في مقالته يركز الناقد التونسي على التوجه الجمالي الذي يقيم الصلة بين الفعل الفني المسرحي وبين فضاء التاريخ الاجتماعي والأنثروبولوجي المكون له، أو الذي يمارس فيه، وتعالقه مع متلقيه، ومع مفهوم المؤسسة. ويستبين أن الدراما هي موقف جمالي من العالم.

المسرح والمجتمع

سيف الدين الفرشيشي

لقد "بات من المتفق عليه اعتبار أعلى أشكال الثقافة المتمثلة بالفن والأدب نتاجاً لقدراتنا البشرية وفي نفس الوقت نقداً لمجتمعنا الحالي"(1). و هذا ما يحيل مباشرة إلى عنصرين أساسيين في دراسة هذه الأشكال، هما تمظهرات القدرة البشرية المنتجة لها، وبالتالي تأثيرات المجموعة البشرية فيها، والثاني كيفية تمثل المنتوج للعوامل المؤثرة فيها، ما يحيل بدوره إلى عنصر ثالث وهو علاقة الرابط بين الأثر وإطاره الاجتماعي وهو الفنان الذي بلور الوعي والتمثل الجماعي في أثره.

أما المنتج وهو المؤلف المسرحي الذي يعتبر أول العناصر المكونة للعملية المسرحية فقد اتّخذ العديد من الأسماء عبر تاريخ المسرح بدءا بـ"الشّاعر" عند الإغريق وصولا لـ"الدراماتورج" بمفهومه الألماني الحديث. وبغضّ النظر عن وظيفته الاجتماعية، يمثّل هذا المؤلّف في جوهره فرداً من أفراد المجتمع الّذي ينشأ فيه بمختلف جوانبه، سياسية كانت أو اجتماعية، اقتصادية أو فكرية، له نفس الحاجيات الماديّة والنّفسية والبيولوجية لأيّ فرد آخر من أفراد المجتمع، فيكتسب بذلك نفس الخصائص النفسية والاجتماعية وأنماط السّلوك للجماعة التي يعيش بينها وهو ما يعبّر عنه في علم النفس بالتمثيل الثقافي(2) سواء كان ذلك بطريقة واعية أو غير واعية وهو ما ذهب إليه "روبير سكاربيت" في مؤلّفه سوسيولوجية الأدب عندما أقرّ بأنّ "الانتماء الاجتماعي للفنّان وانتسابه إلى وسط معيّن وقطاع اجتماعي يتميّز عن غيره بمعالم تتعدّد بتعدّد مظاهر البيئة تربط الكاتب بها جذرياً بطريقة واعية أحياناً وغير واعية أحياناً أخرى"(3) ويبرز هذا التّجذر في الأعمال التي ينتجها كتّاب المسرح بحيث بان بالكاشف ارتباط النصوص التراجيدية الأولى بالمجتمع الإغريقي الذي يمثّل كتّاب كأسخيلوس وسوفوكل جزءا منه، اصطبغت رؤيتهم للعالم بالرؤية الجماعية، وفي التاريخ الحديث للمسرح الأمثلة متعدّدة منها ما ذهب إليه "رونيه جيرار" في كتابه "الكذبة الرومنطيقية والحقيقة الرومنسية" حيث ربط بين البطل الإشكالي عند "مارلو" و تطوّر البورجوازية، رغم عدم الوعي بهذه الطبقة الآخذة في التشكل شيئاً فشيئاً، فكانت بذلك وليدة للظّروف الاجتماعية العامّة الّتي يعيشها مارلو حيث شكّل أعماله بطريقة فطرية لا واعية، ويمكن الذهاب إلى الإقرار بأنه حتّى لو صاغ الكاتب المسرحيّ مؤلّفاً خيالياً بكامله فإنّ تجذّره في الواقع الاجتماعي مفروغ منه حيث أنّ تمثّله لانفعلات شخصياته سيكون تمثّلا للانفعلات الواقعية للمجتمع الذي يعود إليه هذا الكاتب بالنظر وهو ما ذهب إليه "لوسيان غولدمان" في دراساته السّوسيولوجية حول الكتابة المسرحية والأدبية(4).

