يكشف الكاتب عن المرجعية الأنثروبولوجية واللاهوتية لمفهوم كبش الفداء. ويستبين الآلية التي تنهار معها صروح التفاوت بين الفضاء المديني والبدوي أثناء عيد الأضحى. ويشير إلى التناقض بين الممارسات الربحيّة الاستهلاكيّة مع جوهر العيد.

طقوس العيد!

سطوة البداوة وتبدّد المشهد المدينيّ

مصطفى القلعي

كلّ سنة يأتي العيد!

كلّ سنة يعود العيد إلى أحبابه مثلما تعود كلّ الأعياد الدينيّة، حتى إنّ هذا العود الأبديّ يثير غيرة السياسة. نعم تغار السياسة من الدين! فالأعياد الدينيّة لا عيد بينها يتخلّف. أمّا الأعياد السياسيّة فتزول بزوال أسبابها، فتتخلّف. وينساها الناس. فمأتى الغيرة هو الدوام والزوال ذلك أنّ الأعياد الدينيّة لا تتخلّف أبدا عن المجيء لأنّ أسبابها لم تزل. وقد لا تزول، إذ يبدو أنّ عمر الأديان أطول ممّا ظنّ الماديّون. بل يبدو أنّها ظاهرة أزليّة دائمة دوام إقامة البشر السعيدة على الأرض.

العيد.. إنّه لا يخطئ طريق العودة أبداً مهما تغيّرت السبل والأمم والحضارات ومهما كان ارتفاع الجدران العازلة. وهو لا يتوجّه إلى مَن لا يعرفونه. ولا يزور من لا يستقبلونه. إنّه لا يزور إلاّ أحبابه. وهو لا يتعب من المجيء إليهم إطلاقاً. لا أحد منهم يدعوه. حتى الأطفال لا يتذكّرونه إلاّ حين ترفّ حولهم حمائمه. ولكنّه يأتي. دون دعوة يأتي. قد ينسى الناس مجيئه ردحاً من السنة. غير أنّه لا ينسى أن يأتي هو إليهم. وقد لا يكون الناس مستعدّين لاستقباله في أغلب الأحيان. ولكنّهم لا يملكون إلاّ أن ينصاعوا لرغبته في الحلول بينهم متى رأى أن يأتي.. فيستقبلونه.

قد ينسى أحباب العيد أحبابهم الموتى أو الغائبين. وقد يصبح موتهم أو غيابهم أليفاً عندهم بعد أن يخفّف الزمن عليهم وجعهم. ولكنّ العيد محصّن ضدّ النسيان. إنّه لا ينسى أحبابه الذين قد ينسون أحبابهم أو يألفون موتهم أو غيابهم.. فيأتيهم في موعده دقيقاً كما عوّدهم. فمن أين يأتي العيد بسطوة الحضور الدائم؟ مِمَّ يقُدّ العيد ذاكرته؟ مِن أين يستلهم قدرته على تحديد المكان والزمان؟ كيف يعبر الموانع والجدران والبحار والمحيطات والصحارى والثكنات والرادارات دون أن يُوقَف طويلاً على حواجز شرط الحدود؟ كيف ينجح في إثارة الانفعال نفسه في أحبابه أجمعين؟ كيف يلهب فيهم حاسّة القرم؟ كيف ينجح في دفعهم جميعا إلى تأبّط السّكاكين؟

المدينة في البادية

من هناك.. من بلاد كنعان انطلقت رحلة الرّمز. من مدن ذوات جدران وأعمدة، وذوات حاكم ومحكوم، خرجت بذرة الفعل. من مدينة محشورة في المكان.. من مدينة يأسرها الوعي بالزمان خرجت البذرة. فترحّلت في الأمكنة. واستقرّ قرارها في البادية. فتحقّق فعلها الرمزيّ في البوادي المنفلتة من حبس المكان والزمان.. البوادي المُطلقة كالحكمة. فلكأنّ الأحداث العظام لا تأمن المدن. فتأبى أن تمنحها شرف العظمة. لكأنّها تشعر بأنّ جدرانها المبلّطة عاقر لا تقبل اللقاح. فلا تحبل. إنّها عقيم لا تزدهر فيها إلاّ الجريمة والاستبداد. خرجت بذرة العظمة من أرض كنعان. وسبحت في الأمكنة إلى أن وجدت أرضها الخصبة في البوادي القاحلة الجدباء حيث تحقّق الأمر. إنّها بوادي لا تنبت الزرع. غير أنّها قادرة على أن تحبَل بالرمز لتلد العظمة. لقد استقبلت الباديةُ الرمز المدينيّ. واحتضنته. وتلقّت فعله في الزمان. وحبلت به جنيناً لحَدَث عظيم تلا، فأتى على مهل، فملأ الدنيا(1). وغيّر أحوالها. ووسم التاريخ. لقد أثّرت بذرة المدينة في البادية. وأثْرتها. ومنحتها الباديةُ الدفء والخصوبة اللتين تحتاجهما بذرتُها لِتَيْنَعَ. فأينعت. ومنذ أن "علق الخروف بفروع أشجار الغابة"، صار للخرفان تاريخ تحت الشمس. تُرى لِمَ اصطُفِيَ الخروف لِيُذبَحَ(2) دون بقيّة الكائنات؟ أ هي الصدفة أم الحكمة؟

