تكشف هذه الدراسة المنهجية المتأنية للباحث والأستاذ الجامعي الفلسطيني عن تتبع دقيق لتحولات الخطاب الشعري وبنية القصيدة معا في أعمال سميح القاسم الشعرية، وتنحث مصطلح «عمق التورط» لتكشف به عن تبدلات الشعرية عنده وتطور وقعها وبنيتها معا من قصيدة المقام إلى قصيدة الحال مرورا بقصيدة السياق.

«عمق التورّط» وشعرية القصيدة

من قصيدة المقام إلى مقام القصيدة في تجربة سميح القاسم

إبراهيم طه

مقدمة تقدّم وتؤخّر

في محاضرة عامة عن التجربة الشعرية لسميح القاسم في الكلية الأكاديمية في حيفا تحدّثت على عجل عن مراحل تطوّر القصيدة عند سميح القاسم. وقد أشرت في تلك الكلمة إلى اختلاف جوهري بين قصيدة الستينات والسبعينات، وبين قصيدته في العقود الأخيرة على مستوى البنية والشعرية. في نهاية المحاضرة توقّف القاسم قليلا عند هذه الإشارة، مذكّرا بأنّ الحكم على القصيدة في تلك المرحلة بمعزل عن معاينة العلاقة التي جمعت بين القصيدة والتاريخ لن يكون منصفا، وسيظلّ بالتالي موسوما بالنقص، لا يقول من الحقيقة إلا نصفها، وربما أقلّ من ذلك. بهذه الملاحظة يكون القاسم قد أشار إلى قضية هي في غاية الأهمية في الدرس الأدبي، ونعني بذلك أثر التاريخ على جمالية القصيدة؛ أو كما قال الأقدمون: أثر المقام على المقال. ونحن في هذه المقالة نؤثر مصطلح "تاريخ" على مصطلح "واقع" لما يحمله التاريخ من معنيي المقام العرضي، والسياق الطولي على حدّ سواء. فالتاريخ عندي يشمل كلّ أشكال المقام والسياق والواقع. ولا شكّ أنّ القاسم محقّ في ملاحظته هذه، لأنّ النصّ الأدبي لا يكتسب بنيته وجماليته النهائية إلا من ثلاث: (1) الطاقة الشعرية الموهوبة، هذه التي تولد مع الجينات والتي لا يمكن للطاقة المكتسبة أن تحلّ محلها بأيّ حال من الأحوال، ولو ظلّ يوصل الليل بالنهار وهو يقرأ! (2) الطاقة الشعرية المكتسبة بالقراءة المستمرّة والإنصات لنبض الواقع القريب والبعيد؛ (3) صورة العلاقة التي تجمع بين النصّ والتاريخ، وهو ما أسميّه بـ«عمق التورّط».

لقد برهن سميح القاسم على شاعريته التي تجري في جسده مجرى الدم في العروق في فترة مبكرة من تجربته الشعرية، مثلما أثبت قدرته، بنفس القدر بالضبط، على تلقيح الموهبة بالمعرفة المكتسبة على نحو ما نراه في كثير من دواوينه في العقود اللاحقة منذ أواخر سنوات السبعين. أما هذه الدراسة فتُعنى، بصفة حصرية، بعلاقة القاسم بالتاريخ العام (السياسي/ الأيديولوجي/ الحضاري)، هذا الذي أسميته «عمق التورّط»، حتى نبيّن أثر هذه العلاقة على شكل القصيدة وبنيتها وجماليتها. وفي تقديري لم تتطوّر قصيدة القاسم بهذه السرعة وبهذا العمق إلا حين أعاد النظر في علاقته بالتاريخ واعيا أو غير واع. وهذه المعادلة، التي تحتاج إلى أطروحة دكتوراة لدراستها، هي محور هذه المقالة. نؤكّد بداية على أنّ الشاعر ملزم بعلاقته مع التاريخ/ الواقع وليس حرا في التعامل معه أو تجاهله على مستوى المبدأ. الشاعر ملزم بالتعامل مع التاريخ، وحرّ في شكل علاقته بهذا التاريخ. وهذه الفكرة هي ما عبّر عنها ابن خلدون في مقدّمته، ثمّ جاء سارتر بعده بستة قرون تقريبا ليجعلها ركنا محوريا من أركان فلسفته الوجودية. وتأسيسا على ذلك، لا تناقش هذه الدراسة مسألة العلاقة بين الأدب والتاريخ على مستوى المبدأ والتنظير، وإنما تناقشها على مستوى التطبيق، أي هي لا تُعنى إلا بشكل العلاقة بينهما. ولا شكّ في أنّ هذه العلاقة هي علاقة تبادلية جدلية في محصّلتها العامة، وهذا بالضبط ما يعنينا في هذه الدراسة.

إن مقارنة سريعة بين بعض قصائد سميح القاسم في الستينات والسبعينات مثلا وبين كثير من قصائده المتأخّرة تُظهر بوضوح تام عمق الأثر الذي يتركه التلاقح بين التاريخ والنصّ الأدبي على بنية القصيدة وشكلها وفنيتها. في حالات كثيرة، خصوصا فيما يسمّيه بعضهم "قصيدة المناسبة"، لا يمكن أن يكون الشعر نشاطا منغلقا على ذاته، لا عند إنتاجه ولا عند استهلاكه. إنّ اقتحام التاريخ لعملية الكتابة لا بدّ أن يؤثّر على عملية التأويل فيما بعد. إذا اقتحمت "المناسبة"، "المقام" بلغة السلف من البلاغيين العرب أو "السياق" بلغة البلاغيين والباحثين المحدثين، عملية الكتابة فلا بدّ أن تؤثّر على طروحاتها الفكرية، مثلما تؤثّر على الأشكال والأساليب بنفس القدر. إذن، لا بد أن يظهر هذا الاقتحام في عملية القراءة والتأويل فيما بعد. وهذا جانب بارز مما يسميه المحدثون "النقد السياقي". لقد أولى السلف من البلاغيين والأدباء العرب هذه المسألة أهمية خاصة في الدرس اللغوي والأدبي والبلاغي والقرآني. فشاعت هذه المسألة بمسميات عديدة منها "لكلّ مقام مقال" و "مقتضى الحال" و "أسباب النزول" في الدراسات القرآنية.

