في مقالته يقدم الناقد محاولة لتفكيك الخطاب الديني، الذي يرى في جاهلية ما قبل الإسلام جاهلية تلغي مكانة المرأة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية. ويتكئ في وجهة نظره على الشعر والنص المقدس الذي يقدم دلالات على وضع المرأة في واقع تلك المرحلة.

واقع المرأة العربية في مجتمع ما قبل الإسلام

فرّاس حج محمد

شكلت المرأة في المجتمعات الإنسانية عنصراً مهما عبر تاريخ البشرية، بدءاً من عهد آدم وصولاً إلى مجتمعات العصر الحديث، فلا يتصور عقلٌ أن يقوم مجتمع إنساني يؤدي وظائفه ومهامه على أكمل وجه دون امرأة تشارك الرجل أعباءه، وتسنده في حياته. وتبعاً لاختلاف المجتمعات البشرية وأنماطها الاقتصادية، والأفكار التي تحكمها، اختلف وضع المرأة فيها، وتباينت النظرة إليها، ومع ذلك كله لم تكن المرأة في أغلب تلك المجتمعات مقضى شهوة الرجل فحسب، ولم تكن مجرد متاع تباع وتشترى، بل كانت تؤدي وظائف اجتماعية وتربوية واقتصادية على درجة من الأهمية.

وقد بينت المرويات التاريخية العربية عبر عصور العرب الممتدة إلى ما قبل الإسلام بفترة ليس بالقصيرة، أن المرأة قد أخذت حيزاً لابأس به، بحيث ساهمت في تشكيل وعي عام تجاهها، وكانت عنصراً ذا بال في تلك المجتمعات التي عُرِفت باسم "المجتمعات الجاهلية". وتناول غير باحث في الحديث عن المرأة الجاهلية، ويشيع بين فريق من الباحثين فكرة مؤداها أن المرأة الجاهلية كانت مستعبدة، مهضومة الحقوق، تعيش على هامش المجتمع مهانة، مسلوبة الكرامة الإنسانية، حتى إذا جاء الإسلام أعطاها حقها، ورد لها اعتبارها الإنساني، والحقيقة أن الإسلام رفع من شأن الإنسان بوصفه إنساناً بغض النظر عن الجنس ذكراً كان أو أنثى، وبالتالي فإنني أرى أنما قدمه ذلك الفريق من حصر رفع الكرامة بالمرأة هو غير دقيق؛ فلم تكن المرأة في الجاهلية كما ادعى ذلك الفريق من الباحثين، والأدلة ساطعة تنذر هذا الرأي بالأفول والتهاوي.

لقد شكلت المرأة في العهد الجاهلي عنصراً إيجابياً ومحور حياة، فقد كانت كياناً وجودياً محترماً، لها رأيها السياسي والاجتماعي، ولها ثروتها الاقتصادية، تساهم في المجتمع وتعمل فيه، تتمتع بالحقوق التي منحها إياها المجتمع، وقد عبر الشعر – وهو ديوان العرب، وعلمها الذي لم يكن لها علم أصح منه، ومخزن أفكار القوم ومرجل مشاعرهم – عبر عن تقدير العربي للمرأة، فليس معقولاً أن تحتل المرأة كل تلك المكانة في الشعر الجاهلي، ونظل ندعي أن المرأة مهانة، تلك المرأة التي ابتدأوا بها أعظم علم من علومهم؛ فزينت ببهائها الأنثوي مطلع كل قصيدة، فمثلت تاجها الذي يشع بالفكرة، وتربعت على عرش المعلقات، فكانت معلقة زهير ولبيد وعنترة والحارث بن حلزة وغيرهم مفتتحة بالمرأة، فكانت أم أوفى وخولة وعبلة وأسماء منابر تهدي الشاعر عبر مسيرة من التوتر الشعوري في تلك القصائد، ناهيك عن سعاد وما أحدثت في قلوب الشعراء من تبل وهيام، ولا شك أن بروز ظاهرة الغزل، وخاصة العذري، فيما عُرف بظاهرة المتيمين، في الجاهلية، دليل على أن المرأة ما كانت كما ادعى ذلك الفريق الذي لم ير إلا نصف الحقيقة، ولعل هذا النصف رآه غائماً كذلك.

هذه واحدة، وأما الثانية، فإن ما أثر عن امرأة المجتمع الجاهلي من أنها كانت ذات رأي سياسي واجتماعي فكثير كثير، وتقف المرأة فيهذه المرويات على قدم المساواة مع الرجل، ولعل بلقيس ملكة سبأ تمثل أعتى الشواهد على أن لا غضاضة في ذلك المجتمع من أن تتبوأ المرأة أعلى منصب سياسي واجتماعي عند العرب وبروز نساء سيدات أُولَيَات في ذلك المجتمع كان له دلالته. ولعل أوضح الصور وأكثرها بروزاً، أن القرآن الكريم قد تحدث عن امرأة المجتمع الجاهلي، وبين دورها سواء في ذلك استقبال الدعوة الجديدة، ومن ثم الإيمان بهذه الدعوة، أو النفور منها والتصدي لها، فكان هناك نماذج عليا في الطرفين، فكانت على سبيل المثال أم جميل زوجة أبي لهب، وزوجتا نوح ولوط عليهما السلام، نماذج في الجانب السلبي من تفوق المرأة في العداء لأصحاب الدعوات عموماً، وكانت آسيا زوجة فرعون وبلقيس ملكة سبأ أمثلة في الجانب الإيجابي في تفوق المرأة في التفكير العقلاني المفضي إلى الالتزام والوعي الفكري.

