يبحث الكاتب العراقي هنا تأثير التمظهرات المختلفة للحوادث التي ترويها وسائل الإعلام في طبيعة تلقينا للحادثة/ الخبر، ونوعية فهمنا له واستجابتنا لمحمولاته. ويكشف العلاقة الجدلية بين الوسيط والرسالة في محاولة لتجسيد مقولة مارشال ماكلوهان الشهيرة إن الوسيط هو الرسالة، لأن الرسالة تتغير بانتقالها من وسيط إلى آخر، بصورة تتناقص معها فاعلية صانعها، وقدرته على التحكم فيها.

تمظهرات الحــادثة عند الرواة الجدد

نصير عوّاد

غالبا ما توصف الحادثة التي ينقلها التلفاز والمذياع والصحيفة بالاختصار والتكثيف لعناصرها في الزمان والمكان والأفراد والظروف، الأمر الذي يوسّع من مساحة الشك حولها ويقلل من أهميتها في المؤسسات القانونية والأكاديمية، مع أن الجميع يقف عند الحادثة التي ينقلها الإعلام، كمشاهد وكمستمع وكقارئ،  حتى لو لم يأخذوا بها. في حياتنا اليومية تقع الحادثة على الأرض وتكتمل لكنها على ألسن الرواة تستمر وتتنوّع، وفي مقالنا هذا سنتوقف عند استمرار الحادثة وتنوّعها في وسائط الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة. فهذه الوسائط الجديدة الأساليب والتقنيات تحمل الكثير من الوسائل القديمة في إيصال ورواية الحادثة كاللغة والسرد والمضمون أو المعلومة التي تحملها الحادثة، ولا تجد هذه الوسائط صعوبة في التلائم مع وسائل الرواة القديمة ومزاحمتها أو دمجها في وظيفتها إن كانت سمعية أو بصرية. عموما الحادثة على التلفاز هي الأكثر انتشارا، لكنها عبر الميكرفون قد تكون أكثر تأثيرا وانفعالا وهي على صفحات الجرائد والمجلات أكثر توثيقا وإقناعا، فوسائل الانتشار والتأثير والتوثيق تخفي بين أليافها الكثير من التباينات التي تصنعها الآلة من جهة، ومن جهة أخرى الاختلافات العملية في تناول الحادثة بين المراسل التلفزيوني وبين الصحفي وبين المذيع أو الخطيب، الأمر الذي ينعكس على عناصر الحادثة الداخلية في المكان والزمان والأفراد والظروف المحيطة وبالتالي اختلاف وصولها إلى المتلقي، إلا أن الحادثة تقع وتنتهي لأسباب ليس لها علاقة مباشرة بالصورة والصوت والحبر، فكل ذلك يأتي بعد وقوع الأمر.

بعد وقوع الحادثة ستسعى كل واسطة بما تمتلكه من تقنيات وخبرات إلى إعادة إنتاجها بما ينسجم مع أولوياتها وأغراضها، مستلفة من حقيقة وقوع الأمر نتفة، ومن ألسنة الرواة "الشهود الذين حضروا الحادثة" طرفة، ومن موهبة الواقف خلف الواسطة لمسة، ثم تدريجيا تكشف "الوسائط" عن خصوصيتها وميلها في أن تروي حادثتها هي، وتنتج حادثتها هي، وليس كما وقعت على الأرض. فالإعلام يرى أن الحادثة لا تؤثر كما وقعت ووردت  ولابد من تحويلها إلى خبر أو مادة وثائقية، درامية، حوارية إلى حد تبدو فيه الوسائط الإعلامية كأنها هي مصدر المعلومة التي تحتوي عليها الحادثة وليس العكس. وعلى الرغم من قوة التأثير الذي يمارسه الأعلام على حكم القضاء والمؤسسات الرسمية والرأي العام إلا أن الذي يقلق المعنيين والأباطرة الإعلاميين هو أنهم لا يستطيعون التلاعب بالمعلومة الأساسية التي تحملها الحادثة من دون أن يترك ذلك أثرا في بنية الحادثة، ومخلفا عند المتلقي ظلا من الشك في مصداقية الواسطة، وفي حقيقة وقوع الأمر على حد سواء. فمثلما تنشغل الوسائط الإعلامية بأدوات التوصيل والتأثير ينشغل عقل المتلقي بطبيعة المعلومة وحقيقة التفاصيل. على أي حال لا نستطيع الجزم بفناء الحادثة التي لا تتناولها الوسائط ولا الجزم بضياع المعلومة التي استخدمتها وشوهتها الوسائط، بأعتبار ذلك حالة حياتية تتناقلها الذاكرات والثقافات، كذلك لا نستطيع الجزم بوجود حادثة تصلح للشاشة الصغيرة دون غيرها من الوسائط، وحادثة تصلح فقط للميكرفون، وأخرى فقط للصحيفة، ولذلك تجدنا نتحدث عموما عن الوسائط الأعلامية، ونسمي مجازا الحادثة التي تنقلها هذه الوسائط بـ(الحادثة الأعلامية).

