من عمق هذا الضجر الذي يلف المكان، نحاور مع الشاعر الفلسطيني هذا المشهد السوريالي الذي جعل من ذاته سؤالا قلقا مفتوحا ومن الأشياء والوجود صورا تتلاشى وتنمحي..ومعه يرتق الشاعر أجزاءا من كينونته.

غيوم تسكنُ لحمَ المدينة

رامي أبوشهاب

 

"أين هي الحياة التي أضعناها في العيش" ت . س. إليوت

 

حينَ أحاولُ أنْ أبحثُ عن شكلٍ ما...  

للذي أنقضى ومضى

تتملكني برودةٌ في العظام المتوارية خلف معنى اللحم

بشريٌ أنا

أعبرُ الممراتِ المُختبئة في لحمِ الدّماغ المُتهدل كشجرةِ على باب منزل تلاشى في اللامعقول.../ من أشياءَ لا يمكن أن تكون مُدركة إلاّ لمن أناخَ قلقه على مشارفِ النسيان، وانداحَ في الفضاء الأبيض متهادياً كحلمٍ يقظة في زمنٍ ما.

في يدي لِجام القدر، قماشٌ أخيطُه كيفما أشاء، هل ننجبُ لونَ حزننا.. ونعومُ فيه؟

في المساءِ أحتسي قهوتي فيتكاسلُ اليوم لعناق شَعر الضجر تمهيداً لبعثٍ جديد،  

حينها تنفلتُ الرغبات مني كما تنفلتُ النساءُ في الأسواقِ العابقةِ برائحةِ الوجود ِالمتعفن

تمتدُ الروح بارتخاء دائم،

أتكئُ على وهمِ أنني الآن في الخفّة التي ستطولُ، بضع ساعة أو بضعة فرح.

تتكاثرُ العيونُ المغموسةُ بكحلِ القسوة

تبدو الأجسادُ تُناضل في ثيابٍ لا تعرفُ سِوى رائحةِ ساكنيها

أراهم يدلفونَ في كرنفالِ العتمة الخَجْلى

وهي تنسحبُ رويداً رويداً على بساطِ الارتعاشِ المسائي الأول

ينكمشُ الرّمادُ من السّماء، تبدو العتمةُ كالتماعِ نشوةِ مُمارسة حب

حينها أشعرُ أن روحي تنسكبُ كقطرِ الحلوى في أرصفةِ المدينة

أعبُّ هواءً... يتخذُ من برودةِ المساءِ ملمسَه...

هي التحولاتُ...  

أشهى ما يجترحُ القلبَ المُملح أو المجفف بالذكريات

 أعودُ إلى شكلي

 أنتشلَ نفسي من قلقِ ما سيكون، أو ما كان

الخيبةُ تحفرُ في جسدي أسئلةً كثيرة،

كيف يمكنُ أن نعيدَ تركيبَ ما مضى ؟

تلذذتُ بهذا القمر العابث  

لا يعنيني ما يتوجسني...

"لا الخير الذي أبتغيهِ ولا الشر الذي يبتغيني"

سأطمئنُ إلى ما مضى

سبحتُ في الممرِ اللولبي نحو سنواتٍ بعيدة

ساقتني إلى وجهها الأولي، إلى الرّمشين الحادين

وتفاصيل أصابعها حين طرقتْ على طاولةِ الكافتيريا المنزوعةِ الضّوء

مسستُ رأسَ أصبعِها بلمسةٍ واحدةٍ  

تلاحقتْ أيائلُ روحي في سهولٍ خضراء

صفعتْنا رائحةُ الشّمس حين خرجنا، و افترقنا في الخطوةِ الأولى

تتيهُ المدينةُ فينا، أو نتيهُ في المدينة، رحلتْ... وغابتْ طويلاً، وغابتْ معها المدينة.

أنام صباحاً، لأني اعتدتُ أنْ أرتدي الليلَ كلَّ يوم/ أتعرى من لحمي فيه

أصبحَ سواداً لا يشبهُ سوى كحلِها القاسي والمُدهش

رحلتُ في المدنِ الأخرى، ولم أتركْ ورائي سوى الشارع والمدينة ذاتهما

هي ابتعدت في أنوار الشارع، وسافرتُ..  

أنا في الزمنِ مرةً أخرى أجوبُ حيواتي التي تهشمتْ....

