تقدم الكاتبة السورية هنا قراءة متقصية لمجموعة من نصوص محمود درويش المفتاحية تكشف من خلالها عن أهمية جدلية الزمان والمكان في أي قراءة تسعى للكشف عن طبقات المعنى المتراكبة في أعمال هذا الشاعر الذي رد للشعر كرامته، وعن أن الزمان هو البعد الرابع للمكان، كما أن المكان هو البعد الرابع للزمان في تجربته الشعرية.

جدليّة الزمان والمكان في شعر محمود درويش

مزن أتاسي

مقدّمة:

لن تكون السطور أدناه دراسة في شعر محمود درويش، بل محاولة للإجابة على تساؤلاتي الشخصيّة الأولية والبديهية التي شغلتني ثم تحولت إلى هاجس يحث المرء أكثر على الإجابة بعد رحيله: لماذا أحب شعر محمود؟؟ لماذا سكنني وسكنته منذ أن وقعت عيناي على أول جملة قرأتها بقلبي: «لأول ضفة أمشي»؟؟ ربما أثناء محاولتي هذه، وأنا أجوب قصائده متنّقلة بين مجموعاته، أي بين أزمنته وأمكنته وشعريته، صاعدة - تارة – من الطبقات السفليّة إلى المعمار الأعلى، وأخرى أجوس بين الغرف والممرات أفقيا، قد أعثر على مكامن الأسباب، وربما يحالفني حظ ما، فأمسك بجوهر، لا أدّعي أنني أول من أبانه وأظهره، ولكنني أكون قلته بطريقتي، كقارئة عاديّة مزودة بفضول المعرفة ولذة الاكتشاف، ومثابرة دؤوبة على تتبّع ذلك المشروع الشعري الشامخ الذي «أعاد للشعر كرامته». 

لماذا جدليّة الزمان والمكان؟

همي في هذه المحاولة هو رصد جدليّة الزمان والمكان عبر استقصاء تحليلي لنصوص مختارة تبدأ بـ«سرحان يشرب القهوة في الكافيتريا»، لأنها - فيما أعتقد:

من جانب أول: ثيمة أساسيّة متجذّرة في شعره منذ البدايات وحتى آخر قصائده، وإحدى أهم مكونات شعريّته، ففيها يتمُثل وعي ورؤية وتفسير الشاعر للتاريخ، ومن ثمّ فهمه لتلك اللحظة المفارقة: لحظة الاقتلاع من الأرض ونفي أهلها منها، والتي خلّفت فيه – كما عند شعبه – إحساساً ممضّاً لاينتهي بالظلم الانسانيّ، الأمر الذي جعله يحسن الاصغاء إلى واقع الحياة، ولإيقاع الزمن فيها وتوقيعه عليها، فيختار – مثلما يفعل المظلومون الذين أخرجوا من حركة التاريخ ورموا على حوافّه – الانحياز إلى الجوهري والانسانيّ والكونيّ، مديراً ظهره مرّة واحدة وحتى النهاية إلى الزبد الجفاء. ومنذ تلك اللحظة وهو يعيش حالة التوتر هذه، منذ هجرته الأولى خارج المكان – مكانه الأول – صحيح أنه كان أصغر من ان يدرك حجم المأساة/ النكبة وأبعادها، لكن من الصحيح أيضاً أنه كفّ عن أن يكون طفلاً منذ اللحظة تلك(1) مانحة إياه «حكمة الشيوخ، في سن السادسة» تاركة لذاكرته اختزان مشاهد وصور وتجارب تلك المرحلة، التي ستكون البؤرة لموضوعة الشعر الأول: المكان/ الأرض، ومجتمع العواطف البدائيّة: الحنين/ الزمان، وثراء عالمه السفليّ «اللاشعوري».

الجانب الثاني: أنّ هذه الجدليّة الصادرة عن رؤية ورؤيا الشاعر للتاريخ في سيروراته وتمفصلاته وانقطاعاته، وللحياة إذ يصنعها القويّ ويضع موازينها، شكّلت المادة الخام التي أقام فيها بناءً للوطن في اللغة، وحين كان الزمان يوغل في الابتعاد عن مكانه .. ويبعثر خرائطه .. ويلغي أسماءه .. ويستبدل عناوينه.. ويشتت صوره ويبهت ألوانها.. كان ذلك الصراع يصبّ في تلك الجدليّة، ويجعلها الدافع الأصليّ الذي يمدّه بـ«ذاكرة المكان» التي صارت ذاكرة «تجمع الشعب وتوحّده»(2)

الجانب الثالث: أنّ لها النصيب الأوفر بخلق ذائقة جماليّة ومعجم شعريّ ثرّ بأسماء المكان وموجوداته: نباتاته وأشجاره وأطياره وروائحه، وبإيحائها التقط عادات شعبه وأكثرها أصالة وتعبيراً عن روح المكان، وأصدائه الموغلة في الزمان .. أصداء تنادي معانيها وتحيي رموزها، وتشكّل في الصور، ومن خلالها، مرجعيّة أواليّة متواشجة بالواقع الراهن على الرغم من فجائعيّة المشهد: عادات الأهل في الريّ والزراعة، دروس البيت، رائحة الخبز في الفجر، قهوة الأم، ومن ثمّ أسطرة المكان من إحياء تموز وعناة والكنعانيّة، تخيّر أسماء الشهداء والناس والأنبياء بدلالة أكيدة على انتماء المكان إليهم: أحمد العربي، خديجة، المسيح وصليبه، يوشع بن نون «ليس الماضي بالنسبة للشاعر زماناً منقضياً، أو ذكرى ميتة لايمكن استعادتها، أو بعث الحياة في رمادها المتجهم، بل هو على العكس من ذلك تماماً، حيوات متفرّدة وطاقة روحيّة جيّاشة، وهو أيضًا زمن يكتظّ بالدلالة والغنى والتوتر».(3)

الجانب الرابع: لأن مأساة الشاعر ولدت مع مأساة الوطن فكانتا واحداً، ولأنّ ذاكرته اختزنت تلك اللحظة الكارثية وهي ما تزال طريّة غضّة، فقد صار صوته صوت شعبه أوصداه، وحتى في القصائد التي يصغي فيها إلى همومه الصغيرة وحبّه الشخصيّ وطموحات قلبه، فإننا سرعان ما نجد أرض الجماعة وقد تسلّلت إليه من لا شعوره وزوايا داخله القصيّ، ذلك أن الفارق بين داخله وخارجه يكاد لا يوجد، ليس لأنه يتماهى مع الجماعة بمشاعر القطيع – كما يحاول الغمز أحد المشغوفين بالعزلة والاعتزال عن(4) بل – وتحديداً – لأنه يحسّ بفرديّته وعلى نحوٍ حاد، هذه الفرديّة التي لا تتحقّق إلا بكونها مجبولة بواقع الأمة فاعلة فيه كاتبة لتاريخه ومستنهضة لهما من الرماد: هذا هو الشاعر/ الشجرة التي تخرج نباتها طيباً بإذن الله، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ... وإذا كان قد نفذ ببصيرته إلى جوهر المأساة، وانحاز دائماً إلى صواب قلبه: ففتح نصه على جهات الأمل في استعادة المكان/ مكانه، فالألم وتصاعد اليأس كانا يأتيان من تسرّب الزمان وهروبه وتصدّع الواقع وتردّيه، فتزداد الهوة بين الزمان والمكان، وهذا هو الألم الأكبر، نحن مع شاعر يترجح بين هاويتين: فإما الصعود وإما .. الصعود

في قلب هذه الجدليّة عاش الشاعر، ومن هذه الثيمة، وفي تمظهراتها: تصويراً وإيقاعاً ومجازاً ومعان دلاليّة وصلنا الشعر في محتواه الأهم: العاطفة، والغنائية، الحاملتان للرؤيا فيما يتعلّق باستشراف المستقبل، والرؤية فيما يخص التاريخ والواقع، العاطفة الغنائية التي تسري إلى المتلقي «كما هي في خصوبتها»، وحرارتها لا تجعله يقف عند تخوم النص، بل تضعه في قلب عمليّة الخلق، قارئاً يملأ الفجوات ومساحات البياض والمسكوت عنه، ومؤوّلا يكشف طبقات المعاني، ويقبض على الدلالات، دون ان يكون مضطرا إلى «قتل المؤلّف».

سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا

(أحبك أو لا أحبك 1972)

سئل محمود درويش مرة عقب خروجه من فلسطين وإقامته في القاهرة: كيف تخرج من فلسطين وأنت القائل:

وأبي قال مرة

الذي ماله وطن

في الثرى ماله ضريح

ونهاني عن السفر

فأجاب: غيّرت موقعي، ولكنني لم أغيّر موقفي

لقد اخترت البدء من هذه القصيدة لأنها بداية التحّول من «الصوت الأحادي حاد النبرة مباشر ومقاتل(5) إلى القصيدة التي صنّفها النقاد على أنها «غنائيّة دراميّة»(6) وذلك «لتعدد الأصوات فيها وتعدّد السرديات التاريخية الموضوعيّة والتاريخية الذاتية، والغناء، والمونولوج، والديالوج، وهي القصيدة التي استبدلت بالزمان المستقيم، الزمان الدائريّ الذي يكسر الترتيب الثلاثي للزمن»(7)، هو نص إذن يختزن ما اقترحته من فرضية أن هذا الشعر عاش حياته في قلب ذاك الصراع الجدليّ، ومنذ البدايات كما تنبئنا الأبيات السابقة ودراسات النقاد حول هذه القصيدة/ التحوّل. يفتح درويش قصديته في المقطع الأول على مشهد خارجيّ مبعثر، تتناثر فيه الأشياء دون ترتيب، وتجتمع المتناقضات وتتقابل دون منطق يجمعها في فوضى ظاهريّة تتبطّن على حدث مأساويّ سيولد فيه سرحان ثم يكبر، وتتّخذ حياته شكلاً لهذه المأساة:

يجيئون،

أبوابنا البحر، فاجأنا مطر، لا إله سوى الله، فاجأنا

مطر ورصاص، هنا الأرض سجادة، والحقائب

غربة!!

بالفعل المضارع الحاضر المسند إلى ضمير الغائب تفتتح القصيدة، ثمّ تتوالى الجمل الإخبارية، فعليّة وإسميّة، لينتهي المقطع بكلمة غربة التي كتبت مشفوعة بعلامتي تعجب في سطر وحدها. هذا السرد الذي اتخذ فيه الشاعر موقع الراوي من النقطة التي تقف فيها الشخصيّة المرويّ عنها، من دون تحديد للإحداثيات المكانيّة والزمانيّة واستطراداً، من دون منظور للعلاقات بينهما القائمة على اللغة بين الراوي/ الشاعر، والحدث الموصوف، فبقيت ملتبسة، وغامضة، غارقة في فوضى الرؤية ومتناقضات المشهد: الأبواب رمز للإغلاق، للسريّة، للأمان، للكينونة، للثبات للحدود بين الداخل والخارج، فإذا بها ليست سوى البحر رمز التحوّل، الانفتاح حتى اللانهاية، المجهول، الخطر، المطر رمز الخصوبة والحياة والنماء مع الرصاص رمز الموت والفناء، الأرض رمز الثبات والحضورصارت سجادة تستدعي صور الطي والغياب والترحال، اما مفردة غربة فقد كتبت في سطر وحدها للدلالة على/ وإشارة إلى مركزيتها في القصيدة، ويبقى الفعل «يجيئون» معلّقاً يسحبنا معه إلى تفاصيله، هذا الغموض يخبئ طيّه إرهاصات حدث مأساوي يتضح شيئاً فشيئاً كلما توغلنا في عالم سرد الحكاية/ القصيدة. يتتابع سرد الحكاية بصوت الراوي/ الشاعر وهنا يبدأ بالبروز أكثر فأكثر زمن المبنى الحكائي أي زمن السرد ويتعلّق بالسؤال: متى أنتج الخطاب: أقبل الحكاية أم بعدها؟ من المفيد هنا أن نستذكر نوعي الزمن الذي ميّزه الشكلانيّون الروس وهما: زمن المتن الحكائي (زمن الأحداث) وهو زمن موضوعي تاريخيّ، وزمن المبنى الحكائي وهو زمن السرد(8) والخطاب الشعري هنا يركّز على زمن المبنى ليترك السؤال مفتوحاً حول زمن الخطاب.

يجيئون،

فلتترجّل كواكب تأتي بلا موعد والظهور التي

استندت للخناجر مضطرة للسقوط.

وماذا حدث؟

أنت لا تعرف اليوم، لا لون، لا صوت، لا طعم

لا شكل ... يولد سرحان، يكبر سرحان،

يشرب خمراً ويسكر، يرسم قاتله، ويمزّق

صورته. ثم يقتله حين يأخذ شكلاً أخيرا. ويرتاح سرحان .

سرحان! هل أنت قاتل؟

ويكتب سرحان شيئاً على كم معطفه، ثمّ تهرب

ذاكرة، من ملفّ الجريمة ... تهرب ... تأخذ منقار طائر،

وتأكل حبّة قمح بمرج بن عامر.

وسرحان متّهم بالسكوت. وسرحان قاتل

لنلاحظ سرعة السرد، وآليّة التلخيص التي لجأ إليها ليستكمل صورة سرحان ضمن الإطار المكاني الذي يسترجع فيه الأحداث: فالذين يجيئون مازالوا يجيئون لا نعرف من هم، ولا إلى أين يأتون، ولكن مسرحاً/ مكاناَ لمأساة قادمة بدأ يظهر في صور متلاحقة: الكواكب تترجّل، والظهور التي كانت مستندة إلى الخناجر تسقط، ولا لون، لا صوت، لا طعم ولا شكل‘ في هذا الهباء يولد سرحان، ويكبر، وتتخذ حياته شكل الزمان/ الهباء والمكان/ المأساة/ المنفى حيث لم تعد له هوية، يقتل سرحان قاتله بعد أن يحدّد شكله(يرسمه) ثمّ يمزّق الصورة. في هذه البرهة تتحرّر الذاكرة وتهرب من المكان/ الآني/ الحاضر/ المنفى، مكان ارتكاب الجريمة إلى مكانها الأصليّ/ التاريخيّ (مرج بن عامر) تهرب إليه بمنقار طائر الذي لا يضلّ طريق العودة أبداً إلى موطنه، حاملاً معه ذاكرة سرحان في رحلة استعاديّة، وحين يوطّئ الراوي/ الشاعر بجملة «وماذا حدث» لهذه الحياة، يوحي لنا بأنها مجرد حادثة هامشيّة لحياة هامشيّة مغيّبة عن الفعل في المصير، لذلك نجده يختزل الزمان في مجموعة من الأفعال الماضية التي تختصر تاريخ حياتها: ولدت، كبرت، شربت خمراً، ثم قتلت، قتلت من صادر منها شروط الحياة الطبيعيّة غيلة منحرفة بالتاريخ عن مساره، ورامية بناس المكان خارجه.