الحادثة تقع لها أسبابها وصنّاعها، ثم تنشط الوسائط في عملية نقلها وإيصالها للآخرين، إلا أن الحادثة على الأرض ليست كما هي في الشاشة الصغيرة، وهي على الشاشة ليست كما هي في صفحات الجريدة، وهي مع هذه الأخيرة ليست كما هي مع الميكرفون الذي يمسكه المذيع أو الخطيب، في تنوّع في الأساليب واختلاف في التقنيات لا يكف عن إعادة إنتاج الحادثة. ورجال الإعلام قطعا ليسوا هم صنّاع الحادثة على الأرض، لكنهم من رواتها الأكثر انتشارا وتأثيرا بسبب ما يمتلكونه من إمكانيات وخبرات ووسائل اتصال ونقل للمعلومات؛ إلى درجة يبدون فيها وكأنهم صنّاع ورواة مختلفون. ففي واقع الحال الوسائط الإعلامية غير قادرة على صنع حادثة وقعت وانتهت، بقدر ماهي تسعى إلى إعادة تصنيعها وتسويقها. صحيح أن دور الواسطة يتعاظم عندما تتناول موضوعا ما زال قائما ومؤثرا في الشارع يوهمنا ذلك وكأن الكاميرا كانت في قلب الحدث، إلا أن النقل المباشر للحوادث تنحني خلفه أكثر من علامة استفهام. فالحادثة تقع وتنتهي وتتحول إلى ماضٍ على الرغم من تأثيرها على وارتباطها بغيرها من الحوادث، وما فرقعات "النقل المباشر ومن قلب الحدث" سوى رواية للماضي القريب والطازج، الذي يؤثر في مشاعرنا وعواطفنا وردود أفعالنا، خصوصا وأن فهم المراسل الصحفي للحوادث لا يرتبط فقط بحقيقة التفاصيل أو بحضوره في ساعة وقوع الأمر بل وكذلك بكمية المعلومات والأخبار التي تم تجميعها، مبرزا في ذلك جانبين مهمين في مهنته: الأول هو المعلومة أو الفكرة الأساسية التي تحملها الحادثة، والثاني هو الجانب العاطفي للحادثة.

وهذان الجانبان بالذات لا تكف الوسائط والأضواء والألوان عن أبرازهما، للحفاظ على حدقة العين مُفَتحة لاستقبال المعلومة، مقشرة وجاهزة يتطلب هضمها والاستمتاع بها إبعاد السؤال والشك والاختلاف عن صحن الشاشة الصغير أو عن صندوق العجائب. فالحوادث الساخنة التي تشتغل الوسائط على زيادة سخونتها وإيصالها إلى غرف جلوسنا تكون قريبة منا حتى لو وقعت بعيدة عنا، أو لم تمثل مصالحنا المباشرة. وكما نعرف أن تعاظم دور الوسائط الاعلامية يتآتى نتيجة تراجع أساليب البحث الجدية عن المعلومة وبسبب ضعف العلاقات بين الناس بعد أن وفرت لهم هذه الوسائط علاقات بديلة ومعلومات سهلة توفر عليهم الكلام والترحال وهم جالسون في أماكنهم التي خسفت تحتهم، لكن هذا الدور يتراجع عند المؤرخين والباحثين وفي قاعات المحاكم، التي ما زالت تنظر إلى الدلائل الرقمية على أنها أحد أضعف الأدلة في الملفات والقضايا الجنائية، بسبب سهولة دحضها ورفضها والأعتراض عليها، كونها تنتهك الشخصي والحميمي لأصحاب الدعوى. إن التغيير المأساوي الذي طرأ على أسلوب القراءة نلمسه في استفحال ظاهرة البحث عن المعلومة السهلة أو الجلوس أمام شاشة التلفاز والتجوال في العواصم والبرلمانات، وأخذ ما يمكن أخذه منه. ومن نتائج هذا التغيير أنه زود الحادثة الإعلامية بمناخ الثقافة الشفاهية التي طبعت البلدان الفقيرة وجعلت المشاهد أو السامع في وضع مستهلك، يستقبل ويردد فقط ولا يجتهد في البحث عن صحة المعلومة وتوابعها. ثقافة عامة أنتجت مثقفا عاما. ويمكننا القول أن استبدال المشاهد البليد الممسك بالريمونت كنترول بالقارئ الناقد لما يقرأ هو أخطر ما أنتجته الوسائط في العقدين الأخيرين وأصبح من السهولة بمكان تفريق المثقف التلفزيوني المدجج بالمعلومات العامة والمتواجد بشكل دائم على صفحات الأنترنت، عن مثقف الكِتاب النادر الظهور والمحتمي بالمصادر والمراجع والمعلومة الدقيقة.