فعملية الكتابة المسرحية بلورة لتمثّل الكاتب المسرحي للعالم وتعريفه له ووعيه به، حيث يكون هذا التعريف والتمثّل والوعي نتاجا للمجتمع الذي ينتمي إليه فيكون النصّ المسرحي بذلك نتاجاً اجتماعياً غير مباشر ضارباً بجذوره الاجتماعية حاملاً مبرزاً أوجها من المجتمع والتجربة الاجتماعية لصائغه وورعي بها وهذا ما سيؤثّر بدوره في العرض المسرحيّ ثاني العناصر المكونة للعملية المسرحية حيث أن كلّ عمل فنيّ يفترض وجود مبدع وأثار وجمهور يكون الفنّان والمتقبل طرفين في عملية واحدة إذ أنّ الفنّان مهما يكن عمله، هدفه الوصول إلى المتقبل، بهذا يرد العرض المسرحي، بما هو لحظة تكشف العملية المسرحية، انعكاساً لهذه العلاقة فيرد في شكل "نوع من الاتفاقات الموقعة بين المثل والمشاهد" تماشياً مع الوظيفة الاتصالية للمسرح التي تتجاوز هذا الإطار حيث أثبتت سيميولوجيا المسرح هذا المبحث الذي يهتمّ بدراسة نمط إنتاج المعنى عبر العملية المسرحية الّتي تمتدّ من قراءة المخرج للنصّ وصولاً إلى النشاط التأويلي للمتفرّج ذلك كون العرض المسرحي مجموعة من الرموز تمثّلها العلامة باعتبارها نتاجاً للعملية السيميولوجية أي عملية ربط واقتضاء متبادل بين مستوى التعبير المعرف بالدّال والمحتوى الذي يمثّل المدلول، حسب تقسيمات دي سوسير فيستحيل العرض بذلك في كلّيته إلى مجموعة من الشفرات تلتزم في تفكيكها معرفة بها حيث أن كل "الأعمال الفنية (رسائل) تتطلب معرفة مسبقة للشفرة الملائمة لحلها و تفسيرها بشكل واف"(5) كما ذهب إلى ذالك بورديو، و نظراً لهذا الارتباط لا يصبح لهذه الشفرة معنى خارج الإطار الذي تولدت فيه، فمعاني القناع مثلاً في التراجيديا الإغريقية لا تعني سوى الإغريقي الذي يمتلك حلاً لها فيما يفهمها متفرج آخر من عصر آخر فهماً مختلفاً يرتكز على ما عبر عنه بيير بورديو بالهابيتوس أو الطابع الثقافي المكتسب، و أي محاولة لفهم ما يعنيه هذا القناع تفترض وضعه في إطاره وسياقه الاجتماعي والتاريخي. إذ أن "ما لنا من الموضوع عند لحظة معينة لا يكون له معنى إلا في ضوء تكشفه التاريخي"، وهو ما يبرز أيضاً لدى الممثل الذي يكون شخصية محملة بأثرى المبادئ الاجتماعية كما ذهب إلى ذلك جون دو فينيو في مؤلفه "الممثل" أو "سوسيولوجيا الممثل"، حيث تتسم تركيبته وبنيته وتمثلاته وأفعاله على الركح مهما كانت درجة تغريبها تمثلاً لمجتمعه وواقعه الموضوعي وجملة من الرموز المحيلة لواقعه و ظروفه الموضوعية.

من ناحية أخرى بما يحويه في تركيبته الداخلية من مكونات فنية مهنية وما تقرره أعرافه من تحديدات وما يقتضيه وجوده من علاقات يتحول المسرح إلى مؤسسة اجتماعية قائمة بذاتها.

