يعقد الناقد المغربي هنا مقابلة شيقة بين الواقع الفعلي الذي يعيشه المثقف في عالمنا العربي، والواقع المتخيل الذي يتخلق داخل الأعمال الروائية، ليكشف عن أن المثقف فيهما معا قد أصبح صوتا بلا صدى. وهو اكتشاف يطرح على الكاتب أسئلته الملحة، والتي يطرحها بدوره على قارئه علّه يتأمل عبرها ما يدور في واقعه في هذا الزمن العربي الردئ.

المثقف: الصوت بلا صدى

محمد معتصم

تقديم:

منذ فترة تقارب العام ارتفعت العديد من الأصوات للحديث عن الوضعية الثقافية في بلادنا، تراوحت تلك الأصوات بين جادة تسعى إلى فهم ما جرى وما يجري الآن، وبين ردود فعل تلامس السطح دون تحديد فعلي للأسئلة الحقيقية، وفي غياب خطة عمل توحد حولها كل المثقفين الفعليين المهتمين بالشأن الثقافي في المغرب اليوم. عموما أعتبرها جميعا قد انتبهت إلى الوضعية المزرية التي وصلت إليها منظومة القيم على إثر تحولات كثيرة محلية ودولية، مما سمح للعديد من الظواهر الشاذة بالتسرب إلى الحياة الثقافية، وشل حراكها وتأثيرها في حياة المواطن المغربي الذي تضخم عنده اليوم سؤال المصير وتعمق عنده سؤال الهوية، ففي الوقت الذي كان فيه المثقف المغربي واضح الملامح، وعارفا بأهدافه، ساعيا وراء تحقيق مراميه حتى حدود العقد الأخير قبل بداية الألفية الثالثة، وانتشار ثقافة الاستسلام، والانسحاب الطوعي لمناطق الظل ومصارعة المستجدات، وتضميد جراح الخذلان السياسي والثقافي، ومكابدة آلام التخلي، وعنف الاصطدام بجدار اللاجدوى العتيد، بات اليوم مجرد ظل، وقد أقول أصبح ضالا، تائها في امتدادات لا منتهية، منتكسا بلا صوت، فقط يشاهد نهايته حتى بدون حسرة أو ألم، بله يرفع عقيرته بالاحتجاج. عفوا لقد بات الاحتجاج العقلاني والموضوعي وبات النقد من مصطلحات العهود السابقة، الموؤودة.

ومساهمة مني في هذا الحراك الذي تحدثه الجهتان معا، الفاعلة والمنفعلة، أنشر اليوم مقالة كانت كما أراها تنبؤية، لأن ما يجري اليوم في الساحة الثقافية نتيجة لتلك الوضعية التي استخلصتها من الواقع، ووضعية المثقف المغربي، ومن كتابات إبداعية كانت لها القدرة على استشراف المستقبل، والحدس القوي بالآتي، المقالة منشورة بكتابي كملحق؛ "الرؤية الفجائعية في الرواية العربية نهاية القرن العشرين"، تحت عنوان:" المثقف، الصوت بلا صدى". وستكون لي وقفات فيما بعد حول قضايا تخص الأسئلة التي ينبغي طرحها في اللقاءات العامة أو الخاصة ومن قبل جميع الفئات التي لها غيرة حقيقية على الوطن، وعلى مخزونه الفكري والثقافي، والفئات التي تقدر جهود المبدعين والكتاب والمثقفين المغاربة الذين أسهموا في بناء الصرح الجمالي للمتخيل المغربي، والذين وضعوا كل ثقتهم وجهدهم في الرأسمال الإنساني، واستثمروا ثرواتهم القليلة أو الكثيرة في تنوير المواطن المغربي، وسعوا إلى تحريره من التبعية والاستلاب اللغوي والثقافي والسياسي، وقاموا بالتضحية، هذه اللفظة الغريبة عن قواميس السياسات الحالية، من أجل مغرب ثقافي فاعل، حيوي، منتج، منافس، ومغرب قارئ، ومنافس، ومبادر ومقتحم لكل المعيقات التي انتشرت حول عصبه كالصدأ وكالشمع تكاد تمنع عنه التفكير والإبداع، والنقد والتنفس بحرية في بلد حر. تذهلني نتائج القراءة في بلد بتجاوز سكانه ثلاثة ملايين، تخيفني أرقام تداول الكتاب التي يصرح بها الناشرون، ولا أحد ينفي أو يؤكد هذه الأرقام المنحطة، أتساءل بحكم عملي يوميا عن مستوى التعليم ونتائجه في جل المستويات، أقف في كثير من الأحيان عاجزا على تحديد الهوية الحقيقية للمثقفين والقائمين على الشأن الثقافي في العديد من المؤسسات والأندية الثقافية وجمعيات المجتمع المدني وانتهازية الكثير منهم وتقلبهم بتقلب الرياح، تلك الجمعيات التي كان لنا الحضن الدافئ وكان القائمون عليها منارات هادية ومرشدة، تقوم بأدوار عديدة تثقيفية وتربوية وتأطيرية...والبقية تأتي.

