يأتي الروائي محمد الأشعري من بوابة الشعر، وأيضا من مسافة زمنية تفصلنا عن روايته الأولى (جنوب الروح)، يأتي الى الرواية مجددا من خلال نص حظي باحتفاء غير مسبوق في المغرب والعالم العربي، نص يتماهى مع تمجيد الحياة بين سيرورة السرد ورؤيوية الاستعارة وتشييد شيء من الفقدان.

كيف تبني رواية على الأنقاض

«القوس والفراشة» لمحمد الأشعري

أحمد المديني

 

1ـ.  تعتمد كل رواية حقيقية بالمعنى الفني على البناء، فهي كنصّ تخضع وتتطلب كل ما يحتاج إليه البناء العادي ليقوم ويعلو ويشد بعضه بعضا، ويظهر حقا وشكلا متماسكا ومتناسقا، قابلا للسكنى بلا خوف، باعثا على الأمان، ومستقرا يؤوي الجسد، ويبهج النفس، فيما يريح العين. لا يوجد قبل البناء إلا الفراغ، أرضٌ خلاء أو قاعدة تنهض عليها عُمُدُه. مسلّمة معمارية. إنما، كيف يتأتى البناء الذي يتأسس أو يزعم بأي شكل ومنطق أنه سيقوم ويتكوّن أمام أعيننا ـ نحن القراء ـ على أنقاض، لا مادية وحسب، بل الجسد والبنيان، وفي قلبهما الروح التي هي الساكن والمسكون؟ منطق الرواية المضمر، الذي يكشف عنه نَسَق تبنينها الخارجي يخبرنا بأنها خلافا لمنطق البناء العادي، وهي تنحو لتأسيس أرضية صلبة من غير شك،لا تنجم إلا عن عالم متخلخل،اهتزت فيه حيوات ومشاعر ومصالح وقيم، ونتاجها اللغوي الفني أخيرا هو جماع هذا الاهتزاز، إن لم يكن الزلزال نفسه، وهذه رؤيتها.

2ـ. لأي بناء، حتى ولو على خراب، مقومات، منها : حاجته الأولى إلى تصميم، لا مناص منه في المعايير الحديثة. وكل تصميم يتم بناء على حاجة، وتصور، وينبي، بالتالي عن ثقافة ( ما) وذوق (ما). بناء الرواية يتميز بالإضافة إلى هذه المقومات بكونه ينطوي على فضاء إلى جانب أبهاء البيت، نعني الفضاء الإنساني حيث تتحرك الشخصيات، تعقل وتحس وتنبت لها أحيانا أجنحة لتطير أبعد، بعد أن ضاق بها صرح البناء، وهي تبحث عن حياة أخرى خارجه. ويتميز بأنه لا يتشكل دفعة واحدة،وهو قابل للتعديل في أي لحظة، ولا يطلب رخصة المصادقة عليه من قسم التصاميم بالمحافظة، لكن من استعداد القارئ لتقبله، من ثم امتلاك حرية الدخول والخروج براحة وحرية. حين يبني الروائي عمارة حكائية تخييلية يتجاوز فيها المسموح من الطوابق، فإنها ليست البلدية من ستعاقبه بهدمها، إنما القارئ الذي سيرى في ذلك نشازا،أو خرقا لاتفاق ضمني أبرمه مع الكاتب، كأن يعزف عن تحول ميثاق رواية إلى مواصفات سيناريو، قصد إحداث كثرة تحولات وإثارات، أشبه بالخوارق!

3ـ. يمكن للرواية أن تكون دارة واحدة، ويمكنها أن تكون عمارة ، وفي الحالتين فهي مبنى واحد، متلاصق ومتآزر، أو لا يكون. ربما في الحالتين واحد، أو تصبح مسرحا للفوضى والعراك. إن البطولة في الرواية الحديثة مهما تعددت أو تنوعت هي في نهاية المطاف لشخص أو شيء واحد. المهندس المعماري، والمشرف على العمل، والبناؤون، هنا، يقابلهم في النص المؤلف، والسارد، أوهما معا حين يتماهيان، والشخصيات، لا يستطيع أيٌّ منهم العمل لحسابه، أو الإفراط بالاستئثار بما يفوت عن حده، أو هو لغيره، فينفرط عقد العمل حتى والبناء مستمر، والجمهور سكانا وقراء استأجروا،أو اقتنوا، فكل منهم لا يريد الظهور أنه مغشوش، فيما المهندس المعماري، أو رب المكان لا يقبل بالتراجع ينظر إلى مبناه ومعناه باعتبارهما ما كان وينبغي أن يكون، هما صورة التوازن ومرجع قياسه؛ طبعا، إن التوازن والتناسق هو غاية كل بناء، يتحققان بالنجاعة والجمالية، ولهذين في كل اختصاص إواليات، لا تعمى عنها الأبصار.