وبوحي من جهود السلف والخلف في هذا المجال يمكن تصنيف قصيدة سميح القاسم في ثلاثة أنماط مركزية من حيث علاقتها بالتاريخ:

(1) قصيدة المقام: وهي القصيدة التي تتمحور حول قطعة محدّدة من التاريخ، وهي ما درجنا على تسميتها بقصيدة المناسبة، وهي تسمية غير دقيقة فيها كثير من التجنّي. تقوم قصيدة المقام على التزام النصّ، على مستوى المبدأ والتطبيق، بمعاينة شظية أو قطعة محدّدة من التاريخ، ليخرجها من خصوصية المناسبة إلى عموم الفكرة. تظهر سلطة التاريخ في قصيدة المقام أقوى من سلطة النصّ، تفرض عليه توجّها توثيقيا في الكتابة. وهكذا يُلزم الحدث المحدّد في قصيدة المقام الشاعرَ بأن يؤدّي دورا شبيها بدور المؤرّخ والموثّق. وكأنّ الشاعر بقصيدة المقام ينتقل من التاريخ إلى التأريخ، والتأريخ تسجيل وتوثيق، والتوثيق ذاكرة، والذاكرة جزء من هوية الشاعر. لا نحاول بأيّ حال من الأحوال، كما ترون، أن نمحو هذه التجارب بجرّة قلم. إذا كنا نفعل ذلك بحجة التأريخ في "شعر المناسبات" فجاز لنا أن نمحو جانبا كبيرا من موروثنا الشعري. ألم يكتب المتنبي شاعر العرب قصائد عظيمة في مناسبات (مقامات) خاصة، في مدح سيف الدولة أمير حلب، وكافور الإخشيدي حاكم مصر؟! والأمثلة أكثر من أن تعدّ وتحصى.

(2) قصيدة السياق: وهي القصيدة التي تعنى بسياق تاريخي ممتدّ يقوم الشاعر فيها بمعاينة أحداث تاريخية متراكمة على نحو إجمالي. تتعامل قصيدة السياق مع التاريخ كوحدة كلية ممتدّة تتشكّل من مجموع أجزائها. وهي تتعامل مع التاريخ كـ«جشتالت» كلّ متكامل ومنجز، يجتمع فيه الحدث إلى الحدث بالتفاصيل العامة فقط دون اللجوء إلى التفاصيل الدقيقة التي تفصل الحدث عن الحدث. إنّ تلاحق الأحداث التاريخية منذ عام ثمانية وأربعين من القرن المنصرم حتى هذا اليوم يشكّل سياقا تاريخيا ممتدّا متجانسا في مادته، وهذا ما يستلزم "ردّا" طوليا يغفل التفاصيل الدقيقة بالنسبة لسميح القاسم. في حين أنّ قصيدة المقام توجب ردّا عرضيا ينشغل بكثير من تفاصيل الحدث (المناسبة). يمكن للدارس أن يجد كثيرا من ملامح قصيدة السياق في قصيدته تغريبة، مثلا، من مجموعة (جهات الروح) (1983). وفيها يذكر القاسم شذرات من التاريخ قد أوصلته إلى حالة من حالات الغربة. وانظر من باب التمثيل أيضا مقطعا من مجموعتهPersona non grata  (شخص غير مرغوب فيه) (1986) يبدأه بقوله: "فيتو!" وينهيه بقوله: "وناقلات النفط تضحك" (ص 14) وفيه إشارة سريعة حييّة إلى أحداث تاريخية ومواقف مخجلة على مستوى الأمة العربية والعالم بأسره.

(3) قصيدة الحال: وهي القصيدة التي لا تنشغل بتفاصيل التاريخ، وإنما بروحه وأثره على ذات الشاعر. قصيدة الحال لا تُعنى بالتاريخ نفسه، لا على مستوى الجزء، كما في قصيدة المقام، ولا على مستوى الكلّ، كما في قصيدة السياق، وإنما بروح التاريخ، وهي المعنى العام المستخلص من التاريخ بعرضه وطوله. هي دلالات التاريخ وإسقاطاته وليست التاريخ بذاته، هي أثر التاريخ على ذات الشاعر. ومن هنا كانت قصيد الحال مشغولة بحال الشاعر. والحال ينبني بالتدريج والتراكم، ولذلك يتطلّب مسافة زمنية كافية لتختمر فيها أحداث التاريخ في ذاكرة الشاعر، ثمّ يقوم بتصفيتها وتنقيتها وتحريرها وتهذيبها وتثقيفها على نحو معيّن. وما يبقى منها من أثر، بعد كلّ ذلك، يساهم في تشكيل فكر الشاعر وتجربته ووعيه. وإذا حدّد الشاعر علاقته بالتاريخ على هذا النحو يكون بهذا قد أقام لقصيدته مقاما رفيعا. بهذا التدريج، إذن، يتدرّج القاسم في قصيدته من الحدث بمعناه العرضي، إلى التاريخ بمعناه الطولي، إلى أثر التاريخ بمعناه النوعي، من الجزء إلى الكلّ إلى الأثر. وهذا هو النمط الغالب على تجربة القاسم.

