يقدم الكاتب والناقد المصري هنا أحدث إصدارات الأديب والشاعر الأردني امجد ناصر، رواية تستقصي وجع المنفى والاغتراب، وما تشكله من ملامح الخراب في كينونة شخوصها .. فاضحة أنظمة الاستبداد الهشة، مستكينة الى وجعها الأسطوري وتوجهها تجاه أفق بديل.

تشكيل أوبرالي في أوجاع المنفى

وانفراط عقد العمر

فتحي أبو رفيعة

لئن كان أمجد ناصر قد وفَّر على القارئ مشقة الربط بين عنوان روايته ومضمونها، فأشار في صفحاتها الأولى إلى ملصق سياحي أو ترويجي اعتاد الراوي أو بطل الرواية مشاهدته في عربات المترو وفي الميادين العامة التي كان يرتادها في البلد الأوروبي الذي اتخذه البطل مكانا لمنفاه الاختياري، وهو ملصق يهدف إلى الترويج لزيارة بلدان الصحراء أو الشرق الأوسط باعتبارها بلدانا ”لا تسقط فيها الأمطار“، إلا أن هذا العنوان يمكن أن يحيل للوهلة الأولى إلى معنى الجدب أو الخراب الذي يمكن أن يلتصق بهذه البلدان، وهو في هذه الحالة لن يقتصر فقط على الجدب الصحراوي بمعناه المادي، لكنه يحيل أيضا إلى الجدب المعنوي المتمثل في فقدان الحرية والديمقراطية وأهم القواعد الأساسية لما أصبح يعرف اليوم باسم قانون حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي. وسيساعد على تأصيل هذا المعنى في ذهن القارئ ما تعرض له الراوي/ البطل الرئيسي في الرواية (وهو مناضل ثوري شارك مع آخرين من أقرانه في تنظيمات يسارية كان هدفها الاحتجاج والثورة على أوضاع وطنية جائرة) من مهانة النفي والإبعاد عن الوطن، وعدم السماح لهم بالعودة إلى بلدهم، حتى وإن عادوا إليه طائعين، فيواجَهون بقرارات سلطة جائرة بعدم استقبال الفارِّين حتى لو كانوا مطلوبين ”وتركهم كالكلاب الضالة يعوون في الشوارع “، ويتكفل حرس السلطة، أو حرس الحدود، بإعادتهم إلى الخارج.

هذا المصير دفع بالراوي إلى الاغتراب أو النفي الاختياري الذي استمر على مدى عشرين عاما، إلى أن طرأت تغيرات في ”الحامية“ التي ينتمي إليها سمحت له بالعودة  (وهي بالتأكيد ليست إلى الأفضل، ولكنها نتاج مصالح مشتركة بين القوى السياسية المستفيدة من هذه التغيرات). وما بين هروب البطل من حاميته إثر عملية تنظيمية فاشلة، وتشتته في أكثر من مرفأ من مرافئ اللجوء، ثم قراره بالعودة بعد عشرين عاما، تنتظم أحداث ”حيث لا تسقط الأمطار“، فتقدم لنا بامتياز عملا فريدا من أدب المنفى يصور بكل الشفافية والعمق أثر هذه المحنة على بطل الرواية، وهو أثر تجاوزه هو شخصيا إلى أبطال ثانويين محيطين ومرتبطين به. عشرون عاما من الغربة القسرية قسمت عمر البطل إلى نصفين: عمر الشمال وعمر الجنوب، عمر المطر وعمر الجدب، بل قسمت روح البطل نفسه إلى شخصيتين هما يونس الخطاط وأدهم جابر.

ما أن تطأ قدما يونس الخطاط أرض الحامية بعد شتات العشرين عاما، حتى يواجه مشكلته مع نصفه الآخر، وتبدأ الرواية كمونولوج داخلي مع القرين الذي يستعرض رحلة الأعوام المنصرمة منذ الطفولة عبر سنوات الصبا والشباب والنشاط الحركي والهروب إلى الخارج ثم العودة إلى الوطن. وفي هذا المونولوج الذي يستغرق صفحات الرواية بأكملها (263 صفحة في عشرة فصول) سيعيش القارئ محنة البطل التي يرويها المؤلف عبر مشاهد وأحداث وكوابيس في نبرة تصاعدية تبدو هادئة في الفصول الأولى من النص التي تتناول حياة الراوي في الحامية ونشاطه السياسي وعمله التنظيمي وفراره من البلاد بعد عملية فاشلة، ومع تقدم الفصول (التي تتناول حياة المنفى ثم العودة إلى الحامية بعد عشرين عاما من الشتات) يستشعر القارئ قوة الأفكار التي يتناولها النص وشدة المحنة التي عاشها الراوي والتي يصطبغ سردها بظلال فكرية وفلسفية عن الإنسان والسياسة وعلاقات الصداقة والأسرة والحب والزواج والحياة والموت.