المقطع الثاني:

يمتد المقطع الثاني على ثلاث صفحات، يتوارى صوت الراوي ليظهر صوت الشاعر مدُخلاً نفسه في قلب الرواية، تتغيّر نبرة اللغة لتصبح أكثر توتّراً وكثافة، ويتداخل الحدث النفسيّ والزمن الشعريّ، مع الحدث الواقعي الدراميّ، ليتبادلا التأثير ببعضهما في جدل رائع تبلغ الشاعريّة فيه ذروتها من حيث قبضها على سيولة الزمن وجريان الحياة الخطيّ الذي يتسرب ليكرّس واقعاً جديداً، ومنفىً داخل الوطن، ويصبح سرحان «قناعاً» للشاعر:

وما كان حباً

يدان تقولان شيئاً وتنطفئان

قيود تلد

سجون تلد

منافٍ تلد

ونلتفّ باسمك

وما كان حباً

يدان تقولان شيئاً وتنطفئان

ونعرف، كنّا شعوباً، وصرنا حجارة

ونعرف، كنتِ بلاداً وصرت دخان

ونعرف أشياء أكثر

نعرف، لكنّ كل القيود القديمة

تصير أساور ورد

تصير بكارة

في المنافي الجديدة

ونلتفّ باسمكِ

وما كان حبّاً

يدان تقولان شيئاً وتنطفئان

مرّة أخرى لا نجد تعييناً لزمان ولا لمكان، لكنّ جملاً قصيرة متتابعة، ولغة كثيفة حملت ضمير المتكلّمين: «كنا، صرنا، نعرف، نلتف» جسّدت المحتوى المكاني عبر استعارات متوالية تشير إلى ما يدلّ عليه دون تسميته، وتلتقي دلالاتها جميعاً في معنى الغياب، فالوطن الذي كان حاضراً يبتعد ليخلّف فضاءً مسكوناً بالقيود تلد القيود، والسجون تلد السجون، والمنافي تلد المنافي، ووسط هذا المحتوى المكاني المغلق، ترد الاستعارة المركزيّة «نلتفّ باسمك» كفعل يمثّل الملاذ الأخير يلجأ إليه إنسان هذا المكان ليدرأ عنه الغياب المطلق، ولتبزغ من هذه الاستعارة – بما تستدعيه من معان صوفيّة تستدعي بدورها روح المكان- نقطة مضيئة تكسر هذا الانغلاق، لتصير القيود القديمة «أساور ورد وبكارة» .. ولكن سرعان ما تنطفئ بانطفاء اليدين. وفي السطر الشعري الأخير، يتوارى الشاعر بعد أن استنفد مونولوجه بلغته الغنائيّة العالية، ليظهر الراوي من جديد فيكشف لنا جانباً أخر من شخصيّة سرحان: سرحان ولد في الشتات (من نسل تذكرة) ولم يعرف بلاده يوماً، وليس له ذاكرة مرتبطة بالوطن، ولنلاحظ أنّ التناوب بين صوت الراوي وصوت الشاعر أدخل القارئ في عمليّة إدراك التنافر المكانيّ/ الزمانيّ باعتباره الدليل على تغيّر الإحداثيّات، وليس بدون دلالة أن المقطع ينتهي إذ يفجّر سرحان غضبه ويتمرّد فيتّهم بالشذوذ عن القاعدة.

في هذا المقطع يتماهى الشاعر مع الراوي مع سرحان، فالجميع يتقاسمون مأساة واحدة ( ضياع الوطن) سواء في ذلك أهل الداخل أم الخارج:

رأينا أصابعه تستغيث. وكان يقيس السماء بأغلاله.

زرقة البحر يزجرها الشرطيّ، يعاونه خادم آسيويّ

بلاد تغيّر سكانها، والنجوم حصى.

وكان يغنّي: مضى جيلنا وانقضى

 مضى جيلنا وانقضى.

وتناسل فينا الغزاة، تكاثر فينا الطغاة، دم كالمياه،

وليس تجفّفه غير سورة عمّ وقبّعة الشرطيّ

وخادمه الآسيويّ، وكان يقيس الزمان بأغلاله

سألناه: سرحان عمّ تساءلت؟

قال: اذهبوا فذهبنا

إلى الأمهات اللواتي تزوّجن أعداءنا.

وكنّ ينادين شيئاً شبيهاً بأسمائنا

فيأتي الصدى حرساً .

ينادين قمحاً .

فيأتي الصدى حرساً .

ينادين عدلاً

فيأتي الصدى حرساً

ينادين يافا

فيأتي الصدى حرساً

ومن يومها، كفّت الأمهات عن الصلوات، وصرنا

نقيس السماء بأغلالنا

وسرحان يضحك في مطبخ الباخرة

يعانق سائحة والطريق بعيد عن القدس والناصرة

وسرحان متّهم بالضياع وبالعدميّة

المشهد هاهنا شديد السواد يتّضح من خلال التضاد: السماء – على اتساعها تقاس بالأغلال، وزرقة البحر تتراجع أمام قبّعة الشرطيّ، والبلاد التي غيّرت سكانها الأصليين، صارت نجومها حصىً، وإذا كان هذا هو حال المكان، فلا أمل يأتي من الأهل في الخارج، فالغزاة يتناسلون .. والطغاة يتكاثرون .. ليصبح الزمان أيضاً يقاس بالأغلال، وليس عند سرحان/ الشاعر/ الراوي سوى إجابة واحدة يردّ بها على فضول الناس: لاشيء ولا أمر سوى الحرس يطوّق المكان، والأمهات يستغثن: للخبز وللعدالة، ويغلق المشهد على سرحان المتهم ب«الضياع» وبالعدميّة.

وكلّ البلاد بعيدة

شوارع أخرى اختفت من مدينته( أخبرته الأغاني)

وعزلته ليلة العيد أنّ له غرفة في مكان)،

ورائحة البن جغرافيا

وما شردوك... وما قتلوك .

أبوك احتمى بالنصوص، وجاء اللصوص .

ولست شريداً ولست شهيداً .

وأمك باعت ضفائرها للسنابل والأمنيات: وفوق سواعدنا

كرمة لا تهاجر( وشم عميق)

خطى الشهداء تبيد الغزاة

(نشيد قديم)

ونافذتان على البحر ياوطني تحذفان المنافي... وأرجع

(حلم قديم)

شوارع اختفت من مدينته(أخبرته الأغاني

وعزلته ليلة العيد أنّ له غرفة في مكان) .

ورائحة البن جغرافيا

ورائحة البن يد

ورائحة البن صوت ينادي... ويأخذ ويأخذ

ورائحة البن صوت ومئذنة (ذات يوم تعود).

ورائحة البن ناي تزغرد فيه المزاريب ... ينكمش

الماء يوماً ويبقى الصدى .

وسرحان يحمل أرصفة ونوادي ومكتب حجز التذاكر .

سرحان يحمل أكثر من لغة وفتاة. ويحمل تأشيرة

لدخول المحيط وتأشيرة للخروج . ولكنّ سرحان

قطرة دم تفتّش عن جبهة نزفتها .. وسرحان

قطرة دم تفتّش عن جثّة نسيتها .. وأين؟

ولست شريداً .. ولست شهيداً

ورائحة البن جغرافيا ...

وسرحان يشرب قهوته ...

ويضيع..

عودة أخرى إلى تداخل المونولوج الغنائي النبرة مع صوت سرحان الذي يتبناه الشاعر/ الراوي ويكمل حكي قصته عنه، وقد يكون التطابق هنا كاملاً، وما سرحان إلا قناع الشاعر(استعادته لتجربته الشخصيّة في سجنه الإجباري في منزله بيافا من المغيب وحتى الفجر، قضاء ليلة العيد وحده)، الزمان والمكان ينأيان معاً، فبضياع الوطن تبدو كل البلاد بعيدة ذهنياً ونفسيّاً وروحيّا، وإذ يستعيد تلك الذكرى عن حياته يستحضربعضاً من تفاصيل صورة الوطنً عبر مرويّات جدّته وأغاني شعبه،وتكون الاستعارة هي سيّدة المشهد، والبناء الإيقاعي المغاير للمقاطع السابقة بجمله الطويلة التي اتّسعت لتحتوي الفيض العاطفيّ للشاعر وهوإذ يستعيد ذكريات منفاه في الوطن، تنشب رائحة البن ذكراها في مخيّلته وتنتشر لتصير ‘‘جغرافيا‘‘وتصطحب معها ما كان يرافقها من أنس البيت، وحكايا الجدة، وأغاني المكان، وتتحوّل إلى وشم عميق لا يزول، تكرّسه سواعد الفرسان الذين سيستعيدون الوطن، برهة من وهم، تمحوها حقيقتان مريرتان: الأب/ الشعب الذي اكتفى بالحق دون تسليحه بالقوة التي تحقّقه( النصوص)، واللصوص الذين تسللّوا من غياب الفعل فسرقوا الوطن، والنتيجة شعب ميت/ حي «ولست شريداً.. ولست شهيداً».

أتوقّف قليلاً عند الاستعارة التي ألّفها الشاعر لرائحة البن، تلك الاستعارة المبتكرة والرائعة – وهي هنا استعارة مركزيّة تشكّل بؤرة دلالات – تتعدّى فكرة الانتشار المكاني/ الزماني، فالذاكرة قادرة على اختراق الزمن واستحضار مكانه وتكثيفهما في رائحة.. رائحة القهوة، لتعيد بناءهما بقوة الذكرى إلى أشياء حسيّة: يد، صوت، مئذنة، ناي، على أنّ الزمن الشعريّ الذي جسّدته له مرجعيّته الواقعيّة وأحداثه الموضوعيّة، لهذا نجد مجموعة من الأفعال الزمنيّة قد تتالت بعد الاستعارة (وما شردوك .. وما قتلوك، أبوك احتمى، جاء اللصوص، أمك باعت)، وجميعها أفعال تختزن المأساة وتختزلها في آن، لينغلق المشهد على مفردة «الصدى» التي نسمع من حروفها ترجيعاً لأنس المكان ودفء البيت وطقوسه، وما سرحان إلا صدى الشاعر، صورته في المنافي، إنه يتحدّث عن نفسه وهو يصور سرحان تتلقاه الأرصفة في رحلة البحث عن الهوية هو: الميت/ الحي الضائع.

هنا القدس .

يا امرأة من حليب البلابل كيف أعانق ظلّي ..

وأبقى

خلقتَ هنا، وتنام هناك

تتوالد الدلالات من الانتقال بين الأنا والمخاطب والغائب للتأكيد على الالتحام والتغاير في الآن نفسه، وحيث يرتفع النشيد بالغناء تكون أنا الشاعر طاغية الحضور وفي ذروة انفعالها، ويكون لغنائه وظيفته البنيوية، من حيث تغايره الايقاعي وتوتره العاطفيّ، عن لغة سرحان، هذا التغاير الذي يتبدى في تقديم التساؤل: كيف أعانق ظلّي وأبقى؟ وسرحان حين يدخل نشيد الشاعر، تطفو دلالات الغربة والمنفى، فهو غريب حتى عن ذاته، لايعرف لنفسه هوية، لا يقرأ لغته، ولكنّه يتذكر الطائرات، وقنابل النابالم، وهنا تنزاح لغة الشاعر الغنائية، لتفسح المجال للغة تقريريّة تحكي حالة الواقع العربي، الذي يمتطي القدس ناقة كي يصل إلى السلطة الجائعة، ولم يعد سوى منبراً للخطابة، ومستودعاً للكآبة

 وما القدس والمدن الضائعة

سوى ناقة تمتطيها البداوة

إلى السلطة الجائعة

وما القدس والمدن الضائعة

سوى منبر للخطابة

ومستودع للكآبة

وما القدس إلا زجاجة خمر وصندوق تبغ

تستعيد اللغة غنائيتها حين يذكر الوطن، ومرة أخرى ندخل المكان والزمان الشعريان: فلا فرق بين تفاصيل المكان الواقعي: «حقل الذرة» و«تجاعيد كفه» وبين «عصير الفاكهة» و«كريات الدم» وبين المساء الذي «يسكن الذاكرة» و«مساء الكرمل»، لكن السؤال الوجودي يطرحه الشاعر/ الراوي/ سرحان: كيف يستعاد وطن بالأغاني؟ ويتابع سرحان عيشه في الضياع:

من الصعب أن تعزلوا

عصير الفواكه عن كريات دمي

ولكنها وطني

من الصعب أن تجدوا فارقاً واحداً

بين حقل الذرة

وبين تجاعيد كفي

ولكنها وطني

لافوارق بين المساء الذي يسكن الذاكرة

وبين المساء الذي يسكن الكرملا

ولكنها وطني

وسرحان يرسم صدراً ويسكنه

وسرحان يبكي بلا ثمن ووسام

ويشرب قهوته ويضيع

في المقطع التالي يستكمل الشاعر حكاية سرحان الباحث عن هويته في الزمان الضائع، الزمن العربي الذي لا يريد الخروج من ‘‘ضجيج الفراغ‘‘وضجيج البيانات والتوصيات، وفصاحة اللغة والأغنيات، الخارج من الفعل، والتارك للقادمين من الأسطورة سرقة الماضي والحاضر جميعاً، يختبئ الشعر في لغة تبدو نثريّة، إنه «ينثر الشعر» ليعطي للسرد الحكائي حقّه

هل الفعل معنى بآنية الصوت.. أم حركة؟

ونكتب ض...

هدير المحيطات فيها ... ولا شيء فيها

حروف تميزنا عن سوانا – طلعنا عليهم طلوع

المنون فكانوا هباءً وكانوا سدى، سدىً نحن

ولكن الشاعر، لا يستطيع المكوث طويلاً في مشهد اليأس ذاك، إنه ابن الأمل وصواب القلب، إنه ‘‘يرى‘‘يستطيع أن يقرأ في قلب هذا الواقع المتردي إمكانية الخروج منه

هنالك

غيم شديد الخصوبة. لابدّ من تربة صالحة.

وهو يكرّر مفردة ‘‘الحلم‘‘ ويربطها بالجليل – وطنه – ويستخدم علامات الوقف بكثرة، فنجد النقطة حيث التقرير، والنقطتان حيث الإيهام بزمان ممتد

أكلت .. شربت .. نمت.

