يستقصي المقال نصا روائيا سعوديا يواصل من خلاله المنجز الأدبي في السعودية والخليج عموما تقعيد لمسار حضوره، نقد منظومة القيم السائدة ومحاربة التقاليد الواهية، مشرئبة اتجاه التحرر والانعتاق.

رؤية نقدية لمنظومة القيم التسلطية

إبراهيم الحجري

لم يخرج بدر الإبراهيم في روايته الجديدة «حياة مؤجلة» الصادرة عن المركز الثقافي العربي، عن مسار حملته الرواية السعودية على عاتقها: مسار الكفاح ضد منظومة القيم التسلطية المتخلفة التي تحارب التحرر والانعتاق والتفتح والحياة باسم الدين المحرف والتقاليد الواهية. وهي رواية يمكن تصنيفها في رواية الموقف والرأي والنقد لأنها تراهن على الرؤية النقدية اللاذعة لمجموعة من القيم السائدة والمواقف المتخلفة والثقافة المتحجرة التي تعبث بحرية الشعب السعودي بناء على استغلال خطير للإيديولوجيا والدين، وتحت ذريعة حماية الأخلاق والأعراف والشرف.

هنا بقدر ما يسعى الروائي إلى تقريبنا من العالم السعودي في بنياته الثقافية المتداخلة، فهو أيضا يسعى لإطلاع القارئ على مدى الانتهاك الجسيم لحقوق المواطنة وحقوق الإنسان التي يتعرض لها الإنسان السعودي، رجلا كان أو امرأة، شابا كان أو فتاة، كهلا كان أو يافعا... غير أن الطريقة التي عرض بها الإبراهيم رؤياه ورؤيته النقديتين فنيا تختلف عن الطريقة التي استعرض بها روائيون آخرون حنقهم المرجعي على عسكر الأخلاق وسدنة الأعراف المتخلفة، مثل يوسف المحيميد، ورجاء الصانع، سمر المقرن، ومها الجهني، عبده خال، عبد الله ثابت وغيرهم كثير.

انتقى الروائي شخصياته بعناية فائقة من الشباب الذين يتابعون دراستهم في النهائي الثانوي، ثم فتح شهيتهم لنقاش القضايا التي تشغلهم داخل مجتمع تحكمه منظومة قيم مغايرة لمطامحهم، الشيء الذي يجعلهم يناقشون في عصبية مجنونة ما يتطارحونه من أسئلة اليومي المؤرق، ونحت وطأة شبكة من الخوف والذعر من متابعات السلط المتعددة التي تراقبهم مثل كوابيس النوم: بعضها داخلي ينبثق من سيرورة من التحولات والتركيبات المبطنة التي تغلف الشخصية وتتراكم في ثناياها. وبعضها خارجي متمثل في الرقابة النظامية التي تتأهب لعقاب كل من يشتبه في خروجه عن قانون القيم الموضوعة تبعا لإيديولوجيا دينية مركبة تؤول النص الديني تبعا لهواها.

وبالرغم من التوجهات الفكرية المختلفة التي يعانقها كل من الشخوص الروائية، وبالرغم من التعارض الحاد الذي يطبع نقاشاتهم أحيانا، فإن هناك خيطا قويا يشد أفكارهم وميولاتهم بعمق، وهو إنشاد الحرية والانعتاق من ربقة الكوابيس التي تشد العربة إلى الخلف.

وتبنى الرواية بكاملها على بنية الحوار الديناميكي بين الشخصيات، والذي خول للأحداث أن تتفاعل وتتصادى وتتواجه وتفرز البديل الفكري في حضور محايد للروائي الذي ظل يرعى تطور الفواعل الروائية وتفجرها، واشتعالها بما يفيد الخلفية الروائية التي يشيدها بناء على قناعات إيديولوجية ونقدية.
وقد استمد استراتيجيته الحوارية من الطرح الباختيني الذي اقترح الحوارية العميقة بين الفواعل واللغات والخطابات مؤكدا أنها هي ما يصنع التحول في المسارات السردية ويطورها إلى القمة، يقول باختين:›› التوجه الحواري للكلمة ظاهرة تتصف بها أي كلمة بطبيعة الحال، إنه الوضع الطبيعي لأي كلمة حية، ذلك أن الكلمة في كل طرقها إلى الموضوع، وفي كل توجهاتها إليه، تلتقي بكلمة الآخر، ولا يمكنها إلا أن تدخل في تفاعل حيّ متوتر معه››.

إن العمل الروائي «حياة مؤجلة» الماثل أمامنا، هو عمل قائم بشكل أساسي على بنية حوارية تربط بين خمس شخصيات ذات توجهات فكرية مختلفة تجمعهم صداقة الدراسة. واستخدم الكاتب الحوار كتقنية أساسية ووحيدة أيضاً لبناء عمله السرديّ.

وقد تفاعل على المستوى الحواري السردي خمس شخصيات أساسية بقيت على تواصلٍ وتلاقٍ من أول حدث في الرواية حتى اختتام فصولها وأوراقها.