إنّ ارتباط الإعلام بالثقافة وتحول بعض الشعراء والكتاب إلى اعلاميين ومن ثم اكتساب هذه الوسائط الإعلامية الصفة الشعبية في دخولها البيوت والأزقة والواحات المتباعدة صور هذه الوسائط وكأنها معنية بالثقافات المحلية وبتطوير وعي المواطنيين والذوق العام وبصنع ذاكرة مختلفة، لكنها في واقع الأمر تهتم اولا بتنفيذ اجندتها وضمان بقائها واستمرارها في عالم المال والأعمال. حتى لو أدى ذلك إلى إلغاء وعي المواطن وصنع ذاكرة شفهية سطحية، وحتى المساهمة في تغيير الخارطة السياسية، الأمر الذي جعل الوسائط كسيف ذي حدين. فهي تروج للتسامح والمحبة، مثلما تحرض على العنف والكراهية، وسائط لا تحجب عن المواطن الحوادث لكنها لا تساعده في التأكد من صحة المعلومات التي تتضمنها هذه الحوادث. ولا تترك له مساحة محترمة للفعالية الفكرية، وسائط توقظ كراهة المتلقي للأستلاب والاستعباد الذي تمارسه الأنظمة، في الوقت الذي تصنع فيه خيوطا شفافة مهلكة تربطه بها إلى حد الاستلاب والاستعباد.

من الواضح أن الحس التاريخي موجود عند كثيرين نراه في قصائد الشعراء وسرد الروائيين وألوان الرسامين وإمساك الصحفيين ببعض اللحظات التاريخية ولكن هذا لا يعني أنهم مؤرخون، فكون المبدع شاهدا ومساهما وحادا في حدسه ومعرفته بتفاصيل الشارع، لا يعني بأنه قادر على التأريخ، وفي السطور القادمة سنتوقف عند الحادثة بين الإعلام والتاريخ.

الحادثة بين الإعلام والتاريخ:

الإعلام والتاريخ أحدهما يأخذ من الآخر، ولكن التأثير المباشر وجني الأرباح المادية وتنفيذ السياسات وفرض الأجندات غالبا ما يكون من نصيب الإعلام، تاركا في الظل التاريخ والمؤرخين وأصحاب المعرفة بنظاراتهم السميكة يحفرون في حادثة، أو يدققون في معلومة. الحادثة هي ابنة التاريخ، وهي الخامة الأساسية التي يشتغل عليها الإعلام البصري في قسمه الإخباري وبرامجه الثقافية والترفيهية وبرامج الأطفال وغيرها. وعندما تقع الحادثة في البيت أو في الشارع تكون محددة بعناصرها الداخلية وستكون في متناول الجميع، السياسي وصاحب المقهى والصحفي وإمام المسجد، وكل واحد منهم يرويها من زاويته التي تتضمن مواقفه ومصالحه ومصادر ثقافته. فالسياسي له أولوياته التي تختلف عن إمام المسجد وعند هذا الأخير تختلف عن الصحفي، وهذه الأولويات والاختلافات هي التي تقف خلف تلاعب الراوي بعناصر الحادثة، ومن ثم ظهور أسلوب للرواية دون آخر، وهو ما نشهده في ضعف المكان وقوة التحليل في رواية السياسي، أو غياب صنّاع الحادثة وحضور المكان عند إمام المسجد، أو حضور الزمان وغياب الظروف المحيطة بالحادثة عند الصحفي. وهذا الذي نقول لا يملك صفة الإطلاق فثقافة الراوي ومرجعياته ومصالحه وظروفه غالبا ما تقف خلف أسلوبه في رواية الحادثة.