يشكل النمط الثاني، قصيدة السياق، حالة بينية تجمع بعض ملامحها العامة من قصيدة المقام وبعضها الآخر من قصيدة الحال. ولذلك لم نذهب في هذه العجالة إلا إلى تمثيل قطبي هذا التقسيم الثلاثي، ونعني بذلك قصيدة المقام وقصيدة الحال بشيء من الإجمال. فالحديث عن هذين القطبين يعطي صورة تقريبية عن قصيدة السياق كنمط توفيقي. يصعب في الحقيقة على الدارس، في بعض الأحايين، أن يفصل بدقة متناهية بين هذه الأنماط الثلاثة. وجهد الدارس الأدبي يظلّ تقريبيا في بعض الحالات، وإن اجتهد في بلوغ الدقة المتناهية. فلا يمكن مثلا أن تخلو قصيدة الحال من شظايا التاريخ بعرضه وطوله، مثلما لا يمكن أن تخلو قصيدة المقام أو قصيدة السياق من بعض ملامح قصيدة الحال، بما تحمله من بعد إجمالي وأثر واضح على الأنا الشاعرة. ولعلّ هذا التداخل هو، بصفة عامة، جزء من هوية الأدب الذي يرفض باستمرار وإصرار أن يستكين لصرامة الدرس العلمي. وهو بنفس القدر بالضبط جزء من طبيعة هذه الأنماط الثلاثة نفسها. فإذا كان الفرق بين المؤرّخ وبين الشاعر هو بين من ينشغل بالفعل وبين من ينشغل بردّ الفعل، أو بين من يسجّل ويوثّق وبين من يلخّص ويستخلص، بين من ينشغل بالحدث وبين من ينشغل بالموقف، إذا كانت هذه المقارنة دقيقة فإنّ روح الشاعر تغلب روح المؤرّخ حتى في قصيدة المقام. إذن، يبقى الحكم على انتماء القصيدة إلى أحد هذه الأنماط الثلاثة أمرا قياسيا، أي بقياس منسوب التاريخ مقارنة بمنسوب الشعر في داخل القصيدة الواحدة. بقدر ما يقتحم التاريخ مادّة القصيدة بمعطياته الزمكانية والبشرية تقترب القصيدة من المقام، وبقدر ما يتراجع التاريخ ويتلفّع بالضباب كذا تقترب القصيدة من الحال.

قصيدة المقام

يمكن في الحقيقة تصنيف الظروف السياسية والفكرية والحزبية والأيديولوجية في خمسة محاور مركزية تشكل في مجموعها الكلي التاريخ الذي ولدت فيه هذه الموجة العابرة من شعر القاسم، وهي على النحو التالي من الخاص إلى العام:

(1) المحور الشخصي الفردي: ملاحقة الشاعر سميح القاسم، الانتماء الحزبي السياسي الناشط في الحزب الشيوعي، محاولات التضييق علي القاسم في قوت يومه، السجن، الإقامة الجبرية، الاعتقال المنزلي، الطرد من العمل، التهديد بالقتل.

(2) المحور العام للأقلية الفلسطينية: علاوة على ما تقدّم، عانت الأقلية الفلسطينية في إسرائيل من جملة من السياسات الضاغطة والقاهرة، وعلى رأسها مصادرة الأراضي والتمييز العنصري بأشكال مختلفة.

(3) المحور الفلسطيني عموما: أثر حرب 1967 على الوعي الفلسطيني حصرا والعربي عموما، وبداية الانتقال من فكرة القومية العربية إلى الوطنية الفلسطينية.

(4) المحور العربي: المدّ القومي العربي في الستينات أثر حرب 1973 وما ولدته من صدام مع الأنظمة العربية بالجملة.

(5) المحور العالمي: حركات التحرّر العالمي على خلفية الصدام "البارد" بين الإمبريالية والاشتراكية.

ولا شكّ في أنّ كلّ هذه المحاور مجتمعة قد تفاعلت معا وشكلت التجربة العامة التي أخذ سميح القاسم يتحرك في داخلها وعلى أساسها. وقد برزت كلها بصفة خاصة في مجموعته (الحماسة) بأجزائها الثلاثة، ولذلك اعتبرناها نموذجا لقصيدة المقام، وهو مصطلح أعمّ وأشمل من مصطلح "شعر المناسبة" الذي علق في الأذهان بصورة سلبية. وهل هذا يعني على مستوى المبدأ والنظرية أن الأدب يمكنه أن يفلت من المقام أصلا؟ لا، غير أن ما نعنيه بقصيدة المقام هو أثر المقام بكل مستوياته في عملية الكتابة وغلبته على المؤثرات الأخرى التي تدخل في النشاط الكتابي. ففي حين احتكم القاسم لسلطة المقام السابق في بعض من قصائد الستينات والسبعينات، كان في العقود الثلاثة اللاحقة قد اجتهد كثيرا للتحرّر بصفة تدريجية من سلطة التاريخ، ليجعل الغلبة للتجربة الذاتية التي تستوعب هذا التاريخ؛ تعيد صياغته تهذّبه تنقّحه تنقّيه وتحرّره من عوارضه. بهذا المفهوم يمكن القول بأنّ قصيدة المقام هي هذه التي كان المقام فيها قد فرض نفسه على التجربة قبل أن يتمكن الشاعر من أن يلتقط أنفاسه. وقد كان لهذه المداهمة أو الغزو المفاجئ أثر بالغ على شكل الكتابة، وليس على مضمونها فقط. إنّ قصيدة سميح القاسم في هذه المرحلة كانت محكومة في تكوينها ومعانيها بالتاريخ العام الذي تلاحقت أحداثه بوتيرة عالية وسريعة، ولا بدّ أن نذكّر بأنّ كثيرا من هذه الأحداث كان موصولا بمسألة الهوية والوجود. وهكذا كان "لا بدّ" في نظر الشاعر أن "تنعكس" هذه الظروف والأحداث في مضامين القصيدة وفي بنيتها وأسلوبها على حدّ سواء.