4ـ.  نحن، بطبيعة الحال، في قلب رواية محمد الأشعري الجديدة « القوس والفراشة» (الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي،2010)،الثانية بعد"جنوب الروح"(1996)، وبين هذين التاريخين ظل وفيا للشاعر الذي وُهب له، عندما أصدر ديوانه الشعري الأول" صهيل الخيول الجريحة"(بغداد 1978) انتهاء بـ» أجنحة بيضاء في قدميها»(2008). وسواء كان هذا العمل متناسلا عن سابقه أو مطورا له، فإن من حق الكاتب أن يختار العالم الذي يجد فيه همّه، ويستطيع بواسطته وعبره أن ينتج من خلاله الرؤية المأمولة لديه، ويسوق مصائر الشخوص والأفعال والهموم التي تبدو له قادرة على بناءٍ روائيٍ بالأدوات المخصوصة لهذا البناء تحديدا. لا رواية بدون أسماء وأمكنة وأزمنة وسحنات شاخصة، وأحيانا بسلالة تخترق السلالات وتنافسها فيما هي تخوض صراع البقاء، تماما كما تفعل الرواية بوصفها صنعت سلالة فنية جديدة بعد أن أجهزت هي أو أجهز الزمن على غيرها، ليضعها في قلب معركة وجود مختلفة .وكأن هاجس الصراع بين الفني والوجودي لم يغادر إدراك المؤلف ـ السليل، ليتخذه موضوع ومرقى صعوده إلى التخوم التي يمكن أن يصطدم فيها الكيانان، أو ينصهرا في لحمة واحدة ليقول الواحد ذاك، يخترقه، يتوسع فيه ومن خلاله، ولينتهي بتفجير أحدهما للآخر!

5ـ.  نقول هذا لكي نستأنف فكرة الأنقاض، فهي رأس الخيط، وعليها تنبني رواية شغلها الشاغل محاولة تشييد شيء بالفقدان، وفوقه. ومعضلة هذه الكتابة الأولى أن "الفقدان"،حتى في تجلياته المادية، إحساس فجائعي، هكذا يترسب في الوجدان، من ثم يكيّف الكتابة ليملي عليها شرط نوعها، بتجنيسها وفق هواه، ولو افترضناه وعيا لقلنا إنه وجد ضالته، طبعا في كاتب هو بالأصل شاعر، وروح الشعر، فضلا عن لغته وبلاغته لهي الأنسب للشيء الفجائعي من غيرها. يعي الشاعر أن الشعر كيمياء، خميرة تفاعل ذات وموضوع، داخل/ خارج، بنسيج اللغة وأجنحة الاستعارة، فيما الرواية وإن احتوت هذه العناصر، على طريقتها، هي قبل كل شيء بناء وتركيب. هذان عماداها وأي تراخ وتهاون فيهما سيؤِدي إلى تهافتها جنسا ورؤية، ليودي بها ، فماذا يبقى؟»! حسنا، هل يبنى الخراب (= الفقدان)؟ أجل، بإعادة تأسيسه، الصعود إلى جذوره، اقتفاء أثر جينيالوجيا السلالة، حيث ما سيظهر كأنه معطى، فجيعة ناجزة ( فقدان يوسف الفرسيوي لفلذة كبده ياسين) نتيجة حتمية لمصير شوكته الجارحة نبتت أولا في قرية « بومندرة» أقصى بلاد الريف، لتبدأ من هناك رحلة النزيف نحو مدينة زرهون، المتكئة على شرف المحتد، بينما تاريخ الحضارة البونيقية كلها منكفئ أمامها على أسراره وخرابه، وبين الإثنين محمد الفرسيوي الأب، الذي صال وجال، وانتهى أعمى بعد أن طال المستحيل!