ترسم الأحداث الخطية (أو الأفقية) التي تسردها ”حيث لا تسقط الأمطار“ ما يشكل تطورا محكما لحياة بطل الرواية، الذي نتعرف عليه طفلا مختلفا عن اخوته، له تفكيره المتميز وميل إلى عدم الانصياع إلى التقاليد الأبوية والطاعة العمياء، ومن هنا كان فكره اليساري وانخراطه في العمل الثوري، فضلا عن موهبته الشعرية التي حققت له بروزا مجتمعيا معقولا بعد نشر قصائده في صحيفة محلية، وكان من أهم قصائده آنذاك قصيدة بعنوان ”سيدة المدينة“ كتبها عن محبوبته الأولي، وهي ابنة رئيس حرس الحامية، والتي كان قد عقد قرانه عليها قبل فراره  دون أن يتم زواجهما، وراجت هذه القصيدة في المدينة حتى أن أحد أصحاب البوتيكات الجديدة أطلق هذا الاسم على محله الجديد. وسنتعرف في غضون أحداث الرواية على زواج الراوي في الغربة زواجا لم يدم كثيرا، وعن لقاءاته بأصدقاء قدامي في النضال لكنهم غيروا أسلوب نضالهم بما يوافق مصالحهم فأصبحوا من أركان الحامية ورجالها، إلى أن نعود مع الراوي من غربته إلى أرض الوطن حيث الأمور تغيرت كثيرا، ومحبوبته القديمة (التي كانت قد طُلِّقت منه بعد غيابه الطويل) قد تزوجت وأنجبت. يراها الراوي وهي تمر من تحت شرفة بيتهم العتيق موجهة بصرها إلى الشرفة دون أن تراه أو تعلم بوجوده، فيرسل وراءها ابن أخيه (الطفل الذي يحمل أيضا اسم يونس تبركا بالعم الغائب)، وفي مشهد بالغ الحزن والتأثير نرى حيرة يونس وهو أمام المرآة متأهبا للقائها بعد عشرين عاما: حيرته التي تجسدت حول كينونته، هل هو يونس أم أدهم، ويغادر مكانه أمام المرآة متجها للقاء محبوبته التي كانت تجلس في الردهة الخارجية مع أخيه وزوجة أخيه: يغادر يونس مكانه أمام المرآة، لكن صورة الرجل الذي كان يطل عليه منها ”ظل يحدق به بعينين تتقلب نظراتهما بين الإشفاق والرجاء“. وتختتم الرواية بمشهد مُقبض بين المقابر في زيارة للموتى. كان حارس المقبرة يحدق في الراوي كأنما يفكر فيمن سيكون الاسم الجديد الذي سوف يُنحت على شاهد المقبرة، وفي هذه اللحظة يسعل الراوي بقوة، ويبصق دما كثيرا، تاركا لخيال القارئ ما يمكن أن تكون قد آلت إليه خاتمة الرواية.

هذا التخطيط الأفقي للرواية يعززه ويضيف إليه التخطيط الرأسي الذي يتجلى في ما أشرت إليه من قبل عن تدرج أفكار الرواية بحيث تصل في فصولها الأخيرة إلى طرح قضايا حافزة للعقل والفكر والتمعن في أفكار إنسانية وفلسفية. مثال على ذلك علاقة الأب بالابن التي يكرس لها الراوي كثيرا من الصفحات. فالراوي يدرك، بعد فوات الأوان، أنه سبب ألما وألحق غبنا كبيرين بأبيه الخطاط الذي كان له مركزه داخل الحامية، وتم إبعاده عنها بعد تورط ابنه في عملية فاشلة ضد السلطة. وحينما يعود الابن، يمضي وقتا طويلا في ”إعادة اكتشاف والده“ في قبو البيت القديم الذي اتخذه الأب معملا، أو معبدا، يمارس فيه مهنته أو علاقته مع الخط العربي، وينقب الابن عن مأثورات أبيه المخطوطة والحكم والأشعار التي كان يسطرها بمختلف أشكال الخطوط، من قبيل ”فلا تأسف على غدر الزمان فكم رقصت على جثث الأسود كلاب !“، أو ”وما للعيش وقد ودعته أرجٌ، ولا لليل وقد فارقته سحرُ“، وهو البيت الذي عنَّ للراوي، وهو يطالعه في غيبة أبيه، أنه هو – أي أبوه - المقصود به، ويتساءل ”هل كانت حياة والده بعد فرار ابنه العاصي بلا أرج، وليله، بعد مفارقته، بلا سحر ؟“ بل إن الراوي يمعن في دراسة فن الخط العربي ورواده الأقدمين مثل ”ابن مقلة“ وأخيه ”أبي عبد الله“، اللذين وضعا، كما يشير والده، في ما ترك من مؤلفات، نحو أربعة وعشرين خطا، ذكر منها ستة، هي الثلث، و الريحان، والتوقيع، والمحقق، والبديع، والرقاع. يقدم الراوي، فيما يشبه اعتذارية لوالده عما ألحقه به من غم وكمد، ما يمكن اعتباره أطروحة في تاريخ الخط العربي. يتذكره في ما يشبه المرثية ”بقامة نحيلة مديدة، بسيجارة تحتل ركنا أبديا في طرف شفتيه الأيسر، بتلك اليد اليمنى التي تخط كلمات متساندة بعضها إلى البعض الآخر، مسترخية، بغنج، كنساء في أسرَّة الحب، مشرئبة كأعناق غزلان تنصت إلى وقع خطى مداهمة، أو ملتفة كمتاهة، كأفعى في عنقود عنب.“