يأخذ الامتداد السردي المكثّف مساحة بصريّة على بياض الورق، من دون وجود لمساحات صمت، وبخاصة في الجزء الثاني منه، حيث تطالعنا النقطة، والفاصلة علامة وقف قصيرة واتصال تساعد على استمرار التوتر بين الاتصال والانفصال، لقد اختار الموضوع شكله وتمّ التلاحم بينهما: الشكل جسد لمعناه، وعنصر أساسي في بناء النص. وفي «رؤياه» و«حلمه» نجد إرهاصات واقع جديد سنشهد تفجره في «يوم الأرض»، وفيه سيكتب درويش نشيد إنشاده قصيدة «الأرض».

يسدل الشاعر الستار في المقطع الأخير على سرحان وهو يكتب شيئاً على كم معطفه محرّراً ذاكرته التي يأخذها منقار طائر ويزرعها قطرة دم في ‘‘مرج بن عامر‘‘في عود على بدء، وفي دلالة أن المشهد الفلسطينيّ لم يتغيّر: فالضحيّة متهمة بالقتل – أو الإرهاب في لغة الآن – والضحيّة مجهولة الهوية «فقيرة»، ومختلفة عن ضحية تاريخ أخرى ظلّت تبتزّ قاتلها لدفع الأثمان، ثمّ قلّدته في صنع ضحية تاريخ جديدة لكنّها زاهدة في عموم أنواع الاستعراض مدفوع الثمن وهذا اختلافها

سرحان ما قال جرحي قنديل زيت وما قال

صدري شبّاك بيت وما قال...

جلدي سجّادة للوطن

وما قال شيئاً

وسرحان ضحيّة الحرب وضحيّة السلام، وضحيّة العرب في المهاجر الرازحين تحت وطأة المستبدين الطغاة وبين الغزاة والذين لايجدون فارقاً بينهم

وفي المهجر

العربي يقولون: ما الفرق بين الغزاة وبين الطغاة؟

وسرحان ما يزال يشرب قهوته التي تأخذه رائحتها إلى الوطن الذي لا يعرف، وبين الجمل التقريريّة يدخل التساؤل:

أتذهب صيحاتنا عبثاً

ويضيع سرحان، يقتل صورة قاتله، ويستعيد ذاكرته التي تذهب قطرة دم إلى«مرج بن عامر»

يتشظّى الزمان والمكان ليسكن اللحظة الحاضرة – الآن – ((آن)) القصيدة، زمن كتابتها، فيصبح الحاضر نتاجا للماضي، وحين يقبض سرحان على وعيه ويحرّر ذاكرته يرى «غيماً شديد الخصوبة» ويذهب إلى المستقبل «قطرة دم» تنقط في «مرج بن عامر»

درويش الذي لا يخضع قصيدته – نصّه - لمنهج مسبق، بل يتركها تصنع إيقاعها، وهو الشاعر الحرفي المتمرس، لا يفعل سوى أن «يتبع ذلك الإيقاع» ويترك توقيعه في نهايته. ولمزيد من الإضاءة على الفرضية التي اقترحتها في مقدمة هذه الدراسة التحليلية للقصيدة المنعطف «سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا»، أتناول قصيدة ثانية - أظن بأنها تؤرخ لمرحلة جديدة في مشروع درويش الشعري – الذي لم يتوقف أبدا عن تجديد رؤاه وأدواته جميعا ضمن هذا الحامل الكبير أعني تلك الجدلية التي لاتني تتعمق وتتشعب لتترسخ أخيرا بصريح الشعر في قصيدته الرائعة «على محطة قطار سقط عن الخريطة» وهي من أواخر ماكتب:

لاأحب الآن هذا العشب،/ هذا اليابس المنسيّ، هذا اليائس العبثيّ،/ يكتب سيرة النسيان في هذا المكان الزئبقي‘‘، كذلك في قصيدته ‘‘لاأريد لهي القصيدة أن تنتهي‘‘ يكتب: ‘‘ليس المكان هو الفخ‘‘ ويجعلها لازمة في مفتتح المطلع الجديد، إلى ان يقرر: ‘‘ إنّ الزمان هو الفخ/ قالت: إلى أين تأخذني؟/ قال: لو كنت أصغر من رحلتي/ هذه، لاكتفيت بتحوير أخر فصل من المشهد الهوميري...‘‘ . القصيدة الثانية التي عنيت هي:

«تأملات سريعة

في مدينة قديمة وجميلة

على ساحل البحر الأبيض المتوسط»

مدخل:

ابتداء من العنوان الذي يوجه القراءة،(9) على اعتبار أن (العنوان بنية نصية كما يفهمها شعراء الحداثة)(10) يأخذنا الشاعر إلى مناطق شاسعة من تأملاته الذاتية في مدينة لم يعرفها بالاسم، ولكن كل الدلائل تشير إلى بيروت. فالقصيدة مختارة من ديوان (حصار لمدائح البحر) المؤرخ في أول طبعة له عام (1984) وهذا يعني أنه كتب بعد الخروج من بيروت، وفي الوقت نفسه أرّخ للهجرة الثانية للشاعر، والثالثة للفلسطينيي. لقد اتسمت تلك الهجرة وذلك الرحيل بقسوة بالغة، وربما يكون الدمار النفسي الذي ألحقته بالفلسطينيين أشد مرارة عليهم مما لحق بهم إثر نكبة( 1948). لأن ماتعرض له الفلسطينيون في بيروت من اقتلاع من المكان الذي أسسوا فيه ليكون نقطة الانطلاق للعودة إلى الوطن المغتصب، وإبعادهم إلى تونس في المغرب العربي، أي الإيغال في الابتعاد عن المكان الذي صاغوا فيه (حلم العودة)، لهو من البشاعة والقسوة مما يجعله أمراً غير قابل لأي تفسير ويفتقر لأي مسوغ مهما كانت الأسباب التي سوغ به هذا الفعل من قبل النظام الرسمي (من وجهة نظر الشعوب على الأقل). قبل صدور هذا الديوان كتب درويش) قصيدته الدرامية/ الملحمية: (مديح الظل العالي) وسمّاها قصيدة تسجيلية لأنها كانت رصداً لواقع الحصارالإسرائيلي على بيروت في عام (1982). في نهاية تلك القصيدة نعثر على قراءة استشرافية ومتبصرة للمستقبل، تتنبأ بأكثر من حدث سوف تجري وقائعه كما تنبأ له تماماً (مثل اتفاقية اوسلو والحديث عن دولة يصفها بأنها صغيرة)

يأتي ديوان (حصار لمدائح البحر) بعد تلك القصيدة، ولسوف نجد فيه بداية لمرحلة جديدة في تطور مشروعه الشعري علماً أنه لايفصل بينهما غير عام واحد.

في قراءتي للعنوان أجد أن كلمة (تأملات) توحي بأن الشاعر يريد الإصغاء إلى صوته الداخلي، ويريد أن يستكشف عوالم الإنسان العادي فيه، الإنسان المتخفف من ثقل التمثيل لشعبه، وثقل الهوية الوطنية، التي طالما طالبته بحمل همومها، ومشاريعها وأن يكون سفيرها إلى العالم ولقد كان كذلك بامتياز ولزمن طويل. هذا من جهة أولى، وأما الشكل الطباعي الذي كتب به العنوان فله أيضا ظلاله وإيحاءاته. فلقد كتب في ثلاثة أسطر متتابعة في منتصف الصفحة وبحروف سوداء غامقة فاسحا المجال للتضاد اللوني بين سواد الكلام، وبياض الورق، أن يكون نافراً إلى الحد الذي يثير فضول المعرفة عند المتلقي. ومن جهة ثالثة نعثر على التضاد بين الكلمتين: تأملات- سريعة، فالأولى تستدعي فضاءات التأني، والتمهل، والاسترخاء في الزمن من أجل التدقيق والتبصر، والثانية تستدعي معاني النزق وفقدان الصبر فتقفز مباشرة لتعيين مكان تلك التأملات بواسطة حرف الجر الذي يفيد معاني الاستغراق والشمول للمكان. ثم يأتي تحديد المكان في جملة كتبت تحت السطر الأول دون تسميته:إنها مدينة موصوفة وليست مسماة : قديمة وتقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط، مما يجعل العنوان مفتوحاً على أكثر من احتمال لتأويله، وهو في هذا يشبه مدن هذا الساحل المفتوحة على مهب الجهات، ومهب الريح، ومهب المبادرات السياسية. لقد أراد الشاعر التحديق في مناطق أخرى من روحه للتأمل فيما آلت إليه بعد ذلك الانكسار المريع: إنكسار الأحلام كلها دفعة واحدة. إذن لقد آن للشاعر أخيراً أن يعطي لنفسه الحق في" التأمل " في الزمان وما أحدثه من شروخ، وفي التأمل في المدينة المكان التي عاش فيها خصوبة شبابه وأمانيه وسماها في قصيدته «مديح الظل العالي»، «حيمتنا الأخيرة، ونجمتنا الأخيرة، وآخر الطلقات»، والمتأمل في الديوان يجدها بعد قصيدة «بيروت» مباشرة . لقد استنفذ الشاعر مدحه وهجاءه، ورثاءه وغضبه وشغفه وكرهه لبيروت في قصيدته «بيروت» وها هو الآن يتفرغ لتأملاته الذاتية والسريعة في هذه المدينة في فكره، وفي روحه وفي شعره تباعاً، فلنتابع هذه التأملات .

التأمل الأول/ المقطع الأول

ملامح المكان 1- مدينة على ساحل البحر قديمة وجميلة. 2 - مدينة حيادية لم تكن أما للشاعر/ وطناً، لم تحضنه لم تمنحه الأمان، ولم تداوِ جراحه، ولم تغطِ عريه حتى بالدخان. 

ملامح الزمان: يتكثف الزمان كله في لحظة الهزيمة، اللحظة التي يغطي بها الدم الفلسطيني العاري التاريخ العريق بكل مايحمل ويعلن (درويش) - ومن دون مواربة - براءته من الزمان و المكان معاً «ما شآني، ما شأن زماني» إذ لا معنى للانتماء الآن لأي شيء سوى للنشيد «علينا أن نغني» نشيد الانكسار، ونشيد تمجيد آخر الشهداء الذين سقطوا على البحر الأخير، وهذا النشيد من شأنه وحده أن يدرأ النسيان عن ذاكرة الناس إذن على الشاعر أن يبدأ في الإصغاء إلى صوته الشخصي ومن حقه أن يعلن يأسه الكامل وإفلاس روحه، إذ تنتهي به معظم الأفعال والأسماء: دمي، تغطيني، أصلي، رماني. ثم نجده فجأة يستخدم اسلوب الالتفات فيتحول إلى ضمير الجماعة (نغني، نرتدي، يمتصنا) وهذا مايجعلنا نعتقد أنه لايستطيع الفكاك من هذا الارتباط بينه وبين الجماعة، فهاهي تتسلل إلى أغنيته المكسورة (بانكسار البحر فيه) وهاهو يدعوهم إلى ارتداء الملح (الألم) وأن يمضوا معه إلى (المواويل)، وربما يكون لهذا الاندماج بالجماعة والتماهي معها دلالة الأمل الوحيدة التي تنبثق فجأة من سواد المشهد. منذ البداية تطالعنا لغة إنشائية لفّت المقطع بكامله، وأعلت النبرة الغنائية فيه، وأخفت تحت غلالتها وبين طياتها وثناياها عاطفة حزينة، تمتلأ بالحنين البائس. وكأن عاطفة الشاعر قد وجدت جسدا لها من خلال نسيج لغوي وجد ترابطاته وعلاقاته المتواشجة من خلال الكلمة، والجملة، والتركيب، والصياغة، وكذلك من خلال الانزياحات العديدة التي شكلت صدمة/مفاجأة للمتلقي، وخلخلت المعاني الجاهزة التي كان يمكن له أن يسقطها على قراءته الأولى. من مثل:

لقد ابتدأ الشاعر تأمله الأول بالسطر الشعري:(لتكن أما لهذا البحر) إن لام الأمر الداخلة على فعل الكون توحي ومن خلال قراءة جاهزة (بالطلب) من هذه المدينة الجميلة والقديمة على ساحل البحر الأبيض المتوسط أن تكون أما لهذا البحر إعلاءاً من شأنها وتثبيتا لمكانتها التاريخية لكن دخول، أو، العاطفة والتخييرية التي دخلت في أول السطر الشعري الثاني أخرجت فعل الكون عن معناه الطلبي إلى معنى التوقع والتخيير وبذلك زحزحت معناه المعجمي وفتحته على تأويلات أخرى، ثم يأتي السطر الشعري الذي يختتم سلسلة التخييرات بالتساؤل عن جدوى " كينونته"، أياً كانت، أماً، أو صرخة المكان، الأول، أو موجة أقوى من، و كذلك الصيغ التي استخدمت بها التساؤلات:

ما شأني أنا؟؟ ما الذي يجعلني؟؟ هي التي أزاحت التساؤل عن معناه الحرفي الذي يستدعي إجابة محددة إلى معانٍ أخرى -لا تفترض وهي تنفي أصلاً- وجود إجابة محددة، إنها تساؤلات الضياع، و اللامبالاة بعد فقدان المكان الذي احتضن الأحلام و كسر اللحظة التي كانت تترقب الوصول إلى نهاية رحلة التشرد لترميها في لجة البحر الأبيض المتوسط .