6ـ. هذا المصير، مولد تيمة الفقدان، سيتجلى في مصائر متشعبة، لا يوجد بالحسرات، بالرثاء إلا في الشعر،أما في الرواية فقوامه، كما ذكرنا، بالبناء والتركيب، وهذا ما سيتصدى له محمد الأشعري مؤلفا، مقدما لنا بطلا، وساردا، وشخصيات، بين ذوات وأنماط، وعالما حافلا، لعمري، بعديد الشخصيات، والفضاءات، والمحكيات، كذا التقلبات المثيرة من كل نوع، والمستنسخات، وغيرها، كثير، كثير، يشد بعضها برقاب بعض، في اكتظاظ لاهث، حينا، وآخر هامس، مائس، بعد أن ينتهي صخب النهار ويعود الكائن إلى « سرير لعزلة السنبلة» ( عنوان ديوان للشاعر). تراه أمام عجين هائل، تقصّد أن يكون هائلا، وهو يريد أن يقدم هذا المجتمع الذي تتناسل فيه الحكايات، وتتضخم الفضائح، قرصا، قرصا، ناضجا لا فطيرا ولا محترقا، قد طُرح واستوى في أوانه، وإن اشتعلت ناره لتأتي على أخضر الرواية ويابس الحياة، سواء بسواء، ذلك أن لكل كتابة ثمنها الذي تؤديه إما لصالح مقروئية معينة، فتستجيب بذلك لذائقة بعينها، أو لصاحبها الذي يقرر الإصابة في مقتل فيدفع بكل طاقته وأسلحته، جهرا وسرا، يكفي أن الانتقال من أعالي التجريد الشعري ومجازاته إلى نثرية اليومي المبتذل، الرواية بعبارة أخرى، هو نزول الملاك إلى الأرض واضطراره لمعاشرة السماسرة والمثليين واللصوص والمهزومين والخاسرين، والتربص بكل شر لعين، بما فيه أن يأكل نفسه، أي بعد أن صمّم كاتبٌ إنشاء عمل عن الفقدان، تحول بطله، سارده، نفسه إلى موضوع عياني ووجداني لهذا الفقدان. وإن وجب علينا الإقرار بأن نزوله الأرضي لم يلوثه بمنسوب من عاشرهم بمعان شتى، فقد ظل يغتسل يوميا، داخل كل فصل، وأحيانا بين خطوة وأخرى، بماء الشعر، بالكلام الصافي الأثير، نشيج الروح كملاذ أخير، مخاطرا في انتقاله هذا بالظهور منفصما، مضعّفا، يرسم شخصية وينقضها، ولا يتوقف عن البناء والهدم، كأنه في صعود سيزيفي، وفي هذه الحالة تسأل ألا يبالي أين يوجه شراع سفينة الكتابة، اللغة التي بها وداخلها يوجد، أم أن من يخوض في عباب الخراب، وهو مادته للبناء - أي مفارقة؟ - يصبح حتما جزءاً من حطامه، بالتالي يحتاج مرة إلى ترميم العنف بالشعر، بلغة المجاز، ومرات، إلى ازدواجية تعبيرية تتواءم، كما تقول البلاغة، مع مقتضى الحال؟ . نظن الأرجح في مكان آخر.

