يتتبع الباحث في قراءته الخبرات الحسية الاستعارية، التي تذوب فيها الحدود الزمنية، والفواصل بين التكوين في رواية الخراط. ويرى إلى أن الاتصالية الجمالية تستمد طاقتها من مدلول أبولو، وتأويلاته الفنية عامة، ومن السياق الجمالي الفريد الذي يقدمه النص خاصة.

أغنية كونية للأثر الجمالي

قراءة في حجارة بوبيللو لإدوار الخراط

محمد سمير عبدالسلام

في نصه الروائي "حجارة بوبيللو" – الصادر عن دار الآداب ببيروت سنة 1992 – يعيد إدوار الخراط تكوين النص، والعالم وفق مبدأ الاتصالية الجمالية التي تقع فيما وراء الاختلاف، والتناثر، والتناقض المميز لصيرورة الأشياء، والعلامات النصية معاً. ويلمح القارئ تلك الاتصالية الروحية الخفية الكامنة في نسيج النص، والوجود كما تتجسد في وعي السارد في سياق العشق بمدلوله الواسع، أو الكوني؛ إذ يتجلى في التعاطف المادي بين العناصر، والدوال التي تميل بحد ذاتها إلى الالتئام مع احتفاظها بالانفصال، أو التجاور، والاختلاف الأصلي أيضاً، ولكن السارد يميل إلى لحظة التجاوز التي تجمع شظايا الحياة، وما بعدها في سياق شعري جديد يحتفي بالاتصال الوثيق بين الكائن، وتحولاته، أو أطيافه من جهة، وإيحاءات الذاكرة، ولحظة الحضور، والكتابة من جهة أخرى، وكأننا إزاء مجموعة من الخبرات الحسية الاستعارية، تذوب فيها الحدود الزمنية، والفواصل بين التكوين، والإيماءة، والأثر. وأرى أن الاتصالية الجمالية التي يحاول إدوار الخراط أن يستشرفها، ويقبض على إنتاجيتها الجديدة في عملية الحكي، تستمد طاقتها من مدلول أبولو، وتأويلاته الفنية المحتملة، والمتجددة في الأعمال الإبداعية بوجه عام، وفي السياق الجمالي الفريد الذي يقدمه هذا النص.

يقدم إدوار الخراط – إذا - قراءة جديدة لدال أبولو، تقوم على بقاء العلامات، والعناصر المتحولة، أو التي يصيبها التلاشي، واستمراريتها، وفاعليتها الآنية في النص؛ فنحن نعاين طفولة السارد في نسيج حكمته، ونشاهد الموت في وهج العشق، وإيماءات الذاكرة الشبقية للسارد/ الطفل، والرجل في آن؛ فهو يستحضر مرح الطفولة بكامله؛ ليقاوم قسوة الألم، والفقدان، والصمت؛ وهي مفاهيم يكتشف القارئ أنها غريبة، وعابرة إذا قورنت بالحضور الواسع للإيحاءات، والإيماءات الكونية التي تتميز بالأصالة، والفاعلية القائمة في لحظات الكتابة المتجددة. وفي (معجم الأساطير) ترتبط صورة أبولو بالنور، والطب، والجمال، والموسيقى، والرعاة، ويروى أنه سحر الحجارة – أثناء بناء أسوار طروادة مع بوسيدون – فتحركت إلى موضعها المحدد من خلال لعبه بالقيثارة (Read: The Dictionary Of Mythology, Arcturus Publishing Limited J, A Coleman 2007, p.80/81).

وقد تطورت إيحاءات أبولو – عند نيتشه - كمبدأ جمالي يقترن بغياب ديونسيوس في التراجيديا، ولكن الخراط هنا يحول أصالة البناء، والبهجة الأبولونية باتجاه الظلال، والتشبيهات التي يخلفها التجسد، والحضور الواقعي في النص، دون أن يتعمق في وصف المشاعر المأساوية رغم تكرارها، وتواترها؛ إنه يبدأ من مسافة احتمالية ملتبسة من الوجود، ثم يكسبها طاقة النور المجازي؛ لأنها تبقى في حالتها الاستعارية، ولا تسقط أبداً في بنية الغياب.