على مستوى الشكل والبنية

(1) قصيدة المقام أفقية في اتجاهها (Linear)، تبدأ بعرض "الأزمة" وطرحها على نحو يستدعي ردّا ملائما ثم تختتم بتذييل يحمل حكمة خاصة أو عامة على نحو ما نراه في كثير من قصائد الحماسة مثلا.

(2) المخزون البلاغي من مجاز وكنايات وتشبيهات واستعارات يستند إلى الموروث الشعري القديم الحادّ برصانته الساطع بصخبه.

(3) الخطاب الصريح في إفعل ولا تفعل، الأمر الذي يساهم في كشف ما يمكن/ يجب أن يكون مستورا من معان ودلالات.

(4) الإيقاع السريع في الأبيات القصيرة المتلاحقة. وهذا الإيقاع يتناغم مع وتيرة الأحداث التي يرصدها الشاعر في قصيدة تلك المرحلة اللاهثة.

(5)  تحديد هوية كلّ من المرسل والمرسل إليه بدقّة. وهكذا يساهم تحديد طرفي الخصومة في فهم سريع ومباشر لمعاني القصيدة. فإذا عرفنا هوية المتخاصمين اهتدينا إلى أسباب الخصومة، وإذا اهتدينا إليها سهل علينا أن نتّخذ منها موقفا. وهكذا نكون قد استهلكنا القصيدة قبل أن ندخل معها في علاقة حوارية.

(6) كثير من المفردات في قصيدة المقام معيارية مسحوبة من القاموس بما تحمله من معان، كقوله: سخط، صاعقة، أسى، جرح، قيد، دم، أنياب، جلاد، قسوة، الردى، ثورة، قاتل، عذاب، نار، الموت، عامل، فلاح، مقاتل، ظالم، قاوم، سجن، سارق، لينين، حزبية شيوعية، الأرض، إعصار، جيوش، لصوص، غضب، فاشية، صهيونية، أممية، نازية، صرخة، الفجر، الشمس، النصر، الكفاح، ثوار، العروبة، المستعمر، كفاح، ظلم، الحرب، رجعية، إمبريالية، عدو، وطن، المحتل، التعذيب، ضحايا، المقهور، الضعيف، نضال، المذبح، جراح، المذبوح، القتلى، موت، قتل ... وهذا القاموس اللغوي يساهم في ثلاثة: تحديد طرفي الصراع على المستوى الأيديولوجي: الأممية اللينينية الشيوعية مقابل الفاشية النازية الإمبريالية؛ تحديد طرفي الصراع على المستوى القومي: العروبة مقابل الصهيونية؛ تحديد طرفي الصراع على مستوى القيم العليا: الخير مقابل الشرّ. وبما أنّ الشرّ لا يمكنه أن يقهر الخير، جاءت قصائده موسومة بالتفاؤل والتحدّي والأمل.

هكذا يجعل القاسم من الشعر سلاحا فتاكا يقطر من جوانبه الدم، وقد يكون في بعض السلاح الدامي كثير من الجمال، وقد يكون في كثير منه بعض ذاك الجمال. مرّة أخرى، نعود إلى مقاييس الجمال والإبداع في الشعر، وقد لا تكون في صخب اللغة وتشبيهاتها واستعاراتها فقط، وإنما في قوّة الهدوء الطالع من الصورة المستفزّة أيضا. وهي في البنى والأشكال الذكية والمركبة بعناية. فإذا أصررنا على دراسة الأدب من داخله معزولا ومقطوعا عن أيّ سياق، على نحو ما كانت تدعو إليه حركة النقد الجديد والبنيوية مثلا، صار الأدب في عمليتي الكتابة والقراءة ضربا من ضروب اللهو والعبث الذهني. والأدب، كما نعرفه بالتجربة المجرّدة والخبرة العلمية، كأيّ نشاط إنساني هو "شظيّة" أو قطعة فسيفساء متعالقة ومتداخلة بالقطع الأخرى. وهكذا يكون القاسم مصيبا في ملاحظته، لأنّ عزل النشاط الإبداعي عن التاريخ إلى هذا الحدّ يسيء إلى عملية القراءة والتأويل والتواصل التي هي غاية كلّ إبداع. غير أنّ المشكلة ليست في عزل النص عن التاريخ على مستوى المبدأ، لأنّ هذا الأمر غير وارد لا نظريا ولا عمليا، وإنما في مدى الاحتكام والخضوع لاستفزازات هذا التاريخ، وبهذا نختلف مع جانب من جوانب الملاحظة التي تقدّم بها سميح القاسم. إذا كنا نخضع القصيدة للتاريخ فلا بدّ أن نبرّئ ساحة الشاعر، ولو بصفة جزئية، لنتّهم التاريخ. ولا أقول ما أقول لا مازحا ولا ساخرا بطبيعة الحال. إنّ "تبرئة" الشاعر "واتهام" التاريخ يعني ثلاثة أمور متعالقة هي في غاية الأهمية بالنسبة للدرس الأدبي:

(1) قد لا تكون "المشكلة" على مستوى المبدأ في قدرات الشاعر نفسه وإنما في قبوله المرحلي المؤقّت، مع سبق الإصرار والتعمّد، لفكرة التورّط في عمق التاريخ، أو "الطاعة" المباشرة لسلطان هذا التاريخ بما يشمله من مقام وسياق وواقع.

(2) ليست عملية الكتابة، ولا القراءة بعدها، نشاطا معزولا عن التاريخ بل هو محكوم بالضرورة، بالقوّة والفعل، بهذا التاريخ على اختلاف أشكاله.

(3) كلما كان المقام ضاغطا قاهرا وكلما أذعن له الشاعر وخضع لسطوته الآنية، كذا جاءت قصيدته مشاكسة حماسية مباشرة في خطابها. وقد حرص القاسم على تأكيد هذه المثلية في العلاقة بقوله: وأصيح بالجلاد: زدني قسوة         زدني .. فمن عرف الهوى ما تابا.