فمنذ البداية الإغريقية أفردت المدينة مكانة خاصة للتراجيديا كما وضح في مقال سابق، مما بوأها لأن تصبح مؤسسة قائمة بذاتها وفي العصور الحديثة التي تميزت بسيادة الرأسمالية كنظام اقتصادي، تجذر مفهوم المؤسسة في المسرح أكثر فأكثر. فمن ناحية تركيبتها الداخلية تمثل هذه المؤسسة مجتمعاً مصغراً بما تحويه من علاقات تتكون بين العاملين فيه تماثل في تركيبتها الموجودة في أي مؤسسة أخرى، و لهؤلاء العاملين في هذه المؤسسة احتياجات كما احتياجات أي مواطن يمارسون حياتهم في ظل النسق العام المتعارف عليه، في تراتبية مهنية مرتبطة بالجانب الاقتصادي والسياسي الإيديولوجي للمجتمع.

تنشئ هذه المؤسسة علاقات مع باقي المؤسسات و ترتبط ببعضها لضمان استمراريتها حيث ارتبطت بالمؤسسة الدينية والسياسية مدة طويلة من الزمن لما وفرته لها من شروط للتواصل إذ مثلت المؤسسة السياسية في مختلف أشكالها داعماً أساسياً لتواصل المسرح بما وفرته من دعائم التواصل. وفي العصر الحديث تطورت هذه المؤسسة لتتحول إلى مؤسسة اقصادية خاضعة لقانون العرض والطلب، فتحولت هذه المؤسسة بذلك إلى مجتمع مصغر تمثلاً عن المجتمع الذي يحويه ومجموع العلاقات التي تكونه ويمكن ملاحظة ذلك أيضاً في أدق تفاصيل مكوناته. من ذلك يمكن أن يستنتج أن دراسة الظاهرة المسرحية في إطارها الاجتماعي تفضي إلى ثلاث إمكانيات، أما الإمكانية الأولى فتتلخص في العلاقة بين المسرح والمجتمع وعوامل التأثير والتأثر التي تحكم هذه العلاقة.

أمّا الإمكانية الثانية فتتمثل في دراسة المسرح كجزء من المجتمع حيث يقع تجاوز أطر العلاقة الثنائية التي تعتبر المجتمع والمسرح عنصرين منفصلين إلى اعتبار المسرح عنصراً من عناصر المجتمع المكونة له فتتحول بذلك التأثير والتأثر إلى نوع آخر من العلاقة هو التماهي والتفاعل. وبالنظر إلى تركيبته الدّاخلية ومجموع العلاقات التي تكوّنه والشّروط والضوابط التي تضمن وجوده تكون الإمكانية الثّالثة دراسة المؤسّسة المسرحية كمجتمع مصغّر بمجموع علاقاته وضوابطه والشروط المحدّدة له بذلك تكون دراسة الظّاهرة المسرحية في إطارها الاجتماعي دراسة مجموع هذه الإمكانيات في ائتلافها.

من ناحية أخرى يجب الأخذ بعين الاعتبار في دراسة المسرح في إطاره الاجتماعي، بكون "الحياة الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية هما نتاج لعملية تطوّر وتغيّر"(6) حيث يصبح من الضروري دراسة المسرح في إطار عملية التّغيير الاجتماعي.

 

الهوامش

(1) النظرية الاجتماعية من بارسوته إلى هابرماس، ص 322

(2) معجم علم النفس، ص 16.

(3) سوسيولوجيا الأدب، ص12.

(4) Tarrab Gilbert; «La sociologie du théâtre et de la littérature d’après Lucien Goldman»; sociologie et société; vol 3; numéro 1; 1971; p 15

(5) ديفيد إنغليز و جون هغسون، سوسيولوجيا الفنّ، طرق للرؤية، ترجمة ليلى الموسوي، الكويت 2007، ص66

(6) إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة محمد حسين غلوم، الكويت 1999، ص 310.