يمثل نص حجارة بوبيللو – بحد ذاته – أنشودة للكينونة المؤقتة، والمتجاوزة لزمانها في آن، وكذلك الإدراك الحسي المعلق دائماً بين البهجة، والعدم. فالنص أنشودة للاختفاء؛ فهو الكينونة التأويلية للأطياف، والموجودات ذات الفاعلية المجازية في الفضاء الكوني/ أو النصي. وتبدو الأصوات، والروائح، والإيماءات في النص كتشبيهات للذكرى؛ فالذاكرة هنا مادة للعمل، والإنتاجية السردية المؤولة لصيرورة الوعي؛ إذ تتجدد فيه الحياة من خلال الشاعرية المضافة، والمتراكمة في سياقات أولى من التحول البهيج دون نهاية. إننا نعاين الوجود – في النص – من خلال اتصاله السري بالدوال الثقافية، والأساطير، وكذلك تفكيك مركزية التواتر، دون التخلي عنها أبدا؛ فهي السمة التي تمنح النص تلك الإيحاءات الفنية الساحرة بضرورة التجميع، أو الحب – طبقاً لفرويد – كخاصية مادية تميز العلامات المتضادة؛ فالشخصيات النسائية؛ مثل رحمة، وخضرة، وحميدة، وحنينة تتصل بصور الأم سيبيل، وإيزيس، وحتحور، وست الحسن، وعرائس النيل، وغيرها، ونلمح تجاورها الآني، واختلاط إيماءاتها بالمشهد السردي، دون إشارات تدل على الاستحضار، أو الاستباق؛ إنها فاعلة في لحظة الكتابة.

إن الاختلاف في نص الخراط يتجسد كجزء من حركية التعاطف الكوني، وما يحمله من تصوف خفي، وثري بالدلالات العميقة. ويضيف مبدأ التجاور الفني في النص سمة التسامح التي يؤكد حضورها الكاتب بين الأفكار، والصور، والثقافات؛ وهو ملمح ما بعد حداثي يؤكد عمق البساطة، والخبرات الصغيرة في تفاعلها المعقد بالصور المجازية، والثقافية الخفية. ويمكننا ملاحظة خمس تيمات فنية في (حجارة بوبيللو)؛ هي:

أولاً: من الصمت إلى ولوج جماليات العالم.

ثانياً: تداعيات نصية، وثقافية.

ثالثاً: بلاغة إدراك الوجود.

رابعاً: بين وهج التجسد، والخروج المتعالي.

خامساً: عالمية الشخوص، والأماكن.

 

أولاً: من الصمت إلى ولوج جماليات العالم

يعاين السارد، وشخوصه حالات من الصمت، والانتظار المستمر، والغربة، ولكن الصمت هنا يتميز بالإيجابية الإبداعية التي تستنزف اللغة، والجسد في الظلال، والتشبيهات المتضاعفة في النص، والوجود معاً، وتعلن عن شبقها التكويني، وبربريتها الاستعارية التي تعيد استنبات الوعي، والجسد في جماليات العالم، دون نهاية. إن العزلة التي تستشرف الموت في النص، تنطلق في موسيقى جمالية تنبع من ولوج الشخصيات للفضاءات الكونية الجديدة؛ وفيها يتمتع الأثر بالدائرية، والتحول، والفاعلية المتجاوزة للحظات البداية، والنهاية معاً. ويختلف مدلول الصمت الإبداعي لدى الخراط عن تشكله في أدب ما بعد الحداثة الذي يجمع بين التوقف، والغناء كما وصفه إيهاب حسن في كتابه "تمزق أورفيوس"؛ إذ يميزه بالحديث الصامت، وخطاب الهاوية، والمغامرات الروحية المفرطة التي ميزت نصوص نيتشه، ورامبو، وكافكا، وهمنجواي (Read: Ihab Hassan, The Dismemberment Of Orpheus, The University of Wisconsin Press, London 1982, p.vix).

الصمت في "حجارة بوبيللو" مرح، ويستنزف بنيته نفسها، ومصادر نشوئه التي تنبع من مخاوف الجسد، والإفراط في تأمل التجربة الداخلية كتكوين مستقل، وذلك من خلال ولوج الصوت للآثار المجازية المولدة عن لقاء الكون بطاقة الدوال الثقافية، والخبرات الحسية التي تقع هنا، والآن، وتتضاعف في المشهد السردي كقوة مضادة للصمت الأول؛ إنها تدرك الموت، ولكنها تلج ما يتولد عنه من إيماءات صاخبة، واستعراضية تناهض بنيته، أو اكتماله. إن التجاوز عند الخراط ينبع من أصالة الاتصال بالتكوينات البهيجة في العالم، وهو ما يستدعي دلالات أبولو مرة أخرى، ولكن التجاوز لدى إيهاب حسن يأتي من حالة اختلاف جمالية تبدأ من التناثر، وفنياته الجديدة في الكتابة.

