكبر من الصراخ. وهذا الصراخ. هذا الصراخ ذاته: من ذلك النوع الذي يتغلغل في الروح دونما إمكانية لأي أحد ما كي يحظى بنفسه.. بنفسه فقط. أما أنت فسوف تشرع في الحلم.." يسجل على هذه القصة سردها بضمير المتكلم ودفعها للسطح بالمحتوى الذهني للشخصية مع توصيف روح مأساتها جراء الخوف من الموت (مطاردتها من طرف سمك القرش) محكي يعتمد التداعي الحر وحوارات الداخل المرتهنة بتصوير مستويات اللاشعور العميقة وانعدام الروابط بين معنى الفقرات. ترسنة من التقنيات السردية تنتسب لتيار الوعي كمنهج سردي يتصف "بفوضى أسلوبية ودلالية (الأمر الذي يجعل من القصة المضادة/ التيارية) سمتها الغموض والإبهام، وتعكس فوضى الذهن البشري، وتعقده، وأجواءه الغامضة، وهذا وحده كفيل بتخيل صعوبة قراءة نص كهذا فضلاً عن السيطرة النقدية عليه وإخضاعه لمنهجية منضبطة"(1). والملاحظ أن مجمل أحداث قصص هذه المجموعة تقع في أذهان الشخصيات.. أحداث لا تلبث تتدفق في شكل شلالات هلامية الملامح وسريالية الوجهة.أحداث تمزج بين الحسي والعقلي والشعوري.. أحداث تتوزعها مشاعر متضاربة تماماً ومتناقضة في الغالب جراء انفلاتها من قبضة المراقبة والتنظيم المنطقي للعقل كما للحكي. ولنأخذ بطل قصة "الشاطئ" مثلاً، فهو لا يكف عن الصراخ في وجه العالم وبذاءاته في ذات الآن الذي يتشبث بالأمل قصد اجتراح حياة أفضل في المستقبل. يقول السارد في نهاية القصة ص27: "لكنني متأكد بكل ما في من قوة اليأس أنني في صباح اليوم التالي سوف أصل.. سوف أصل حتماً.." إن مأساة هذه الشخصية ومأزقها يجسد إحدى أهم تقنيات تيار الوعي وهي الدراما الذهنية حيث الاضطراب في رؤية الأشياء تجعل محكيها أشبه بهلوسات هذيانية جراء تمثل الشخصية المعتم للعالم والذات، الأمر الذي يجعل كينونة الشخصية ملتبسة يختلط عليها اليأس بالأمل والرغبة في الحياة بالانشداد للموت، وهذه تقنية سردية مستحدة تجمع بين الشيء ونقيضه وتحمل المتلقي على أن يصدق الوقائع القصصية والأحداث دون أن يصدقها في حقيقة الأمر. وبالعودة إلى قصة "الشاطئ" نفاجئ بكون البطل سعيداً وفي غاية التعاسة والشقاء في نفس اللحظة. يقول السارد في ص27: "أصبح سعيداً مثل رجل فتح عينه في الحلم على أكواريوم تسبح فيه (...) سمكات ملونة (...) وأصبح الأكواريوم شاسعاً بحجم بحر وتحولت السمكات الملونة إلى قرش هائج يتعقب ذلك الشعور بالحياة الذي يجب التشبث به مثلما نحمل إناء مليئاً حتى الطفاح، ولا يجوز أن تراق منه قطرة واحدة. أسبح والقرش ورائي (...) الرؤية شبه منعدمة (...) عضلات ذراعي أضحت عاثرة.. والموت في كل لحظة ينحني علي ليوشوش في أذني وله صورة عيون زجاجية وأسنان كبيرة تجيء في عجالة بلا صوت".