المثقف، الصوت بلا صدى

لا يمكن اعتبار الرؤية الفجائعية مفهوما بلا جذور وقواعد راسخة في التاريخ وفي المجتمع، وفي الذات وفي أنماط الفكر السائدة وأنماط التفكير الرائجة اليوم وبالأمس القريب والبعيد. من المظاهر الأكثر تأثيرا، تفككُ المنظومات ذات الطابع الكلياني، وتلك اليقينيات التي تربى عليها العقل الحديث. قيم الحرية، والمنظومات الخلقية، سواء أكانت ذات منحى اجتماعي أو ديني أو سياسي أو فكري. إن ما فقده الإنسان المفجوع هو الارتباط والتواصل بينه وبين ذاته أولا، ثم بينه وبين الآخرين ثانيا. ومن ثمة جاء الحديث عن الآخر الجحيم والأنا الجحيم.

إن ظهور فكرة الانتحار في الكتابات الروائية العربية المعاصرة يجد تبريره في الصدع العميق الذي أحدثته الهزات العنيفة الخارجية، وتبدد الأحلام واضمحلال الآمال وانهيار الأنظمة وتفكك النسقية، وتلاشي المعنى وصعود الضبابية، والنفاق الاجتماعي، والحَوَلِ السياسي الذي يستند إلى القوة، والقوة المطلقة، وقوة المصلحة والذاتية المفرطة، وضعف التاريخ وإخجال الشعوب الأوروبية الخارجة من أوار النازية. بل عبادة السلعة الرائجة، لأن العالم أصبح سلعة. وأن العالم سوق كبيرة للنخاسة، والأفكار عملة فاسدة، والفلسفة سلعة بائرة، والإنسان بلا قيمة فلسفية بل هو بضاعة أيضا. فلتحي التفاهة. هذا المنطق الجديد سيكبر ويعلو حتى أن لا شيء يعلو عليه. إن الانهيارات الكبرى في العالم المعاصر؛ فكرا وسياسة ومنظومات وأنساقا، ستؤدي إلى تقوقع الذات، وانخساف الأنا. تلك التي تعاف ذاتها. كيف لها أن تقبل، بل كيف لها أن تُلْحِمَ الصدع بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. ولكي تتحمَّلَ الوجود عليها أن تنخرط في التفاهة، وأن تفلسف اللاشيء بل وتبرر العجز، وأن تجانب الحقيقة.

