يكشف الناقد العراقي عن آليات العمى والتعصب التي تحول بين الكاتب الصهيوني وبين إنجاز نص مقنع. وكيف أن الفكر العنصري الذي يبني الهوية على الكراهية قد ضيّق العالم من حوله، ومنعه من أن يتعلم كأبويه أكثر من لغة، وحصره في اللغة العنصرية فحسب، كما منعه من رؤية ما يرتكبه في حق الفسلطيني، صاحب الأرض، من شرور.

هل ينبغي ربط الهوية بالكراهية؟

عبدالله إبراهيم

سعى الكاتب الإسرائيلي "عاموس عوز" في سيرته (قصة عن الحب والظلام) إلى تعديل مفهوم الهوية اليهودية التي قامت على جمع المتناقضات، إذ اختصت بها جماعة مشتّتة في أكثر من قارّة، وهو أمر تعذّر حدوثه مع أية جماعة أخرى عبر التاريخ؛ فالمكان الحاضن للجماعة يعد معطى أساسيا من معطيات الهوية، لكن اليهود نجحوا في اعتبار المكوّن الديني هو الركيزة الأولى في هويتهم، وفي ظل حقبة انتقالية لمفهوم الهوية، من وضع الشتات إلى وضع الاستقرار، لابد أن تستعاد أحداث الماضي بوصفها تجربة اعتبارية داعمة للمفهوم الجديد، وترفق بالحدث الانتقالي الخاص بالظروف الحاضنة لمفهوم الهوية. وهو توفّر "وطن" ضامن للهوية بعد غيابه مدة طويلة، وأخيرا الإشارة الرمزية إلى الاحتمالات الممكنة في المستقبل. عرض "عاموس عوز" تفاصيل الرواية الصهيونية لنشأة إسرائيل بوصفها دولة عبرية أعادت لمّ الشتات اليهودي، فلم يتوقّف على الآلام التي نتجت عن هذا الحدث، إنما انصرف اهتمامه إلى الاحتفاء ببطولة المتطرّفين الذين أنجزوا وعدهم في محو الوجود العربي من الأرض، وتثبيت اليهود فيها. فلم يتطرق إلى الحق التاريخي، فعلى أرض فلسطين جرى استبدال جماعة بجماعة، وهوية بهوية.

أخفت الكتابة السردية الناعمة حقيقة المصائر التي انتهى إليها ملايين من الذين أبعدوا عن أرضهم، إذ جعل "عاموس" من أسرته اليهودية المركّبة من عدة أفرع وأجيال في بلاد شرق أوربا ووسطها مركزا للسرد طوال صفحات الكتاب الكبير، فأخفى التتبع الدقيق لقدوم أفرادها إلى فلسطين أمر طرد أهلها الأصليين عن أرضهم، فوصول المهاجرين اليهود إلى الأرض الموعودة بالتوراة أخفى إبعاد الفلسطينيين عنها، وقد جاء الاستبدال على خلفية بطولة دينية - قومية طمست في السرد الحقيقة التاريخية لوجود الخاسر. فلم يكن ثمة نزاع بين رواية منتصر ومهزوم، إنما هو تقريظ ديني لأبطال عملوا جادّين زمنا طويلا من أجل استعادة وطن توراتي انتزع منهم منذ ألفي عام.

من الصحيح أن سيرة "عاموس عوز" ركّزت الاهتمام على عائلته وخلفياتها الثقافية المتنوعة، وهي تعيد توطين نفسها في أرض موعودة، لكنها لم تعن بالخلفية الحقيقية لمجريات الأمور، إذ اعتبر الحدث برمّته تعديلا لخطأ قديم اقترف بحق اليهود منذ التخريب الثاني للهيكل. وإعادة الحق لا تلزم الوقوف على التداعيات الجانبية المؤلمة التي ترافقه، فلا ينبغي أن تحجب آلامُ أفراد أبعدوا عن أرضهم بطولةَ الأمة اليهودية؛ فذلك يخدش الفعل الملحمي العبراني، وجاءت الرواية الدينية التي قدمها عن نشأة إسرائيل صفيقة ومباشرة لأنها لم تخف التعصب، ولم تبال بالتاريخ، وشاحت بوجهها عن شبكة الوقائع المؤلمة التي رافقت ذلك وأعقبته، فكأنها رواية لاهوتية منقطعة عن سياق التاريخ العالمي المعاصر، وتصادف ذلك مع بداية مراهقته حينما كان يتلقّى سيلا من الإيحاءات المتطرفة بصهيونيته ما جعله يحلم بتدمير العالم من أجل حماية اليهود.

لُقِّن "عاموس عوز" في طفولته أفكارا عن الخوف من الآخر، وتشرّب بكراهية غير اليهود، فارتسم العالم خارج الأرض المقدّسة في خياله معاديا، ومصدر خطر مؤكد، فالناس "لا يحبون اليهود لأنهم فطنون. ولا يحبون مشروعنا في أرض إسرائيل لأنهم يحسدوننا حتى على قطعة أرض صغيرة كلها مستنقعات وصخور وصحارى. هناك في العالم جميع الحيطان كانت مغطاة بالكتابات المعادية "أيها اليهودي الحقير، اذهب إلى فلسطين" وها قد ذهبنا إلى فلسطين والآن كل العالم يصرخ علينا "أيها اليهودي الحقير، أخرج من فلسطين".