ونحن وإن كنا نتحدّث عن تجربة سميح القاسم على وجه الخصوص في هذه المسألة، إلا أنّ كلّ ما يقال ينسحب على جميع شعرائنا بمن فيهم محمود درويش، وهو الذي كان يحاول أن يتبرّأ من بعض تجاربه الأولى في مناسبات عديدة. الحقيقة أني لا أرى ضرورة، على الإطلاق، لا إلى إعلان براءة ولا حتى الشعور بالارتباك أمام تلك التجارب. ولذلك تبدو بعض الألفاظ التي أوظّفها في هذا السياق، "تبرئة واتهام"، في غير محلها، فلسنا أمام جنحة أو جناية أو خطيئة. وما يشفع لهذه التجارب أمران: أولهما احتواؤها على أدوات تعويضية يمكنها أن تكون "بديلا" عن غياب العمق "الكافي" في بنية القصيدة، وثانيهما اقترابها من الذائقة العامة. وهذه الشعبية هي من ضرورات التواصل مع القاعدة، خصوصا في فترات تاريخية محدّدة. والشاعر المنتمي لا يستطيع أن يصمّ أذنيه بالكلية عن حاجة العامة من الناس إلى شعر ينفذ إلى قلوبهم مثلما ينفذ إلى عقولهم. 

قصيدة الحال

في قصيدة "أمّ الجليل" (أكتوبر 1966) في (الحماسة) يتحدّث القاسم بوضوح تامّ عن وقائع تاريخية باع فيها رجال الدين من العملاء والسماسرة أرضهم للسلطات الإسرائيلية؛ في متن القصيدة وهامشها على حدّ سواء. أما في السربية فهو يتحدّث بصفة إجمالية عن حالة النفاق التي يعيشها هؤلاء العملاء دون أن يلجأ إلى هذه التسمية أصلا مثلما فعل في "أمّ الجليل".

أم الجليل – الحماسة ج 2

-  الزمكانية محدّدة: الوطن بعد 1948               

-  الشخوص محدّدة: العملاء من رجال الدين المسيحي والإسلامي (بدليل الكنائس والمساجد) والسلطة الإسرائيلية (يهوذا)

-  الحدث محدّد (بيع أراض وسمسرة)                  

-  الضحية محدّدة: الأرض والإنسان                 

سربية خذلتني الصحارى

-  الزمكانية غير محدّدة بالدقّة والضبط

-  الشخوص هم، ومن هم بالضبط؟

-  الحدث عامّ: نفاق ومعايير مزدوجة

-  الضحية هي، ومن هي بالضبط؟

يظهر التاريخ في أمّ الجليل بزمكانيته المحدّدة وشخصياته ووقائعه ونتائجه. وهكذا تكون هذه القصيدة قد التصقت بالتاريخ والتزمت به، وهي وإن صلحت في حالات مشابهة، فهي لا تصلح في الأصل إلا لهذه القطعة من التاريخ أولا وقبل كل شيء. أما المقطوعة في السربية فلا تتحدّث عن قطعة محدّدة من التاريخ، وبالتالي جاءت محرّرة من تبعات هذا التاريخ، وإن كانت تشير بصفة تقريبية إلى ممارسات تاريخية من باب الإشارة أو الإحالة لا من باب التصريح. والتاريخ قي هذه المقطوعة يظهر بنتائجه لا بوقائعه العينية، أو هو يظهر بروحه على النحو الذي استوعبه الشاعر نفسه. وهكذا نرى التاريخ في سربية خذلتني الصحارى عبر ناظري الشاعر، أي على النحو الذي يلخّصه الشاعر ويقدّمه لنا. أما في الحماسة فيظهر التاريخ "كما هو"، كما تحقّق بمعزل عن رواية الشاعر له. التاريخ في الحماسة حقيقي وفي خذلتني الصحارى مجازي. وهو فيها موضوعي أما في خذلتني الصحارى فهو ذاتي. والفرق بينهما كبير يترك أثره على وسائل التعبير وجمالية القصيدة.

لقد تطورت قصيدة سميح القاسم من اعتماد الموروث الشعري، في رصانته اللغوية والبلاغية والخطابية، أساسا للتعبير الشعري إلى اعتماد الأدوات الشعرية "الهادئة" على مستوى اللغة والبيان والبنى والأشكال. وهذا التطور يعني انتقالا من النقيض إلى نقيضه. وما كان هذا الانتقال يتحقّق على النحو الذي نراه في قصيدة سميح القاسم إلا بعد التغيير الحادّ في النظر إلى التاريخ (المقام/ السياق/ الواقع). وسميح القاسم في بعض قصائد الستينات والسبعينات كان غالبا ما يلتزم بالتفاصيل الدقيقة للتاريخ بكلّ أبعاده، وغالبا ما كان ينشغل بكلّ مادة الأيديولوجيا من مناسبات تاريخية، فتراه يكتب للمرأة في عيدها، لأهل كوبا في تمرّدهم على الإمبريالية، في يوم النصر على النازية، وفي يوم الأرض.