البداوة في المدينة

البداوة نمط من أنماط الحياة البشريّة. إنّها غير البدائيّة. فهذه مرحلة أولى من مراحل وجود البشر على الأرض. وقد زالت بحلول الحضارة. هذا ما أخبرنا به الأنثروبولوجيّون. وهو ما بدا لهم لأنّهم يعتبرون البدائيّة للحضارة نقيضا. أمّا البداوة فليست مرحلة وجوديّة إلى زوال. وإنّما هي، كما قلنا، نمط من أنماط الحياة القائمة. وعمرها طويل. فهي ملازمة لوجود البشر. لا تزول بنشأة النمط القرويّ أو المدينيّ. بل تجاورهما. وتقاسمهما الإقامة الأرضيّة باستقطاب نسبة من البشر الذين يحلو لهم المقام فيها أو يضطرّون إليه اضطراراً. النمط البدويّ مختلف عن النمط المدينيّ من حيث القيم ووسائل الإنتاج. فـ "العيب" في البادية ليس كذلك في المدينة. ووسيلة الإنتاج السائدة في البادية هي النمط الرعويّ. وهو نمط لا مكان له في المدينة بفعل تآكل المساحات الخضراء تحت وطأة ضربات رأس المال العقّاريّ القويّة المتحالف مع "سياسات الإسكان الوطنيّة" وبفعل سيادة وسائل إنتاج أخرى فيها لاسيّما السمسرة والاستغلال المَصْنَعيّ للكائنات البشريّة.

المدينة عمارة وأنهج وبلاطات وأرقام وسيّارات وأنفاق وقناطر ومخابر ومحطّات علاجيّة خاصّة وكائنات مسرعة تائهة. فأين سترعى السوائم؟ المدينة أنظمة وقوانين وعسكر وشرط وحكّام ومحكومون ومحاكم وسلط. فكيف يقيم فيها الرعاة الذين سكنت الحريّة أعماقهم، فملأتها؟ هكذا تبدو الأشياء: البادية في البادية، والمدينة في مكانها. والحدود محفوظة. لا مكان لإحداهما في الأخرى ولا إمكان للمصالحة إلى أن يأتي العيد الذي لا ينسى موعده أبداً. فيغيّر المشهد. ويجبر المدينة على أن توسّع فيها للبداوة مكاناً. تهلّ تباشير العيد فتسطو البادية على المدينة. ويتبدّد المشهد المدينيّ. فترى الخرفان تمرح في الشوارع العريضة والأنهج المضيئة المبلّطة. وترى الأحياء تنفتح أمام الرعاة. فيتجوّلون في الشعبيّة منها والبورجوازيّة. وترى ربطات العنق تعانق الخرفان فيعلق بها شيء من مخاطها. وترى الكعوب العالية تغرق في بَعَر الخرفان. وتستطيب الروائح المنبعثة من بِرك بَوْلِها. وتزول نِظرة التعالي المدينيّ على البداوة. ويرى الأطفال المدِينِيّون، أخيراً، الخروف بأمّهات أعينهم. ويلمسون صوفه بأيديهم. ويعرفون أخيراً مصدر اللحم الذي يأتيهم كثيراً مقرطساً فيأكلونه بشهيّة. إنّه من هذا الكائن الوسيم الوديع الذي يثغو بصوت رخيم، ذي القوائم الأربع والألية العريضة.

ماذا يفعل العيد بالمدينة؟ ماذا يفعل بأنفتها وتعاليها الموهومين؟ هل هذه هي المدينة التي يعدّها أنصارها رمز الحضارة؟ هل تعني الحضارة فيما تعنيه أن تسطو البداوة على المدينة؟ هل تغافلت الأنثروبولوجيا عن وضع الحدود بين المدينة والبداوة؟ هل توجد حدود أصلاً بين البداوة والمدينة في المدن العربيّة؟ هل المدن العربيّة مدن؟ يُركِّع العيد المدينة. ويجبرها على فتح أبوابها للخرفان تتجوّل فيها. ويجبر أهلها على مجاملة الرعاة وملاطفتهم. ويلوي العيد عنق الزمان. ويدفع الأنثروبولوجيا إلى مراجعة مسلّماتها بوضع العيد وطقوسه في الاعتبار آن خطّ الأطروحات القاضية بالفصل الحاسم بين المدينة والبداوة.

