في ذكرى رحيله الثاني، نتوقف مع كتاب نقدي جديد لامس جزءا من تجربة الشاعر العربي الكبير العميقة، موسوم ب "جماليات الموت" إذ الموت سيغدو استراتيجية أساسية لاسترجاع الكيان الروحي والمادي الذي تستحق به الحياة أن تُعاش لا في صيغة المفرد بل في صيغة أمة بكاملها.

جماليات الموت في شعر محمود درويش

عبداللّطيف الوراري

شرْط أرض: لم يكُنْ محمود درويش شاعراً تحت هذه اليافطة، تبعاً لسيرورة عمله الشعري وتاريخيّته، أو كان هو نفسه يقبل بذلك بسبب التأويل السياسي المفرط لذلك العمل، إنّما هو، بالأحرى وفي نهاية التحليل، شاعرٌ إنْسانيٌّ شرط قصيدتَه ببلوغ المعنى الأرضي وممكناته المعيوشة والمتخيَّلة، وذلك عندما وتّرها بقوس المأساة الفلسطينية ومتتالياتها، ليس لأنّه عايشها من الداخل، ودفع ضريبةً باهظة ـ وإن كانت مستحَقّة حقّاً ـ من روحه وحياته، بل لأنّ تلك المأساة لم يكن لها مثيلٌ في الأرض، وبمرأى الشُّهود، من حيث الجراحات التي نزفتها، والآثار المدمِّرة التي تكبّدتْها، حتّى صارت عنواناً بازغاً لعصْـرٍ قياميٍّ أكثر ظلماً ووحشيّة.

وبسببٍ من ذلك، كانت قصيدة محمود درويش، منذ بداياتها، منصرفةً إلى شرطها الأرضي بالغ الجهامة والمفعم بالتّباريح؛ فارْتَفعت بمفردات تجربة العذاب الفلسطيني إلى مستوىً من الرمز والملحمة فادحٍ تشفُّ عنه غنائيّةٌ آسرة لذاتٍ تتخلّلها أصوات شعبٍ أُجْبر على أن يعيش الموت يوميّاً من أجل ألا تُهْدر مع الدم المسفوح كرامته وحقّه في استرداد هويّته وأرضه المغتصبة. كانت القصيدة الدّرويشية في المحكّ الصعب، تكتب شهادتها المخفورة بالاستعارات الحيّة، وتفجِّر نشيدها المتصاعد الّذي يلتقط تلك اللحظات الدمويّة ليختبر بها إمكان إنتاج حياةٍ جديدةٍ تنهض على الأبعاد الخصبة لموْتٍ حيويّ، لا هو ميتافزيقي ولا هو إيديولوجي. في مذبحةٍ، أو في منفىً، أو في عملٍ فدائيٍّ بطوليٍّ، أو في لحظة مرضٍ تشارف العدم، لم يتوانَ محمود درويش عن أن يواجه الموت بقوّةٍ وسخريّةٍ، عاملاً على الدمج الخلاّق بين ذاته ورمزيّة الأرضٍ في سياق الرؤية الفردية المدعومة بوطنيّتها وثقافتها ومعرفتها الشعرية بالمصائر والأحوال، من دون أن ينجرف وراء الخطابية والمباشرة في التعبير بدعوى الالتزام.

جماليّات موْتٍ لا يتكرّر:

لقد أحسن الناقد المغربي عبدالسلام المساوي صنيعاً عندما خصّ دراسته اللمّاحة للحديث عن "جماليّات الموت في شعر محمود درويش" (دار الساقي، بيروت، ط.1، 2009}، وذلك لمّا لاحظ ما ألمحنا إليه، منطلقاً من فرضيّة « أنّ الموت الذي تردّد في معظم أعمال درويش الشعرية بأنساق وصيغ مختلفة، إفراداً وتركيباً، سيتخذ بعداً مناقضاً لمفهومه العادي باعتباره نهاية الحياة ودخول عالم الأبدية. إنّه، بعبارة أخرى، معبر ضروري في المشروع الحيوي لشعب يرفض أن يعيش مهاناً فاقداً هويّته التاريخية. وتأسيساً على ذلك، فإن الموت سيغدو استراتيجية أساسية لاسترجاع الكيان الروحي والمادي الذي تستحق به الحياة ان تُعاش»( ص.6). وقد تتبّع الناقد، بكثيرٍ من التروّي، تردُّدات ثيمة الموت وأبعادها داخل النصوص الشعرية في بنياتها النصيّة، أو في عتباتها الموازية (العناوين، التصديرات، الإهداءات)، بدءاً من ديوانه "أوراق الزيتون" 1964م إلى ديوانه اللافت "حصار لمدائح البحر"1984م، قبل أن ينشغل، أساساً، بـ « جدارية محمود درويش» 2000 م، لما فيها من انحرافٍ ثيماتيٍّ وجماليّ وتخييليّ داخل تصوُّر الشاعر لفكرة الموت وأبعاده برُمّتها. وهو ما عزّز لدى الناقد فرضيّة القول بتأرْجُح الشاعر بين مفهومين للموت عبر مساره الإبداعي الطويل:

أ- تمجيد الموت باعتباره عرساً للشهيد، ومدخلاً لاسترجاع الأرض والهوية، فاتّخذ الموت نتيجةً لذلك مفهوماً جماعيّاً تنظر إليه الذات بوصفها جزءاً ملتحماً بالكلّ.

ب-  تذويت الموت وتأمّله في سياق الرؤية الفردية المدعومة بتجربة المرض التي قرّبت الذات من مصيرها، وأتاحت لها أن تتأمل هذه اللحظة بكثيرٍ من الحكمة والتفلسف الخاص.

منذ تجاربه الشعرية الأولى، نذر الشاعر محمود درويش قصيدته للجمعيّ، مُصغياً إلى عذاباته داخل حياة المأساة التي فُرِضت عليه، وهو ما جعل طائر الموت يبسط جناحيه الثقيلين عليها. وكانت تلك التجارب تُوازي، زمنيّاً، التوجُّه الثوري في شعره، وهو ما جعل علاقة الشاعر بالموت لا تخرج عن المعاني التالية التي تفيد معنى « القتل»، أي كفعل عنيف يُمارَس، وليس كمفهوم ميتافيزيقي سُلط على البشر من السماء، على اعتبار أنّ الإيمان العميق بأن الإقدام على الموت استشهاداً وفداءً هو الخطوة العملية التي بإمكانها أن تعيد الحق المسلوب، وبأن لا سبيل للردّ على الظالمين والمغتصبين إلا بهذه الأعمال البطولية التي يصنعها الشهداء. ومن ثمّة، قرّ في وعي الشاعر أنّ الكلمة الشعرية الوجه الثاني للسلاح الفعلي، فهي التي يمكن أن تقوم بوظيفة التنوير وتحميس الشعب على بذل النفس من أجل استرجاع أرضه وكرامته. {ص.16 ـ 17}.

و بقدر ما عمل الشاعر، هنا، على النأي بنفسه عن الخوض في التأمُّلات الفلسفية للموت نظير ارتباط قصيدته بالواقع الاجتماعي والسياسي، من غير أن ترتهن به، بالقدر الذي كان ينسف فيه هيبة الموت وسلطته الميتافزيقية. وفي هذا الصدد، تحضر الأرض بصفتها رمزاً للأمومة المانحة للهويّة، التي لا يملك الأبناء إلا أن يُؤثروا موتهم الشخصي لكي تستمرّ الحياة فيها أيّاً كان مكان استشهادهم. لذلك، يشغل موضوع الاستشهاد باعتباره الموت الأسمى حيّزاً كبيراً في قصائد محمود درويش، بموازاة مع صعود حركة المقاومة الفلسطينية، ومع اقتراف آلة الكيان الصهيوني لأبشع الجرائم في حقّ الشعب الفلسطيني.
كان يرى الموت يحصد الفلسطينيّين في كل مكان، وهو ما أشعره باليأس والمرارة في سياقاتٍ من المرحلة التاريخية التي يمرّ بها هذا الشعب وكفاحه العادل، لكن غير المتكافئ. ولم يكن ذلك يعكس اغتراباً يستوطن ذات الشاعر، أو شعوراً حادّاً باليأس، بل كانت القصيدة، بشكل مقلوب، تطفح بقدْرٍ هائلٍ، ضمنيٍّ، بالأمل، لمّا كانت تختبر قدرة الموت العنيف وحدوده في إمكان إنتاج حياةٍ جديدةٍ أعنف، وذلك ضمن مسارٍ إيديولوجيٌّ يجتهد في تحويل سقوط أجساد الشهداء إلى ملحمةٍ ضاجّةٍ بالأبعاد الخصبة لذلك الموت الذي يُعدّ أساساً لتصحيح أخطاء السياسة، وترميماً لخريطة الوطن التي ظلمها التاريخ.{ص. 28}.