تقع الحادثة في الشارع ثم تبدأ وسائل الإعلام باستخدامها والتعامل مع حيثياتها. أي أن الحادثة تقع أولا، وتفرض نفسها على وسائل الإعلام، على الرغم من أنها سرعان ما تتحول إلى مفردة من مفردات المؤسسة الإعلامية ومصالحها ومواقفها. والمراسل الصحفي المتواجد في الشارع سيجد نفسه وسط الحدث، متحيزا إلى طرف أو متعاطفا مع آخر، من دون أن ينسى عمله وفكرة السبق الصحفي التي تبقى مسيطرة على أولوياته، حتى لو لم تكتمل أو تتضح تفاصيل الحادثة. السبق الصحفي المعتمد على سرعة النقل وكثافة الصورة هو أول من يثلم الحادثة ويحولها إلى خبر، وشتان بين الحادثة وبين الخبر. فتحويل الحادثة إلى خبر يتطلب اختزال الحادثة عبر اختزال عناصرها  في الزمان والمكان والأفراد والظروف المحيطة. الحادثة التي تستغرق يوما سيتم اختزالها في دقيقة واحدة أو أقل، وبحضور الصورة سوف لن يذكر من المكان أكثر من اسمه ومن صنّاع الحادثة ليس سوى ملامحهم. والأكثر غرابة ومأساوية أن هذه الدقيقة المضغوطة تتضمن كذلك الأسباب والنتائج المتعلقة بالحادثة الأمر الذي يجعلنا نعرف ولا نعرف. ولسد النقص الحاصل في الإقناع والإبهار، سيلجأ الجالسون في دهاليز المؤسسة الإعلامية إلى إعادة تصنيع الحادثة، الخبر، والبحث في الأرشيف لربط الحادثة التي نقلها التلفاز، بحادثات قديمات أو بحادثات وقعت في أماكن مختلفة لها ظروف وأسباب ونتائج، كذلك مختلفة، لغرض الوصول إلى الهدف؛ أي أن المؤسسة الإعلامية في النهاية ستقدم حادثتها هي عبر الصورة التي تعرضها على شاشتها الصغيرة.

والمشكلة هنا ليست فقط في إلغاء المسافة بين الحادثة وبين الخبر أو في أبراز عنصر وإخفاء آخر، بل المشكلة في إعادة طبخ الصورة. الكاميرا وهي تخبئ في ظلمتها الإنارة والتقنية والمهنية والنوايا تعتبر من أخطر رواة الحادثة بسبب ما تمتلكه من إيماء وتأويل وإمكانية على إلغاء المسافة بين الواقع وبين الخيال، الأمر الذي يفسر جاذبية الصورة بما تمتلكه من تأثير وأغراء وخداع وتحريض تجبرنا على النظر إليها غير مدركين خطورة ذلك، وصورة جثث الأمريكيين المحترقة والمعلقة على جسر مدينة الفلوجة في غرب العراق والتي ضجت بها قنواتنا الفضائية وحدها كانت كافية لتدمير المدينة. بالطبع المؤرخ المهموم بالماضي والوثائق والتحليلات لا شيء هنا إزاء المراسل الصحفي الذي نقل بإبهار صورة الجنود المعلقين من كعوبهم. الصحفي عند العامة بطلا، رائيا يشتغل على الحاضر المحتدم بالشعارات والعواطف وردود الفعل المباشرة. فالعيون التي يبهرها المشهد المرئي والكتل والجموع تعكس عقولا اختزالية، مؤدلجة سريعة الاحتراق والانطفاء إلى درجة لم تلحق فيها بعد معرفة التفاصيل الحقيقية لوقوع الأمر. هذه العيون التي تبني موقفها على المشهديات المتراكمة من جرائم الاحتلال كتعليق الجنود وتفجير مطعم وقتل طفل بريء، هذه العيون قد لا تستطيع رؤية ما هو أبعد من ذلك ورؤية الأسباب التي أدت إلى الاحتلال أو الأغراض الحقيقة والنوايا الإستراتيجية البعيدة للمحتل. فما هو غير مرئي يتطلب التفكير والشك والبحث والصبر للاقتراب منه، وهي أمور غير قادر عليها العقل الاختزالي الذي شوهته الأيديولوجيات المتصارعة والذي يجد ضالته في الصورة التي تختزل ما يصادفها من حوادث ووجوه.