إن الانهزامية ملمح من ملامح الرؤية الفجائعية. والشخصيات الروائية في الرواية العربية المعاصرة منهزمة غارقة في الذل. وعيها يثقل عليها، وذاكرتها جحيم، التاريخ حد سيف على الرقبة. كيف لكاتب أن يجلس إلى نفسه، ويخلو لذاته ويكتب بضمير مرتاح وهو وسط الخراب. وهو يشعر في داخله بالاقتلاع. واسيني الأعرج يقذف بالإنسان الواعي، والفنان، وأستاذ الموسيقى في المباءة، مهملا بين النفايات والفضلات. أيُّ فاجعة هذه! المثقف الذي يحيا في البرج العاجي، ويسبح خياله حرا في الفضاءات الواسعة الرحبة، ويتوسد ندف الغيوم البيضاء. لم يعد قادرا على العثور على موطئ قدم. يُلاحقُ من الداخل أولا. لأن الداخل هو الجحيم الأكبر. هكذا يعرِّفُ (فوكو) الاضطهاد. إنه في الداخل. المضطهد لم يعد كائنا اجتماعيا، لأنه انفصل عن المجتمع. بل فصله المجتمع وهمشه وأهمله واستأصله كالزائدة الدودية. المثقف لا دور له في العالم الجديد. العالم الجديد يتربَّعُ على قمته (أفلاطونات) جدد. لا يقبلون إلا الدواجن. يعجبها ويطربها النقيق، وتسريها القوقآت. لذلك فشخصيات مؤنس الرزاز تشعر بالخواء الداخلي، وباللاجدوى. بل هي كائنات مطرودة من القبيلة. إنها حركة صعلكة جديدة. في الزمان الجديد. عبد الله الديناصور في (مذكرات ديناصور) شاعر مقتلع ولا قيمة له. حتى صاحبه (الذبابة) لا يشعر بأنه ذبابة بل حشرة. أي أن الإحساس الفاجع يقود صاحبه إلى الازدراء، كافكا اللحظة العربية والعولمة. والذات تزدري نفسها. إنه الجحيم الداخلي، وقوده الذكريات الاقتلاع. لا ينفي الرزاز أثر الخارج:موت عبد الناصر، انهيار الاتحاد السوفياتي، وحرب الخليج الثانية، الوحدة العربية، وتسوية مدريد... الخ. الخارج يذكي النار، ويؤجج أوارها. إن الأرض التي كانت الأقدام تقف عليها قد زلزلت. والعالم، والأرض، واليابسة عبارة عن رمال متحركة، والذات والمثقف، والإنسان، والقيم كلها تغرق، تنزل ببطء وهي في حال من الذهول والأخذ. إنها الحالة الشعورية الحادة التي عبر عنها أحمد بوزفور في قصص مجموعته الأولى (النظر في الوجه العزيز). إنها حالة الهبوط النفسي الحاد. (la dépression). استسلام الضحية لحد السيف. استسلام يشل حركة الجسد، ويخدر الأعصاب. تغوص الأقدام في عَسَلٍ رَخْوٍ لزجٍ بمذاق الشهوة. تدعو الحبيبة حبيبها عند بوابة السجن للعناق، لوصل ما انفصل، فيجيبها (أريد أن أنام). جسد منهك، وروح فقدت كل رغبة في الحياة. هذا ما تعبر عنه الكتابة المعاصرة. هل هو انهزام الكاتب؟ إنه انهزام العالم. انهزام القيم النبيلة أمام قيم الجبن. ويعلمنا التاريخ أن (الجبناء قساة). لذلك نقسوا على ذاكراتنا. المثقف مدانٌ، الفكر مدان، الفلسفة مدانة، التاريخ مدان. الجغرافيا مدانة. لماذا نحن هنا ؟ لماذا نحن جنوب العالم ؟ عالم مليء بالتناقضات، بلا إرادة، بلا قوة، فقط استسلام الضحية للجزار.