وقد تحرك الكاتب عبر شخوصه الخمسة، وهم من شباب المرحلة الثانوية، في فترة زمنية واقعية تمتد من سقوط البرجين الأمريكيين في نيويورك، كحدث أوجد تحولاً عالمياً ورسم خريطة جديدة للشرق الأوسط، منتهياً بسقوط بغداد والإطاحة بصدام حسين على يد القوات الأمريكية، وقد شكلت هذه الشخوص الأصواتٌ التي يذوي من خلالها موقف الراوي، الذي يقوم بفعل الحكي ورواية الأحداث بأكملها، وأكثرها إشعاعا عبر المحكي نجد «فيصل الساري» الشاب الذي يفكر بصوت عال، يؤمن بالمبادئ الليبرالية ويعتقد بأن الليبرالية هي خلاص المجتمع، يصفه صديقه حسام بأنه ليبرالي متأمرك. يؤمن فيصل بنسبية الحقيقة، يسعى لأن يكون مختلفاً وغير تقليدي.

ونجد أيضا (سعود مطر) الشاب الحذر تجاه مجتمعه الذي يضطهده وينظر له بدونية بسبب لون بشرته السوداء، ثم (حسام الشامي) الذي ينحدر من أسرة شامية، يحتفظ بميول قومية جارفة، ويلتزم بثقافة المقاطعة للمنتجات والمطاعم الأمريكية، وهناك أيضا (ماجد الشريعي) المنحذر من أسرة محدودة الدخل، الولد الوحيد بين ثلاث بنات، يشعر بحرج شديد فيما يتعلق بالمسائل المالية، أبوه موظفٌ متقاعد من وزارة الزراعة منذ ثلاث سنوات. بالكاد يستطيع أبوه أن يوفر مصروفا شهريا لابنه ماجد، فيستعين بأخيه أحياناً. ليس متديناً لكنه محافظٌ يكثر من عبارة (الله لا يغيّر علينا)، يريد بقاء المجتمع على ما هو عليه ويعتبر أن أي تجديد يمسّ بالخليط المقدس خطر تجب محاربته.وأخيرا نلفي (صالح العمر) الشاب المؤمن بالأفكار السلفية؛ والذي(لا يطبق ما يؤمن به). ينتمي لأسرة متدينة. أبوه مدرس لغة عربية. سلوكه يناقض أفكاره يحلق لحيته ويؤمن بوجوب إعفائها، ويمارس ما يعتقده منكراتٍ. شخصيته صورة دقيقة عن نمطية تتجلى بوضوح في المجتمع السعودي، فهو يؤمن بالأفكار المتطرفة، لكنها في الخفاء يمارس ضدها مؤكدا ازدواجية وانفصام في الشخصية تسود الكثير من الشباب السعودي.
إن الرواية هنا نعبر عن الرأي ونقيضه كما تماما يراها ميخائيل باختين:›› لا تُظهر فقط (وعي) المؤلف في عالم وحيد؛ وإنما تظهر أيضاً أنواع الوعي الأخرى التي للأبطال، واحداً، واحداً، بشتى عوالمهم، وهم يندمجون في وحدة حدث معين›› ولعل من المظهر المفارق في المحكي هو أن الكاتب أعلى من صوت الحوار على حساب السرد، وبدا جلياً أن الأصوات المتعددة لم تفارق دائرتها المغلقة، غير أن صوت الراوي، الذي لبس قناع شخصية فيصل، بقي مهيمناً على المشهد كله، الشيء الذي مكّنه من أن يحلل، ويفسّر، ويبرر أحياناً لأصوات الآخرين، بل وتحلل طريقة تفكيرهم ونفسياتهم وتنتقدها، فيما تتوارى الأصوات الأخرى، خلف جدران قناعاتها ومسلماتها.

إن الكاتب رمى بشخوصه على طاولة الكارطه، وتورط في كونه واحداً من أوراق الكارطه تلك، بل هو دوماً الورق «الجوكر» من غير أن نشعر بذلك، لقد خبر طريقة تفاعله الإيجابي مع الكون الروائي وحرص على أن يكون مشاركا فيه بالطرية التي يشتهي ومن غير أن يفتضح تعاطفه مع رأي معين، إذ بات من الصعوبة أن تفصل بين شخصية (فيصل الساري) طالب الثانوية والراوي نفسه.
إن الرواية بالرغم من سقوطها في شرك الخطابة لكونها تماهت مع توجهها النقدي، ونسيت القالب الفني الذي استوجب في كثير من الأحيان مستوى لغة الشخصيات وأفكارها، حيث بدت في كثير من الأوقات أكبر من مستواها، فإنها اخترقت، بشكل ناجح، نوافذ موصدة من الموضوعات التي تعتبر طابوهات، وقرعتها تبعا لمحاجة بارعة البيان مكرسة نضال شخصية فيصل الساري، وكاشفة في الآن نفسه عن نجاح توجهه في مشاكسة أسئلة الشباب ومطامحهم: أهواء، رغبات، تحرر، معتقد معتدل، تعليم متوازن وجيد، حكومات متفهمة وتقدمية، نساء يعرفن معنى الحب... ولم تظهر هذه الاعتبارات الثقافية إلا من خلال النقد العنيف الذي يوجهه الشباب لنظام التعليم والسياسة والأخلاق والدين القائم على تأويلات يجب إعادة النظر فيها حتى لا تكون نقمة على الناس والأمة.


* قاص وناقد