انتقل سميح القاسم من الكتابة عن المناسبات العينية، التي شكلت كلّ واحدة منها مجمل فكره الأيديولوجي آنذاك، إلى الكتابة عن أثر المناسبة. من التاريخ نفسه إلى أثر التاريخ على قلبه وعقله. بهذا التغيير الجوهري انتقل القاسم من قصيدة المقام إلى قصيدة ذات مقام سام، إلى قصيدة يبني لها مقاما يمجّدها فيه. وهذا الفرق الكبير أحدث ثورة في التجربة الشعرية عند سميح القاسم. إنّ إعادة النظر في علاقة القصيدة بالتاريخ لا بدّ أن تجرّ في أثرها تغييرا على مستوى الشعرية بما تعنيه من مقومات الكتابة الإبداعية. عندما يستجيب الشاعر مباشرة إلى نداء الحدث/ المناسبة غالبا ما تأتي القصيدة موسومة بقوّة الحدث وزخمه، وحين يترك الشاعر الحدث أو المناسبة حتى "تبرد" غالبا ما تأتي القصيدة أكثر هدوءا، وبالتالي قد تكون أكثر قدرة على النفاذ والتأثير. أنظر قوله مثلا:

حياتي العسيرة مكلفةٌ. يا أخي وعدوّي الفقيرَ

وموتي السريع المفاجئُ .. مكلفْ

أنا متأسّفْ

لأني ولدتُ بغير نظام البنوك وأسواق مال العواصمْ

وبورصة موتيَ مسقط رأسي

فلا لأعيش ولدتُ. ولكن، لتقطع رأسي

إذا، سأقاومْ

ومكلفةٌ، يا نقيضي، حياتي

وموتيَ مكلفْ 

إذا. متأسفْ

أنا متأسفْ! (سربية أنا متأسفْ! ص 7-8).

إنّ التأسّف للمحتلّ هو سخرية قاطعة بهدوئها ولهذا كانت، في ظني وتقديري، أنفذ وأبلغ وأقوى من الغضب الساطع في قوله: فليفهم المحتلّ أنّ عذابنا           نار تحيل فلوله أحطابا

في كثير من مجموعاته التي ظهرت في العقود الثلاثة الأخيرة تبدو علامات بارزة لاستراحة المحارب، ولا أقول استسلامه. فبالرغم من أنّ لحروفه نصالا جامحة من العشب والنار ولصوته خيولا إلا أنّ الشاعر يبدو "متعبا" يطمح في استراحة على صدر شاطئ الأمان بعد أن أنهكته السباحات مع القرش والأخطبوط وقناديل بحر الظلام. لو تأملنا المقطع التي استعيرت منه تلك الاستعارات، وهو من سربية "خذلتني الصحارى" (ص 8 - 10)، لوجدنا فيه كثيرا من المقامات والمناسبات التي عددناها، والتي شكلت السياق العام لقصيدة الستينات والسبعينات. لم يتغيّر الواقع كثيرا في العقود اللاحقة فبقيت أغراض القصيدة هي الأغراض ذاتها، على وجه التقريب، وإن كانت أشكال التعبير قد تبدلت بصفة جوهرية. إذا كانت المعاني مطروحة على قارعة الطريق، كما قال الجاحظ، فيظلّ الحكم على جمالية القصيدة متعلقا بالأسلوب. في سربية خذلتني الصحارى، على سبيل المثال، يذكر القاسم كثيرا من الهموم التي كانت تؤرّقه في الحماسة. في المقطع المذكور من هذه السربية:

(1) في لجة البحر قرش واخطبوط وقناديل بحر الظلام تنثّ سموما

(2) المنقذون ما زالوا سكارى ارتشوا وباعوا القضية

(3) التعب والإنهاك

(4) الشوق إلى استراحة مؤقتة ثم ثابتة بموت قرير

إنّ المتأمّل في هذا المقطع التمثيلي يدرك بأنّ ذاك الصوت الجهوري المجلجل والمتوثّب قد خفت وصار يتحوّل من الصدام الدامي إلى نوع من أنواع الرجاء الهامس: إحمليني، أنقذيني، هاتي يديك. وصار هذا المحارب العنيد يحتاج إلى من يحمله بعد رحلة طويلة من التعب. حتى عنوان السربية "خذلتني الصحارى" هو نذير شؤم، فما زال هناك خاذل يخذل، وهم سلاطين العرب أولا وقبل كل شيء، وما زال هناك مخذول يُخذل، وهم شعب فلسطين، وما زالت الصحارى تنذر بالنهاية، وهي كناية عن أمة العرب. وقد كنّى عنها بالصحارى بجامع العلاقة المكانية، فالصحراء منشأ العروبة، وهي التي قال عنها الشاعر "يا التي رملها من خلاياي". في هذه السربية لا يتحدّث القاسم عن حدث تاريخي محدّد بعينه أو شظية تاريخية ولا عن تاريخ ممتدّ بأحداث متراكمة أو متلاحقة، وإنما عن أثر هذا التاريخ على حالته ومشاعره. هذا الأثر الذي أتعبه وأنهكه. غير أن التحوّل من الصدامية الدامية في الحماسة إلى الرغبة في الراحة، لا يعني أبدا على مستوى المبدأ تراجعا في الفكر، بل تغييرا في طريقة التعبير عنه. فالغضب يمكن أن يعبّر عنه بالشتيمة ويمكن بالمسامحة أو بالصمت أو بوسائل أخرى كثيرة. وكلها لا تعني محو الغضب وآثاره أو الهروب منه بقدر ما تعني الدخول في تجريب وسائل جديدة للتعبير عن هذا الغضب المتواصل والمتراكم منذ عقود. ألا يكون الصمت أحيانا أبلغ من الكلام؟ ألم يصدق الجرجاني حين قال قوله الشهير "ترك الذكر أفصح من الذكر"؟ في هذه السربية يلجأ القاسم إلى أدوات تعبيرية كثيرة تختلف في جوهرها عن تلك التي اعتمدها في الحماسة أبرزها:

(1) الكناية المستحدثة: المنقذون سكارى (ص 9) (الكناية المؤسّسة على مفارقة). المنقذ بمعنى الاحتراف والامتهان هي لفظة حديثة، وهي كناية عن الأنظمة العربية أولا وقبل كل شيء (وربما العالمية ثانيا؟). غير أنّ "جيش الإنقاذ" هذا، من كان مسؤولا أمام الله تعالى وأمام الرعية وأما الإنسانية عن إنقاذ الأمة، كان جماعة من السكارى الذين فقدوا البوصلة، فكيف ينقذون من الغرق؟! ومن هنا كانت هذه الكناية قد قامت على آلية جمالية أخرى وهي المفارقة الحادّة بين الواقع والتوقّع. وهذه الصدامية بين الواقع (واقع السكر) والمتوقّع (الإنقاذ) محبطة بحدّ ذاتها حتى قبل أن نصل إلى نتيجتها الفعلية. أليست كناية المفارقة إذن أنفذ من كلّ الشتائم التي قد نكيلها في وجه ولاة الأمر فينا؟!