يقوم نص "حجارة بوبيللو" على درجة عالية من التفاعلية المعقدة بين البطل، وعائلته، وجيرانه، وبعض الشخصيات الفريدة المولدة من المكان من جهة، والطاقات الإبداعية، والثقافية، والخيالية التي تحيطها، وتبقيها في المشهد السردي من جهة أخرى. تتداعي رغبات البطل الحسية إزاء (رحمة)، وحكايات الحب مع (لندة) مع صخب أرض بوبيللو في قرية الطرانة – وكانت مخصصة لدفن الموتى – ولكنها تحمل آثار الماضي في فضائها الإبداعي، وكأن طاقتها التوليدية تستنزف ظاهرية الصمت باتجاه حياة قيد التشكل، والبعث دائماً؛ فهي تعيد إنتاج طفولة السارد، وبكارة إدراكه للعالم، مثلما تؤجل الموت، بل التجسد بحد ذاته في الصوت الشعري المتعالي للمواد المؤقتة، والأطياف.

يقول: "تراب الكهنة والشعب والجنود والتجار يغذو القمح والبرسيم والشعير، ويمتزج بعصارة جذور الجميز... أعواد الذرة الغضة، وحبوبها السكرية؛ دورة مشرقة الحلقات أم ثأر يأخذه لنا ولنفسه الفلاح الذي لا يموت أبداً". الخبرات الجسدية الأولى تلتقي – هنا – بالمرح المصاحب لظهور المادة، والأثر، والنور جميعاً دون انفصال في المشهد. الطفولة تستنبت الفلاح الذي صار بلا اسم، أو جسد محدد؛ إنه طاقة تلازم أخيلة المكان، وتنتشر في لا وعي الشخوص، وروائح المكان، والبهجة المتجددة في الأجساد الحية، والميتة معا؛ فالحياة النورانية في وعي السارد تهمش الصمت، وتقصيه عن المشهد، وتعيد تكوينه في النسيج المادي المتداخل للطاقات الاستعارية الحقيقية في الكتابة السردية. قد تموت بعض شخصيات المكان، أو العائلة، ولكنها تزداد توهجاً في لاوعي السارد؛ مثل أخته عايدة التي ماتت بالتيفود، وخضرة التي قتلها زوجها، وحميدة، وغيرهن؛ فما أن يأتي خبر الموت في النص حتى يشتبك بالمتواليات السردية التي تضاعف من النور، والعشق، والصوت الكوني الملازم للأخيلة البديلة عن الشخص.

ومن أهم الشخصيات التي تصارع الصمت في النص (حميدة البرصا) التي تعاني من العرج، والتشوه، والعزلة، وانتظار النهايات، ولكن السارد/ الطفل يعيد اكتشاف نفسه فيما وراء ذلك السلب المضاعف، ويتحد بالطاقة الروحية لحميدة؛ فيحتضنها كأنهما تكوين واحد، ويرى نفسه في عمق عينيها الخاليتين من الانتصار. هل كانت نهايات حميدة بداية لنشوء آخر؟ أم أن السارد ينقل صمته الخاص في طاقتها المحولة البهيجة عقب الموت؟ يخبرنا السارد أن حميدة صارت نجمة مضيئة؛ أي صارت نوراً خالصاً من داخل هيمنة الهدم، والتدمير في بنيتها، وكأن الصمت في النص معبر لما وراء النهايات الزائفة، وليس مدلولاً لها. وقد تختلط آثار المادة بالفضاءات التشكيلية الفنية؛ فنعاين جماليات العالم في تكوينات الموت نفسها. النشوء هنا دائري، ويستشرف تحولاً، أو بعثاً دون تحقق كامل؛ فلحظة الحضور تتمركز حول التشكيل الحي للموت، وليس ما يتجاوزه.

التكوين يستنزف نفسه في طبقات بهجة عميقة لا يمكن محوها من صمت المادة، كما تعلن الحياة عن نفسها بصوت صارخ، وخفي في آن داخل نسيج اللوحة الكونية الحارّة. لقد أعاد السارد تأويل رأس غزال صغير وجده في الصحراء من خلال عوامل النشوء المتجددة، والكامنة في بنية الصمت.