 إنّ الصحفي الذي أمسك بالحقيقة المؤلمة في نقله صورة الجثث المعلقة على جسر "الفلوجة"، لم  يدرك حقيقة أنه سيساهم بقسط في تحريض جنود الاحتلال الأمريكي على الأخذ بثأر زملاءهم، وتدمير المدينة وقتل الأبرياء، فهو انتقى الحادثة من بين صاحباتها وأوقفها في الزمن، أوقفها عند لحظة مشحونة بالعواطف والعنف لجثث محروقة ومعلقة بأعمدة الجسر أهاجت الجانبين على حد سواء الأمريكي والعراقي. المراسل الصحفي يعرف خطوطه الحمراء ويدرك المحرمات في الدين والسياسة وخصوصية الممولين للقناة وأنه نقل الصورة كما هي. لكن خروج السحر على الساحر جعل المراسل الصحفي أعزلا لا دور له، في مواجهة الصورة وتداعياتها. وأمسى كالمشاهد ضحية تزييف الوعي. وليس مصادفة أن نرى ذهول بعض المراسلين وهم يشاهدون النتائج الكارثية التي صنعتها الكاميرا وأحيانا يسخرون من أنفسهم عندما يشاهدون على التلفاز الحادثة المهلهلة التي جازفوا بحياتهم من أجل الوصول إليها وتصويرها في مكان الخطر، أو يسمعون التعليق (النصْ) الذي يكرر ما ترويه الصورة أو يأتي الكلام من وادي والصورة من وادي آخر، وأحيانا يستمر الكلام حتى لو انتقلت الكاميرا وتغير المشهد. ونحن هنا لا نريد الخوض في المزايا والمبادئ التي يتمتع فيها المراسل الصحفي فقد يكون معنيا بمهنته أو لقمة عيشه أو سلامته الجسدية، ولكنه في النهاية يكون صوت المؤسسة الإعلامية التي يعمل فيها لا صوت الشارع، وتجدنا غالبا ما نلقي بالمسؤولية على المؤسسة التي يعمل فيها الصحفي، وما لها من أولويات ومصالح. ولذلك نرى أن مفردات التشكيك والثقة في صدق أو كذب الحادثة الإعلامية التي ينقلها المراسل تنقصها الدقة والموضوعية بسبب سياسة القناة من جهة، ومن جهة أخرى مهنة الإعلام التي تصور الحادثة في مكان وتصنعها في مكان آخر وتسوّقها في جهات الأرض الأربع، وكل ذلك تقف خلفه نوايا ومواقف لا يدركها المشاهد ولا الصحفي أحيانا. فهل نستطيع القول إن المراسل كراوٍ هو الأكثر من بين أقرانه الرواة تضييعا وفقدانا لروايته، وهو الأقل دفاعا عنها فيما لو جرى التلاعب بها في دهاليز المؤسسة الإعلامية التي يعمل فيها أجيرا؟

كثير من المؤرخين والأكاديميين الذين يداومون على متابعة ما يظهر في التلفاز لا يعتمدون على النقل المباشر للأحداث في تناولهم للتاريخ، وأحيانا لا يتوقفون عندها حتى في مقالاتهم الأسبوعية وذلك بسبب ضعف الحادثة الإعلامية في دعمها لأسلوب البحث والتحليل واستخلاص النتائج التي تميل إليها دراساتهم، بل ويذهب بعضهم إلى أن الاستعانة بالحادثة الإعلامية لسد النقص الحاصل في المصادر التاريخية يعد من أسوء البدائل التي يلجأ إليها المؤرخ. وهذا الجفاء ليس سببه عدم القدرة على مسايرة التطورات التقنية السريعة من لدن الباحث والمؤرخ أو خوفهما من أن الإعلام سيضعف دورهما، بل هو طبيعة الحادثة الإعلامية وظروف تشكّلها في الشارع ومن ثم إعادة تصنيعها في مطبخ القناة الإعلامية. فالكاميرا التلفزيونية عندما تصور أو تنقل الحادثة بشكل مباشر إنما هي تنقل الذي أمامها، وتلتقي بالأفراد المتواجدين صدفة، أو في أحسن الأحوال المسئول السياسي والأمني المتواجد هناك ومذيلة، الحادثة، بعناوين يضعها متخصصون بصنعة الإبهار والتأثير والانحياز. الكاميرا مهما تطورت لا تنقل الحادثة كاملة وقد لا تلتقي بصنّاعها الحقيقيين ولا تتناول بالضرورة الظروف والأسباب التي أنتجت الحادثة بسبب محدودية زمن البث والنقل أو بسبب فكرة "المهنية" التي تتطلب من الصحفي نقل الحادثة، لا تحليلها والبحث عن أسبابها، ولكن الحادثة الإعلامية في النهاية تبقى رواية من بين الروايات، التي يمكن الأخذ بها، والتي لها أسلوبها الخاص في التوصيل ولها جمهورها وتأثيرها في الشارع. ونستطيع القول أنها الرواية الأكثر انتشارا وتأثيرا في الشارع، من بين الروايات الأخريات، وإن لم تكن الأكثر إقناعا في كتابة التاريخ.