على مدى العقد الأخير من القرن الماضي والرواية، السرد العربي يجهر بالكارثة. التصدع القوي الغائر في الذات، ليس إلا أثرا لشرخ عميق في الوجود. يكاد (الكوسموس) أن تنفلت عراه. ويحدث ما تنبأ به أرسطو (le chaos). الكوسموس نظام محكم. بناء محكم. يتهاوى فقط عندما يفقد صرامته، أي توازنه، وتماسك عناصره. وليست العناصر قائمة على التماثل بل على الاختلاف. الكوسموس بنية متناغمة لا متماثلة. والعالم اليوم بنية، بناية متماثلة لا متناغمة، بل بناء واحدي مائل جهة القوة الشمولية المطلقة. والمثقف ذات ووعي يتنبأ ويحدس ويحس هول الفاجعة، وهول الدمار وقاع العالم المظلم اليباب لذلك يستسلم ويصبح صوته بلا صدى، فيهوي الجسد، جسد الأستاذ من أعلى جسر (تنيميلي) بالجزائر مغمض العينين، وصوت ارتطام الجمجمة بالأصص، بالصخر، بأي شيء يدوِّي عاليا في الخواء. إنها الفاجعة. صوت بلا صدى. إنه احتجاج ضد اللامبالاة. ليس أعنف على الذات من أن تجتث جذورها. أين تتجه ؟ على أي الأعمدة تستند؟ وعبد الله الديناصور في رواية مؤنس الرزاز (مذكرات ديناصور) تعبِّرُ عن ذلك. يقول النص:" وأقبل ابن عمي. أين كنتُ أنا ؟ في "الغور" أم في "الشياح"؟ وجه انحدر من تضاريس البداوة الناتئة كالصخر إلى أخاديد الفلاحة والزراعة. بدا وجهه صارما في وقدة الليل ذي القذائف المنيرة. قال إنه يحمل لي رسالة من الشيخ. يتراجع الشيخ عن خلعي من القبيلة، ويصفح عني، ويضمني إلى شجرة القبيلة مرة لأخرى، وإلى صدره إذا استنكرت خروجي على لغة القبيلة جهارا نهارا".ص(73).

ككل الأنظمة العرفية، والإيديولوجية،،، لكي تنتسب إلى القبيلة عليك الانصياع، والخضوع وأن لا تخرج بالرأي المضاد والمخالف. لكن ما يحدث للذات بعد الاقتلاع رهيب جدا. لأن الذات لا تجد مرجعا ومصدرا تعود إليهما طلبا للملاذ والحماية. وفي حال غياب الحماية تسقط الذات في الفجائعية. أي أن الشعور الحاد بالعراء تحت سماء بعيدة واسعة، وفي أرض خلاء، فكل الذوات الأخر أعداء ويجب الحذر منها. حتى الذات تهتز ولا تثق في نفسها. وأول آثار هذا الاهتزاز والانخلاع تشوش الذاكرة. والنص أعلاه يعبر على ذلك "أين كنتُ أنا ؟". لا تستطيع الذاكرة الاسترجاع ولا الاستذكار، لأن الشرخ عظيم والهوة محيطة بالذات. الوقائع مضطربة. والنسقية المنطقية والحدثية (من الحدث) تتخلخل. وتحل محلها الفوضى. وهو ما انصاعت نحوه الكتابة الروائية المعاصرة. فالرواية عبارة عن قصص متفرقة، يضمها غلاف وعنوان واحد. والرواية عبارة عن أوراق مبعثرة تدروها الرياح. هذا ما فعله أستاذ الفنون، والموسيقى في رواية (سيدة المقام) لواسيني الأعرج قبل أن يؤرجح جسده في الهواء ويقذف به إلى الهاوية. وهو الخيار ذاته الذي ارتآه مؤنس الرزاز. يقول في (مؤخرة لا مقدمة لها لحكاية حب):" وأرجو أخيرا أن ينتبه القارئ إلى أن هذه الأوراق كلها ليست سوى مجموعة متداخلة من كوابيس اليقظة أو كوابيس المنام .. وهذا ما يفسر غياب المنطق الواقعي حينا .. وقد لا يفسره في أغلب الأحيان ؟!".ص(5).