(2) التناص: جمجمة الشنفرى (ص 24-25). وحين يستعين القاسم بالشنفرى، ويستذكر لاميته الشهيرة وما فيها من قيم جميلة، وحكم خالدة، فلا بدّ أن يشير إلى مواطن اللقاء والقواسم المشتركة بينهما. وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر فلاميّة الشنفرى تسمّى "قصيدة الصحراء" أيضا، ما يحيلنا إلى عنوان هذه السربية. الصحراء والشنفرى هما من الموتيفات المركزية في شعر سميح القاسم. في هذا التناص الذكي لم يعبّر القاسم عن روحه المتوثّبة للثأر من "العبيد العبيد والعبيد الذين سادوا" بدقّ الطبول واستلال السيوف، على نحو ما فعله في الحماسة، وإنما بتبنّي جمجمة الشنفرى. ويبدو أنّ هذه الجمجمة هي أقوى وأنفذ من كلّ طبول الحرب الصاخبة التي تصمّ الآذان، وأحدّ من كل السيوف المهنّدة. وقصة الشنفرى تقوم على ثلاث قيم عظمى يتبناها القاسم في السربية: (1) دفع الظلم، خصوصا إذا كان ظلم ذوي القربى، لأنّ الساكت عن الحقّ شيطان أخرس، (2) التحدّي والإقدام الذي يعني جرأة الفرد للوقوف في وجه المجموع، (3) التشرّد والصعلكة التي تتأسّس على إيمان عميق بحقّ. والشنفرى بهذه الثلاث التي تقدّمت صار قويا قادرا حتى بعد موته، ومن هنا جاءت قصة الجمجمة. وقصة جمجمة الشنفرى هي رمز للحقّ الذي يمنح الحياة للموتى، فما معنى أن يقتل الشنفرى بجمجمته، وهو القتيل بنفسه، الرجل المائة من بني سلامان من قبيلة الأزد اليمانية؟!

(3) القناع الجزئي: في هملت العربي أنا (ص 51-54). إذا انتقلنا إلى قوله "هملت العربي أنا" لوجدنا فيه تناصّا واضحا، إلا أننا نعتبره قناعا جزئيا لأنه يصل في هذا التناص إلى حدّ التقمّص التام لشخصية هاملت، ينطق بلسانه كما لو كان هو هاملت نفسه. والطريف في الأمر أنّ ثمة علاقة بارزة تجمع بين الشنفرى وهاملت. فهاملت أيضا شعر بظلم ذوي القربى الذين قتلوا والده كما حصل للشنفرى نفسه. مع الإقرار باختلاف بسيط في النهاية، كان كلاهما قد قُتل في نهاية المطاف. وقصة هاملت أيضا تتشابه من هذا المنظور في قيمها مع قصة الشنفرى. وهكذا يكون القاسم قد أثرى معاني قصيدته بنصوص من حضارة العرب والعجم على حدّ سواء. وبهذا التنويع يؤكّد القاسم، بصفة إيحائية، على إيمانه العميق بتعالق الحضارات وتفاعلها.

(4) الأنسنة الغائية: الأنسنة في المجموعات الشعرية المتأخرة ليست أداة شكلية، أو وسيلة تعبيرية مجرّدة، وإنما هي جزء من الغاية، من الدلالة ذاتها. لو نظرنا إلى الأنسنة المطوّلة الواردة في المقطع الذي يبدأ بقوله "تلك مملكة النمل" وينتهي بقوله "وانتهى للزوال انتهى للزوال" (69-72) من خذلتني الصحارى لوجدناها ترتفع بالأرضي إلى الروحي النابض بالحياة، ولوجدناها تمزج بين الجغرافيا والروح مزجا جميلا، هو في الأصل مزج بين طرفي الاستعارة المشبّه والمشبّه به. وهذا المزج الجميل يسم العلاقة بين التاريخ والجغرافيا وبين الشاعر بالحبّ الأصيل. غير أنّ هذا الحبّ، ككلّ حبّ جميل، لا يروق لبعضهم، فينتهي على نحو ما ينتهي بكثير من التراجيديا الممزوجة ببعض الرجاء!