في العيد، لا يشغل الكائنات المُعَيِّدَة إلاّ السّعي إلى التسلّي عن الوجع الذي تركته فيها السمسرة. إنّها تعلم أنّها وقعت بين أيدي السماسرة الذين لا يعون من رمزيّة الأمميّة إلاّ الرّبحَ. من تعييد الكائنات يربحون. ويكدّسون الأرباح. الجميع يعرف أنّ العيد طقس إبراهيميّ تأكّد بعد ذلك إسلاميّاً. الجميع يعلم أنّ العيد فرح للأطفال. الجميع يعلم أنّ العيد اجتماع وتزاور وعيادة. ولكنّ الرّبحَ الرّبْحَ يسود مع ذلك. من رحلة إبراهيم القديمة طاعةً للربّ في الأعالي يربحون. من فرح الأطفال يربحون. من عيادة المرضى يربحون. من زيارة الآباء والأمّهات يربحون. العيد فعل رمزيّ يعبّر من خلاله المُعَيِّدون عن الانتماء إلى أمّة إبراهيم جدِّ البشريّة. إنّه إعلان عن الانتماء إلى البشريّة لا إلى خِلْقَةٍ أخرى سواها (هل توجد؟ لو توجد..!). إنّه فعل أمميّ يعني تأميم طقوس الإنسانيّة. يعيّد النّاس معلنين انخراطهم في أمميّة طقوسيّة. لكنّ رمزيّتها الأمميّة كثيراً ما تُتناسى بفعل التسطيح الفقهيّ أو الفَتَوِيِّ(3) أو السياسيّ أو الإعلاميّ. فتُختَزل في توحيد الشهيّة والرائحة والمذاق.

 

الهوامش

(1) "ونادى ملاكُ الرّبِّ إبراهيمَ مِن السَّماءِ مرّةً ثانيةً وقالَ: "ها أنا أُقْسِمُ بذاتي يقول الرَّبُّ لأنّكَ صنعتَ هذا الأمرَ، ولم تمنعْ ابْنَكَ وحيدَكَ عنِّي، لأُبَارِكَنَّكَ وأُكْثِرَنَّ ذُرِّيَّتَكَ فتكونُ كَنُجومِ السَّماءِ وكَرَمْلِ شاطِئِ البَحْرِ، وتَرِثُ ذُرِّيَتُكَ مُدُنَ أَعْدائِها. وبِذُرِّيَتِكَ تَتَبَارَكُ جَميعُ أُمَمِ الأرْضِ لأنّكَ أَطَعْتَنِي". ثمّ رجع إبراهيمُ إلى غلاميه، وعادوا جميعاً إلى بئر سبْعٍ حيث أقام إبراهيمُ".

 Arabic/ English Bible, International Bible Society, 1999, (Genesis 22- 23)

(2) "ولمّا بلغا الموضعَ الذي أشار إليه اللهُ شَيَّدَ إبراهيمُ مذبحًا هناك، ونضَّدَ الحَطَبَ، ثمّ أوثق إِسحاقَ ابنَه ووضعَه على المذبَحِ فوق الحطب. ومدَّ إبراهيمُ يدَه وتناولَ السّكِّينَ ليذبحَ ابنَهُ. ومدَّ إبراهيمُ يدَهُ وتناولَ السكّينَ ليذبَحَ ابنَه. فناداه ملاكُ الربِّ من السّماء قائلاً: "إبراهيم، إبراهيمُ". فأجاب إبراهيم: "نعم". فقال: "لا تمُدَّ يدَكَ إلى الصبيِّ ولا توقِعْ بِهِ ضُرًّا لأنّي علمتُ أنَّكَ تخافُ اللهَ ولم تمنعْ ابنَكَ وحيدَكَ عَنّي". وإذ تطلّعَ إبراهيمُ حولَهُ رأى خلفَه كبشًا قد علِقَ بِفروعِ أشجار الغابة، فذهب وأحضره وأصعده مُحرَقَةً عِوَضًا عن ابنه". Ibid. (Genesis 22)

(3) الفَتَوِيّ: نسبة إلى الفتوى.

 

كاتب من تونس

Mustapha.kalii@yahoo.fr