القاص المصري يكتب عن تلك الحافلة التي يعجز سائقها عن إيقافها أو فتح أبوابها. ومن خلال تباين ردود أفعال ركابها تتكشف رؤى مختلفة تعاش يوميا في التعامل مع الواقع المأزوم.

الحافلة

أشرف الصبّاغ

اندفع جسده إلى اليمين بتلقائية وعنف. اصطدم رأسه بالقائم المعدنى. اختلطت الصور أمام عينيه، وامتزجت آخر فكرة فى ذهنه مع الدم السائل من أنفه. تعالى صراخ طفل بالمقدمة، وانطلق سباب من المؤخرة. مد يده فى محاولة يائسة للإمساك بأى شئ تحسبا للانعطافات غير المتوقعة. سألته عجوز عن اسم المحطة القادمة. فذكر لها اسم المحطة التى لم يتوقف فيها السائق. نظرت إليه فى ذهول وبلاهة، فبادلها نظرة امتعاض وقرف. خرج صوت واهن من بين القامات المتمايلة يمينا ويسارا.. إنها محطتي.. توقف.. توقف يا رجل.. لقد.. وتطايرت الأجساد مصطدمة ببعضها البعض. امتدت الأيدي ممسكة في طريقها بمعاطف وياقات وحقائب نسائية، مصطدمة بصدور الفتيات ومؤخراتهن. توقفت الحافلة. تدافعت الأجساد من الداخل والخارج نحو الأبواب المغلقة. سأل رجل.. لماذا لا يفتح السائق الأبواب؟ نظر إليه أحد الجالسين باستياء ثم دفن رأسه في الصحيفة مرة أخرى. تعالى ضجيج الواقفين على المحطة، بينما أعلن السائق أن الأبواب قد تعطلت.. وإنه لن يستطيع التوقف في المحطات القادمة. اندفعتْ الحافلة بشكل فجائي إلى الأمام، انعطفت يمينا ويسارا. غطت الصرخات المستغيثة والتأوهات على صوت طرقعات العظام. أشعل أحد الجالسين إلى جوار النافذة سيجارة. قال رجل.. ممنوع التدخين. وتعالت صيحات الاحتجاج. فنفخ دخان سيجارته في ضيق وغطرسة.. استأجر تاكسي.. أو اشتر سيارة. رد آخر.. افتح زجاج النافذة. فصرخ المدخن بنفاذ صبر.. المقبض مكسور يا أعمى.. والمطر شديد في الخارج و.. تلقى لكمة قوية من أحد الواقفين. ضحكت امرأة فى تشف، ولكزت فتاةٌ شاباً قد التصق بمؤخرتها. انتزع قارئ الصحيفة وجهه من صفحة الوفيات، أدار بصره بين الوجوه من حوله ثم تمتم.. حيوانات. اهتزت الحافلة بشدة. تعالى صوت قرقعات وحشرجات ثم توقفت. اصطدمت الرؤوس بالأنوف، والقبضات بالعيون، تكومت أجساد الصغار والعجائز تحت الأقدام، فاحت رائحة الطين والوحل مختلطة برائحة العرق ودخان السجائر والبرودة المتسللة. فتح السائق النافذة المجاورة ثم قفز متقيا رأسه براحتيه تحت سيول المطر والشتائم المنهمرة بغزارة.. وابتعد.