بدأ الصغير "عاموس" حلمه الطويل في أن يكون محاربا يهوديا يقود جيوشه لإبادة الأعداء في كل مكان، ورفع العلم العبري إثر كل انتصار، وقد خص العرب والأقوام الشرقية بكثير من خياله الحربي، فقادته أحلام اليقظة إلى تكوين حلف مقدّس يقف في "وجه موجات الهمجية الشرقية، ملتوية الأحرف، ومعوجّة السيوف، والمتوهجة والمبحوحة، والتي تهدد بالانطلاق من الصحراء لتذبحنا وتنهبنا وتحرقنا وهي تعول وتصرخ بعويل وصراخ يجمد الدماء في العروق". تشرّب الطفل بهذه الأحلام صغيرا في جوّ عائلي مشبع بالخوف من الآخرين، ومولّد للكراهية ضدهم؛ تبنّى العالم كراهية مركّبة لليهود، لأنهم أذكى بني آدم، فيكون الفطنون، والنابهون موضوعا لكراهية البلهاء، وفيما كانت شعوب الأرض كلها تعيش في أوطان سعيدة، فقد بخست حق اليهود في إحياء أرض صغيرة مهجورة وجعلها وطنا لهم، فعبّرت عن كراهية مجردة عن أي سبب، وأطلقت نداء عاما تحقّرهم فيه، وتطلب إليهم أن يذهبوا إلى فلسطين من أجل التخلص منهم، وحينما أخذ اليهود بذلك، وأقاموا في تلك الديار، عاد العالم يصرخ بأن يخرج اليهود من فلسطين. جرح العالم الخارجي وجدان اليهودي، فقد أغرب بوجهه عن أمة ذكية لا وطن لها، فلا يريد أن يكون لها موقع تحت الشمس.

أخفى هذا النمط من التربية التي تلقّاها "عاموس" كل ما ينبغي أن يصرّح به، إذ طمست الوقاحة كل الحقائق الصلبة، وبمكانها وضعت نسقا متهافتا من الافتراءات جاءت بصورة شكاوى وأوجاع لاستدراج العطف، فكيف يستقيم أمر عالم ينكر على خيرة أبنائه وطنا؟ وما دام العالم يرتع في جهل بدائي فهو غير مؤهل للحكم على مصير النخبة الفطنة فيه، إذ لم يقدّر قيمتها، واستكثر عليها الاجتماع في أرض هشة قوامها المستنقعات والجبال والصحارى، وحتى حينما استجابت لنداء الطرد واستوطنت تلك الأرض، فقد نكث العالم بما أراده وعاد يطالبها بالنزوح عن تلك الأرض. لا يضمر العالم الغاطس في جهله غير كراهية مطلقة لخيرة الجنس البشري. وما دام الأمر بهذه الصورة البشعة والمتقلّبة فلا يلزم اليهود أن يعيروا انتباها لعالم يفتقر لكل المعايير السوية، وعليهم أن يتفرّدوا بإقرار مصيرهم، ويمارسوا القوة ضد الآخرين، ويعيدوا تعريف هويتهم بالسلاح.

وعن هذه المقدمة الزائفة تمخضت نتيجة خاطئة صمت عليها "عاموس عوز" وقامت عليها فكرة الاستيطان، وهي الادعاء بخلو فلسطين من أهلها، فهي مستنقعات وجبال وصحارى، فلا بأس، والحال هذه، من أعمارها وتحقيق الوعد التوارتي بامتلاكها. لقد جرى محو الفلسطينيين من العالم المتخيل للنص، ولم يأت على ذكرهم إلا بصورة عابرة بوصفهم نماذج منتزعة من سياق لا يراد له الحضور في السرد. على أن تلك الكراهية كانت جامعة شملت العالم، فلم يستثن أحد من ذلك، إذ غطيت جدران العالم كله بالشعارات المعادية لليهود، مرة يطلب إليهم الذهاب إلى فلسطين من أجل إبعادهم والتخلص منهم، وأخرى تريد منهم ترك تلك الأرض التي بنوها بالجهد والدم والمال. يا له من عالم تافه ينبغي عدم الالتفات لكل ما يصدر عنه، ذلك ما تشبّع به الطفل من مسلّمات وهو يعيش مع والديه في القدس ببيت معتم لا تزيد مساحته على ثلاثين مترا مربعا حيث تلقّن فيه الأفكار الصهيونية. على أن تفاصيل بناء تلك الهوية كانت معقّدة، وفيها كثير من استبعاد المؤثرات الثقافية الخارجية، وتحصين النفس من أخطارها، وتضخيم الذات اليهودية وتغذيتها بالمرويات الدينية، فقد ذكر "عاموس" أن أباه كان يقرأ بنحو سبع عشرة لغة، ويتحدّث بإحدى عشرة، أما أمه فتتحدّث بخمس، وتقرأ بسبع أو ثمان، ولكن الأبوين أصرّا على الحديث فيما بينهما بالروسية أو البولندية ليخفيا عنه أفكارهما وخصوصياتهما، أما "أحلامهما في الليل فقد كانت بالتأكيد بالإيديش".