والإ يقاع في هذا المقطع/ التأمل لايتحقق في الوزن المألوف وما يحدثه الشاعر في الوزن من انحرافات فحسب، وإنما يتحقق أيضاً في لغة القصيدة ذاتها في ماتدخره حروف الكلمة من ثراء صوتي دال، في ما بين كلمات الجملة الواحدة من جوار متفاعل، وفي ترابط هذه الجملة مع غيرها على نسق معين: فلننظر إلى ثراء الدلالة الناتج عن العلاقات المتواشجة بين الكلمة وأصواتها وبين الكلمة والجملة وارتباطها بما قبلها وما بعدها وتجسدها الفيزيائي على بياض الورق، وتعالق كل هذا بالإيقاع الداخلي وماخلفه من موسيقى داخلية مشحونة ومتوترة وكثيفة، هذا من جهة ومن جهة ثانية كيف استطاعت هذه اللغة بتلويناتها أن تكون الجسد للغة الشاعر- إن صح التعبير-

مالذي يجعلني أقفز من هذا الأذان

لأصلي للذي علمها أسماءه

ثم رماني للأغاني

نلاحظ حيوية وديناميكية هذه الأسطر الشعرية لكثافة الأفعال الموجودة فيها (يجعلني، أقفز، أصلي، علمها، رماني)،خمسة أفعال في ثلاثة أسطر شعرية قصيرة تتناوب بين المضارع الذي يشي بحالة الشاعر النفسية الحالية التي يشعر بها في زمن تأمله والتي تتناوب فيها الفاعلية بين الضميرين المقدرين: المتكلم والغائب، والماضي (علمها، رماني) واللذان يبوحان بدلالات الغياب والإقصاء والنفي، هذا التعالق بين الإنسان وخالقه يفصله تساؤل وجودي: ماالسبب الذي يدعو الإنسان إلى الصلاة (لآله) وهو الضمير الغائب المقدر في الفعل (علمها) ثم لم يعد معنيا بمخلوقه لأنه رماه للأغاني، والفعل رماني بجسد كلية النبذ والإقصاء وجاءت إضافة الفعل إلى مفردة الأغاني لتفجر دلالات أخرى: الضياع والانكسار واللجوء إلى خيار وحيد هو (الغناء). هذا فضلاً عن حروف المد التي زخرت بها هذه الأسطر الشعرية.

وثانيا: الإيقاع الخارجي الناتج عن الوزن، وهو هنا وزن البحر المديد وجوازاته واللعب بهذه الجوازات، والتقفية التي كان حرف النون المكسور أساسها وعمادها، ولا يخفى ما لخصائص هذا الصوت المكتوم واللين والخافت ذي الغنة والذي جاءت الكسرة لتجري صوته وتمده بدلالة الانكسار، من تأثير دال على عاطفة هذه القصيدةوغنائيتها، ثم تأتي خاتمة التأمل: (لاشيئ يعيد الروح في هذا المكان) والتي سوف تتكرر في معظم مقاطع القصيدة لتشكل لازمة لها مع يعض التلوينات فيها.

التأمل الثاني

انكسار الزمان عن سيرورته الطبيعية، ونأي المكان عن أصحابه الحقيقيين، جعلا إنسان هذا المكان يتحول إلى شجر، وناي، وحقل يمتد في اللوحة المرئية، أوصوت يمتد على طول اللحن (سوناتا على ضوء القمر) وبعبارة أخرى لقد تحول إنسان هذا الزمان وهذا المكان إلى (مجاز) لأن كل مافعله في الزمن الواقعي لم يؤد إلى حل يقود إلى النجاة، أو إلى نتيجة مجدية على الأرض، تعيد إليه كيانه الإنساني الواقعي، لذلك فهو لايطلب إلا أن يعود إلى مايشبهه، إلى إنسانيته، (نحن لانطلب من مرآتنا إلا مايشبهنا، ويذكر إنهم الماء (أصل الحياة) وإنهم الضفة/ البر/ لنهر يجري بين صوت غير مسموع، وحجر، وهم كل مايمكن أن يخرج من الأرض من ثمر، وهم آثارهم التي يتركونها في المنافي، ومع ذلك فهم يحتاجون إلى معجزة لكي يجدوا مكانا على هذه الأرض من أجل أن يدفنوا موتاهم فيه:

نحن أوراق الشجر،

كلمات الزمن المكسور، نحن

الناي إذ نبتعد عن الناي . ونحن

الحقل إذ يمتد في اللوحة ...نحن

نحن سوناتا على ضوء القمر

نحن لانطلب من مرآتنا

غير مايشبهنا،

نحن لانطلب من أرض البشر

موطئا للروح؛

نحن الماء في الصوت الذي ينادينا

فلا نسمع. نحن الضفة الأخرى لنهربين صوت وحجر

نحن ماتنتجه التي ليست لنا

نحن مانترك في المنفى وفينا من أثر

ومع كل الإسهاب السابق في تعريف الجماعة، وفي تأصيل حقها في الأرض، فهم يحتاجون إلى معجزة لكي يجدوا مكانا على هذه الأرض لكي يدفنون فيه موتاهم:

وعلينا أن ندور الآن حول الكرة الأرضية الحبلى بمن يشبهها،

وبمن يسقطها عن عرشها العالي

لكي ندفن في أي مكان،

هنا -في هذا التأمل- نجد الشاعر يتبنى صوت الجماعة ويتماهى معه، فحيثما كان الحديث عن المأساة الفلسطينية، يختفي الفارق بين صوت الشاعر الخاص، ورؤيته لمأساته الشخصية، وبين صوت الجماعة التي يجد نفسه منها وإليها، فهذا قدره مهما حاول التخفف من ثقل هذا العبء. نلاحظ أن المقطع بكامله ذو لغة إخبارية، والضميرنحن تكرر فيه عشر مرات، كما لو أن الشاعر يريد أن يعوض بفقدانه لمكانه الشخصي وبتقريره عدم الانتماء إلى أي مكان آخر، النأكيد على انتمائه إلى الجماعة وإلى ذاكرتها (نحن أوراق الشجر، نحن الناي، نحن سوناتا) ويعيدنا التناص في جملته (نحن الماء في الصوت) إلى موروثه الديني والثقافي من من القرآن الكريم:(وجعلنا من الماء كل شيء حي)، والتناص مع سوناتا على ضوء القمر تحيل إلى الثقافة العالمية التي يتمتع بها الشاعر. سنرى كيف كان التشبيه البليغ أحد وسائله البلاغية في هذا المقطع لتوليد حقل من الدلالات التي أضاءت روح النص وقصدية الشاعر. من المعروف أن (درويش) يتمتع بخيال حسي رفيع وهو ويؤمن أن الواقع هوالمرجع الأول للشاعر (في مقابلة له على الفضئية اللبنانية) لذلك فإحالاته دائما مرجعيتها واقعية. ونجد مصداقية هذه المقولة من خلال تصويره للجماعة، فالجماعة هي: أوراق الشجر، الناي، الحقل، الماء، وربما يميل إلى هذا النوع من الخيال الحسي لأنه يجد فيه وسيلة قريبة لإعادة بناء الواقع المنكسر جمالياتها وتفجير الدلالات منها أحد أشكال التعويض الممكنة لروح قوية كروحه تأبى أن تنكسر كما لو انه يحتمي باللغة كبديل للواقع، وبالتالي يخلق واقعا خياليا يمتلكه.(ذهب الإلزابيثيون في النصف الثاني من القرن السادس عشر أبعد من أفلاطون في اعتقادهم أن الشعر يفتح بابا للحقيقة أبعد من حدود العقل، وكان ذلك نتاج أفلاطونية محدثة مسيحية ترى في الخيال صفة إلهية ووسيلة لرأب الصدع بين السماء وعالم الطبيعة الذي تسبب في السقوط من الجنة(11). فهل كان درويش يومئ إلى هذه الفكرة من بعيد؟ فكرة التشابه بين فقدانه لمكانه الشخصي، وبين فقدان آدم للجنة؟؟ فهو، وشعبه لم يعودوا الشجرة بل أصبحوا في المنافي أوراق الشجر، والناي إذ يبتعد عن البيت، وسوناتا على ضوء القمر، وهم الماء الذي لايسمع من الضفة الأخرى من يتاديه، وهم ثمار الأرض التي لم تعد لهم، وهم ثمار الأرض التي كانت لهم، وهم أعشاب الإناءالمنكسر (المكان المفقود)، فما جدوى أي مكان على هذه الأرض التي لايجدون فيها مكانا لقبر يدفنون فيه؟ ولا يخفى ما لإامتداد هذه التشابيه على مساحة المقطع كله وكثافتها من دلالات تحمل الإحساس الحاد بالفقد والاغتراب والنفي، ونجد أن الزمن فيها قد تحجر في الحاضر أي في لحظة التأمل السريعة له، لتطل أخيرا على المستقبل عبر الرؤيا التي يختتم بها مشهده الحزين أو تأمله الثاني والسريع:

وعلينا أن ندور االآن حول الكرة الأرضية بمن يشبهها

وبمن يسقطها عن عرشها العالي

لكي ندفن في أي مكان،

التأمل الثالث

يستهل الشاعر تأمله الثالث بأحرف مقطعة: ألف . باء . وياء . ومرة أخرى يتداخل الموروث الديني في آلية التناص مع القرآن الكريم، إذ تذكرنا هذه الأحرف بافتتاحيات سور قرآنية (ألم، ألمر...) وربما كان يرمي بهذا الاستهلال إلى أننا كنا نملك الأرض كما نملك اللغة، ومن الألف إلى الياء لم نفهم معاني االارتباط بهذه الأرض ولم ندرك أصالة هذا الارتباط، فقد تعاملنا معها بطيش طفل ( كما يقضم طفل حبة الخوخ)، ولم تكن بالنسبة لنا زوجة شرعية نتقاسم معها الحياة في السراء والضراء ولا نتخلى عنها تحت أي عنوان، بل كانت عشيقة عابرة ترمى متى فرغت شحنة الحب واستنفدت نفسها، لم يتعامل إنسان هذا المكان مع هذه الأرض معها كمحبوبة، أوزوجة، أو شريكة كاملة، بل كزانية ترمى بعد أن تؤدي عملها:

ألف . باء . وياء .

كيف كنا نقضم الأرض

كما يقضم طفل حبة الخوخ

ونرميها كما يرمى المساء

في ثياب الزانية!

ومن الألف إلى الياء لم يكن الشهداء سوى مادة للتفاخر، وليس لحمل رسالتهم والبناء عليها، لقد استهلكت معاني الشهادة حتى وصلت درجة الابتذال، والنتيجة الهاوية تغفر فاها لتدفن من تبقى من الأحياء، وعلى الرغم من كل هذه المعطيات والمشهد الحطام، يصر الشاعر على أن يواصل نشيده، وينحني على قلبه المكسور ويطلب منه ان يتوحد معه لأنه بارقة الأمل التي تشي باستمرار الحياة:

ألف . دال . وياء

قد دخلنا الهاوية

دون أن نهوي، لأن السنبلة

 الواقع.

التأمل الرابع

يفتتح هذا المقطع بمشاهد متتالية من شأنها أن تعيد الحياة للروح لو كانت ظروف الحياة طبيعية، ولكن ماذا تبقى للروح أصلا بعد ضياع المكان وانكسار الزمان، ومنذ البداية يقرر ألاّشيئي يمكن أن يحرك الروح:

أي شيئ يخمش الروح هنا

أي شيئ يخمش الروح؟

وما

شأني

أنا

بيد تفتح باب الفجر للقهوة؟

ماشأني أنا؟

نارنجة تضحك كي تضحك...

شمس تفتح الوردة كي تفتحها...

لاشيئ، لاشيئ، بياض.

ومع ذلك فإن لون البياض هو السائد، والبياض (هو لون الفراغ، السكون، الجمود، وهو أيضا دال على التكوين الذي قد يستمده من بيضة الكون والتشكيل ولعل فكرة التكوين تتصل بفيزيائية الأبيض، الذي يعد الألوان مجتمعة في حركتها الدائرية، ومن تشكيلات هذا اللون الخاصة عند الشاعر الموت فيأتي تارة مألوفا عندما يساق في تلوين موت الشهيد (يجيئ الموت أبيض) (أعراس) ليدل على الموت بسلام، ويأتي تارة أخرى مرتبطا بتجربة الشاعر المكانية ذات العلاقة الوطيدة بالبحرالأبيض المتوسط وبخاصة أثناء وجوده في بيروت(12).

ومن هذا البياض/ الفراغ/ الموت، يطل التاريخ ويضغط على روح الشاعر: الغزاة الذين مروا ولا يشهد عليهم سوى آثارهم (حجر يشهد) وكذلك هو سوف يمر في هذه الحياة وسوف يشهد عليه حجر (قبر) وتشهد عليه كلمات (قصائده) ثم يصبح هو الآخر ذكرى، مجرد إنسان مر على هذه الأرض وتبع أنثاه، ولسوف تتابع الحياة دورتها (سفوح تشرب البحر، قطاة تمشي، قطط بيضاء تتزاوج، دفلى ترفع من شأنها الأغنيات) ولكنها ستغير سكانها (ثابت هذا الزوال، زائل هذا الثبات) وهنا يدخل الشاعر في الحالة الصوفية التي تجد تناصا لها في الجملتين( والذي أعرفه أجهله، والذي أجهله أعرفه) وتجد متنفسا لها في فعل الحب الذي يأتي غامضا:

وفتاة تقسم الفجر بساقيها سريرين

ولا تدخل إلا الغامض الغامض

وبعد فسحة من البياض يتركها الشاعر متعمدا وينتهي التأمل بمثل ماابتدأ به:

... لاشيئ يثير الروح في هذا المكان

هذه اللازمة التي تؤكد على أنه لاشيئ مهما كان جماله يمكن أن يعيد للروح نبضها وإشعاعها بالحياة. نلاحظ أن الاستعارة هنا هي السيدة، وهي التي تخطف المعنى الأول الذي يتولد من القراءة الأولى لتفتحه على مجموعة من الدلالات التي تتبطن على أكثر من معنى في قراءة ثانية وثالثة أو أكثر لها، وهنا بالتحديد تكمن جمالياتها، فالشاعر يمزج بين الذاكرة والخيال وتختلط الصور فلا نعود نفرق بين الصور القادمة من الذاكرة، وتلك المنسوجة من الخيال. وفي هذا السياق يماثل هوبز بين الذاكرة والخيال، ويعتقد أن (عملية الإنشاء تنطوي على تقليب الصور المخزونة في الذاكرة كما يكنس غرفة في البحث عن جوهرة(13) وفي العودة إلى الاستعارات التي اختارهادرويش من الذاكرة من بين الصور المخزونة فيهانجده يختار:

1-  اليد التي تفتح باب الفجر للقهوة ( سنجد أن لرائحة القهوة سحرها المميز عند دريش ولا ننسى الفصل الكامل الذي خصصه في كتابه ذاكرة للنسيان في وصفه لشوقه الشديد لفنجان قهوة عندما كان بيته يتعرض للقصف في بيروت، وكيف عرض نفسه للخطر من أجل صنع هذا الفنجان). لنرى الآن كم من الصور تستدعي هذه الاستعارة: البيت الأول والأم، الحبيبة الأولى، الأصدقاء الأول، اكتشاف الرائحة للمرة الأولى

2- نارنجة تضحك كي تضحك استعارة دلالات الطفولة وعبثها.

3- شمس تفتح الورة كي تفتحها عودة إلى الحياة الطبيعية.