ب.  من مديح الموت الجماعي الذي كرّسته الأعمال الشعرية السالفة، بما هو «موت أسمى»، يتوجّه الناقد إلى بحث المفهوم الثاني للموت واختباره نصّياً وتخييليّاً من خلال « الجدارية»، داخل ما أسماه « الموت من المنظور الذاتي»، مُلْمحاً إلى أنّ ذلك ترافق مع الارتداد من الجماعي إلى الذاتي في ما بعد، أو على الأقلّ تقليص هامش الأول لصالح الثاني، داخل توجُّهٍ شعريٍّ كان يخضع، باستمرار، لأسبابٍ فنيّة وجماليّة. فمن هذه الأسباب ما كانت له صلة بتغيّر مفهوم الشعر لديه ووظيفته تبعاً لتغيّر إيقاع العصر، أو بالتطورات الحاصلة في المسألة الفلسطينية بعد دخول الطرفين المتحاربين في مفاوضات أوسلو وما أعقبها من اتفاقيات كانت سبباً في استقالة محمود درويش من العمل السياسي، أو تبعاً لأسباب فيزيولوجية تتعلق بصحّة الشاعر بعد أزمات قلبية عدة ألمّت به، وأخضعته لعمليات جراحية دقيقة، وجد نفسه خلالها وجهاً لوجه أمام الموت، ليكشف من خلالها قطيعةً ليس مع مفهوم الموت فحسب، بل مع مفاهيم نوعيّة تخصّ مسألة الكتابة برُمّتها.

أتت « جدارية محمود درويش» في قلب التحوّلات وزمنها، إذن. يقول الشاعر: « في هذه القصيدة كنت أكثر انتباهاً، أوّلاً للمسألة الوجودية وليس للمسألة الشعرية. كنت أعتقد أنني أكتب وصيّتي، وأن هذا آخر عمل شعري أكتبه. في القصيدة مناطق ميتافيزيقية، وقد حاولت أن أضع فيها كل معرفتي وأدواتي الشعرية معاً، باعتبارها معلَّـقتي»! فعلاوةً على أنّ « الجدارية» إمكان شعريٌّ ـ تخييليٌّ للذهاب في سؤال الموت منذ أقدم النصوص التي تحدثت عن الموت، هي أيضاً « مواجهةٌ له بسلاح الذاكرة الحيّة التي تختزن قدراً وفيراً من الأحداث والرموز الثقافية»، وهو ما جعل الشاعر « يفضح عُري الموت وجُبنه بالإشارة إلى كونه لا يستطيع أن ينال من ضحيّته سوى الأعضاء الهشّة، لكنّه في المقابل لا يقوى على ابتزاز حمولته الرمزية تلك التي ستمكّنه من المكوث خالداً في ملكوت الأفكار والتوهُّج الرمزي والجمالي»( ص.49) . هنا، ينتصر محمود درويش على الموت عبر رثائه والسخرية منه : «أيها الموت كأنك المنفي بين الكائنات، ووحدك المنفي، لاتحْيَا حياتك، مَا حَيَاتُك غَيْرَ موتي».

إن الخلفية الثقافية التي يصدر عنها الشاعر، وهو يرفع جداريّته في وجه الموت، تنسجم تماماً مع مقصديّته في الإفصاح عن تشقُّقات كينونته وأناه الغنائيّة، بعد العلم الّذي انتهى إليه في طوافّه الطويل، وفي مغامرة روحه من رحلة البحث، ناشِداً ومُنشداً. وهكذا يأتي الحديث عن الموت مشتبكاً برموز الحياة التي تُنعش ذاكرة الكائن، وتفتح فضاءها على آفاق متباينة من المعرفة كسلاح مواجهة، إلى حدٍّ أمكننا معه فهم التجلّيات الواخزة من أشكال الموت ومعانيه التي اصطرعت في وعي الذّات ومجهولها، بما في ذلك المعنى الأنطولوجي له: « يا موت! يا ظلّي الذي، سيقودني يا ثالث الاثنين، يا لون التردد في الزمرد والزبرجد / يا دم الطاووس، يا قنّاص قلب / الذئب، يا مرض الخيال، اجلس/ على الكرسي! ضعْ أدوات صيدك / تحت نافذتي. وعلّق فوق باب/ البيت/ سلسلة المفاتيح الثقيلة! لا تحدّقْ/ يا قويُّ إلى شراييني لترصد نقطة/ الضعف الأخيرة».