وفي قصة "الصدع" اشتغل القاص على التداعي الحر حيث أوحى الصدأ الذي كسا فولاذ المباني بصدأ نفسي باطني. فلعب المثير الخارجي دور المحفز لفتح خزائن لاوعي الشخصية وإذاعتها على الملأ. وهذا الانتقال من الخارج إلى الداخل أدى إلى تداخل الأزمنة السردية موازاة كون الشيء المرئي أحدث في الذهن عدة استدعاءات محسوسة وهذه التقنية الحكائية هي ما يسمى في تيار الوعي بالانطباعية الحسية حيث ستتلون جميع المرئيات الموالية بإيحاءات الصدأ وفلكه الدلالي. يقول السارد ص29: "على الكرسي. تحت المظلة. أمام البحر. وضد على كل التوقعات التي تروج لمعافاة المشهد، حدث الانهيار بداخلي. لم يكن انهياراً كاملاً. فقط مجرد صدع (...) سمح بالكشف، منذ البداية، عند كعب السارية، تحديداً، عن بعض الحجر المتدرر كالحنطة الجيدة وعن بعض أسياخ الفولاذ الذي يعلو وجهه الصدأ. صدأ رزين وجليل ومؤكسد وشاهد على ضراوة البناء (...) ثمة غمولة وثمة برد وثمة طحالب.." وجدير بالذكر أن مجمل الأحداث الذهنية لبطل هذه القصة تدفقت في شكل شلال مندفع بعنف غير أنها أحداث تتوقف كل مرة يعود فيها السارد لحالة الوعي وتمثل الوقائع الخارجية كالنادل وجعته الصفراء وما شابه. وهذا الذهاب والإياب بين الباطن والخارج هو الذي خرق منطق التتابع واسترسال الأحداث وفق منطق تصاعدي وفضل القفز المفاجئ من فكرة إلى أخرى. تقنية سمحت بالتجوال في أروقة لاوعي الشخصية كما وعيها. علماً أن اللاوعي يتوسل لغة موحية ومكثفة في الغالب (قميص، عذاب، ظلمة..) فضلاً عن إسقاط هذا القصة لعلامات الترقيم قصد الإيحاء بسيلان الأفكار وتدفقها دونما فواصل منطقية. لنتأمل هذه القرينة النصية ص30: "قميص أرجواني أليف وناعم مثل الإفراط في الحرير لامرأة عذبني البحث عنها وهل أنا الذي دفتها هنا؟" إن هذه التقنيات السردية بقدر ما تجدد لحمة الحكاية وشكل عرضها تضع معناها في مأزق حقيقي: فتشتيت أزمنة السرد واللاترابط الأحداث يجعل من قضية الإمساك بمعنى القصة ينفلت في الغالب قبل تمثله بوضوح كما لو كان الأمر يشبه الإحساس بندفة ثلج في يد دافئة. ندفة سرعان ما تتحول إلى قطرات ما تنفلت بدورها بين فروج أصابع اليد ولايتبقى على الكف سوى البلل. صحيح أنه بلل يدل على مرور الثلج/ المعنى بقبضة اليد لكن تحول شكله المادي يشبه تحولات المعنى. تحول يجد مبرراته في فيضان الوعي وسيولة التذكر ومكر اللغة السردية.