4- حجر يشهد: آثار تدل على أصحابها الذين مروا على هذه الأرض. كل تلك الصور المبعثرة والمستدعاة من الذاكرة التي أنشأت إنشاء آخر بواسطة المخيلة الشعرية الخصبة، لم تعد تثير روحه، إنه يثبتها باللغة فقط ولكنه ينسحب من فعل الحنين إليها ويترك للقارئ/ المتلقي/ أن يفتح هو ذاكرته لتلك الصور ويصب فيها مايشاء من حنينه الخاص إلى صوره المفقودة، إنها مشترك إنساني تجمع وتوحد الناس في فعل الحنين إلى زمان ومكان ضائعين في تلافيف الذاكرة .

التأمل الخامس

إن التمثيل السابق للفضاء المكاني لايتأتى لنا أن نفهم دلالاته إلا عبر نبشنا لذاكرة المفردات المنتقاة ووضع الشاعر لها في سياق يدفع المتلقي إلى الاشتغال على تأويلها ومحاولة إيجاد الروابط بين علاقات المشابهة بينها، وما القاسم المشترك الذي يجمعها مع المناخ العام للقصيدة:

التمثيل الأول : تشبيه مؤكد : ساحل يلتف كالأفعى

التمثيل الثاني : استعارة تصريحية: أجراس خصر الراقصة

في التشبيه تحيلنا مفردة (الأفعى) إلى مجموعة دلالات، ميثولوجية ارتبطت في معظمها بالخطيئة التي أخرجت آدم من الجنة، ونفسية ارتبطت برموز الأفعى في التحليل النفسي : المراوغة، التلون، التجدد، ودلالات مباشرة مرتبطة بالأفعى كونها من الزواحف الكريهة. أما الاستعارة فتحيلنا مفردة الراقصة ايضا إلى مجموعة من الدلالات التي تصب جميعها في معنى الابتذال والخطيئة والرخص، وبيروت هي الراقصة على الرغم من الجراح التي كانت تنزفها في ذلك الزمن.

التمثيل الثالث : ملوك توجوا البحر بإكليل الزبد: يتألف أيضا من استعارة مكنية (توجوا البحر) وتشبيه بليغ (إكليل الزبد (البحر المتوسط الذي توجه الفينيقيون بحضارة امتدت من بيروت حتى قرطاج وشعت على سواحله كلها ثم انتقلت إلى شعوب المنطقة، يتوجه الآن الملوك الرعاع بإكليل الزبد. واما موطن الابداع الذي أود ان أشير إليه هنا على أنه لايوجد ارتباط دلالاي استعاري أو مجازي بين الزبد والبحر إلا أن توسط (إكليل) بينهما كتاج له ومجيئه بعد التمثيل الأول أزاحت معناه الحرفي وسمحت لنا أن نقرأه قراءة دلالاية فهو يمثل اللاشيئ الهباء، العدم اللاجدوى، كما أنه يتناص مع الصورة القرآنية التي يستدعيها (فأما الزبد فيذهب جفاءا)، ولهذا فإن التساؤل التقريري هنا يعني أنه لايمكن ان ينتهي أو يبتدئ اي شيئ في لحظة الانكسار هذه: انكسار الزمان والمكان والإنسان. لقد استنفد إنسان هذا المكان البر، وقتل البحر في مغامرة يائسة، وهنا نجده يقدم لنا مشهدا آخر لملامح المكان ولكن في عين استشرافية هذه المرة (عين الطائر) التي تطل على المستقبل لتقرا مايمكن ان يحدث من خلال قراءتها للماضي والحاضر: سوف يتتالى الملوك في سلسلة تبدو لانهائية تخلف استقرارا آسنا يعيد إنتاج نفسه : ملوك/ لصوص متسلطون يحولون شعوبهم إلى عبيد سوف يكفون عن ان يكونوا فاعلين إيجابيين في الحياة:

ملوك للأبد.

وعبيد للأبد.

لاأحد.

يسأل القيصر: ماشأني أنا

بولي العهد: أو هذا البلد؟

آه

ما

شأني

أنا

لنلاحظ الشكل الذي كتبت به (آه ماشأني أنا) لقد كتب كل مفردة منها في سطر للتأكيد على الانسحاب الكامل من الحياة الفاعلة والإيحاء بتراخي الزمن، لقد أصبحت هذه الشعوب تحرق من أجل بقاء الحكام على عروشهم. يختتم هذا التأمل باللازمة مع تغيير طفيف تطلّبه السياق: فقد استبدل بكلمة يثير كلمة يهز، والاهتزاز أقل من الإثارة، لقد ماتت الروح تماما. يحق لنا ان نتساءل: كيف تستطيع الصورة الشعرية وتمثيلاتها أن تنتقل إلى وعي الشاعر كنتاج مباشر لتبصر القلب ويقظة الروح وقلق الوجود الإنساني؟؟ للاقتراب من إجابة موضوعية لابد ان نقر اولا ومن دون تردد بوجود شعرية قوية، وروح عالية قادرة على خلق وتوليد الصور الأصيلة التي يكون لها قوة التواصل مع المتلقي، وقوة التأثير فيه بحيث تنبثق وبشكل فجائي كحقيقة كانت دائما أمام عينيه، ولكنها خافية عليه لأنها في حالة كمون، إلا أن شاعرا خلاقا يستطيع أن يكتشفها ويضعها بين يدي المتلقي. وفي العودة إلى التحليل السابق للصور الشعرية نجد أنها تنطبق عليها صفة( البدئية) والتي «تكون كامنة في أعماق اللاوعي وهي لاتخضع لاندفاع داخلي، وليست وحدها صدى للماضي، بل على العكس فمن خلال توهج الصور يتردد الماضي البعيد بالأصداء، ويصعب علينا معرفة: على أي عمق سوف يتم رجع هذه الأصداء وكيفية تلاشيها. فبسبب طزاجتها وفعلها يكون للصورة الشعرية هوية ودينامية خاصتان بها(13).

يبتدأ التامل بصورة الأفعى الملتفة على خصر الراقصة (ساحل بيروت) لينتهي بانطفاء الروح في هذا المكان وتحولها إلى فحمة بعد سلسلة من الصور المتداعية والتي تحيل جميعها إلى موت الروح (قبر يولد من قبر.. لصوص يعبدون الله.. ملوك للأبد، عبيد للأبد، وإلى الرؤية المستقبلية التي تومئ إلى أننا قادمون إلى مآساة سوف تكبر وتكبر».

التأمل السادس

جمود طال الناس والمكان قرون، وهزائم تتلو هزائم، وما يزال ضغط التاريخ طاغيا في تاملات الشاعر. إنه يستقرأ سيلان الزمان عبر الغزوات التي شهدها المكان ويستخدم الألوان للدلالة على إحساسه بالأشياء، فالجدران بيضاء، والفراغ ابيض، والموت أبيض، والسكون أبيض في قاموس الشاعر، الموجة زرقاء (يتخذ اللون الأزرق ابعادا دلالية وإشارية متعددة فهو وصف للسماء الصافية، وللماء البارد، وللأيام السعيدة، أو يكون لباسا للحمقى أو المغفلين. وغالبا مايستخدم عند العرب في صورة منفرة، فالزرقة مذمومة في العيون وهي لون العدو ولون اللؤم ويستخدم في بعض الثقافات علامة على الحزن، ويدل ويدل اللون الأزرق- من الناحية النفسية - على الخمول والكسل والهدوء والراحة(14). وبتأمل المقطع يمكن ملاحظة البعد الدلالي النفسي- بصفة خاصة-وهو الخمول والكسل، وربما تكون له دلالة الشؤم أيضا من خلال السياق العام.

سوداء هي البهجة (يشير الأسود دلاليا إلى فقدان اللون وفي معظم الثقافات دال على مايستنكره ويتشاءم به من المعاني)(15) وفي السياق يستخدمه الشاعر للإشارة إلى موقفه الشخصي من الواقع المر والممعن في قساوته إبان الحرب والحصار في بيروت وإلى إحساسه الحاد بالحزن إثر تشرده الثاني وخروجه منها.أمّا دماء الشهداء فلم يشر إليها بلون بل استعار لها صورة:

والفكرة مرآة الدماء الطائشة

فلتحاكم عائشة

ولتبرأ عائشة .

آه، لاشيئ يثير الروح في هذا المكان .

إنها دماء طائشة، وهي ليست إلا انعكاسا مقلوبا لفكرة طائشة لم تدرس ولم تحسب، فأنتجت كل هذه الدماء التي ذهبت سدى. أما اللازمة فعادت إلى مفردة( يثير) التي تتناسب دلاليا مع هذا الكم المتراكم من الموت.

التأمل السابع والثامن

في هذا المقطع/ التأمل إعلان لعدم انتمائه إلى أي شيئ وكل شيئ لم يؤد- ولايؤدي ألى تحرر شخصي وجماعي يعيد الوطن لأصحابه (أي سلاح في يدي لايرجع الخبز إلى حنطته ليس سلاحي) ولا يعيد الحياة إلى نقائها الأول، فلتكن هذه المدينة أجمل مدينة في الوجود، ولتكن صباحاتها ورياحها وجراحاتها ماشاءت أن تكون، فما شأن الشاعر بكل هذا ما دامت تلك الرياح لاتفتح مدى أمامه، والجراح لاتولد عنده الها طازجا، والسلاح الذي كان في يده/ سلاح الفلسطيني/ لم يرجع الخبز إلى حنطته؟ ويأتي التأمل الثامن امتدادا واستكمالالما قبله في محاولة التخلص من سمات أرض الهوية الضيقة وانسحاب إلى الداخل الشخصي في محاولة للتمسك بالتجربة الشخصية والوجدانية في اختبار الانتماء وتحديد الهوية:

ماشأني أنا الضائع مابين سماء وحجر

بفضاء لم أطيّر فيه أسراب حمامي،

لم أدخن فيه أحلامي،

ولم أصطد قمر...

كل غصن لم يقلد لعبتي الأولى،

ولم يجرح يدي ليس شجر

وليكن ما كان،

لاشيئ يهز الروح في هذا المكان .

التأمل التاسع

ندخل المكان/ الزمان الشعريين الذين تتحدد هويتهما ليس بالجغرافيا أو بالتاريخ ولكن بالحياة التي عاشها الشاعر فيهما. يقدم لنا المكان من خلال تفاصيل شخصية وصغيرة من حياته، وهذه التفاصيل تحمل دائما صفة (الصور البدئية أو الصور الأولى)، ومرة أخرى أعود إلى التأكيد على أن هذه الصور تعود بنا إلى أصول الأشياءومنابعها، وتحمل صفات " الجمع والتوحيد " من خلال انبعاث الذاكرة الجمعية، ومن خلال تمثيل المكان: بالرائحة، بالحبيبة الأولى، بالأب، بالأم، بالمرأة الأولى صخرة الأجداد، المكان الفاتحة لكن لم يتبق من هذا المكان الأول سوى الذكريات، والزمان يبتعد كموضوع قابل للاستعادة، حتى أن الاسم نفسه بدأ يفقد وضوحه في الذهن ويتلاشى في ضباب النسيان وهكذا يتحول المكان إلى أيقونة (أب علق بحرا فوق حائط) تضيئه الذكريات، والحنين يواصل حفره في قلب الشاعر لكن( لاشيئ يضيئ الاسم في هذا المكان )إن الصور في هذا التأمل تكتسب (حقيقة وجوديةوتبدو وكأنها تكثيف للنفس بكليتها)(16) وبخاصة إذا عرفنا الضغوط النفسية التي كان الشاعر يتعرض لها ويرزح تحت وطأتها‘ لكننا لانستطيع إحالتها إلى ذات الشاعر وتجربته الخاصة فقط بل يمكن إحالتها أيضا إلى ذات جمعية كان الشاعر دائما صدى لها، دلالاتنا إلى ذلك تدفق الصور وانبثاقها التي كانت في حالة كمون ثم انوجدت بالفعل من خلال التجسيدات الحسية لها والتي اكتسبت فاعليتها وقوتها في التأثير عند المتلقي :

المكان الرائحة

قهوة تفتح شباكا. غموض المرأة الاولى .

أب علق بحرا فوق حائط

المكان الشهوات الجارحة

المكان المرض الأول...

أم تعصر الغيمة كي تغسل ثوبا . والمكان

هو ماكان وما يمنعني الآن من اللهو.

المكان الفاتحة،

المكان السنة الأولى ضجيج الدمعة الأولى .

التفات الماء نحو الفتيات . الوجع الجنسي في أوله، والعسل المر.

هبوب الريح من أغنية . صخرة أجدادي . وأمي الواضحة

المكان الشيئ في رحلته مني إلي

المكان الأرض والتاريخ في

المكان الشيئ إن دل علي .

آه، لاشيئ يضيئ الاسم في هذا المكان .

لقد أوردت المقطع بكامله كي اقيس كثافة الخيال، والبناء البلاغي فيه وقوته في الإبلاغ أو الإخبار عن طريق الاستعارات والكنايات التي تفضي إلى فضاء واسع من المسكوت عنه والذي يقتضى تاويله وكيف (تحققت الدرجات العليا في التلميح، والرمزية، والتعريض، والتصريح وهي دوافع جعلت الجرجاني يجزم بأن الكناية أبلغ من الإفصاح، والتعريض أوقع من التصريح، وان للاستعارة مزية وفضلا، وأن المجاز أبدا أبلغ من الحقيقة إلا أن ذلك وإن كان معلوما على الجملة فإنه لاتطمئن نفس العاقل كل ما يطلب العلم به حتى يبلغ غايته وحتى يغلغل الفكر إلى مزاياه)(17)  لقد مثل الخيال جوهر هذا المقطع/ التأمل، وهو من اهم خصائص أساليب درويش الشعرية. وإذا رجعنا إلى تعريف نقادنا القدماء إلى الخيال نجد انهم توصلوا إلى نتيجة مفادها أن مقدار براعة الشاعر في التصوير يكون مقياسا على شاعريته، وكلما أوغل التصوير في الابتعاد عن المباشرة كلما كان أقدر على الإثارة الوجدانية، وأكثر تأثيرا في النفس، من أجل إحداث الاستجابة المطلوبة عند المتلقي. ولقد حدد أولئك النقاد ثلاثة معايير لجودة الصورة الشعرية:

المعيار الأول: الجدة والابتكار: لتقدم الدهش للمتلقي وتفاجئه بالإيحاءات والدلالات غير المتوقعة، وتخترق المألوف في اللغة لتحرفه عن المعنى الأصلي وتفتحه على معنى ذهني ومثاله: المكان الرائحة قهوة تفتح شباكا. فإسناد الرائحة إلى الضمير الغائب في جملة إخبارية يقتضي تأويل المسكوت عنه: إن ذاكرة الرائحة تستدعي أمكنة لم تعد موجودة، وهوإذ يتذكر ذلك المكان المفقود يتذكر بالضرورة زمانا مرتبطا بها، فالمكان (هو) الرائحة التي عندما يشمها تستدعي صور المكان القديم وزمان، والتشبيه البليغ هو الذي قدم هذا التعالق الجميل. وللقهوة يد تفتح شباكا على الماضي، فالتشخيص في هذه الاستعارة الذي يعطي الفاعلية ليد القهوة يجعل البناء اللغوي الشعري للجملة يمور بالحركة، وإن الربط غير المتوقع بين طرفي التشبيه في المثال الأول، وفي الاستعارة في المثال الثاني يعني الجدة والابتكار، ويعني ايضا أنه لم يعد وسيلة لنقل الشعور بل أصبح الشعور ذاته. إن كثافة الخيال تتمظهر في هذا المقطع في توالي التشابيه والاستعارات لشيئ واحد هو المكان، وفي تلويناته: تشبيه الحسي بالمعنوي: المكان الرائحة، تشبيه الحسي بالحسي: المكان اليد، تشبيه الحسي بالذهني: المكان غموض المرأة . أما الاستعارة التي هي تجسيد للمعنى يعتمدعلى (ما لاتقع عليه الحاسة إلى ماتقع عليها لأن ماتقع عليه الحاسة - يقول ابن رشيق- اوضح في الجملة مما لاتقع عليه الحاسة، والمشاهد أفصح من الغائب)(18).

