يتناول الكاتب الفلسطيني هنا كتابا صدر حديثا حول "العرب والهولوكوست" من تأليف الباحث اللبناني المرموق الذي يعمل أستاذا في جامعة لندن. وهو كتاب يتناول من زاوية نقدية هذا الموضوع الشائك الذي اكتنفه سوء الفهم لسنوات، معرفا بجل المواقف التي تناولت الموضوع ومحللا حمولاتها السياسية المختلفة.

«العرب والمحرقة النازية» في رؤية إنسانية وعقلانية

خالد الحروب

كتاب (العرب والمحرقة النازية: حرب المرويات العربية – الإسرائيلية) والصادر حديثا بالفرنسية والأنجليزية والعربية للأكاديمي اللبناني جلبير الأشقر، من جامعة لندن، يجب أن يقرأه كل مهتم بالصراع العربي الإسرائيلي، وخاصة القيادات الفلسطينية والعربية. عمليا يقدم الأشقر في هذا الجهد الموسوعي المدهش رؤية نقدية لهذا الصراع ومنذ الربع الأول من القرن العشرين من زاوية إرتباك نظرة وتعامل العرب والفلسطينين مع المحرقة النازية واشتغالها، مع أصلها الأعمق اللاسامية الأوروبية ضد اليهود، في توفير مسوغات اخلاقية لقيام الدولة العبرية. نقرأ على مدار أزيد من خمسمائة صفحة تحليلا معمقا وجدليا ربما لكل ما له علاقة بالمواقف العربية من اللاسامية والمحرقة منذ مطالع الثلاثينات وحتى وقتنا الراهن. ونقرأ أيضا تحليلا موازيا يفكك إدراك تلك المواقف وكيفيات تفسيرها وتحويرها وتشويهها أيضا من قبل المؤسسة الإسرائيلية والمؤيدين لها من سياسيين واكاديميين واعلاميين. يتعامل الأشقر مع هذا الموضوع الحساس والمليء بالألغام بثقة بالغة وصرامة علمية كبيرة لا تُجامل ولا تنحاز للعرب أو تحاول تجميل مواقفهم، كما لا تتوسل رضى الإسرائيليين أو الغرب، ذاك أن موقف الاشقر إزاء مشروع الصهيونية العنصري في فلسطين رافض وجذري.

في "زمن المحرقة" وهو القسم الثاني من الكتاب بعد قسمه التمهيدي الأول الذي يؤسس ويفضل أستخدام تعبير "إبادة اليهود" على "الشوعاه" أو "الهولوكوست"، يؤرخ الأشقر ردود الفعل العربية على النازية ومعاداة السامية بين عامي 1933 و1947. ويقوم بذلك من خلال قراءة مواقف فئات اربع هي التغريبيون الليبراليون، والماركسيون، والقوميون، ودعاة الجامعة الإسلامية أو السلفيون. في القسم الثالث، "زمن النكبة"، يتابع المواقف العربية ويحللها منذ سنة 1948 ولحظة قيام إسرائيل وحتى الآن، وينقسم هذا الزمن إلى ثلاثة أزمان أولها "زمن عبد الناصر"، وثانيها "زمن منظمة التحرير الفلسطينية، وثالثها "زمن المقاومات الإسلامية".

يتعرض الأشقر ابتداء للسياسة النازية قبل المحرقة، أي خلال عقد الثلاثينات من القرن العشرين، والتي شجعت على هجرة اليهود إلى فلسطين تحديدا، وبشكل خدم جوهر الفكرة الصهيونية. آنذاك قاوم النازيون هجرة اليهود إلى الولايات المتحدة لأن ذلك قد يعود بالخطر والسمعة السيئة على دولتهم بسبب احتمال تأثيرهم في الأمريكيين، فيما تمركز اليهود في فلسطين لن يعني سوى انشغالهم بأنفسهم. وبشكل عام، وكما يقتبس عن توم سيغيف المؤرخ الإسرائيلي فإن "صعود النازيين كان مفيدا للحركة الصهيونية"، وهي الإفادة التي عبرعنها بشكل أكثر وضوحا وفجاجة رئيس الوكالة اليهودية في تصريح عام 1938 بالقول "لو كنت اعرف أن بالإمكان إنقاذ جميع الأطفال (اليهود) في المانيا بنقلهم إلى أنكلترا، بينما لا يمكن إنقاذ غير نصفهم بنقلهم إلى فلسطين، لأخترت الخيار الثاني – لأننا لا نواجه حساب هؤلاء الأطفال فقط، بل الحساب التاريخي للشعب اليهودي". وقد تلاقت الرغبة النازية والصهيونية بتهجير اليهود إلى فلسطين مع إغلاق الكثير من البلدان الغربية (سواء أوروبا أو الولايات المتحدة) ابوابها في وجه اليهود المضطدين في المانيا.