فبسبب كثافة الحادثة الإعلامية والتي قد لا تتجاوز مساحتها الزمنية أكثر من دقيقة واحدة فقط، فإنها ستأتي كنتيجة مقطوعة الجذور والأسباب ومنفصلة عن المقدمات والحوادث التي سبقتها، وهذا قد يكون جيدا من ناحية إبراز الحادثة المعينة والطازجة، ولكنه عند المؤرخين الذين يرون أن التاريخ هو مجموع الصراعات والعلاقات السببية التي أنتجت الحادثة لا الحادثة نفسها فقط، فأنهم سوف لن يأخذوا بها مصدرا في كتابتهم للتاريخ. وهنالك من المؤرخين من يرى أن الحادثة الشائكة والمعقدة تحتاج لبعض الوقت للبحث والمقارنة للوصول إلى طبيعة تفاصيلها ولا ينفع معها الموقف الجاهز والسريع الذي يتطلبه النقل المباشر. فردود الأفعال السريعة مرتبطة بالعامة من المشاهدين والقراء أكثر منها بالمتخصصين والباحثين والمؤرخين. إن لجوء المشاهد، بحكم العادة، إلى التقليب والبحث في القنوات التلفزيونية ليس له أدنى علاقة بتصفح كتاب أو جريدة. فمشاهدة الحادثة نفسها مكررة على عدة شاشات فضائية ولكن بأصوات ووجوه أخرى سرعان ما يحول الحادثة إلى خبر، ومن ثم إلى حقيقة لا يجد الشك طريقا إليها. إلا أن تكرار القنوات التلفزيونية لعرض حادثة واحدة ومن ثم تعدد التحليلات السياسية والاجتماعية لها عن بعد سيؤدي إلى تراكم الحادثة الواحدة. وبالتالي نجد الحادثة المعروفة العناصر على الأرض، تتحول إلى حادثات متشابهات على الشاشة الصغيرة، لا نعرف أيهما الأصل. إن تراكم الحادثة الإعلامية الواحدة على الشاشة الصغيرة برؤى وأساليب متنوّعة هو غير تراكم الحادثات المختلفات على الأرض. فهذا التراكم الأخير هو الذي يؤدي إلى إنتاج العلاقات السببية والتغيرات النوعية التي يبحث عنها المؤرخ.

* * *

للوهلة الأولى تبدو آلة الميكرفون التي وقف خلفها أجمل الفنانيين والمذيعيين في طريقها إلى الاختفاء بسبب التطور المذهل لوسائل الاتصال والمعلومات، لكن هذه الآلة تتكدس في خلفية وعينا كعصا للسلطة وأداة لحضورها وصراخها المستمرين. فقطعة المعدن التي كانت محببة ومقربة إلى أهل الكلام من خطباء وإذاعيين وأئمة جوامع، هي الأكثر ثلما للحادثة من بين صاحباتها من الوسائط. فالكلمة المباشرة والرشيقة التي تقال بثقة وبصوت عال وتُسْمع الجمهور ما يريدون سماعه قد تكون هي الأخطر على الأذن وعلى حقيقة وقوع الحادثة، الأمر الذي جعل من كلام الخطباء السائر في اتجاه واحد، من الميكرفون إلى المتلقي، مادة للتحريض وتهييج الصراعات أكثر منه للحوار والتوثيق والتأريخ. ولو عبرنا التلوث السمعي الذي تتركه الآلة وتوقفنا عند بنية الحادثة التي يرويها الخطيب سنجد أنفسنا أمام حادثة شفاهية، منتقاة، يسودها الاختزال والتعميم بعد أن تم تسييد عنصر على آخر أو اختزال العناصر الداخلية في الزمان والمكان والأبطال والظروف وتحويلها إلى موقف سياسي أو سؤال أو فكرة. فالحادثة التي يستغرق وقوعها على الأرض ساعات تـأتي على لسان سيد الميكرفون في ثوان معدودات لغرض العبور إلى المهم، فيها المكان وصنّاع الحادثة بالكاد تأتي أسمائهم عرضا من دون توسع في تفاصيل المكان وتاريخ الأفراد الذين صنعوا الحادثة، اما الظروف التي سبقت واعقبت وقوع الأمر تبقى هي غاية الخطيب ومبتغاه في الوصول إلى النتائج التي ينشدها. فتوضيح العلاقات السببية والصراعات الاجتماعية وإبراز الظروف التي صاحبت الحادثة كل ذلك عند الخطيب أهم من الحادثة نفسها. انه يتوسع بالحادثة بالقدر الذي يخدم مصالحه في تحويلها إلى فكرة أو موقف أو سؤال، ثم يعارضها بفكرة أخرى ويجيب على السؤال بسؤال آخر عبر مقارنة الحادثة بأخرى سبقتها. فالخطبة الطويلة فن يتطلب الأثارة والتوتر وطرح الأسئلة وكل ما من شأنه تنشيط انتباه الأذن بخفة ومهارة وخبرة. وهذه الخصائص تجعل من حادثة الميكرفون مختصرة أشبه بومضة مباشرة وسريعة الأثر والوصول إلى الهدف لا تحتمل الشرح والتفسير الممليّن خوفا من ذبول الخطبة وتشتيتها. الحادثة بصحبة الميكرفون لا تمتاز بمساحات معلوماتية، وتعتمد في توسيع المعلومة على قدرة الأذن على الاستقبال وخلق الصور الذهنية المجردة والمنسجمة مع القناعات المسبقة للمستمع.