يقول: "هيكل بريء تماماً من كل لحم، من لوثات الحياة، عظم أبيض صاف وصلب، عيناه محجران مجوفان مفتوحان على ظلام الجمجمة الداخلي". هل استحال ظلام الجمجمة نوراً بفعل التشكيل الجمالي للعلامة؟ أم أن الحياة الدائرية هي براءة أولى من التجسد؟ لقد اختلطت عوامل العشق، والتدمير مع غلبة البهجة في التكوين؛ فرغم أنه ميت ظاهرياً، فإنه يتصل – بصورة خفية في وعي السارد، ولا وعيه – بنشوء جمالي غامض، ومتكرر في العالم.

 

ثانياً: تداعيات نصية، وثقافية

تشارك العلامات الفنية، والثقافية في بناء المشهد السردي في "حجارة بوبيللو"؛ فهي تحول وعي السارد إلى فراغ منتج لتجاورها الإبداعي في لحظة الحضور؛ وهي ثرية بالموجودات، والإيحاءات المتراكمة في الأكوان الصغيرة، والكبيرة في النص، كما تتحدى الأبنية المعرفية للسارد، وكذلك اكتمال أي مدلول في النص السردي. التداعيات النصية هنا تشبيهية أيضاً؛ لأن العلامات تكتمل في نشوء الدال الآخر دائماً في نسيجها نفسه، وهو يتصل بها رغم الاختلاف الظاهر، وكأننا أمام احتفالية سيميائية كونية تقاوم الماضي، وسكونية الإشارات الثقافية التي صارت مؤثرة في تكوين المشهد بفضل اتصالها النصي بالسياق المتجدد للكتابة، والتكوينات الفريدة لشخوص النص. ويتداعى المدلول الثقافي للعقاب في النص مع أحلام الحب، والعشق في وعي، ولا وعي السارد في سياق نصي تشبيهي يؤكد أن العقاب مازال معلقا في بهجة الحلم، والتداعيات الأنثوية. يروي السارد حادثة وقوع حائط الكنيسة القبلي على العم (باسيلي)، ويتخيل أن ملاك الرب قد ضربه بسيف؛ ليعاقبه على ذنب لم يفعله، ثم يعاين صورة أرضية من الملاك، تتبعها أحلام الحب التي تشكلها الدوال النصية؛ مثل (حميدة)، و(حنينة)، والأسطورية؛ مثل (جنيات الليل)، والثقافية؛ مثل (عرائس البحر)، و(جواري ألف ليلة).

إن عقدة الذنب بما تحمله من أخيلة أوديبية هنا تسير في اتجاه مضاد لبنية الموت؛ إذ يتضاعف العقاب في أخيلة الاتحاد الجسدي بما تحمله من موت محتمل دائماً؛ لأنه يقترن بتجدد قوي للحياة؛ فحميدة نجمة مضيئة، وعرائس البحر تحمل ذكرى الخصوبة، وحنينة تتصل بالصوت الخفي الصاخب للعم باسيلي المشلول. علامات العقاب تلج التحول مباشرة قبل أن تشير إلى الموت المحتمل، وكأن التداعيات النصية، والثقافية تؤول النشوء الآخر للحدث في سياق الاتصال الروحي بين العناصر المتعارضة. وقد تتداعى المرأة المتخيلة داخل وعي السارد أثناء عمله في الصحراء باستعادة أصوات شعراء الغزل في الثقافة العربية؛ مثل امرئ القيس، وعمر بن أبي ربيعة، والمجنون، وجميل، وكذلك العنصر الجمالي البارز في نسائهم المعشوقات، وهو الاستدارة مع الامتلاء، والخصوبة. وأرى أنه ثمة لقاء سري في اللاوعي بين تلك الأنثى الحلمية الممثلة لصوت السارد، ومشاهد البهجة الحسية في معلقة امرئ القيس؛ فلقائه بالعذارى، وأكله معهن يعبر بدرجة كبيرة عن استعارة حلمية بهيجة، لاواعية، وأصيلة في تراثنا العربي؛ فهناك عشق ينبع من الأحلام الذاتية، ويتراكم هنا في الدلالات الثقافية للصحراء، ويقع بين رحلة السارد إليها، والفاعلية الجديدة للدوال الثقافية.