وتنبيه القارئ إلى صيغة الخطاب الروائي يندرج ضمن ما يسميه هنري متيران في دراسته السوسيولوجية الإيديولوجية للرواية "الخطاب المقدماتي". وهو خطاب يبرر، ويقرر، ويؤكد، ويستدرج القارئ إلى المناطق التي يرتئيها الكاتب. والكاتب عندما ينبه القارئ يود في الوقت ذاته الافصاح عن وعيه المطلق والواقعي بما يقوم به من تفكيك ومن تشظية، وخلخلة للمنطق الخارجي الصارم القائم على الترابط والانسجام. لأن الخارج لم يعد مقْنِعًا تفككتْ منظومته. وأصبح المبدع، وهو الوتر الحساس في المجتمع، وتيرموميترهُ، غير قادر على تجميع الأجزاء وإخضاعها إلى منطق سليم ومتسلسل يمكن تفسيره، ويمكن إرجاعه إلى أصول ذاتية أو موضوعية أو هما معا. إن المبدع العربي المعاصر لم يعد قادرا على ملاحقة ما يحدث. وهذا نوع من الاقتلاع. لأن جذور المبدع والمفكر ليستْ مرتبطة فقط بالعِرْقِ (القبيلة) بل بالوعي والفكر (القبيلة الإيديولوجية). إن ما يسميه عبد الله الديناصور "كابوس فانتازي لا معقول" ص(65)، يعبر عن الحيرة التي أصابت العقل، المنسجم، المنطقي، المطمئن. والاقتلاع ناجم عن الزلزال القوي الناس قذف بالجذور إلى الفضاء الواسع الخلاء. إن منطقا جديدا يتهيأ. وأن عالما جديدا يتكون. وأن أسئلة جديدة تجابه المثقف. أسئلةٌ إشكاليةٌ تتراكم فوق أسئلةٍ أخرى لم يتم حلها والإجابة عليها. ليس الاقتلاع العرقي هو الأهمّ هنا، لكن الاقتلاع الفكري، اقتلاع الوعي وأنظمته. عندما تطرح أسئلة الهوية فالصراع له محاوره وأطرافه وله أرضيته أيضا. أسئلة الهوية متصلة بالأنا والآخر. صراع الأقليات كما تجلى ذلك في رواية (سلالم الشرق) لأمين معلوف؛ صراع الأتراك والأرمن. سؤال الهوية متصل باقتلاع الهوية الدينية إلى جانب الهوية العرقية، ويتجلى ذلك في رواية إدوار الخراط (يقين العطش). فالأقباط المسيحيون كأقلية تضطر إلى إعادة طرح سؤال الهوية والدعوة إلى الاحتماء بالخصائص الدينية كسند وملاذ وحماية أو بالخصائص العرقية كسند وملاذ كذلك. إن للمبدع قدرة على التنبؤ. وبعد زلزال 11 شتنبر 2001م أثار اهتامي السقوط المدوِّي للأنظمة الغربية. لم يسقط البرجان العالميان الشهيران، بل سقط برج العقل، ولاذ الغربيون إلى سنداتهم العرقية والدينية. انهارت الأنظمة العلمانية، وكشفت عن لاوعي الحضارة، وهرول القادة إلى الكنائس، وفتش العامة في كتب التنجيم. وانهار العقل، تخبط في حيرته. رفعت دعوات الثأر باسم المسيح. وانتهزت الصهيونية العالمية والمحلية المستطينة الفرصة وكالعادة استفادت من الوضع ورقصت على جثت الأمريكان وجثت الفلسطينيين، ولاكتْ لحمَ الإسلام والمسلمين والعرب والعروبة أينما وجدوا. أوقدتِ الشموع في الكنائس، وأذرفتِ الدموع، وصوبت الخناجر والبنادق والصواريخ ،،، وآلات الجحيم الأرضي إلى الجسد الضئيل الذي لم يتعافَ من رضوض الحملة الإمبريالية والاستنزاف، ومن انتكاسات الأحلام والإحباطات الإيديولوجية، ومن انهيار القطب الثاني في المنظومة السياسية العسكرية العالمية. وتَمَّ إحياء فيلهيم رايش من خلال قانونه الجذري المتحكم المترسب في لا وعي الإنسان، إنه ما يسميه "الطاعون الانفعالي"، وهرع الجميع في كل اتجاه. هذا كله يقوله الرواية العربية المعاصرة. تقوله مجزءا ومجتمعا. تقوله عبر اللغة، وباللغة كلغة؛ لغة تظل هي أيضا في هذا العالم الكلياني، وفي نظام السوق، والقيمة، والمردودية، بلا قيمة. لا أحد يلتفت إلى صوت المثقف. لا أحد يقرأ الكتاب لأن زمن الكِتَابِ ولَّى تحت وابل الحملات الإشهارية والتشهيرية، ولأن العالم يسرع. ولأن العالم أُخِذَ بالسرعة وصارت الإله الذي اقتلع زيوس (  zeus) من قمته ومن انتظاره وبطئه، ومن تأملاته. لم تعد هناك (أولمبيوس) جديدة أو قديمة. الواقع اليوم أسطورة الأساطير. لهذا يبدو أن العالم ليس إلاَّ استعارة. وأن الكائن الاستعاري الذي تم تحقيره وإهماله وتركه للتيه والعزلة والخواء واللاجدوى واللاقيمة، والانتحار، وتم قذفه في المزبلة، يستحق اليوم من العالم وقفةً. إنه الكاتب، والمبدع، والمفكر، والدارس، والباحث.