إن الربط بين الحوادث لتوضيح الفكرة والوصول إلى الهدف، وسيلة مجربة عند مدمني الميكرفون من السياسيين والمذيعيين وأئمة الجوامع. الربط هنا بين الأفكار وليس بين الحوادث، في الرأس وليس على الأرض. فحدوث تمرد عسكري في شمال البلد له اسبابه وظروفه وحدوث فيضان لنهر في الجنوب وانقلاب قطار للركاب على طريق العاصمة كذلك، لهما اسبابهما وظروفهما، ولكن في رأس الخطيب يوجد خيط ينّظم كل ذلك على الرغم من غياب العلاقة المباشرة بين الحوادث، إن كانت في الأسباب أم في النتائج. فتصنيع الروابط الخارجية بين الحوادث المتناثرة للوصول إلى علاقات داخلية تتطلب من الخطيب الإمساك بخيط الكلام ومطاردة التفاصيل المبثوثة في الحوادث والمؤيدة لأفكاره وترك ما لا ينفع، الأمر الذي يؤدي إلى التلاعب بحقيقة التفاصيل وصولا إلى توريط المستمعين بحوادث وحقائق غير دقيقة. فالتفاعل بين الحوادث لا تصنعه فقط الأفكار ولا يصنعه التجاور أو التشابه بين الحوادث ولا رغبة هذا الخطيب أو ذاك السياسي بل هو نتيجة حركة تلقائية لحيوات ومصالح ومشاعر مجموعة من البشر. الحادثة ليست فكرة يمكن مطّها حسب الحاجة وفي كل الاتجاهات، فهي ما أن تقع حتى تنتهي محتمية بحدودها في الزمان والمكان والأفراد، من دون أن يقلل ذلك من تأثيرها على وتأثرها بغيرها من الحوادث. ولذلك فإن التمرد العسكري المار ذكره له ظروفه التي أنتجته، وله صنّاعه من الجنود، ومكانه الذي احتضنه، وله زمانه المحدد وهذا لا يتطابق مع أية حادثة أخرى أشبه بماء النهر الذي لا يمكن السباحة فيه مرتين، ولا يمكن تصنيع وافتعال العلاقة بين التمرد وبين الحوادث الأخرى من دون أن يلقي بظله على حقيقة وقوع التمرد .

الأذن هي الطرف الآخر من حكاية الميكرفون. والخيوط الشفافة التي توصل الميكرفون بالأذن ترتبط، قوتها أو ضعفها، بطبيعة المعلومة وماذا تقول وكيف تقال من جهة، ومن جهة أخرى بموهبة من يقف خلف الميكرفون. الميكرفون قادر على تقديم إجابات مبسطة عن أسئلة معقدة والتلاعب بحقيقية وقوع الأمر ولكن ليس بالضرورة ما تسمعه الأذن يصدقه العقل، فمواهب الخطيب لا تعطي الحادثة ما تفتقد إليه، وإن حاولت المواهب ذلك فأنه سيترك لا محالة أثرا في بنية الحادثة زارعا بذور الشك في طبيعة المعلومة التي تمتلكها الحادثة. الأذن تستمع أحيانا إلى حوادث ومعلومات تعرفها ولكن سلطة الميكرفون هي التي توهم العقل بأنه يفتقدها وبأنه منسجم ومقتنع بمضمون ما يسمع. إن تلاعب الخطيب في حقيقة وقوع الأمر وتلذذه بإنصات الآخرين إليه سيجعل من المواهب التي يمتلكها(خامة الصوت، مخارج الحروف، سبابة اليد، خصلة الشعر، لحظات الصمت التي يصنعها وما تحتوي عليه من علامات التعجب والاستفهام، تحكمه بكميات الهواء بين فمه وبين الميكرفون،،،) اكسسوارات لتشويه الحادثة.