ولا شكّ في أنّ كثيرا من هذه الأدوات التعبيرية يحلّ التخفّي محلّ الظهور، والصمت محلّ الصوت، والسكينة محلّ اللهاث. وفي ذلك انتقال من إيقاع سريع جامح إلى هدوء نافذ. ولو قارنا ما قاله سميح القاسم عن العملاء والمستعمرين والمتخاذلين في (الحماسة)، وما قاله عنهم وعن أمثالهم بعد ما يقرب من ثلاثة عقود من الزمن في (خذلتني الصحارى) مثلا لوجدنا، على مستوى انتقاء الألفاظ، أنّ السخرية المرّة، التي حلّت محلّ الشتيمة الغاضبة، كانت أشدّ مضاء. وهكذا يكون القاسم، ككلّ شاعر متميّز، قد أثبت أنه أكبر من اللغة ذاتها على مستوى المفردات وعلى مستوى التشكّلات البلاغية والفنية. وقد قلت هذا الكلام من قبل وحسبته قاعدة قبلية يعرفها كلّ مبتدئ في النقد الأدبي. إن بقي الشاعر في إطار اللغة المعيارية القاموسية في معانيها الملزمة، أو حتى اللغة الشعرية المأنوسة، فقد حكم بذلك على نفسه بالنثرية المبتذلة والتكرار والاجترار. وكلّ شاعر يحترم قلمه لا بدّ أن يسعى لتجاوز اللغة. وعلى وجه العموم، يسعى الشاعر المبدع جاهدا بغير كلالة أو ملالة إلى تجاوز اللغة في أربعة مسارات مختلفة: 1) تجاوز القاموس اللغوي المعياري وهو شرط قبلي للانتقال من الحقيقة إلى المجاز وهذا بداية الشعر. فالقمر، مثلا، في اللغة القاموسية المعيارية يعني شيئا واحدا ملزما، أما في الشعر فلا بدّ أن يتجاوز الشاعر هذا المعنى القاموسي المعروف ويحمّله معاني جديدة تختلف من شاعر إلى آخر. 2) تجاوز الشاعر لقاموسه الشعري باستمرار، وهو من شروط التجديد والتطور في التجربة الشعرية عند الشاعر. فحين يتآكل مجازه الحديث أو المستحدث، بما يعنيه المجاز من تشبيهات وكنايات واستعارات وصور، ويصير حقيقة بمرور الزمن فلا بدّ أن يتجاوزه الشاعر إلى مجاز جديد وهكذا. هذا بالضبط ما قصده الباحث الشكلاني المعروف فكتور شكلوفسكي في حديثه عن الإغراب Defamiliarization و"كسر الأتمتة"Deautomatization  وإذا افترضنا أنّ القمر في تجربة سميح القاسم يعني الأمل، مثلا، فلا بدّ أن يتجاوز القاسم هذا المعنى، في تجاربه الشعرية اللاحقة، ليحمّل القمر إيحاءات ودلالات جديدة. 3) تجاوز الشاعر للقاموس الشعري المتراكم في تجارب الآخرين من السابقين والمعاصرين، وهو من شروط التمّيز حتى يصير مبدعا لا مقلدا. فإذا كانت التجارب المتراكمة ترى في القمر رمزا للجمال، وهذا ما حدث، فلا بدّ أن يتمرّد الشاعر على هذا المعنى الذي تآكل بكثرة الاستعمال والتداول، ويطرح معنى بديلا، وقد يكون على النقيض من المألوف، كأن يجعله رمزا للقبح. 4) تجاوز اللغة إلى البنية والشكل وما يعنيه من آليات كالمواجهات والأضداد والمقارنات والمفاضلات والأقنعة والتناصات والحوارات والصور المستفزّة. وهذا التجاوز يعني أن تتمحور شعرية القصيدة حول البنى والأشكال وليس في اللغة بما في ذلك المجازية على نحو ما بيّناه في "سقوط العصمة" أيضا. وقد أشرنا إلى هذه التجاوزات في تلك المقارنة السريعة بين قصيدة المقام، على نحو ما ظهرت في بعض قصائد الحماسة مثلا وبين مجموعته (خذلتني الصحارى) كمثال على قصيدة الحال. وهكذا إذن يظلّ سميح القاسم، كشاعر مبدع، متوترا مستنفرا في مسيرة بحث لا تتوقف وتمرّد لا يستكين حتى على ذاته، على فكره وعلى قاموسه اللغوي الشعري على حدّ سواء. 

إذا كان لا بدّ من إجمال

إنّ بعضا من شعر سميح القاسم في مراحله الأولى حتى سنوات السبعين، على وجه التقريب، كان يتأرجح بين قصيدة المقام وقصيدة السياق على وجه العموم، في حين أنه بدأ منذ أواخر سنوات السبعين بالتحرّر التدريجي من سلطة التاريخ المباشرة وأحداثه المتلاحقة. بهذا نؤكّد على أمرين في تجربة القاسم: التعالق المحكم للقصيدة مع التاريخ بكلّ أشكاله، والأثر المباشر لهذا التعالق على بنية القصيدة وجماليتها. لقد أفرز النظر في علاقة القاسم بالتاريخ ثلاثة أنماط شعرية نرى فيها منهجا ضروريا لرصد أية تجربة شعرية بالمطلق. فهذه الأنماط نجدها عند الغالبية العظمى من شعراء العربية كمحمود درويش وعبد الوهاب البياتي، بمن فيهم شعراؤنا الفلسطينيون في الداخل كحنا أبو حنا وفاروق مواسي وفهد أبو خضرة، وحسين مهنا، وجمال قعوار على سبيل المثال لا الحصر. يتساوى كلّ هؤلاء في خضوع تجربتهم الشعرية الطويلة لهذا التقسيم الثلاثي على مستوى المبدأ. غير أنّ الاختلاف بينهم يظهر في ثلاثة معايير: (1) عمق التورّط (2) سرعة الانتقال من نمط إلى آخر (3) حصّة كلّ نمط من هذه الأنماط الثلاثة بمفاهيم كمية. والاختلاف بين كلّ شاعر وشاعر في هذه المعايير الثلاثة هو من أبرز العوامل التي تساهم في تحديد الفرق بين شاعرية كلّ منهم. وبما أنّ الحديث يقتصر على تجربة سميح القاسم في هذه العجالة فلا بدّ من التأكيد على أنّ عمق التورّط في بعض قصائد القاسم، على قلتها في بدايات تجربته الشعرية، كان كافيا حتى تُصاب تلك القصائد بالخطابية والدعائية والمباشرة. غير أنّ انتقاله إلى النمط الأخير، إلى قصيدة الحال من الموديل الثلاثي، كان سريعا إلى حدّ بعيد. وهكذا جاءت حصة النمط الأول محدودة جدا بمفهوم كميّ تظهر أبرز أمثلتها في الحماسة. وبهذين المعيارين، سرعة الإفلات من قبضة التاريخ الحيّ المباشر وندرة القصائد التي تعاينه بعنف، يحتلّ القاسم مقاما رفيعا في الصف الأول من شعراء العربية على الإطلاق.

 

باحث وأستاذ جامعي فلسطيني