بحس فجائعي ترسم الشاعرة المصرية مرارة المحو، بين صورة الرجل المحارب وقصيدة تضبط إيقاعا في محبة الحياة. وبينهما تنساب قوة الشعر بمفعولها المجازي رغم بشاعة المحو.

كأننا أودعنا قطعة سكر في ماء

عبير عبد العزيز

لعلني بجعة في حلم هذا الرجل
الذي أسند رأسه على البندقية
فقط لينظر للسماء
هذا الرجل الذي أفرغ بندقيته بيديه
قال لهم : ليست فارغة
للبندقية نجوم تحيا بها الآن.
الذي تحسس البندقية ورأى بها أمراً آخر
غير الذي تدرب عليه وحفظه عن ظهر قلب
كأنه رأى فتاة للمرة الأولى
تجلس فوق عباد الشمس
تحدثَ للعساكر والقادة وللطيور والعناكب
للعفاريت البيضاء لغبار جنود المعارك
عن تلك البندقية التي جعلته مضمحلاً
أمام مخاوفه ومخاوف أصدقائه الطيبين
فأفرغ البندقية.
صمتُ البندقية لا يُقاوَم
تلك العاجزة المشلولة
سمحتْ للموسيقى بفراغ يناسبها
سمحتْ للأحلام بمساحة تتسع
فلعلني بجعة في حلم هذا الرجل
لا تملُ الرقص له فوق تلك المساحة
الشاسعة التي زرعها وهو يموتُ
نائماً على بندقيةٍ فارغة.
*****
الواقفون على الطريق
الواقفون في الممر الضيق
الواقفون على أطراف أصابعهم في غرفهم العلوية
الواقفون في شُرفات مغلقة لأبوابٍ أُقفلت بإحكامٍ
أنفاس سُدت عليها بِفلةٍ معدنية
الواقفون أمام التلفاز يشاهدون الواقفين
تمنوا جميعاً أن يحصلوا على مسحوقٍ
لا لون له ولا رائحة
لا بصمة يُستدل عليها
ليتحولوا لأشباح على الطريق
عندما تمر العربات بجانبهم أو أمامهم
تلك العربات المملؤة بأصوات الجنود
رائحة حديد الطلقات الفارغة
في أفواه مُعداتها
تعلو على رائحة التبغ الذي يُقاوم
أحلام هؤلاء الرجال الميتة بموت الواقفين.
*****
أريدُ وصفة طبية للشفقة
كان يقولها صارخاً مستغيثاَ
عندما دخلَ على ممرضة صغيرة للعدو
لا تعرفُ كيف جاءت لساحة القتال
لا تعرفُ إلا إنه العدو
لا ترى جرحهُ أمام مدفعه الكبير
ظل يَهزها خمس وعشرين مرة
لتحضر تلك الوصفة الطبية
ابتسمتْ وبرباطة جأشٍ
أطلقتْ كل رصاصات مدفعه الرشاش
تنهدتْ وأكملتْ خياطة أزرار بلوزتها الزرقاء
وصُنع صينية كبيرة من البطاطس
اللعب مع أطفالها في حديقة الحيوان
تقبيل زوجها في المناسبات الرسمية
الجلوس أمام البحر في شهر يوليو
عندما تتذكر تلك الوصفة الطبية
أو الخمس وعشرين هزة أو الكثير من الرصاصات
الكثير من سائحي هذا العدو القديم على شواطيء يوليو
تتنفس براحة كبيرة وتقول :
هذا ما تفعله الحروب بالرجال
إن الله سينتقم من الحرب ذات يوم
إن الله سيسامح هذا الجندي
الذي ذهبَ ولم يعد
فقط من أجل تلك الحرب
فقط من أجل تلك الوصفة
فقط من أجل تلك الهزات
من أجل تلك الرصاصات
لم يسمع أحد هذا الحديث
إلا عندما وُجدت في دفتر صغير
عندما لم تخرجُ من البحر
في شهر يوليو بعد العديد من الأعوام.
*****
ألسنا ننسى المثلث
عندما نرسم دائرة
ألا نتذكرُ الزوج
عندما نحكي عن أيام الأرملة الطويلة
هذا الزوج الذي رحل بعيداً وسريعاً
ليعود محمولاً على الأكتاف
ملفوفاً في راية يحوطه الهتاف
راية قماشها جديد وألوانها زاهية
ودعناه كأننا أودعنا قطعة سكر في ماء
ألسنا ننسى الحياة عندما نخطط لمعركة ما.
****
الحكماءُ موجودون في العالم
لضبط الإيقاع
الشعراء يهبونهم تلك الأغنيات الكثيرة
ما يبحثون فيها عن ذاك الإيقاع
المحاربون بين هؤلاء
يصنعون جداراً سميكاً
كى لا تمرُ الأغنيات إليهم
أو لا يخترقُ الإيقاع حياتهم
وكلما علا الجدار
صار يُصدر أصداء عالية وقوية
لتلك الأغنيات وذاك الإيقاع.
****
لعل المحارب يلهو ويلهو
حتى يتفرغ له الموت
في مقابلة وحيدة
لا ادعاء فيها
لكن للهو آثار لابد أن تُزال يوماً
للمقابلة تاريخ لابد أن نذكره
في سيرة انتظار.
****