 امتنع الأبوان عن تعليم الطفل أية لغة ما خلا العبرية التي لم يكونا يجيدانها، خشية عليه من أن معرفة اللغات الأخرى قد تكشف له مغريات أوربا، فالأجيال اليهودية الجديدة ينبغي عليها أن تحبس في معتقد وثقافة ووطن، ولا يجوز لها معرفة المعتقدات والثقافات والأوطان الأخرى. أراد الأبوان للابن أن يكون الابن يهوديا نقيا غير ملوث بأية ثقافة ما عدا الثقافة التي أصبحت اللغة العبرية وسيلة التعبير عنها، وهي الثقافة اليهودية بحسب التعريف الصهيوني لها. ارتبط ظهور العبرية بتجمع اليهود في مكان واحد لتكون اللغة المشتركة بينهم، حيث كانوا يعتبرون أن اللغة الواحدة من ضرورات اجتماعهم تحت سقف وطن واحد وعلم واحد، جرى التخلّي عن "الأيدشية" لأنها ملوثة بالجرمانية، وهي لغة قوم نكّلوا باليهود، فلا يصح أن تكون وسيلتهم للتعبير عن أنفسهم، فكانت العبرية الحديثة هي البديل المناسب لنشوء أمة جديدة على وطن جديد. ليس "عاموس" وحده منْ ينبغي عليه اجتناب التركة المريرة للشتات بلغاته وثقافاته إنما ينبغي على "جيل الاستقلال" بكامله أن يلد ولادة جديدة بلغة ووطن وثقافة. فمن أجل تحقيق فكرة الانتماء لا بد من ممارسة عنف ضد اللغات الأخرى، والإعلاء من شان لغة واحدة تصبح علامة على الهوية.

لا يخفى التوازي بين اللغات الكثيرة التي أجادها الأبوان وتعدد البلاد التي قدما منها، والاقتصار على العبرية والإقامة في أرض الميعاد بالنسبة للابن، فمن أجل إنشاء وطن لليهود فيه مواطن يجيد لغة واحدة ينبغي استبعاد كل ما يتصل بشتات اللغات الأجنبية وبلادها، وإذا كان توزع اليهود بين البلاد واللغات قد هدّد بطمس هويتهم الدينية، فيلزم الابن أن يتمرّس بلغة أهله ويقيم في وطنه، فذلك يعصمه عن أي ذوبان محتمل أمام الحراك العالمي الذي يلتهم الهويات الصغرى، ويفكّك الأواصر الدينية والعرقية. لم ترد في سيرة العائلة أية إشارة تعيق فعالية هذه المُسلّمة، فالأجداد والآباء من النساء والرجال تشبّعوا باللغات والثقافات والمنافي، وعلى الطفل وحده أن يخوض هذه التجربة، فلا يسمح له إلا بلغة واحدة ووطن واحد، ذلك هو مضمون الفكر الصهيوني الذي وجد سبيله للظهور في الكتاب من خلال عائلة "كلاوْزنِر" وهي عائلة "عاموس" قبل أن يغير هو اسمه. ولكن على خلفية الإطار الواسع لوقائع تلك السيرة ارتسم تفكك داخلي، فقد تمزقت الأواصر الداخلية للأسرة الصغيرة التي تألفت من الطفل وأمه وأبيه بعد "الاستقلال"، ففيما رسم الكتاب الظروف الأيدلوجية والتاريخية والسياسية التي جمعت شمل اليهود في فلسطين، وتأسيس دولة حامية لهم، وصهر اليهود في جماعة واحدة تحامي عن نفسها الأخطار الخارجية كلها، وقع التمزق في صلب الأسرة بعد تحقيق كل ذلك، فقد انتحرت الأم يائسة، وخرج الابن إلى معسكر العمل الزراعي "كيبوتس حولدا" وهو في الخامسة عشرة من عمره رافضا السلطة الأبوية، ثم اخفق الأب في تحقيق حلمه في أن يكون باحثا ذا شأن في الثقافة اليهودية وشغل بزواج ألهاه عن ذلك حتى سقط ميتا بسكتة قلبية.

نقض التفكك العائلي فكرة لمّ الشمل اليهودي، فإذا كانت فكرة جمع الشمل قد ربطت بين الشتات اليهودي، والوعد التوراتي، والكراهية التي نشأت ضد اليهود في أوربا بين الحربين العالميتين، فإن التفكك العائلي حدث بعد زوال تلك الأسباب، وانطفاء الأحلام المرجّئة، ومواجهة الظروف المباشرة للحياة على أرض الآخرين. لقد جرى الاحتفاء بإعادة تعريف الهوية اليهودية، وأُهملتْ نذر الخطر التي لاحت في الأفق، فحينما لا يقع اعتراف بحق الآخر فهذه هي الوسيلة الوحيدة لجعله ممكنا.

ناقد عراقي

abdullah_ibrahem@yahoo.com