من التناصّ إلى الإيقاع:

إلى ذلك، يضعنا الناقد، في تأويله لجماليّات الموت، داخل استراتيجيّة نقديّة تستقصي أجروميات الشكل الشعري عبر عناوين فرعية، بدءاً من معجم الموت إفراداً وتركيباً، ثم التناصّ من حيث كونه دليلاً على غنى النصّ الدرويشي المتحدّر من مرجعية ثقافية وخلفية معرفية تراثية وكونية [ التناصّ الأسطوري، الديني، التاريخي، الصوفي، الأدبي والفلسفي]، فالصّورة الشعرية التي يهيمن عليها النمط الحسّي الذي يجد مبرِّره في هذا الموت اليومي الذي يُعانيه الشعب الفلسطيني في سياق ملحمته المعاصرة، وهو ما سمح بـشَخْصَنة الموت عبر تصويره داخل أوضاع مبتذلة وعادية، في محاولةٍ من الشاعر لدرء الشعور بالعبثية، ولإشباع حاجة نفسية لديه في الانتقام من موت أعمى غير مُعقْلن لا يضبط مواعيده جيّداً.

في خضمّ ذلك، تتحرّك اللُّغة الشعرية داخل مرجعيات متنوعة تعكس ركام الثقافات التي يمتحها الشاعر من أساطير وأديان وآداب، لكي يرتفع بخطاب «الجداريّة» إلى مستوىً أنطولوجيٍّ عالٍ من مواجهة المعرفة والفنّ لتهديدات الموت، وهي» تخلق الفوضى في مفرداتها، وتعيد ترصيفها في بنياتٍ تركيبيّةٍ تجتهد في التنكيل بالموت عن طريق بناء صور متعدّدة له»[ص.115]، ممّا يحوّل مفهوم الموت من مجهوليّته الميتافزيقية إلى معلوميّة واقعية. كما لم يغفل الناقد عن تحليل رمزية الألوان، ودلالات الزمان، ودلالات المكان في تحديد صور الموت، وفي تشكيل شعريّة «الجدارية» تشكيلاً يُكافيء رهبة شعور الذّات أمام الموت، وفوق ذلك لذّتَها في مواجهته والتسلّي معه/به؛ لكنّه أغفل، حقّاً وبشكلٍ غير مفهوم، عن تحليل دالّ أساسي هو دالّ الإيقاع ، وإن كان يفترض سلفاً بأهمّيته إذ «لا وجود لإيقاعٍ بلا معنى». لقد تمظهر الإيقاع بمستوياتٍ بالغة النوعيّة، ونزعم أنّ له الأسبقيّة في فهم قطاعٍ حيويٍّ فالِتٍ من أصداء تلك « الجداريّة» ونتوءاتها الحادّة. ذلك ما يحتاج إلى مكانٍ آخر.

لقد مات الشاعر عشرات المرّات، وحمل الموت في قلبه وغنائيته، حتّى تحوّل إلى طرف في معادلته الشعرية والحياتية، وجعل منه واقعاً خاصاً قلّما نجد مثيله في شعر الإنسانيّة. ونحن نستعيدُ، بتأثُّرٍ بالغٍ، ذكرى رحيله الثانية، وبعد جوْلاتٍ من تلك المواجهة الشاقّة والشائقة التي خاضها مع الموت، يبقى من نافلة القول إنّ الشاعر محمود درويش إذا كان الأخير قد سلبه جسده الهشّ وأغمض «عينيه عن شعلة هذا الكون»، فإنه لن يقوى، بأيّ حالٍ، أن يسلبه روحه ويطوي أجنحته العظيمة في أيّ زمان ومكانٍ، حيث سيكون الدهر، كشأن صنيعه مع عظام الأرض، من رواة قصائده العابرة للذّوات والأزمنة.

 

شاعر وناقد من المغرب