* * *

إن انشغال الوسائط الإعلامية بعوالمها وأغراضها وفي توجهها صوب من يبحث عن المعلومة السهلة والسريعة مهد لنا في القول والتأكيد على إن الحادثة "الإعلامية" ما زالت بعيدة عن الرصانة والحياد والعمق والاستدلال، التي يتوسلها في بحثه المؤرخ والباحث والمعني، لكن ذلك لا يقلل من حقيقة أن الحادثة المكتوبة (صحيفة، مجلة، انترنيت) هي الأكثر من بين صاحباتها توثيقا وإنصافا وبقاء. الصحيفة لا تقول كل الحادثة في الجملة الأولى، ولا تعيدها علينا على رأس كل ساعة، ولا تتعامل معها "الحادثة" وكأنها مفتوحة الضفاف، كما يفعل التلفاز في نشراته الاخبارية، بل تروي لنا الصحيفة حادثتها بتأني تحدده أصول المهنة، مانحة القارئ مساحة للتفكير والاستنتاج والإعادة. فالأصابع الأربعة التي تفصل بين العين والأذن تخبئ الكثير من الاختلافات في وسائل الأتصال والاستيعاب. فبين المنطوق والمكتوب اختلافات زمنية واسلوبية تتجلى في تحويل الحادثة من خانة الحكي إلى خانة التوثيق، من الشفاهة إلى الكتابة؛ أي أن الحادثة التي في التلفاز(الصورة) والميكرفون (الصوت) ليست كما هي في أبنية اللغة وأساليب السرد.

الحادثة حين تقع ستكون لها حدودها على الأرض. وعناصر الحادثة في الزمان والمكان والأفراد هي حدودها على الأرض، وأن التعامل مع هذه الحدود سينعكس سلبا أو إيجابا على بنية الحادثة. فعندما تقع الحادثة تكون أفكارنا في طور التكوين تؤثر فيها عدة ثوابت، منها الأغراض والمرجعية الفكرية والمهنة والزاوية، التي يقف عندها الراوي لحظة وقوع الحادثة، الأمر الذي يؤدي إلى تسييسها أو تقديسها أو سردنتها. فتعدد الثوابت وتنوّع التجارب سيقف بوضوح خلف اسلوب رواية الحادثة؛ وفي تقديم عنصر وتأخير آخر، صانعا بذلك تعدد الروايات. الصحافة والتاريخ كذلك أحدهما يأخذ من الآخر، بل أنهما معا يأخذان من الأزياء والأفكار والقصائد والطبخ والأغاني ولكن هذا لا يعني وضعهما في خانة واحدة فالصحافة حين تستلف من التاريخ تُلبِسه حلتها ومفرداتها "الاختصار والإبهار والسرعة" أما التاريخ حين يحتك بالصحافة فأنه سيثقل عليها بالأفكار والشرح والتحليل. ورغم الاختزال والتنويعات التي تعاني منهم الحادثة المكتوبة إلا أنها تبقى الأكثر توثيقا واستخداما من لدن الجهات البحثية والاكاديمية والرسمية. خطورة الحادثة الصحفية تأتي من جدية الصعوبات التي تواجهها الصحيفة في حالة تغطيتها الخاطئة للحادثة، حيث لا ينفع معها التصحيح، بعد أن تكون قد انتشرت في الشارع الأمر الذي يلقي بأعبائه على المؤرخين والمعنيين لتبيينها. الوسائط الإعلامية المنشغلة كل واحدة منها بحاسة من حواسنا هي روايات للحادثة الواحدة التي قد يمهد رأس المال ومواهب الواسطة الإعلامية وطبيعة المتلقي لهذه الرواية دون تلك. صحيح أن للمرسل وللمتلقي أولويات مختلفة إلا أن التدفق االهائل للمعلومات من قبل المرسل يشكل ضغوطات نفسية وحياتية تهّمش المتلقي وتدفعه إلى التناغم مع المعلومة السهلة، ومع مرور الأعوام وتطور الوسائط سيكون المتلقي قد فقد أية مقدرة على حماية نفسه وستتغير قناعاته بتأثيرات سمعبصرية ليس لها علاقة بحقيقة وقوع الأمر، ثم يتحول بعدها المتلقي هو الآخر إلى برغي صغير في آلة أرسال عملاقة لا ترحم.

كاتب عراقي مقيم بهولندا

nassarawad_288@hotmail.com