وقد يغرق النص في تجميع الدوال النصية؛ كي يلفت النظر إلى تلك الحياة السرية التي تكمن في الإيماءات الصغيرة، والأطياف؛ فما أن تبدأ العلامة في الظهور حتى تتولد منها إشارات حركية تعلن عن تحدي الحياة الجزئية في العالم لأي مركزية، أو صوت مكتمل. تتداعى تراتيل الهارب في وعي، ولا وعي السارد مع صوت الناي، وخشخشة علب السافو، وصخب إعلانات التليفزيون، وكراسي التخت، وضربات الخشب، وصرخات الفتيات، وقرع الطبل، وترجيع الكروان، ثم الضوء الملتبس بين السطوع، والظلمة. إن التراكم اللازمني للأصوات هنا يدل على الفاعلية الشبحية للموجودات الجزئية التي انتصرت على كينونتها المؤقتة في المشهد، وصارت ممتدة من خلال قوة التراكم النصي، والاشتباك الاستعاري بالدوال الأخرى. واللغة الاحتمالية عند الخراط تعيد بناء الهدم في موسيقى جديدة ترتكز على الانتشار، والتناقض معاً.

 

ثالثاً: بلاغة إدراك الوجود

يشكل السارد موضعه في العالم انطلاقاً من بلاغة المعرفة نفسها؛ فالوعي يحدد كينونته انطلاقاًَ من رؤى بلاغية مجازية، وقد لاحظت أن أخيلة الطيران هي الأكثر حضوراً في النص، وترتبط بانتشار الحب، وفقدانه، واستعادة وهجه مجردا في آن. لقد عاين السارد حضوره في صورة عصفور شفاف، ثم سرب من الطيور الزرق التي تنتشر نحو السماء، وتمثل الأشواق، وأحلام الحب، ثم قام بتأويل مشاعر الخواء، والفقدان عبر وسيط الغربان التي تتجه نحو الاحتراق دون اهتمام، ولكنه يمنح روحها اشتعالا متساميا يوحي ببعث الحياة مرة أخرى من خلال فعل الطيران. الطيران عند الخراط نشوء مرح متجدد، وهروب مجازي مستمر من النهايات؛ إنه أنشودة للصعود الدائري المعلق بين الأرض، والسماء.

 

رابعاً: بين وهج التجسد، والخروج المتعالي

يقع سارد الخراط، وشخوصه في النص بين الوهج الجسدي الذي يتفاعل مع الإشارات الثقافية، والكونية، وصخب النهايات التي يفكك بنيتها التحول باتجاه كينونة شعرية جديدة، ومتعالية في الوقت نفسه؛ ففي داخل العم باسيلي العاجز صرخة توحي بتجاوز الألم، واستشراف بدايات جديدة، كما تتجلى أمامه أنوثة (حنينة)، وأمومتها الأسطورية؛ أما تحول حميدة إلى نجمة مضيئة، فقد تماس مع الأيقونة الحزينة للمسيح، وعلى رأسه تاج الشوك، وكأن حياة حميدة الحقيقية تبدأ من لحظة تحولها الشعري في الكون الآخر.

ومن أهم المقاطع التأويلية في النص ما يجسد فيه السارد شاعرية الظلام، والنهايات في فعل الاحتراق الاستعاري. يقول عن النصف القاتم من حميدة عقب تحولها: "اللهم اجعلني وقودا للشطر المحترق، اللهم اجعلني هشيما للنصف المشتعل. اللهب، اللهب، أريد بقاء ساطعاً في اللهب، لا، بل أريد الظلام.. أريد نشواته، وخفاءه". هل كان الظلام بحد ذاته تشبيها لطاقة الحياة المتجددة؟ أم أنه فاعلية المجاز المحولة لمدلول النهايات الزائف؟ إن السارد يكرر علامة (اللهب)؛ كي يمنح الكينونة سحرا استعاريا متعاليا من خلال تلك اللغة التي تتحدى الظلمة، والصمت في النص، وتستبدلهما بخصوبة للنور.

 

خامساً: عالمية الشخوص، والأماكن

تتجاوز الفضاءات، والشخوص في "حجارة بوبيللو" حدودها المحلية باتجاه النزعة الإنسانية العالمية عبر وسائط الاندماج في الآثار الفنية، أو الأخيلة ذات الطابع الفردي، والمؤولة للمحلي في سياق كوني كبير يجمع بين الداخل، والخارج.

لقد أعاد السارد إنتاج الراقصات في فرح الخال فانوس، ووديدة انطلاقاً من تداخلها مع راقصات هنري ماتيس، كما تحولت جذور الأشجار في وعيه إلى أعمدة تطير في بحور العشق.

الأجساد الصاخبة عند ماتيس تستعاد في تلك الطاقة الإنسانية الخفية، والمكررة في العلامات الجزئية، والمحلية، مثلما تصير معالم القرية أساطير للعشق، والغناء الكوني.

 

باحث وناقد من مصر

msameerster@gmail.com