من مظاهر الفجائعية كذلك انعزال المثقف في مكان بعيد متحاشيا العالم الخارجي. إلا أن الانعزال يشمل الذات المزدراة. الذات المصدومة، المنهزمة أمام واقع صلب كالصخر. الذات المهزوزة وقد مورس عليها أعنف فعل ممكن؛ إنه الإهمال والإقصاء وتحسيسها بالدونية وباللاجدوى. يلي الانعزال؛ أي تحاشي العالم والذات، الاعتزال. وهو أن تكون الذات رهينة حالة من التشنج الفكري أو حالة من الموت الإكلنيكي. موت الحركة بل موت الفعل والتأثير في/على الآخرين وفي/على الذات والجسد. هذه الحالة المزدوجة من المعاناة يرصدها محمد عز الدين التازي في روايته الصغيرة (ضحكة زرقاء). تمثل شخصية المثقف الانعزال بعيدا في غار حراء، في بيته. حالة قصوى من التردي، والإهمال. تخرج الشخصية الروائية من تجربة الاعتقال مفرغة من الداخل. بلا ثقة. بلا إيمان. بلا هدف. فتحصر الجسد الضئيل في غرفة منزوية كتب على بابها غار حراء. حتى الوظائف الاجتماعية تصبح عبئا يثقل على كاهل الذات. (الزوجة/الرفيقة) لعنة، لأنها الصوت الاجتماعي الذي يذكر الشخصية الروائية بوظائفها وبمسؤولياتها. حتى مسؤوليات حاجات الجسد تصبح سيفا موضوعا على رقبة الجسد المنهك. أما الشخصية الروائية الثانية التي تمثل الاعتزال، فإنها تنزوي في المصحة لا تأبه لشيء. تستسلم لمرضها، وتستسلم للانتظار. لا أمل لها، ولا وسيلة أمام الشخصية غير الانتظار. والوقت لا قيمة له. شخصية في حالة موت إكلنيكي. لا تبدي رأيا، لا تطلب من العالم غير السقوط في الهوة؛ هوة بلا قرار. إنه نوع من الإقصاء المضاعف. أو إقصاء الذات والعالم في آن، والعيش في المطلق الأبدي. إن اعتزال العالم والذات تعبر عنه رواية إلياس خوري (باب الشمس). الشخصية مسجاة على السرير. ماذا يجول في داخلها ؟ هل تحس بما يحدث للعالم من تغيرات ؟ هل تشعر بما يحدث لها من تحلل، وانزلاق نحو الهاوية ؟ إن الشخصية الاعتزالية إشكالية في حد ذاتها. إنها مجسَّمُ الصمت. نحتاج إلى لغة أخرى لمعرفة ما يجري في تلك المناطق البيضاء. تلك التي تقف في الما بين، في البرزخ بين الهنا والهنالك. منطقة جذَّابة، ساحرة تغري المثقف اليوم، ما دام الهنا لا يحتمل، في سرعة تحوله، في عنفه، في قسوته. وما دام الهنالك مجهول، والخيال متعب، والفكر مدان. هذه الحالة من البياض أو الوقوف في البرزخ تعبر عنها جدارية محمود درويش. ما بين الهنا والهنالك عالم من الذكريات، ومحاسبة شديدة للذات، ومحاكمة شديدة للعالم الما قبلي، وللتاريخ، وللوقت. لكن محمودا لم يكن منهزما كعادة الشعراء، كان عنيدا قوي الشكيمة، يحاجج، يقاوم، يدين. هنا الفرق بين الخطاب الشعري والخطاب الروائي. بل هنا الفرق بين الشاعر وبين الروائي. بين الوعي وبين الانفعال. قليلة هي الروايات التي كتبت بحدة وعي، وبتعقل. وكثيرة هي الروايات التي كتبت بالرؤيا الاستشرافية والنبوئية. ليس المجال هنا للمفاضلة، بل نحن أمام عالم منهار، وعالم آيل للانهيار، وذات تعي لحظات الانهيار، وتؤرخ لها، وتتوقع الكارثة قبل حدوثها. هنا الفرق بين سؤال الهوية وسؤال المصير. وهنا الفرق بين الكتابة الرؤيوية والكتابة التي تقاوم، تلك الكتابة التي تبحث عن مخرج للذات، وللعالم، ترى الهاوية تشيح عنها مؤملة النفس. كتابة لا تريد المساهمة في التدمير الشامل، التدمير النووي للكون، والذات، والفكر بل تُبْقي على بعض الأحياء وإن دمرت البناء.