7ـ. هي قصة يوسف الفرسيوي، أبوه محمد الفرسيوي بطل سابق في الهجرة ومحاولة صنع مجد في بلدة زرهون، وفدت إليها عشيرته من بلاد الريف، وباء بخسران مبين، انتهى به أعمى كالملك الضليل، في خرائب وليلي. مهنته صحافي. حالته المدنية متزوج، ثم مطلق، ثم عاشق بلا حدود. زواجه يثمر ياسين، بذرة الفقدان والعمود الفقري الذي تتكون حوله فَقََرات الرواية وأعضاؤها ولحمها. ياسين، من حيث لا يحتسب أحد، سيفجر جسده في أفغانستان نصرة لقضية طالبان، هو الشاب الذي درس في فرنسا، وكان مهيأ ً لمستقبل عصري زاهر. هو فقدان بلا مقدمات، جاهز تماما، قل مقتطف من أحداث الساعة، مما تمور به الأخبار عن حوادث الإرهاب في العالم، وجزء من مشهدية ظرفية عرفها المغرب (في الدر البيضاء خاصة) وضمن إطار تنامي الظاهر الأصولية بعديد مسمياتها ( كذا). إننا في قلب الأحداث، إذن، ويفترض أن نمضي من الآن في قصة تشرع فصولها تباعا لفعل رئيسي مصدره ما سبق. ثم نتبين أن الفعل ذاك ليس إلا ذريعة لمأزق بطلها، شخصيتها الأم، لنقل، الباحث عن نفسه، كينونته متعددة الانفصامات والهويات والأعطاب، الباحثة في آن عن مرتكز، عن «بر أمان» عن حب مفقود، عن، عن.. بعد أن أضاعت كل مرتكز، وجاء موت ياسين غير المتوقع كفعل شنيع « لا معقول» من وجهة نظر،هو الذي « ذهب إلى الجنة» ليصل بكل شيء، بيوسف الفرسيوي إلى النقطة المحورية للزلزال. إن الرواية دائما ليست إلا ذريعتها (هي حبكتها، أيضا). هي ذريعة ضرورية، متعمدة بقدر ما هي موضوعاتية، حين تنسرب أو تنزلق تكاد تتحول إلى تيمة وحدها، ونقرأ خطابا منسوجا بما يشبه المرافعة في مواجهة هذا البلاء المستجد ( = الإرهاب) ومن يتسرع، ويطوي الفصول الطويلة طيّا ليصل إلى خاتمة تراوغ، مثل شريط سينمائي، يريد مخرجه أن يصل به إلى ذروة ما قبل لحظة أو لقطة الانفراج ( لن أقولها هنا كي لا أفسد تشويق القارئ ) فإنه سيفتي بتقويم جاهز هو الآخر، رغم أنه معطى، نعني الإفتاء بأننا إزاء ما يسمى بـ»رواية الأطروحة»، ونحن نرد هذا الدفع بيسر شديد، قائلين إن كل عمل تخييلي، هو متولد عن فكرة، وقصده البحث عن معنى، أو توليده، ولا أدب ينفصل عن القصد، حتى لا قصديته تمسي إيديولوجية ـ نعفيكم هنا من أي إحالة ـ وبالطبع مع تنسيب يتفاوت معه التصنيف.

8ـ. إن الذريعة المعنية هي ما يقود إلى صنع قصة يوسف، لا ابنه ياسين، ومن ثم سلالة الفرسيوي بكاملها، ومأزق الوجود، مفصلا ومركبا، جزئيا وشموليا، محددا ومجردا في آن. الحق أن مهندس حبكة الرواية وضع نفسه منذ البداية في منتصف طرق، منعطف، بين وجهتين، وجعل، من ثم بطله يتمدد طولا وعرضا، شمالا وجنوبا، حسب كمّ الأحداث التي سيكون إما طرفا مباشرا فيها، وهي قليلة، وهذا أفق للسرد، وإما شاهدا عليها، هو الأغلب، وإما مخترقا بها،بنوع من التمطيط السردي لحوادث فعلية، ومحكيات محيطية peripherique، بمثابة خطوط بيانية واقعة بين الضلعين الكبيرين:

أ ـ الضلع الأفقي تتوالى فوقه نضائد وتكوينات المغرب الجديد كما يعايشه الفرسيوي الإبن، صحافيا، ومناضلا سياسيا خائبا وخاسرا، وهو ما يرسم بانوراما مغرب المضاربات العقارية، والصفقات من كل نوع، والانحرافات الجنسية، والتعبيرات مع أنواع السلوك الجيلية الناشئة ، باختصار كل ما أصبح بضاعة صحافة تتعيش اليوم على الفضيحة والإثارة، وتشدّ إليها آلاف القراء ـ لا نعرف إن كانت هذه الجاذبية تصلح للرواية، أيضا، ونتساءل عَرَضاً كذلك هل قشّابتها « من السّعة لتحوي داخلها كل ما تصادفه العين، وتزكم رائحته الأنف ـ مسرودة ، بالأحرى مستعرضة، من خلال شخصيتي المحامي عبدالرحيم الخياطي، ورجل الأعمال أحمد مجد، مع ظلالهما الأخرى، الفرسيوي هو لسان حالهما، السارد العليم بأحوالهما، كما بحال كل من وما يتحرك بين « القوس والفراشة»،لا نأمة تصدر ولا حركة إلا وهو خالقها وإليه الرجعى، وهو بينهما في ذهاب وإياب؛ الضلع الأفقي دائما،هو ما يُنصب بالذهاب إلى هؤلاء القوم لاصطياد المشهدية الفضائحية، هي مظهر من الحياة، أيضا، فما يتكاثر ويستفحل يتبدّه، ويفقد إثارته، طبعا دون أن تموت فيه دودة الفساد، وعندئذ فما يتبقى هو تصدي الكاتب ( كاتب ما) لتشخيصها وتفكيك إوالياتها،ومن ثم نقدها لحد إدانتها، من ورائها إدانة منظومة كلية أنتجتها. تتراوح هذه الآلية بين السرد والتشخيص فتكون روائية، والشجب والخطابية، عارية أو مسوغة بها، فتغري بنعت الأطروحية، بوصفها سمة قدحية، فيما هي جزء أصلي من مشروع يضع نصب عينيه مقولة الروائي الإنكليزي جوزيف كونراد: « إن الموقف الأخلاقي يجب أن يكون هدف كل قصة».

ب ـ الضلع العمودي يهبط حسب شكله ومرماه إلى الداخل، هو يوسف في بطن ذاته ومساره الشخصي والمصيري، المنسوج من شبكية معقدة تتداخل فيها علائق السياسي (سجين سياسي سابق «القنيطرة»)؛ صحافي في جريدة يسارية، أو ربما يسارية سابقا؛ والعائلي السلالي (ابن الدم المشترك من محمد الفرسيوي سلسل الريف، بتاريخه الواقعي الأسطوري، وديوتيما الألمانية، مزيج واقع وأسطورة، كبعلها) والزوجي (زوجته بهية، ذات الحضور الشبحي، من ستفقد توازنها بسبب الموت الفجائعي لابنها ياسين، وتتخلى عن زوجها لتقترن بصديقه الخياطي،ويعود ليتوادّ معها، وتمضي علاقة الجميع، عجبا، سمنا على عسل) ثم السجل العشقي ـ وصله بليلى، العاطفي والشبقي، شبه الوجودي(؟) ـ يمكن أن نضيف إليها فاطمة، كفضاء لصداقة تتطهر فيها الشخصية من أدران الارتباط بأشخاص سيئي السمعة، لا يجد يوسف، (هل هي مجرد مفارقة؟!) الباحث عن مصير طهراني، المندد بكل ما حوله، غضاضة في العيش في أحضانهم وبترفهم، والاقتيات صحافيا على فتات فضائحهم. وأهم علاقة في نهاية المطاف، المركبة من العلاقات السابقة، تلك التي على امتداد العمل، يقيمها الفرسيوي الابن مع نفسه، في مسعاه اللاهث منقادا وراء مصير الفقدان والخراب الجماعي، الذي هو بؤرته، بما أنه في قلب التيمة، وحوله، وإن بذريعة موت ياسين، يتسلسل الحكي، وبتبعات سردٍ زمامُه في يده دائما.