المعيار الثاني: الصدق الفني: ذهب بعض التقاد إلى أن)( أعذب الشعر أكذبه) وذهب آخرون إلى خلاف ذلك والصدق الفني (هو أن تكون الصورةالشعرية معبرة عن تجربة شعورية حقيقية، تعبيرا صادقا يحسه القارئ)(19) فتنتقل العدوى إليه ويعيش تجربة الشاعر ذاتها كما هي في حرارتها وخصوبتها، أما إن كانت خالية من الصدق الفني فتغدو باردة ويبقى المتلقي في معزل عن التجربة الأصلية يقرأ ولا يشعر، وليس لهذا علاقة بجودة الشعر وحسن صياغته واجتهاد الشاعر في ذلك، ( ولعل هذا ما دفع القاضي الجرجاني إلى القول: وقد يكون الشيئ متقنا محكما، ولا يكون حلوا ومقبولا، ويكون جيدا وثيقا وإن لم يكن لطيفا رشيقا، وقد يجد الصورة الحسنة والخلقة التامة مقلية ممقوتة، وأخرى دونها مستحلاة موموقة). إذن لقد اكتشف نقادنا القدماء ان هناك سراً يكمن في استحسان القارئ لشعر ما، وأن هذا السر لايمكن الوقوف عليه تعريفا، ولكن يمكن الاحساس والشعور به ومقياس ذلك عدوى التجربة الشعورية التي تنتقل من الشاعر إلى القارئ، لهذا خلص ابن رشيق إلى القول (ليس للجودة في الشعر صفة، إنما هي شيئ يقع في النفس عند المميز)(20). ومن المفيد أن نذكر هنا بأن أهم ما يميز مشروع درويش الشعري علاقته بقارئه. وليس سرا أنه يحظى بجماهير من القراء لهذه العلة بالذات، فهي التي قربته منهم على الرغم من أنه أبعد الشعراء عن الاستسهال والسقوط في ظاهرة الشعبوية .

المعيار الثالث: التشخيص: وهو في المقام الأول عملية نفسية تهدف إلى إثارة الانفعال في المتلقي عن طريق تشخيص المعاني المجردة وتأكيدها وتثبيت الصفات لها (قهوة تفتح شباكا، أب علق بحرا، المكان الشيئ إن دل علي) وغني عن القول إن كل تشخيص ينطوي انحراف أو (انزياح) في اللغة عن درجة الصفر، وهذا الانزياح هو الذي يولد (فجوة التوتر) عند المتلقي مما يدفعه إلى التحرك لاستخراج المعاني المتبطنة والمسكوت عنها، وإلى معرفة كيف تتجلى مقاصد الشاعر في خطابه الشعري في شكل صيغ، وبنى، وكلمات، وخيال ( التفات الماء نحو الفتيات ) ففي تأويلنا لهذه الصورة/ الاستعارة : إن انعكاس صورة الفتيات الجميلات على صفحة الماء الصافي تجعل الماء يلتفت إليهن، ولا يخفى ما لكلمة إلتفات من إيحاءات وظلال تلقيها ففيها الحركة الفجائية، وفيها الانتباه، فضلا عن التشخيص، وأما صيغة الاسناد الإضافي- وهو تركيب إضافي انزياحي- فإنه يترك فضاءا واسعا لمخيال القارئ كي يؤول ويستنبط المعاني والمقاصد، إضافة إلى ما تتركه فيه من تأثر بجمال الاستعارة وابتكارها .

التأمل العاشر

يأخذ البحر في هذا التأمل السريع استعارة كبرى ومركزية، إنه الوطن الذي نشر حضارته من صور إلى إسبانيا، ومع ذلك فإن مدنه الآن تتساقط، بيوته خالية من سكانها وشبابيكها مفتوحة على الموت الكحلي، و فيه أيضا إعلان لموت الشاعر بموت فكرة العودة وباختفاء المرأة الأصيلة ( الأرض) ونجد أنفسنا أمام مجموعة من التساؤلات المعلقة من دون إجابة، يتساءل مثلا: لملذا لايستعيد هذا البحر الوطن بداياته؟؟

هاهي الأرض تدور

فلماذا لاتعود الآن من حيث أتيت؟

ولماذا لايعلن أحد أن البحر ميت؟

ثم يختتم التأمل بأغنية وداع موجعة تذكرنا بقصائد الرثاء العربية، يعلن فيها موت كل شيئ مع موت الإنسان على شواطئ هذا البحر . ومرة أخرى تنبثق الصور الدالة على المكان الضائع وتعيد بناء خصائصه التي يعرفها جيدا إنسان هذا المكان

أيها البحر الذي أنقذنا من وحشة الغابات.

يابحر البدايات ... ( يغيب البحر)

ياجثتنا الزرقاء، ياغبطتنا، ياروحنا الهامد من يافا إلى قرطاج، ياإبريقنا المكسور،

يالوح الكتابات التي ضاعت .. بحثنا عن أساطير الحضارات

فلم نبصر سوى جمجمة الإنسان قرب البحر...

ياغبطتناالأولى ويادهشتنا

هل يموت البحر كالإنسان في الإنسان؟

أم في البحر؟

لاشيئ يثير البحر في هذا المكان

البحر الذي حمل مرة حضارة المكان من يافا إلى قرطاج، والأبجدية الأولى (لوح الكتابات) والحضارة الموغلة في التاريخ (إبريقنا المكسور) لم نعد نبصر فيه سوى جمجمة الإنسان الحاضر فهل مات البحر في البحر حقا، أم مات فينا؟ لاشيئ يثير اليحر في هذا المكان. إن أرواحنا كمتلقين تتلقف تلك الصور قبل أن تعيها عقولنا وقبل أن تبدأ بتفكيك روابطها وعلاقات التشابه والتمثيل فيها. ذلك أن الشاعر استطاع القبض على الوميض المفاجئ للمشاهد التي انبثقت من عالمه الداخلي ليعيد تاليفها وتنسيقها باللغة. وهذه الثنائية- ثنائية الذات والموضوع- أو ثنائية الحلم/ الواقع تتجلى في التدفق العفوي للصور والتي تبدو كما لو- وهي كذلك- تحرير للذات من ضغط الذكريات والتاريخ، وتحرير للموضوع - الذي هو الوطن الضائع- من هاجس الضياع الكامل والنسيان عبر تثبيته في الصورة الشعرية التي وجدت تجلياتها في اندفاعة روحية مهومة حول مكانها البدئي، وأخيرا تحرير للواقع من ضغط اللحظة التراجيدية المنكسرة . وتاتي اللغة الانشائية في النداءات التي تتكررلتعزز معنى البعد والنفي والاغتراب ولذلك نجد أن الشعر يتخذ شكلا نثريا على بياض الورق ليستنفذ الشحنة الانفعالية العالية التي غصت بها حنجرة الشاعر، ثم تأتي نهاية التأمل بتكرار اللازمة (لاشيئ يثير البحر في هذا المكان) . لقد لعبت اللغة الانشائية من خلال التناوب بين الاستفهام والنداء دورامركزيا في ايصال الشحنة الانفعالية من الشاعر إلى المتلقي، وكذلك لعب الشكل النثري الذي استخدم فيه الفاصلة للدلالة على الفصل والوصل بين الجمل السابقة والجمل اللاحقة في سطر شعري كامل يخفي الإيقاع الوزني ويكسر رتابته، بينما لانكاد نجد للقافية أثرا في القسم الثاني من التامل، ليتيح للايقاع الداخلي النمو والتصاعد في مونولوج درامي محمول على لغة غنائية باهرة، جعلتنا نعيد طرح التساؤلات الوجودية نفسها واستعادة البدايات والنهايات نفسها، والعنصر الثالث وهوالخيال الذي كان له كبير الأثر في الاستجابة الوجدانية المباشرة والعفوية في أرواحناكمتلقين، والعنصر الرابع هو الايقاع فقد أثرى المقطع موسيقيا ودلاليا

وذلك لتعدد مصادره:

الايقاع الناشئ عن التكرار:

1- تكرار حرف: تكرر حرف النداء اثنتا عشرة مرة

2- تكرار لفظ: تكرر لفظ البحر ثلاث عشرة مرة

3- تكرار صيغة ألإضافة والإضافة المختصةإحدى عشرة مرة

الإيقاع الناشئ عن المقابلة: والمقابلة هي ( الجمع بين أكثر من شيئين متضادين في المعنى(21)، والإيقاع في هذا الأسلوب ينشأعن التضاد بين المعاني، ولا يقتصر على الألفاظ فقط بل يتجاوزها إلى التراكيب، ومن هذا التصادم والتنافر تتفجر المداليل الجديدة التي تحمل معها إيقاعاتها التي تكسر الرتابة الزمنية/ الوزن/ وتخلق سياقا جديدا يؤكد ويثبت الفكرة التي يراد إيصالها من جهة، ويساهم في إعلاء المواطن الجمالية في النص ومن ثم ( فهو يساهم في تحقيق شعرية النص جنبا إلى جنب مع العناصر الأخرى كالصورة، خاصة أن الصورة أحيانا هي التي تولد كلا من هذه المتضادات(22) ومثاله: سلاما أيها البحر المريض، أبحر من صور إلى إسبانيا، يسقط، تسنده، ترفعه، جثتنا، غبطتنا، روحنا الهامد). والإيقاع المتولد بين دلالتين متضادتين أكبر أثرا، وأبلغ في النفس لأنه ينتج فجوة تخلق توترا ناشئا من المتناقضات والتي تخلق بدورها جوا معديا تضع المتلقي في قلب التجربة الانفعالية.

4- الإيقاع الناشئ عن الاعتراض: ومعروف أن الجملة المعترضة تقف حائلا بين إتمام المعنى عندما تعترض بين المسند والمسند إليه مثلا، وقد تطول اوتقصر وهذا تحدده الدفقة الشعورية التي يريد الشاعر استنفاذها عاطفبا من جهة، والتأكيد على معانيها من جهة اخرى ومثالها:

يابحر البدايات ...[ يغيب البحر]

يلي هذا السطر سطران شعريان طويلان، ثم يأتي جواب النداء على شكل تساؤل معلق يختم به تأمله:

هل يموت البحر كلإنسان في الإنسان

أم في البحر

5- تكرار اللازمة: اللازمة تشكل خاتمة لتأمل وبداية لآخر ومن مهامها الربط بين المقاطع، والعود على بدء لإشاعة جو نفسي موحد للقصيدة، وهو هنا- وتحديدا- جو الفقد والمفارقة الذي ينتج بدهيا عاطفة الحنين.

6- الإيقاع الناشئ عن الجناس: والجناس إما أن يكون تاما بتكرار الكلمة بجميع حروفها، او ناقصا، أي تكرارها ببعض حروفها والجناس حامل ثري لمافيه (من قوى التأثير المختلفة عبر الجرس، وتشابه الحروف، ورسم الكلمات، وأيضا إيهامه للعقل بتشابه الحروف والمخالفة التي تتبع هذه التشابهات(23) ومثاله: المحاصر، صور، جثتنا، غبطتنا، الكتابات، الحضارات، غبطتنا، دهشتنا. ومن هذا الصدام بين المخالفة والمشاكلة يتولد الإيقاع الصوتي نتيجة لتشابه الحروف، والاختلاف في المعنى الذي يخلق الدهشة والتوتر.

7- الإيقاع الناتج عن الروي: لقد تعددت القوافي في هذا المقطع، ونجدها على التوالي: النون الساكنة، التاء المربوطة المضمومة،الراء الساكنة، التاء المبسوطة الساكنة، النون المطلقة، وأخيرا النون المكسورة في اللازمة. والقوافي التي اختارها نجد لها الصفات التالية: المهموسة الشديدة، والرخوة الشديدة، بالإضافة إلى صفة التكرير في حرف الراء. وأخيرا إن تكرار ستة ضمائر بالأصوات ذاتها: غبطتنا، روحنا، إبريقنا، غبطتنا، دهشتنا، قد اثرى المقطع بمزيد من الإيقاعات.