تتجلى محنة الراوي المنفي في الكوابيس المزعجة ونوبات الاكتئاب والبكاء التي تنتابه في غربته. حلم، أو كابوس، متكرر يقض مضجعه دائما: ”قاعة مكفهرة يجلس في منصتها ثلاث رجال بثياب عسكرية موشحين بشريط أحمر وعلى صدورهم أوسمة… على جانبهم الأيمن قفص حديدي يمثل خلفه شاب نحيل، بشعر طويل وشاربين متهدلين، زائغ البصر. ينظر الرجال العسكريون الثلاثة إلى أوراق أمامهم. يرفعون رؤوسهم. ينظرون في اتجاه القفص الحديدي، ثم ينطق الجالس في الوسط، وهو أكثرهم صرامة وانغلاقا، هذه الكلمات: يونس الخطاط…مؤبَّد! فتصحو، كل مرة، مبللا بالعرق.“ في غربته، وطد الراوي نفسه على تقبل البرد والسماء القاتمة، ومرور الزمن، وتبدل الأحوال، وخيانة الأصدقاء، لكنه أحيانا يبكي: يغمرك جيشان هائل فتبكي، وحيدا على جانب نهر ذي مياه سوداء تبكي. تحت جسر لم تعد تمر عليه القطارات تبكي، أمام الشبح الذي يطلع لك في أسوأ الأوقات ويعقد ذراعيه على صدره ويصفن بك كمستنطق عنيد تبكي.

يقول إدوارد سعيد إن المنفى هو عملية فصل قسرية لا براء منها بين الكائن البشري وموطنه، وهي تخلف في المرء حزنا دفينا لا سبيل إلى الخلاص منه (تأملات في المنفى ومقالات أدبية وثقافية أخرى، لندن، غرانتا، 2001، ص. 173). وصفحات ”حيث لا تسقط الأمطار مشبعة بهذا الحزن الدفين الذي ينسجه الراوي في سرد آسر وموجع يحاكي التشكيلات الأوبرالية أو السيمفونية المطعَّمة من وقت لآخر بوقفات يكاد يطل فيها على القارئ ”كورَس“، أو جوقة توجه حديث الراوي، سواء بحكمة أو توجيه يناسب المقام. ففي أحد الفصول، تطل هذه الجوقة منشدة: ”أنت رجل خبر الحياة تحت سقف الزوجية المرفوع على أعمدة الصبر والوعود، تذكَّر ذلك.“ على الفور، ينخرط الراوي في الحديث عن فتاة متمردة، مثله، التقاها في أحد مرافئ التيه التي مر بها، وكان الإعجاب ثم الزواج الذي لم يدم طويلا. وفي إطلالة أخرى تعلق الجوقة على حكاية سردها الراوي عن أحد رفاق النضال الذي ظهر له في غربته، لكنه كان قد ”استؤنس“ وعُيِّن في منصب إعلامي رسمي رفيع. تردد الجوقة: ”كان صعبا عليك نسيان فعلته.“ على أنه لا يغيب عن القارئ، في الوقت نفسه، أن حديث الجوقة هذا هو جزء من المونولوج الذي يخاطب به الراوي قرينه أو نفسه في مواجهة ما بعد العودة من رحلة الاغتراب. هذه الجوقة نفسها هي التي تضع خط النهاية حينما يتلقى العائد عرضا من رفيق كفاحه القديم، الذي صار مستأنسا ويحتل مركزا رفيعا في الحامية، بأن ينضم العائد إلى صفوف الحامية التي تحتاج إليه في هذه المرحلة. من عمق إحساسه بالكآبة والشلل الداخلي يعتذر العائد متعللا بمشاريع وهمية تراوده، وكانت الجوقة تردد:

الزمن يمكن أن يتكرر.

الأشخاص يمكن أن يتكرروا على نحو أو آخر.

 

الكتاب: حيث لا تسقط الأمطار (رواية)

الناشر: دار الآداب، بيروت، 2010