ككأس زجاجي عن منضدة الحياة

رممتّها - مرة أخرى - جنياتٌ طلعنَ من حائطِ غرفتي العاري

انتعلتُ ظلالَ الذّكرى التي بدتْ كسياطٍ تلمعُ كألم الضرس

كلما رقصَ السوطُ على جلدي، انتهيتُ إلى حافةِ اللحد، أودعُ منها ما سكبتُه في كؤوسِ عقلي الفائضِ بخمرِ الحياة، لعنتني الصّورُ في العقل، وبدوتُ كحيوانٍ طريدٍ، تعرفهُ كلُّ المدن، ولكن مدينة واحدة امتصته إلى حيث لا يريد...

أنا هو الذي بحثتُ عنه، ولم تعثرني الأسئلة

لأن الإجاباتِ ما هي إلا محضُ هراء غير مُبرر

فلا الهواءُ هو الهواء، و لا الزّمانُ هو الزمان، ولا شيء إلاّ أن تَعي أنك أصبحتَ في المدينة المملوءة، ولكن الخاليةَ منك، أسيرُ بها ..

 إنها لا تعنيني كما كانتْ تعني، ولن تَعنيني كما كنتُ أعتقدُ أنها ستعني

 لي الأطيافُ التي ابتعتُها من متجرِ المستقبل، وقد انحلَ حبرُها في الماءِ المُتسرب من مزاريب الطّفولةِ المبتورة، ليتني انتهيتُ قبلَ أن تنتهي المدينةُ....

 مرةً واحدة كساني ثلجُها

في صباح ما فتاةٌ

 تخرجُ من بين الجدران الإسمنتية ، تلفُّ شعرَها الذّهبي بوشاحٍ من الصّوف الأزرق

 كانت تعرفُ كيف تهدهدُ البرودةَ و تخبئها بين نهديها الدّافئين والدافقين بحليب التين الساخن ...

 حلمتُ باني أتلاشى في سريرِها كموتٍ أبدي، أجثو على ركبتي أمامَ زغبِ فخديها، وأنكسرُ كضوءٍ يمرُّ عبرَ مَنشور.

لم أحبْ يوماً كما أحببتُ ذلك اليوم،

رأيتُ شعاعاً ينبثق من بين كثبان الرمل

وقد تخللَ جسدي، الذي أصبحَ لا مرئياً، مما مكنني من دخولِ غرفتِها، و رؤيتها وهي تنفضُ عن نفسِها نعاسَ الصباح

تتثاءبُ....  

فألمح شعرَ إبطها المُهمل، كعشبٍ بحريّ رطب

كانتُ رائحتُها تمضي في دفاتري شعراً محموماً وحائراً،

كلُّ يومٍ كنتُ أفتحُ باباً نحوها، وأنشغلُ بملاحظةِ انتهاد صدرِها الذي يتواترُ كلّ يوم

ألعنُ دمي، وهو يغلي كأنهُ ماءٌ ساخنٌ على مَرجل

كلما اشتعلَ دمي بات جسدي مهدداً بأن يكون مرئياً.

هكذا كنتُ أبني أشيائي في العقل، وضمنَ كتل الّلحم الأبيض الهلامي المفتول في الجُمجمة

بحثتُ عن كل ما أقمته في كل تلك الليالي المتمرسة بنسخِ نُكوص الحلم

رغبتُ في أن أعودَ إلى المدينة، لعلي أصادفُ نفسي في الشوارعِ الصّباحية، أو على رصيفٍ ما، قربَ بائع كعك، أو في حافلةٍ تحتشدُ بطالباتِ المدارس،... عمالِ المصانع، وبضع عجزة، وغيومٍ شتوية اعتادت أن تبكي في الصّباحات الذابلة

عدتُ، ولكني لم أرَ نفسي، ولا نفسي رأتني

حينها أدركتُ أن الزّمنَ أكذوبةٌ كبيرة، كما كانت هي، و كما لم أكن يوماً لا مرئيا

فهل أنا مرئي في هذا الزحام للوجود المُشْكل للحائر؟

هل تتغير المدن؟

هي بضع كتل من اللحم تبدو حائرة في فهم ما استجد من تعابير الغيوم

هي المدينةُ تمضي، ويمضي معها كلُّ هذا الكحلُ القاسي ......

وكل الشّموسُ وكل الغيوم ...

التي لن تعود!

حين لا أعود ...

 

كاتب وشاعر فلسطيني مقيم في قطر

rami-shehab@hotmail.com