التأمل الحادي عشر

نجد في هذا التأمل اختصارا لفلسفة الشاعر بعد الهجرة الثانية: حين يكون الإنسان مكرسا للرحيل، وحين يعتاد المنافي، تصبح كل الأمكنة زبدا/ هباءا/ يطفو عليه ويميل مع اتجاه الرياح اينما شاءت، وتصبح الأزمنة لحظة لقتل هذا الإنسان المستباح، ويصبح الكل متربصاً بالكل، والكهنة لهم مهنة واحدة منذ الأزل: عبيد في خدمة السلطان، والعاشق له مهنة واحدة: أن يكون عبدا للجمال الطبيعي البسيط:

حين نعتاد الرحيل

مرة

تصبح كلَ الأمكنة

زيداً نطفو عليه

و نميل

كلما مالت بنا الريح

ونعتاد بكاء الأحصنة

حين نعتاد الرحيل

مرةً

تصبح كلُ الأزمنة

لحظةً للقتل

كم متنا وكم متنا،

و كان الكهنة

خدماً للسيف منذ المعبد الأولِ

حتى آخر الثوراتِ

و العاشق عبدَ السوسنة

تتجلى الروح المنكسرة في الهزائم المتكررة ( نعتاد بكاء الأحصنة )، وفي تمثيل المكان بالزبد، و الزمان ب (لحظة للقتل ) ولا ينقذ هذا المشهد الحزين إلا السطر الشعري الأخير

والعاشق عبد السوسنة

نفق مظلم يضيء نهايته عاشق يتعبد الجمال الإلهي _ الجمال الحقيقي، وسواء كانت السوسنة وردة سرعان ما تذبل، أم كانت مجازاً لحبيبة تذبل بانتظار حبيبها في هذا التأمل يعلو الإيقاع الشعري الوزني الناتج عن الوزن و القافية ونلاحظ تبادل القوافي الساكنة : القافية المطلقة وهي هاء ساكنة مفتوح ماقبلها و تسمى هاء الوصل (موسيقى الشعر العربي) الأمكنة، الأحصنة، الأزمنة، الكهنة، وتتناوب القافيتان اللام الساكنة المكسور ماقبلها، والهاء الساكنة المفتوح ماقبلها- والتي تسمى هاء الوصل- في عدد متوازن من تفعيلات البحر المديد الذي يتلاعب به فيستنفذ جوازاته، ولايخفى ما لرنين هاتين القافيتين من اللين والضعف والانكسار، وبذلك يكون الشكل والمضمون قد اتحدا في وحدة عضوية، وفي صدقية فنية عالية وجدت صداها في استجابتنا لتجربة الشاعر الانفعالية.

التأمل الثاني عشر

تتحول الأرض في هذا التأمل إلى جنة الله بعد أن كانت عقابه للإنسان الذي اختار المعصية وتقبل عقابه من أجل ان يمتلك المعرفة، ولكنها جنة أسيرة غازيها، والإنسان الذي يدافع عنها تحول إلى ضحية لاحول لها ولا قوة، فمن سيحتاجها؟؟ من سيحتاج بحرا أو يمامة أو قيامة ليكرس قوته وليكون سيد روما الأوحد:

وسلاما يتها الأرض الأسيرة

ياالتي كانت عقاب الله فينا

ثم صارت جنة الله الصغيرة

من سيحتاج ضحية

ليرى البحر امامه؟

من سيحتاج يمامة

ليربي طفله في المصل أو في البندقية؟

من سيحتاج القيامة

ليرى قاتله- التوأم مجهول الهوية

وهاهو منطق القوة في الأرض يتوج لروما على الرغم من الأثمان الباهظة التي دفعها الإنسان في سبيل تثبيت مبادئ الحق والعدالة والحرية، ولكن الأحلام تتحول إلى نار تحرق أصحابها والنتيجة هي: الضحية هي الإنسان والأرض معا :

من سيحتاج البقية

من

سيحتاج

البقية؟

هاهي الأرض بمن فيها ومن يمشي عليها

بندقية

هاهي الأرض لروما

ولروما دقت الساعة

دقت،

كل يوم يعيشه المهزوم يتمنى أن يكون آخر الأيام، وأحلامه كوابيس:

كل يوم آخر الأيام، والأحلام نار معدنية

وينتهي التأمل بمثل ما ابتدئ به: تحية وداع إلى الأرض الضحية. لاحظنا كيف انتقل الشاعر بتصاعد تدريجي من الصوت الفرد المهزوم والمنكسر، إلى التماهي مع صوت الجماعة/ جماعته/ المهزومة والمنكسرة أيضا لضياع الأرض/ المكان والذي هو أيضا المكان الشخصي للشاعر/ ليصل في هذا التأمل إلى ذروة مايريد أن يقوله – برأينا -: إنه انتقل من تصوير قدره الشخصي - الذي هو قدر الجماعة - إلى التأسي لمروية تاريخية كبرى تختصر رؤيته للتاريخ وهي ان التاريخ ملك للأقوياء وهم وحدهم الذين يكتبونه لأنهم يمتلكونه، ولا مكان لتاريخ المنهزمين والمنكسرين الذين فقدوا حقهم فيما كان لهم، ومن يدفع الثمن في هذا كله هم الأرض والإنسان معا، وبكلمة أخرى:إنه (يضفي الزمانية على التاريخ بوساطة جدل بين آثار التاريخ السلبية فينا،   يروي هذه الصيرورة بلغة رثائية، ولكنها حيادية ومتجردة من أحقاده الشخصية اتجاه من سلبه مكانه/ وطنه/ ليطل على سؤال وجودي أكبر: ماجدوى الحياة على هذه الأرض مادامت تغيب عنها قيمها الكبرى وأحلام إنسانها لتحل محلها (أحلام نار معدنية) من سيحتاج بقية من عمر مادام الإنسان أصبح يربي أطفاله (في المصل أو في البندقية) إنها محنة الإنسان في كل زمان وفي كل مكان على هذه الأرض: إنها الأرض الضحية. وهنا نجد درويش يؤسطر الواقع بواسطة مخياله التاريخي والاجتماعي: إنه يمتلك نظرتين: نظرة تتطلع إلى أفق التجربة التاريخية التي عاشها شعبه، وأخرى تتطلع إلى أفق مستقبلي تحاول استشرافه وتوقع مايمكن أن يكونه، وهو ينطلق من الأفق الخاص إلى الأفق الإنساني المنسرح فتصبح تجربته وتجربة شعبه في هذا السياق جزءا من سيرورة التاريخ الإنساني وترسيخا لمبدإ إنساني كبير( الأرض جنة الله الصغيرة) وتأخذ الجملة الوداعية (سلاما أيتها الأرض الضحية) بعدها الدلالي الذي يوحي بفقدان الإنسان لجنته للمرة الثانية

التأمل الثالث عشر

بعد ان ودعنا الأرض الضحية ننتقل إلى رثاء من نوع آخر، رثاء (للأنا) من المنظور نفسه الذي تركه رثاء الأرض . يعود الشاعر في هذا المقطع إلى الفكرة التي يلح دائما عليها وهي أنه لم يتبق له غير شعره (نشيده) فالأماكن تبتعد، والمرأة/ الأم/ الحبيبة/ تتلاشى والأرض بجميع عناصرها -طيورها، أشجارها، غيومها، تنأى في الزمان وفي المكان، ويتحول جمال الطبيعة إلى علامات للحزن المقيم لأنها لاتدل إلا على الغياب، وتتجلى همجيّة الاحتلال بإقصاء الآخر صاحب الأرض والحق، ويصبح منفى الشاعر أكثر قسوة لأنه لم يعد يحمل القيم التي عاشها الشاعر يوما وجسدها قصيدة ثورية وموقفا ثوريا. ولهذا نجد في هذه القصيدة تاريخا لبداية تفكيك لكل عالمه القديم الذي حمل ملامحه في شعره طيلة حياته كلها، ولهذا ايضا نجد حزنا عميقا شفيفا، حزنا يائسا مختلفا في خصائصه عما كانه أيام الثورة والحصار والغضب، إنه الحزن الذي ينطوي على إدراك اللاجدوى والعبثية والهاوية الجديدة التي يطل عليها مع شعبه والتي لايبدو لها قرارا:

كل من يرحل في الليل إلى الليل- أنا

كل ناي قسم الحقل إلى اثنين:

مناد ومنادى لايناديه- أنا

كل مايعجبني يحتله الظل هنا

كل من تطلب مني قبلة عابرة

تسرق روحي... وخطاي

كل طير عابر يأكل خبزي من جروحي

ويغني لسواي .

كل من يضربه الحب يناديني

لكي يزداد أعدائي ... فراشة

كل من تلمس نهديها لكي يخمش عصفوران قلبي ...

تتلاشى

كل جذع لمسته راحتي طار سحابة .

كل أرض أتمناها سريرا

تتدلى مشنقة

ثم ينثني الشاعر على روحه في لفتة حانية إذ يتذكر الحب، ويتذكر الشعرلعله يجد موطئا لها فيهما، ويحنو على الزنبقة ذات العمر القصير والحلم المؤجل لذلك يزرعها في نشيده لتنمو هناك بعد ان لم يعد لها أرض واقعية:

وأحب الحب إذ يبتعد الحب،

أحب الزنبقة

عندما تذوي على كفي وتنمو في نشيدي فانتظرني يانشيدي

ربما نحفر في هذا المكان

موطئا للروح من أجل غريبين يمران على الأرض

ولايلتقيان

وينتهي التأمل بآه التوجع مكررة مرتين بعد سياق طويل للغربة والفراق: التوجع من الغربة في المكان، والتوجع من اضطراره التاكيد على تكرار اللازمةأي من موت القلب في هذا المكان

آه من هذا المكان

آه لاشيئ يهز القلب في هذا المكان

في هذا التأمل نجد أنفسنا أمام جدلية استقطاب بين قطبين متصارعين، الطرف الأول فيه روح جريحة ولكنها لاتخجل من إعلان جراحها، ولاتتردد في إشهار يأسها من كافة معطيات الواقع، وكذلك من إعلان استسلامها لضعفها البشري( كل من يرحل في الليل إلى الليل أنا- كل ما يعجبني يحتله الظل هنا...) والقطب الثاني نفس متعالية تملك يقظة الإحساس، وقوة الإرادة، وذكاء الإدراك بمكامن القوة على الرغم من هذا المشهد الواقعي المتهالك. ولكنه بتركيزه على التلازم بين هذين القطبين المتناقضين الذي يحتاج مع ذلك كل منهما إلى الآخر. ولقد تحقق ذلك من خلال لغة غنائية متوترة، وحقل من الاستعارات المبتكرة الأصيلة التي أدت إلى إحداث صدمة ودهشة عند المتلقي،

كما أدت إلى خرق المعتاد والمألوف والدخول في عالم شعري كعالم مواز للواقع الذي نمتلك الإرادة في إعادة بنائه. ولكي نؤؤل الاستعارات في هذا التأمل لابد ان نكتشف المخزون الدلالي الذي تنطوي عليه والإيحاءات التي تحيل إليها، ذلك لأن الاستعارة تفتح موسوعة من التداعيات الذهنية التي تقوي المعنى وتنير قصدية الشاعر: فالناي هنا مؤنسن إلى درجة انه يناديني فأسمعه وأناديه فيظل راحلا منسحبا داخل لحنه الحزين، وتبقى الوحدة سيدة المكان، كما الليل في السطر الأول (كل من يرحل في الليل إلى الليل أنا)، ولنلاحظ كثافة المعنى الدلالي الذي تفتحه الاستعارة (يحتله الظل هنا) لقد أسند الشاعر الفعل يحتله - وهو من أقسى الأفعال وأكثرها دلالة على الواقع- إلى الفاعل - الظل- الذي توحي حروفه ومعناه بالخيالي، واللاواقعي، والزائل، وبهذا انزاح الفعل (يحتله) عن معناه الحقيقي لأنه اكتسب كل ظلال المعاني ودلالاتها للفاعل (الظل) بفعل التجاور والإسناد، وبالتالي انكسرت حدة الشعور بالاحتلال على أنه فعل حقيقي وواقعي وداهم، واتخذ معنى مجازيا يوحي بالمؤقت والزائل لأن من يقوم بفعل الاحتلال ليس إلا ظلاوربما تكون إحدى مقاصد الشاعر من وراء اختياره لهذه المفردة (الظل) ان يذكر الناس بحقيقة هؤلاء المحتلين القادمين من الوهم والأسطورة بموجب (صك الهي) ليسرقوا المكان من اصحابه الحقيقيين. أما الأدوات التعبيرية التي اختارها الشاعر من رصيده المعجمي وتوزيعها على المقطع نجد أن المستوى الصوتي فيها قد استغرق المقطع بكامله. ولو اردنا ان نتبع طريقة (جاكوبسون) بإنشاء جدولين واحدا للاختيار وآخر للتوزيع لاكتشفنا مدى التطابق بين المعاني التي أراد توصيلها، والألفاظ والتراكيب والصيغ الدالة عليها:

دلالات المعاني: الاغتصاب، الاحتلال، الظلم، الغياب، الحزن، القسوة، الذبول المنفى، الياس.

التراكيب والبنى الدالة:

1- الاغتصاب: كل ناي قسم الحقل إلى اثنين مناد/ ومنادى لايناديه انا

2-الاحتلال: كل مايعجبني يحتله الظل هنا

3- الظلم: كل طير يأكل خبزي ويغني لسواي

4- الحزن: كل غيم صار كآبة

5- الغياب كل من تلمس نهديها تتلاشى

6- القسوة: الأرض تتدلى مشنقة

7- المنفى: غريبان يمران على الأرض ولا يلتقيان

8- الياس: لاشيئ يهز القلب في هذا المكان

أما بالنسبة للإيقاع فقد لعب الشاعر بوزن البحر المديد وجوازاته بحسب الشحنة العاطفية التي يشعر بهاولم يتقيد بوزنه: فاعلاتن فاعلن فاعلاتن، فنجده في السطر الشعري الأول قطعه على الشكل التالي: فاعلاتن، فعلاتن، فعلاتن، فعلن، وتناوبت القوافي التالية: النون الساكنة، الياء الساكنة، الهاء الساكنة، الهاء السكنة، ثم النون المكسورة التي أنهى بها المقطع، وهي كلها قواف حزينة لينة تدل على الوهن والضعف:( النون ذات الغنة، والياء اللينة الواهية، وكذلك الهاء الحلقية الساكنة المتوجعة ) وهكذا نجد ان الإيقاع الخارجي الناشئ عن الوزن والقافية والتكرار( كتكرار كلمة كل في بداية كل سطر)، والتقابل: بين الجذع والطيران، وبين الغيم والكآبة، وبين السرير والمشنقة، قد امتزج مع الإيقاع الداخلي الناشئ عن البنى اللغوية والألفاظ الدالة على معانيها مع الصيغ والتراكيب والصور التي كانت جسدا احتوى كل ذلك ليشترك الكل في إخراج المخزون العاطفي والوجداني لذاكرة الشاعر وحسه ويدلنا على رفعة ذائقته الجمالية.

التأمل الرابع عشر

في هذا التامل يعود التداخل بين اللغة التقريرية الإخبارية، والتساؤل الوجودي الصعب عن أصل الأشياء: اين هي؟؟ وكيف ضاعت؟؟ كي يطل على روحه المنكسرة، وشعبه المهزوم، من خلال تشخيصه للواقع الذي لم يتغير فيه شيئ منذ عقود. واقع راكدآسن خلف مأساة تاريخية بسبب انسحاب هذه الشعوب من الفعل الذي من شأنه وحده أن يغير واقع الحال:

نحن ما نحن عليه،

نحن جيل المجزرة.