في الكتابات الاعتزالية والانعزالية تعبير قوي على وضعية وحالة المثقف وقد تخلى عنه العالم، وقد أصبحت وجبة هامبرغر أهمَّ من قصيدة، والكلمة التي مزقت الصمت بداية الخلق عادت إلى مخابئها، وحوصرت في جحور ضيقة، لتعتزل الناس، لتعتزل بعيدا وترقب الانهيار الشامل، في عالم أبكم، أصم، أعجم. هذه العجمة تتحدث عنها رواية (ضحكة زرقاء) عندما يصبح التلفاز نافذة المريضيْنِ على العالم الخارجي، وعدستهم السحرية بل تصبح شاشة التلفزة العالم ذاته، ولا شيء خارج هذا الإطار. ترى فيه الذات المسجاة على السرير في قاعة الانتظار، ما حدث وما يحدث وما سيحدث. وتصبح الشاشة بديلا عن العالم عند الذات المنعزلة والاعتزالية. والعجمة هنا فقدان خيط ورابطة التواصل بين أفراد المجتمع، لأن المجتمع لا حقيقة فعلية له في تصور الذات الاعتزالية و الانعزالية. الواقع مؤلم، وقد أصبح جحيما كما الذات والعالم والآخر. إنَّ الاعتزال والانعزال يقويان هذا الإحساس، فيتناسى الشخص العالم والواقع والناس والذات والآخر ... حتى الانمحاء والإلغاء. الإلغاء المتبادل. ويهمل المجتمع المثقف، فيهمل المثقف المجتمع. وهذه الوضعية المزرية يعبر عنها محمد عز الدين التازي في روايته الصغيرة (ضحكة زرقاء)، ويتخذها تجليا إبداعيا لآثار حرب الخليج الثانية على المثقف الذي تأكد أن لا حول ولا قوة له. وأنه غير قادر على الفعل، عاجز أمام قوى خفية أكثر تأثيرا في مجريات الحياة والواقع والأحداث. إن هذا الإحساس العنيف يصيب المثقف في الصميم. وإن الاعتزالية والانعزال ردَّا فعلٍ على ما وقع؛ على الإهمال والتهميش والحبس والتحقير والإخصاء الرمزي. ثمَّ إن الاعتزالية والانعزالية ليستا إلاَّ صورة أخرى وإجراء آخر للدلالة على الرؤية الفجائعية، فالانتحار والتيه والنفي ورمي المثقف بين النفايات هي الوجه الآخر والصورة الأخرى للرؤية ذاتها، وليس أعنف على المثقف أيضا غير إهانته بقذفه مع المهملات كما في (سيدة المقام) وقذفه تحت عجلة سيارة كما في (تباريح الوقائع والجنون) لإدوار الخراط. فهل آن الأوان لإعادة الاعتبار للكاتب والكتاب، والمثقف والثقافة ؟ وهل آن الوقت لأن يقوم المثقف بدوره الاجتماعي والحضاري بعيدا عن التزلف، وارتداء قناع المهرج والهروب إلى كل الجهات عدا الجهة الحقيقية؟

ناقد أدبي ـ المغرب