9ـ. بإمكان القارئ المجرب اعتبار قصة الفرسيوي الأب مجرد محاولة أخرى بين تجارب كثيرة لتهريب الأزمة الشخصية، بتوسيع دائرتها خارجها، والإسهام في أسطرتها، من باب تصعيد الواقعي وتغريبه. لكن هذه القصة تأخذ حيزا طباعيا كبيرا، وتستخدم محطة مرجعية مرات، بل هي والنرفانا العاطفية، والنشوة الشبقية، والعطب المرضي المتناوب، تكاد تشكل أقوى آصرة ليوسف بحياته التي تسبح في الخسارات، وافتقاد المعنى بعد أن تفسخت أمام ناظريه المعاني كلها. وفيما تطفو عاليا مرة نجدها، مهما حاول السارد تقريبها إلى الفسيفساء الواقعية الفضائحية، تمثل بالمصطلح السردي ما يسمى بـ « التقعير»mise en abime La، وحدها فسيفساء مستقلة، نُحتت من: وليلي، بومندرة، الفرسيوي الأب وزوجته بمغامراته الواقعية الاستيهامية، معا، تاريخ زرهون و» شرفائها» وأوبئتها، وصولا إلى أوهام الفرسيوي الابن بتأسيس دولته الأمازيغية، في غفلة من الدهر الغشوم، وسواه من نتوءات أسطوـ أنتروبولوجية، وحفريات تاريخية. هما لوحتان فسيفسائيتان مستقلتان، لكن تبقيان مرآتين متقابلتين، بإرادة من جعلهما عمادين لبناء رواية على الأنقاض،على خراب متسلسل من ماض تليد إلى أن لقي حتفه في العمى والزوال، وخراب هو وليد « مغرب جديد» ـ لا نعرف في أي لحظة لمن ينتسب، رغم النكاية باليساريين، تقليدي وجديد ـ تأبى الرواية إلا أن تتوسطهما برؤية كاتبها، بحلم القوس، قوس قزح، أو الخيال، لكسر قبح وفظاظة الواقع وهجانته وفساد الأمكنة، وتلف القيم التي تتخذ الفراشة شكلا ورمزا، ولا تخاف من احتراقها السريع بأي ضوء.

10. أوَ كان أيّ أحد في هذه الرواية سيلقى غير المصير الذي انتهى إليه، سواء آل إليه بسردية مقنعة على مقتضى الحبكة، أو بناء على تتميم « شريعة» الفقدان التي سار على هديها وبناموسها السارد/ الفرسيوي الابن؟ المعول في كل عمل على ما قدمه كاتبه، فهو، أقصد بطله، انتهيا إلى استخلاص أن « لا أحد يستطيع شيئا لأحد»(301)، ونحن نقول لهما بلى، مقرونة بهذا السؤال، التساؤل ( الذي نجدد في الحقيقة طرحه): هل الفقدان حالة شعورية، ورؤية شعرية (مجازية، استعارية إلخ..) التالي يرتبط التعبير عنها بالقول الشعري، وتتحكم في سوْقها سُنن الشعر، تذهب إلى التجريد والقول الكلي، والمعنى التراجيدي (الطللي) فيها أقرب إلى التجنيس الملحمي منه إلى الروائي؟ أم أنه بنية واقعية انتظمت بالبناء والتركيب، من مواد بضاعة الإرهاب وعناصر التفسخ المعلومة بإكسسواراتها وكليشيهاتها المتداولة، وقبل هذا بشخصياتها النمطية وتيماتها الشعارية، وبالتالي يجوز من باب اكتمال اللوحة البانورامية لواقع بات مهجّنا ومتضارب المعايير، مخلخل القيم، أن نلبسه جُبّة ندخل تحتها ما يتفق وكيفما اتفق، وأن نفسح المجال في هذا السياق بالرجوع إلى علبة المحكيات ( العلبة صندوق حكايات ص216) وإلى تدافع السجلات القولية والخطابية، ولا نحفل من الانتقال بينها، وننجذب إلى محافل الإثارة الحدثية بدءا من الـ « Rocambolesque «وانتهاء بالـ « Burlesque» لإتمام سيرة الفقدان بكرشندو (آخر تلفظ في الروايةغيمة بيضاء( تأخذنا) في دويّها الهائل!.»؟{322}.

11. نفضل ترك هذه الأسئلة مفتوحة، فالمجال أضيق من استيعاب مناقشتها بحصافة، مكتفين في رسم اختتام مؤقت بالقول بأن محمد االأشعري تنقل بنا في « القوس والفراشة» برشاقة من يتزلج بين سيرورة السرد ورؤيوية الاستعارة، متماهيا بيسر بين وضع Statut الروائي شاعرا، والشاعر روائيا، والمهم أن الرواية هي طريقة خاصة لتمجيد الحياة، و"..المهم هو الكتابة، هو هذه الطريقة التي تصبح بها الكلمات والجمل أهم من الحكاية، شيئا خالصا، يمنحك إحساسا بجمال مفرد، لا مضمون له، أم هو مضمون نفسه، هل تفهم ذلك؟»(38}.