أمة تقطع ثديي امها

أمة تقتل راعي حلمها

في الليالي المقمرة

دون ان تبكي عليه .

 أين ظل الشجرة؟

المشهد الفلسطيني مايزال على حاله من هجرة إلى هجرة تالية، واستبداد الأنظمة بشعوبها مايزال أيضا على حاله، لهذا نجد السطر الشعري ( اين ظل الشجرة) كتب بين مساحتين من البياض، ثم يأتي على حرب الأهل لبعضهم، ثم قمع السلطات الحاكمة لشعوبها، ومن هنا جاء الانفصام الكبير بين الشعوب وحكامها، وبين الذات والوطن:

نحن ما نحن عليه

نحن من كنا لنا

نحن من صرنا ... لمن؟

خنجرا باسم الوطن

ويصلي لينال المغفرة

ويأتي التساؤل عن أصل الأشياء وجذورها بين مساحتين من الفراغ الأبيض 

أين شكل الشجرة؟

ثم تتتالى التساؤلات التي تحتمل أكثر من تأويل: تساؤلات تقريرية بمعنى أنها على إجاباتها، واستنكارية لواقع تلك الإجابات نفسها التي لا تنفتح إلا على جهة الفضاء الصحراوي، أما الشجرة وظلها وخصبها ودفؤها وامنه فيلفها تساؤل حزين:

نحن مانحن عليه الآن،

ماتوا لأغني

أم ليبنوا خيمة من أجل ناي؟

كلما سارت خطاي

انفتحت صحراء من أجلي،

وماتت قبرة

أين بيت الشجرة؟

ثم يعود إلى فضائه الحكائي الأثير(البحر)، البحر الآن لم يعد يتسع ليكون مشروعا لهجرة أخرى، وهنا تدخل البندقية بمعنين متضادين: فهي آلة للدمار وزرع الشرور التي تتوالد الشرورعبر التاريخ الذي يكتبه الأقوياء والمنتصرون، وتكون حارسا للروح حين تكون بيد المقاومة الباسلة التي تأبى الانكساركغصن نخر:

نحن مانحن عليه

الآن لايتسع البحر لهجرة .

آه لايتسع البحر لنا .

فكرة تخلق فكرة

وتكون البندقية

حارسا للروح

لاعبد الغصون النخرة

اين جذع الشجرة

وتعود النبرة الإخبارية لتؤكدالموقف السلبي للشاعر من الأمة العربية الراضية بحالتها المزرية والخاضعة لكل شروط فنائها ونلاحظ تقشفا نسبيا في الخيال التصويري في هذا المقطع، وتراجع الصور الباذخة لصالح لغة إخبارية رتيبة تتناسب وفقر الواقع العربي وحالته المتشرذمة.أما الإيقاع فيبدو متثاقلا تعبر عنه قافية الهاء الساكنةالتي تشكل افتتاحية وخاتمة لكل فكرة جديدة، ولكن تتابع الأفكار في أسطر شعرية قصيرة كل فكرة مرتبطة بما قبلها وتستدعي مابعدها أعطانا وهما بالسرعة:

نحن ما نحن عليه

امة تقطع ثديي امها

امة تقتل راعي حلمها

في الليالي المقمرة

دون ان تبكي عليه

فغدر الأهل ببعضهم مرتبطة بفكرة سابقة( حكام طغاة وشعوب مستعبدة) وتستدعي فكرة لاحقة وهي التساؤل عن جدوى موت الشهداء، وإنه لثمن قليل ان يموتوا من اجل نشيد أو خيمة جديدة تبنى في سياق لحن لايتوقف( لحن اللجوء):

ماتوا لأغني

أم ليبنوا خيمة من أجل ناي

إن تعانق المعاني مع الفاظها في دلالات السياق العام وتراجع الخيال التصويري الكثيف الذي وجدناه في المقاطع السابقة ليخلي المساحة لصور متناثرة دالة على الحدث الواقعي كلما اقتضى الأمر ذلك( أمة تقطع ثديي أمها، أمة تقتل راعي حلمها، فارس يغمد في صدر اخيه خنجرا) ينبئنا اولا عن ذاتية الشاعر وانتمائه القومي القوي، وثانيا عن الجو النفسي المشحون الذي عاشه ونقله (شعرا) للمتلقي، وثالثا إن التاثير الذي خلقه فينا كان حيويا ومتحركا بفعل الإيقاع سرعة وتثاقلا، وأخيرا إن الصورة التي اختارها لتكون خاتمة التامل (أين ...أين الشجرة) كانت النتيجة الطبيعية التي تقابل الصحراء التي انفتحت لأجله وملأت مساحة الفراغ.

التأمل الخامس عشر

يبتدئ هذا التأمل الأخير بما ابتدأبه سابقه بجملة إخبارية صغيرة تقرر وتوصف واقع الحال، ثم يأخذ الشعر شكلا نثريا حتى يكاد يستغرق التامل بأكمله، ولكننا نشعر أن اللغة تناضل كي تستعيد عافيتها بغنائية تطل من الصور والبنى والصيغ والألفاظ لتحنو على الشاعر الذي يسكنه اليأس ولا يستطيع له كتمانا كي يخفف عن القلب بعض العبء بعد هذه الهجرة المضنية التي لايرى فيها سوى الموت المجاني، موت لامعنى له لأنه لم يؤسس لحياةحرة كريمة بل أنتج هجرة أخرى كانت أكثر إيغالا في الابتعاد عن المكان/ الجنة المفقودة، والزمان يتسرب فلم يعد الشاعر ذلك الفتى الذي تحدى المحتل ذات يوم وانشد (سجل أنا عربي) بالإضافة إلىأن عالمه كله يتفكك أمامه ليس بتاريخه وجغرافيته فحسب بل بقيمه ومبادئه التي ناضل مع شعبه وكل الشعوب العربية في سبيل إرسائها وترسيخها:

نحن ما نحن عليه،

موتنا لاموت فيه الآن لاايقاع للصخرة لاصخرة في حادثنا المائي فلنذهب إلى ماليس فيناكي نرى ماليس فينا دعوة للناس من مذبحة نمشي إلى

مذبحة نمشي لكي نهتف:

مرحى! هاهي الوردة ...فلنسجد

(أسأنا لك ياشعبي)

ياشعب نشيدي، منذ جاء الرب من فكرته مشيا إلى القدس، ولاصخرةنبني فوقها أصواتناأو صلوات تطلب الغفران. وربما يريد الشاعر ان يعترف بفشل التجربة الفلسطينية في بيروت إذ أنه لم يؤد إلا إلى هجرة اخرى ومناف أكثر قسوة .وينبثق اعترافه بسيطا واضحا وجريئا في اعتذاره من شعبه وإقراره بالإساءة إليه ( اسأنا لك ياشعبي) وهذا الزمن لااسم له غير ما يختاره الشاعر له، وأي مكان لامعنى له إلا ماتبقى له من صدى في الذاكرة، وحتى الموت يبدو فارغا من اي معنى او مضمون. إذن لم يتبق للشاعر سوى حرية القول كما ان للعصافير الحق في الفضاء، وحرية الحلم التي لايستطيع احد مصادرتها او السيطرة عليها:

ولي حرية القول

وللكاهن حق القتل

لي حق العصافير

وللقاضي حدود الأفق الوارف

لي شرعية الحلم

وللجلاد ان يسمعني أو يفتح الباب لكي تهرب احلامي

وان اقفز من حرف إلى حرف

وان اقطع كفي كي اسمي زمني .

لاموت في الموت الذي يتبعني كالظل

أو ينزلق الآن على جسمي كانثى حرمتني لذة الحرمان

لكن هذا الحلم ناقة يجرها الشاعر في سوق الأغاني، غن نشيد الشاعر المكرس دائما لتجسيد الحلم باستعادة المكان/ الأرض أصبح سخرية الناس، لهذا هو لايريد ان يموت في اللحظة التي يبدو فيها كل شيئ بلا معنى، لايريد أن يموت بلا شهية:

لايخرج مني حلم إلا لكي يضحكني

او يضحك الناس على شخص يجر الحلم كالناقة في سوق الأغاني

ليس هذا الموت موتا ولا أعرف شيئا عن بداياتي . لهذا أتمنى أن أحاذي

النهر حتى أصبح النهر ولا أستطيع الموت في الموت الذي لاموت فيه .

ثم تأتي خاتمة القصيدة كي تلقي نظرة في عمق الشاعر وتصف حاله بأمانة وصدق عاليين، تصف الجمود الروحي والذهني، والخواء النفسي، ولتؤكد على فكرة اصر عليها وهو انه لايريد ان يموت ميتة ناقصة، ميتة غير مشتهاة ولا تأتي في زمانها ومكانها المناسبين:

حجر روحي

وانثاي وحلمي حجر

لاأشتهي ان أشتهيه.

حجر لالون فيه .

حجر ليلي،

وظلي حجر يندس مابيني وبيني .

حجر خبزي

نبيذي حجر .

لاأستطيع الموت في الموت الذي

لاموت فيه الآن ...

لاشيئ يثير الموت في هذا المكان

ينتهي المقطع باللازمة : لاشيئ يثير الموت في هذا المكان، وهو بهذا يتخلى كليا عن فكرة الموت المجاني الذي لايفتح أفقا لحياة قادمة. من بداية المقطع الأخير وحتى نهايته يبدو لنا التامل يدخل عميقا إلى طيات النفس والروح، ويبدو أمينا في توصيفه للحالة التي هو عليها، ولكنه يقودنا - بمكر ربما- إلى التشبث بالأمل حيث الموت الآن - وفي هذه اللحظة المنهارة وحيث كل شيئ يتداعى - لايشتهى مهما بلغ اليأس مداه، وإذا كان لابد فاعلا فلتؤجل هذه الرغبة حيث زمانها ومكانها المناسبين، وحيث يأتي الموت باذخا بهيا، أما الان - آن القصيدة - والتي لاشيئ يثيرها - فلتؤجل الحياة ايضا، هي إذن لحظة ( التحجر) او ربما هي لحظة ( التأمل ) في التاريخ الشخصي، والإنساني، والجماعي، وفي تجربة الشعب، وفي التجربة الذاتية .. لعل ماءا يتفجر من الحجر. في هذا المقطع نلحظ جهدا مبذولا في اللغة تصويرا وإيقاعا، حيث تجاهد كي تدفع بكل العناصر المكونة للعوالم الخارجية والداخلية كي تبلغ نهاياتها القصوى:

نحن مانحن عليه،

موتنا لاموت فيه الآن لايبتدئ النهر من السرج ولا لايشرئب الشبق العالي ليخفي جبلا في ساعد لايتدلى من نشيدي شفق الدين النحاسي ولا يصطف

شعب في جحيم اللذة الكبرى

ومع ذلك ( فالشعر) يأخذ بأيدينا لنظل على النافذة الوحيدة التي ابقاها مشرعة على آمال متواضعة: حرية القول، وحرية التأمل، وحرية الحلم. إنها بؤر للضوء كافية كي تنير قصدية الشاعر من وراء تسليطها على الحلم- الذي يجره الآن في سوق الأغاني- ويستثير ضحك الناس عليه. وهذه الصورة تمثل مشهدا هزليا في لحظة عبثية تستثير من الذاكرة مشاهد مماثلة لآشخاص هزليين أضحكوا الناس عليهم (كشخصية جحا وحماره على سبيل المثال) ولكنه حين يعلن عن عدم رغبته في الموت (الذي لاموت فيه) ينتشل هذا المشهد الهزلي من ابتذاله ليضعنا مرة أخرى امام تساؤل وجودي مفتوح: ماهو الموت الذي يكون فيه الموت موتا؟؟

الهوامش والمراجع

1.       مجنون التراب لشاكر نابلسي

2.       صبحي حديدي في دراسة لديوان ‘‘لماذا تركت الحصان وحيدا‘‘

3.       جماليات الأسلوب د. فايز الداية

4.       أدونيس : اقتباس من كتاب الشعر والتلقي للدكتور علي جعفر العلاق ص 63 تساءل مالذي يدفع شاعرا، مثل أدونيس ، إلى أن يتحدث يهذه النبرة اليائسة:‘‘ليس لي جمهور، ولا أريد جمهورا‘‘ يعلق الدكتور العلاق: أهي القطيعة المحكمة بين الشاعر والجمهور؟ أم بين القصيدة ومتلقيها؟ أهي شجاعة اليأس؟ أم الاستغراق في الكتابة الشعرية كونا مكتفيا بذاته؟

5.       الرمز الفني في شعر محمود درويش للدكتور فتحي محمد أبو مراد عن وزارة الثقافة في الأردن

6.       جماليات الأسلوب الصورة الفنية في الأدب العربي للدكتور فايز الداية عن دار الفكر المعاصر

7.       لغة الشعر العربي الحديث مقوماتها الفنية وطاقاتها الإبداعية للدكتور السعيد الورقي دار المعارف.

8.       الوجود والزمان والسرد لبول ريكور ترجمة سعيد مراد عن المركز الثقافي العربي .

9.       موسوعة المصطلح النقدي للدكتور عبد الواحد لؤلؤة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

10.   تطورالدلالات اللغوية في شعر محمود درويش ل سعيد جبر محمد أبو خضرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

11.   جماليات المكان ل غاستون باشلار ص 18

12.   تطور الدلالات اللغوية في شعر محمود درويش سعيد جبر محمد أبو خضرة 125

13.   المرجع السابق ص 98

14.   جماليات المكان غاستون باشلار ص 19

15.   التحليل الألسني للأدب د. محمد عزام منشورات وزارة الثقافة / سوريا

16.   المرجع السابق ص 76

17.   المرجع السابق ص 77 الشعرية قراءة في تجربة إبن المعتز الأندلسي د. أحمد جاسم الحسين نقلا عن قدامة بن جعفر ص 51

18- مجلة عالم الفكر ص250 د . أحمد كروم. مقاربات نظرية في مظاهر الربط الحجاجي لبنية الاقتضاء).

19- التحليل الألسني للأدب ص 78

20 – المرجع السابق ص 76

21 – المرجع السابق ص 77

22- الشعرية د. أحمد جاسم الحسين نقد الشعر قدامة بن جعفر ص 51

23 – المرجع السابق ص 133

24 – المرجع السابق ص 136 .

25 - الوجود والزمان والسرد ل بول ريكور ترجمة سعيد الغانمي عن المركز الثقافي العربي