في نقاش المواقف العربية في "زمن المحرقة" يرى الأشقر أن الليبراليين التغريبيين والذين كانوا في قلب الحركة الإستقلالية العربية عارضوا النازية منذ البداية، ومن منطلقات ليبرالية وديموقراطية وإنسانية. وهو يدلل على تلك المعارضة بشواهد تاريخية وأدبيات مثيرة. والمهم أيضا أن تلك المعارضة لم تخفف بأي حال من الأحوال عداوتهم للصهيونية وهي عداوة ترتبت على معاداتهم للإستعمار ... وكان خط تفكيرهم الخط الأكثر إحراجا للصهيونية ... (ذلك) أن الشجب المزدوج للنازية والصهيونية قد ساعد على رفض شرعنة الأخيرة بالأولى: أي شرعنة المشروع الصهيوني عبر شجب بشاعة النازية". ويستعين الأشقر بدراسات إسرائيل غيرشوني، المتخصص في التاريخ الثقافي المصري في جامعة تل أبيب، والذي قام "بتفكيك المروية المهيمنة" التي تزعم أن غالبية المصريين كانوا مفتونيين بالنازية في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين.

ماركسيو العرب في "زمن المحرقة" وقفوا في مجملهم ضد النازية أيضا ولم يتولد في خطابهم أي معاداة ضد اليهود كشعب واتباع ديانة. فقد طالب شيوعيو فلسطين ومصر والعراق بدولة ديموقراطية في فلسطين، ورفضوا أفكار التقسيم واتهموا مفتي القدس الحاج امين الحسيني وقيادته بالسذاجة السياسية والفقر الأخلاقي بسبب تأييدهم لألمانيا خلال الحرب، حيث تلاعبت الصهيونية به وبهم واستخدمت تأييدهم للنازية في إثبات أن اليهود لن يكون لهم أمان من دون دولة خاصة بهم وعن طريق التقسيم.        

وحتى القوميون العرب الذين تتهمهم دراسات عديدة بالعنصرية والفاشية فإن القراءة المعمقة لطيف المواقف والآراء القومية والبعثية في "زمن المحرقة" يشير إلى تعقيد وتركيب ينفيان التبسيط المباشر. ويعود الأشقر إلى أعداد من اسبوعية الطليعة نشرت مقالات لميشيل عفلق ينحاز فيها ل "الثوري الشيوعي" ضد "المحارب الفاشستي"، في إشارة إلى هتلر وموسيليني، وهو كان قد رفض الإشتراكية الوطنية في المانيا وايطاليا لأنها تقوم على فكرة التفوق العرقي والتمايز بين الأمم. لكن ذلك لا يعني مجمل الموقف القومي، فقد وجدت خطابات قومية مؤيدة لألمانيا النازية ضد دول التحالف بتنويعات مختلفة. لكنها على العموم كانت قد تأسست على معاداة بريطانيا وفرنسا واستعمارهما للمنطقة، وتأييدهما للحركة الصهيونية – أي على مبدأ عدو عدوي صديقي.

ويرى الأشقر أن هذا المبدأ الذي سيتبناه الحاج امين الحسيني في تقربه لهتلر والمانيا النازية لم يعكس سوى سذاجة بالغة عند الحسيني الذي لا يتوان الأشقر في وصفه بالزعيم الأخرق الذي أضر بقضية فلسطين والفلسطينين أضعاف أضعاف ما قدمه من خدمات، خاصة وأن النازية كانت ضد السامية والساميين بما فيهم العرب والمسلمين ولم تكن ضد اليهود وحسب. هذا بالإضافة إلى هامشيته السياسية بخلاف الصورة التي يرسمها له الخطاب الصهيوني وكأنه كان القائد الفلسطيني الأوحد. والأهم من ذلك أن سياسة وممارسات الحسيني، الذي يفرد له متحف فاد ياشيم للمحرقة في القدس جدارا موسعا بإعتباره في نفس مرتبة هتلر، قد وفرت للخطاب الصهيوني مادة ثرية أستخدمت بأقصى ما يمكن من مبالغات للتدليل على "هتلرية العرب والفلسطينين". وفي هذه النقطة على وجه التحديد يجادل الأشقر بأنه من المهم التفريق بين من تعامل مع المانيا من العرب تبعا لتوافق مصالح ظرفي ووقتي مع الحفاظ على تباعدهم من الفاشية والنازية، وأولئك الذين ربطوا انفسهم ربطا جديا وتبعيا بدول المحور – مثلا التفريق بين الحبيب بورقيبة من جهة، وشكيب أرسلان والحاج أمين الحسيني من جهة اخرى.