فكون المرأة على هذه الشاكلة من الطبيعة، لا يقدح في كرامتها، وقد عاملها المجتمع كما يجب أن تعامل، ولم يفرق بينها وبين الرجل في التعامل الإنساني، وما أوثر عن المرأة أنها كانت مهضومة الحقوق في الميراث على سبيل المثال أو أنها كانت جارية تباع وتشترى أو أنها كانت لا تستشار أو أنها كانت موءودة تقتل، فهذا وغيره لا يدل على ما يدعي هؤلاء من تدني مستوى المرأة الاجتماعي، بل ينظر إلى هذه المواقف على أنها خاضعة لأنظمة اجتماعية وسياسية واقتصادية تحكم المجتمع كله، فمثلما كان هناك طفلة موءودة كان هناك ذكور يقتلون، وقد تحدث القرآن عن ذلك في قوله تعالى: "ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق"، وقد أرجع بعض الباحثين قتل البنت أو وأدها إلى أصول دينية وأسطورية، مما يعني رفع مكانة المرأة إلى ما فوق العادة، وقد يكون نوعاً من التقديس، فلا يتقرب إلى الآلهة إلا بأنثى دليل أنها كانت ذات مكانة متميزة، ناهيك عما يقال من أن آلهة العرب القديمة كانت من الجنس الأنثوي، وشيوع تلك الفكرة في الربط الحميم بين الأنثى وعناصر الحياة والخصوبة، أعطى المرأة صورة دالة على ما أدعي من أنها لم تكن مواطنا من الدرجة الثالثة!! وأما عدم استشارتها فلعل تلك الأخبار المنقولة في هذا الجانب تبين أن المواقف الممنوع الاستشارة فيها كانت مواقف تخص الرجال كالحرب والإغارة أو ما شاكل، مما يعني الرجال بالدرجة الأولى، وإلا كيف تفهم المواقف الأخرى التي تبين أن من الرجال من استشار النساء وأخذ برأيهن، فضلاً عن أن حادثة أو حادثتين خارجتين عن سياق المجتمع لا تعطي صبغة عامة عن هذا المجتمع.

وما يتردد عن بيع المرأة وشرائها في أسواق النخاسة في العصر الجاهلي، فقد كان من تجليات نظام الرق المعمول به آنذاك، وكانت قد أفرزته عدة عوامل سياسية اجتماعية اقتصادية، هذا النظام لم يفرق في الحقيقة بين المرأة والرجل، بل كانت تلكم الأسواق مفتوحة للرجال وللنساء ممن وقعوا تحت طائلة ذاك النظام، والتي تولدت عنه طبقة العبيد والجواري، ومن الطبيعي أن يكون هؤلاء العبيد في منزلة أحط من منزلة السادة نتيجة لتلك العوامل التي ساهمت في إيجاده، ولعل الحروب بين القبائل قد ساهمت في جزء من هذه الظاهرة فاستعبدوا الرجال والنساء والأطفال ليذلوا بذلك قبائلهم، وليلحقوا بهم تلك الهزائم الاجتماعية الناتجة عن استعباد أفراد من تلك القبائل.

ويتبع ذلك النظام الحربي والعلاقات بين القبائل مسألة أخرى، ألا وهي حرمان المرأة من الميراث في عصور ما قبل الإسلام، على الرغم أن هذا الحرمان لم يكن شاملاً العرب جميعاً، ولكنه كان إجراء عملياً لئلا تنتقل ثروة القبيلة إلى القبيلة الأخرى التي قد تصبح يوما مغيرة على القوم أو مُغاراً عليها، فحياة العرب القائمة على الغزو وتبدل العلاقات بين القبائل من حالات سلم إلى حالات حرب فرضت مثل هذا الإجراء الاقتصادي. وعليه، فإن المرأة في جاهليتها كانت تحيا ضمن منظومة اجتماعية، ونسق فكري ثقافي خاص بالظرف التاريخي والشرط الاجتماعي المعرفي، مما يعني أن محاكمة وضع ما حسب تصور ما دون النظر إلى محددات الوجود لذلك الوضع يلحق الحيف والغبن لنظام الدراسة القائم على مُدخلات تُسقط إسقاطا لتأخذ موقعاً غير موقعها، وتخرج بنتيجة غير نتيجتها.

ولذا، فإن المكانة التي احتلتها المرأة في عصر ما قبل الإسلام ينبئ عن أن المجتمعات الإنسانية بشكل عام بغض النظر عن صفات أخرى تنزل فيها المرأة المنزلة التي يراها خادمة لمصالحه، ومؤدية لوظائف حياته ورسالته التي يحمل أعباءها، وهذا ما يتساوى فيه كل المجتمعات شرقيها وغربيها، فإذا ما أردنا تغيير وضع المرأة في أي مجتمع لا بد وأن نغير في الفكرة التي يقوم عليها هذا المجتمع، والأفكار التي تحكم حياته، والأنظمة التي تنظم شؤونه، لا أن نخلق ظروفاً خاصة للمرأة وحدها، فهذا لن يأتي بنتيجة، بل على العكس تماما يوقع المجتمع في أزمة وعدم تساوق بين أنظمته، فتحدث القلاقل الاجتماعية، وقد يصل الأمر إلى التفسخ الداخلي أحياناً، وتكون النتيجة الكارثية على كل أفراد المجتمع، ذلك المجتمع الذي لن يصلح ما دام أن النظرة المسبقة تحكم النظر إلى المرأة، وأنها هي من يجب أن يُصلح، أفليس الرجل صاحب كل السلطات والصلاحيات أولى بهذا الإصلاح؟؟

 

فلسطين/ نابلس