القاص المصري يظهر كيف ان التفريط في الكلب الذي طالما تفهم مشاعر صاحبه مثّل بداية للتفريط في قيم كثيرة صارت مستباحة وتباع أحيانا بلا مقابل. ويظل الكلب حاضرا رغم بيعه كرمز كاشف عن أوضاع مختلة.

الكلب

محمد عباس علي

بالأمس بعت  الكلب الباقي من العائلة..حاولت أن أبدو أصيلا أمامه فأجريت دمعة أو اثنتين على خدي في صمت..في الحقيقة..هو أيضا كان حزينا..بدا حزنه نبيلا مثله وظل صامتا طول الوقت.

كنت قد شرحت له الأمر بالتفصيل قبل أن نخرج إلى الطريق..أجلسته على مقعد مقابل في الردهة وتحدثت إليه..لم يأخذ الأمر وقتا إذ وجدت لديه استعدادا طيبا لتفهم الأمر..ضممته إلى صدري في رفق ومضيت إلى الطريق..وصلت السوق..وقفت صامتا أتذكر كلمات ( كريمة ) خطيبتي الحالية وزوجة المستقبل..لا أعرف لماذا اهتم بعباراتها..أرددها وأحفظها وأنفذ ما تريد....أعيش عبر الحروف..واستلهم من العبارات حياة أعيشها وأتنسم ريحها بلهفة لا مثيل لها..وقفت إذن أتذكر كلماتها وهى تقول:-

-أريد بيتا خاليا من الأغراب

ولأنني أحبها وأتوق إلى  الزفاف سريعا ليس لغرض سوى أن أكون بجوارها كل   - وليس بعض  - الوقت فقد تحمست للأمر..انتحيت بكلبي جانبا..أعدت عليه ما قالت، وأضفت: -

-إياك أن تظنني أطيعها وأفعل المستحيل لأرضيها من أجل جاه أبيها،أو مركزه،أو أنني أعمى لا أرى دمامتها..كلا.

وأقسمت له تأكيدا على ما أقول..حرك ذيله..أدركت أنه اقتنع..أكملت:-

-إنني أريد زواجا سعيدا..هل تفهم ما أعنى ؟ 

حدق في وجهي ونبح مرة أو اثنتين..قالت عيناه إنه يقدر ما أقول ولا يجد في صدره شيئا من ناحيتي..تبسمت له وحملته بين يدي وأنا أؤكد انه ليس غريبا عنى، فأبوه كان يحرس البيت قبله ومات في حادثة مشهورة،كتبت عنها الصحف في حينها،فقد أصر على مطاردة لص أطلق عليه النار ليكف عنه،ولم يكف ولم يتركه إلا  حينما رأى رجال الشرطة،لحظتها تركه لهم واتخذ ركنا مات فيه بهدوء ودون ضوضاء،بعدها ونتيجة للذكرى الأليمة المرتبطة بالمكان لم تتحمل الكلبة الأم المعيشة معنا وهجرت البيت،وبقى هو موظفا أمينا قليل الطلبات..يأخذ ما يصل إليه بصدر رحب..لا يطلب المزيد ولا يفكر مجرد تفكير فيه،ومتى رآني يهب واقفا في احترام نبيل وهو يهتف بلغته هتافات مدوية تخجلني فأنظر إليه في عطف وارفع يدي نصف رفعة وابتسم نصف ابتسامة واسأله عن حاله وهل هو سعيد في مكان عمله أم لا،وهل يأتيه طعامه في موعده أم لا،واتركه شاعرا أنني فعلت ما بوسعي تجاهه.  لكنني أمام الظرف الجديد كان لابد أن أضحى.فأخذته  رغما عن ايجابية مشاعري نحوه ومضيت إلى السوق.. حملته ووقفت جانبا..غارقا في بحيرة صمت راكدة راسما ملامح أسى،كلما  أدار وجهه ناحيتي يراها فيطلق عقيرته بالنباح تضامنا معا..اقترب رجل بدا من ملامحه انه يريد الشراء..مد نظراته أولا..ازداد وجهي تغضنا..مد يده..لم أتحرك..سأل إن كنت أريد بيعه..همست مبديا مزيدا من الأسى انه أصيل،من النوع النادر ولولا الظروف ما اضطررت لبيعه..سأل: -بكم تبيعه ؟      

سألت: - بكم تشتريه ؟

قال الثمن..وافقت فورا دون نقاش ومددت يدي إليه..حمله ونسى أن يعطيني النقود..أنا أيضا تشاغلت عنه بفرحة العودة إلى كريمه ملبيا طلبها.. كان الوقت ظهرا..جلست على طرف المائدة أتناول ما وضعوه أمامي من طعام..هبت تاركة مكانها..لم انتبه لهذا إلا حينما  سمعتها تنطق اسمي مشفوعا بألفاظ لا أعتقد أنها تقصدها مثل (الدناءة – الجرثومة –وما إليها ) وتطلب منى مغادرة المائدة فورا و المثول بين يديها..تمنيت أن أطلب منها الانتظار لحين شعوري بالشبع..لم استطع..رأيتني أهرول نحوها..أطأطئ رأسي هامسا: - نعم

سألتني: -ماذا فعلت ؟

قلت بفرحة:- لن يوجد بيننا أغراب بعد الآن..لقد بعت الكلب.

وانتظرت أن تفرح مثلى..غير أنني فوجئت تضيقان وتحدق في وجهي: -

-لم أقصد الكلب..أنا أقصد أباك  

اتسعت عيني

ودق قلبي في عنف..جال بخاطري لحظتها أنني نسيت أن آخذ ثمن بيع الكلب..نحيت هذا الخاطر جانبا واتجهت بعيني إلى وجهها.. البثور المنثورة فيه متوترة..النقاط السوداء منفعلة، والأسنان بفكها العلوي النافر توشك على عقري..ابتعدت..سألتني..فيم تفكر ؟.. سريعا قلت:- في كيفية بيع أبى !!