لكن قبل "زمن الحسيني" يستعرض الأشقر مواقف دعاة الجامعة الإسلامية ويلاحظ تنوعها أيضا ابتداء من المعاداة التقليدية لليهود وامتدادا على طيف متسع يصل إلى الدعوة لتعايشهم مع المسلمين والمسيحيين في فلسطين. ونقرأ هنا اقتباسا مثيرا للشيخ محمد رشيا رضا يقول فيه "خير لليهود إذا كانوا يريدون أن يكثروا في البلاد العربية (فلسطين وغيرها) ويكونوا فيها احرارا آمنين متمتعين بما يتمتع به سائر اهلها من الحقوق المدنية والشخصية أن يتفقوا مع زعماء العرب انفسهم على ذلك من وسائل ومقاصد، وأرى أن ذلك ممكن ...". ورغم ان السلفية الإسلامية رأت ان الصراع على فلسطين هو حرب دينية، إلا أن السلفية الإسلامية نفسها وكما يرى الأشقر بحق "ليست عنصرية، على المستوى المذهبي على الأقل، لأن الدعوة الإسلامية في رغبتها في تحويل جميع البشر إلى إعتناق الإسلام، دعوة تتوجه إلى جميع الناس بلا تفرقة، والمفهوم النازي عن (الناس) الذين هم دون مستوى البشر غريب عنها تماماً".

ونلاحظ مع الأشقر أن تنوع المواقف العربية إزاء المحرقة في "زمنها" سوف يستمر في "زمن النكبة" لكن مع تطرفات إضافية مدفوعة بهول كارثة الهزيمة وقيام إسرائيل في قلب المنطقة العربية. وسوف ينحدر منحى الوعي الأخلاقي في النظرة إلى المحرقة بسبب الصراع مع إسرائيل وما رافق ذلك من نزعات لإنكار حدوث المحرقة على أرضية ثأرية وبهدف إيلام إسرائيل والإسرائيليين في أكثر الموضوعات الحساسة التي تشرعن قيام الدولة في نظرهم. فهنا ثمة تصاعد في الخطابات العربية والإسلامية التي تنكر الحرقة يتوازى مع تصاعد الإستخدام الذرائعي والممض من قبل اسرائيل للمحرقة نفسها في تسويغ جرائمها وحروبها المتلاحقة، وكذا الخطاب الإسرائيلي واليميني الذي يشبه العرب والفلسطينين بهتلر والنازيين. ويرى الأشقر محقا أن هذا التشبيه السخيف يقلل في جوهره من هول وفظاعة المحرقة وهتلر. وفي نفس الوقت يرى الاشقر ومحقا ايضا أن تشبيه إسرائيل وممارساتها بالنازية وزعمائها بهتلر، وهو تشبيه متكرر في الإعلام والخطاب العربي، ينم عن ضحالة فكرية وسياسة، تُفقد هذا الخطاب صدقيته وقدرته على الإقناع. فمهما بلغت الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل إزاء الفلسطينين وهي كبيرة ولا يمكن التقليل منها، فإنها لا تصل إلى بشاعة جريمة المحرقة وإبادة ستة ملايين يهودي. وكما أن الإقرار بجريمة ما في حق ضحية ما لا تسوغ لهذه الضحية ممارسة جرائم ضد ضحايا آخرين، فإن هؤلاء الضحايا الجدد لا يخدمهم إنكار ما تعرض له جلادوهم من جرائم في سياق دفاعهم عن انفسهم.

يأتي كتاب الأشقر في زمن نحن في أمس الحاجة إليه حيث يحتاج الخطاب العربي والفلسطيني إزاء الصراع مع إسرائيل إلى إعادة إنتاج معمق وفق رؤية أنسانوية مركبة لا تخلط بين القضايا، وتبتعد كليا ودفعة واحدة عن المعركة الدونكوشيتية في إنكار المحرقة، أو شيطنة كل اليهود وتحميلهم جرائم إسرائيل، والتمسك حتى في خضم اشد المعارك بقيم الليبرالية والمساواة وخوض الصراع على أسس أخلاقية وقيمية وليس عبر التخلي عنها.  

 

أكاديمي ومحاضر فلسطيني

khaled.hroub@yahoo.com