2 - رهانات القصة المضادة: يراهن القص المضاد على تهشيم الحكاية والتمرد على وظيفة تسلية المتلقي بسرد منسجم واضح ومختوم في الغالب بنهاية سعيدة. قص غايته هدم الأشكال ومحو الحدود بين الأنواع الأدبية. يقول القاص والناقد فرناندو أليجيريا: "إن الأدب المضاد يرسم صورة للعالم المعاصر باعتباره فوضى وللإنسان باعتباره ضحية للعقل"(2) فقط يجب التشديد على أن فوضى الأدب المضاد لا يعني البتة الكتابة كيف ما اتفق. بقدر ما يعني الثورة على النظام المزعوم للعقل والمنطق السائد. الفوضى في هذا الأفق تروم خلخلة المسلمات والضرب بقوة إعصار بحري بالغ العمق كل اليقينيان الجمالية والإيديولوجية. الفوضى كذلك هي تجاوز اللغة السردية التي انتهت صلاحيتها من كثرة المضغ والاجترار لآلف المرات. ولهذه الاعتبارات مجتمعة تنفتح القصة المضاد باتجاه العمق، وليس باتجاه الامتداد الخطي. قصة بلا قرار شاهقة العمق وغائرة الإحالة، هدفها تهشيم الاطمئنان والبراءة وزرع الشك والقلق كقيمتان تنتجان اليقظة والتأهب قصد التعايش مع الغريب والمختلف بل والمدهش. يقول السارد في قصة الساق ص51: "في الحديقة كان لقاؤهما المعتاد هو وهي حين طلب منها عربون حب لا يقبل الجدل فأهدته هي بلا تردد ساقها اليمنى الاصطناعية كي يحتفظ بها هو لأسبوع كامل. هي تمضي من الحديقة بعكازين وهو يمضي إلى المنزل بالساق. "تقدم هذه القصة المضادة الحب بوصفه أحد أوجه دراما الوجود البشري بل وموضوعاً للسخرية أكثر منه بهجة من مباهج الحياة. توصيف يسخر من أنانية المحب ومن وهم العطاء والتضحية بالذات لأنه في العمق عطاء يضمر رغبة بلهاء في التملك وعدوانية مبطنة تريد أن تستأثر بالآخر. فالرجل الاصطناعية المهداة – في مستوى أول تحيل على الجمود والبرودة ومن ثم سخريتها من دفء الحب المروج له في الغالب. في مستوى ثان يعد إعطاء الرجل الاصطناعية دليلاً على سخافة العطاء نفسه. فإذا كان عطاء المحب هو الدليل على مقدرته وثرائه وخصوبته الروحية فان عطاء هذه المحبة سخرية من هذا المفهوم الذي أريد له أن يقترن بالفقدان والضياع لا الفيض والسخاء. وعلى خلاف الغابة الواهية التي يروم الحب تسويقها أقصد إخراجه للمحب من فردانيته والدفع به لتوظيف ضمير الـ "نحن" مقابل "الأنا" أي إخراج العاشق من فردانيته في اتجاه توحده بالذات المعشوقة. ينتهي المشهد السالف الذكر بعزلة العاشقة التي انصرفت بعكازين وحيدة تماماً كما هو مصير المحب. مشهد لا يلبث يذكرنا بأن كل فرد يأتي للوجود وحيداً ويرحل عنه وحيداً. وحدة تعكس فشل الحب في توحيد شخصين اعتقدا خطأ وللحظة أنه الرهان الرابح للتخلص من سجن الفردانية والتغلب على حالة الوحدة. في الفقرة الثانية من القصة يفتح السارد شلالاً من التداعيات والاستهامات الجنسية مصدرها الساق الاصطناعية التي اعتنى بها البطل أيما عناية. استهامات ترجمت لنا حجم الجوع الجنسي الذي عانه المحب وعمق الجرح الذي سببه القمع والمنع اللذين فرضهما المجتمع عليه باسم التحضر. إذ في لحظة خلوة البطل بالساق الاصطناعية وجد نفسه يواسي نفسه بالبحث عن تميزها بخلوها من الشعر الفاحم الذي يعبث بالبياض المحلوم به. فضلاً عن كونها ساق تقع في مأمن من مخالب الزمن وما شابه من الامتيازات الواهية علها يعوض برودة المادة الخالية من حرارة الانسان. ولكل هذا فهي- ويا للسخرية- تؤجج رغبته التي ظلت حبيسة الذهن وتمنعت على التحقق ومعانقة موضوعها. إن السارد هنا وكأني به يستدعي ما أسماه فرويد بالعداء للحضارة. عداء متولد جراء نكراء الغرائز الأمر الذي يجعل من الإنسان كثلة تعج بالتناقضات والتشوهات(3). في الفقرة الثالثة من القصة يعاود السارد السخرية من مفهوم العطاء الذي قدم كفعل أخرق وفي غاية البلاهة إن لم نقل أنه صور كمس من الجنون. فما معنى أن يبتر المحب رجلها اليمنى مقدماً إياها لمعشوقته كعربون حب لا يقبل الجدل. عربون يربط الحب بالمآسي والنهايات التعيسة. حب قرين بالتهور والتطرف، والشغف بالأخطار والمغامرات. غير أن هذه الحالة المرضية والسادية تبدو لا مبرر لها إلا التلذذ بألم البتر والاستمتاع بتعذيب النفس وهذا الفعل الدرامي يشكل أعلى مراتب السخرية من فعل العطاء ومن خلفه الحب كأعمق حالات الضعف البشري. نخلص إلى أن هذا الأفق الجمالي للقصة المضادة جاء متساوقاً بما لحق المجتمع المغربي من تحولات جذرية في كل المجالات حيث أضحت كل الحقائق مغرقة في النسبية فكان من الطبيعي أن تحل الريبة محل الاطمئنان والشك محل اليقين والغموض مكان الوضوح. تحولات انعكست بشكل أو بآخر على فعل الكتابة القصصية الجديدة حيث توفقت قلة من الأقلام في التقاط هذا التحول وعكسه على مرايا التخييل جراء إدراكها الشفيف لرحابة الوهم وسعة التداعي الحر إن لم نقل تفوقهما على العقل في إدراك الطبقات السحيقة من النفس البشرية الأمر الذي جعل من التجريب حالة جمالية وأسلوبية قادرة على استيعاب قضايا لم يعد من الممكن التعبير عنها بأساليب السرد التقليدي.

إحالات:

*اعتقال الغابة في زجاجة، أنيس الرافعي التنوخي للطباعة والنشر، ط2، 2009.

1- جماليات اللغة في القصة القصيرة، أحلام حادي، المركز الثقافي العربي، ط1، 2004، ص26.

2- مجلة عالم المعرفة، ع122، أدب أمريكا اللاتينية، ج1988، ص47.

3- مستقبل وهم، سيغموند فرويد، ترجمة جورج طرابشي، دار الطليعة، بيروت، 1982.