يكتب القاص المغربي عن لحظة أو طقس تعر تنبعث فيه هواجس من خلالها يرى صاحبها جسده برغباته الدفينة في قبضة موت وشيك.

تــعري

إدريس خالي

بعد أن ينهي أحمد صلاة المغرب سيتعرى. نعم سيتجرد من ملابسه كلها. سيكون من غير اللائق إن كشفت سر هذا الأمر. لكل واحد منا حديقته السرية. ليس في البيت غيره والله و صوت حشرة ليلية. يغلق باب البيت ثم يلج غرفته بهدوء. يغلق باب الغرفة بالمفتاح. وقبل الشروع في التعري يعود إلى الباب. يتأكد من أن الباب الخشبي مغلق. مغلق بالتمام و الكمال.

بالغرفة مرآة دولاب. ولسبب غير مفهوم المرآة غير طويلة. غير طويلة بالمقارنة مع حجم الباب الأوسط للدولاب. للغرفة أيضا نافذتان. تطل الواحدة على الشارع المزدحم دوما بسيارات الأجرة فيما الأخرى تطل على عمارة بنيت حديثا.

سيتعرى أحمد ليقيس حجمه.

يقترب أحمد من النافذة التي تطل على العمارة. يرمي بعينيه  إلى الخارج. ما الذي يتبقى للمرء حين يصبح فريسة للهواجس غير رمي كل أعضاءه بعيدا عنه؟ العينُ العينُ العينُ. العين اللعينة سبب كل هواجسه. سيترك عينيه الآن لترقبا الغادين والرائحين. هناك غير بعيد عن البيت الذي يسكنه  تربض سيارة  قرب باب العمارة. تبدو سيارة فخمة. فخمة من حيث اللون والشكل. يسمح أحمد لنفسه بالبقاء لبرهة إضافية خلف النافذة عسى الهواجس تفارقه.  من باب العمارة يخرج شاب في كامل أناقته. يفتح  السيارة بمفتاحه اللايزري. و بخفة  ورشاقة يقفز كلبه إلى جوف السيارة.  يركب الشاب سيارته الفخمة ثم ينطلق  بسرعة صحبة كلبه بعيدا عن العمارة. يتساءل أحمد إن كانت السيارة و الكلب علامتان على غياب الهواجس المقلقة عند مالكها.

 يترك  أحمد التساؤل معلقا ويغلق النافذة. يقترب من المرآة. يعانق وحدته  التي تُلَوِح به إلى مصب الهواجس. ثم  يلعن الشمس و القمر و النجوم و المدينة و الكلاب والسيارات  و القدر.

أحمد سيتعرى أمام الله وأمام المرآة و أمام عينيه الشاردتين اللعينتين لينظر ويقيس حجمه.

ينزع طاقيته. لا يريد أن يطيل النظر إلى شعر رأسه. تحت الضوء المنعكس على المرآة تبدو الرأس  قطعة أرض بزرع خفيف. يدور أحمد حول نفسه كدجاجة حمقاء. يرفع يده اليمنى عاليا. ينزع سترته. يتأمل النصف الأعلى لجسمه. هناك كتفان بارزان وواسعان. فيما مضى قال له صديق أن الكتفين العريضين علامة نحس. و يتذكر أحمد أنه قال للصديق:

-ما لنا و النحس؟

ثمة ما يشبه حفرة واسعة تحت تفاحة آدم. هل كانت لآدم القدرة على النظر إلى نفسه عاريا دون خوف؟ من المؤكد انه ما كان عليه أن يخاف من نظرة آدمية طائشة لعورته. كان وحيدا صحبة ملائكة غير معنية بالنظر إلى ما لا يعنيها.

ينزع أحمد القميص الداخلي. يبدو الآن نصفه الأعلى عاريا. هناك بضع زغيبات في صدره. يقرب أحمد في حركة غريبة أصابعه من الزغيبات. يداعبها. تلتصق زغبة بكفه. يبدو أنها شاخت قبل الأوان. يقرب أحمد الزغبة من فمه. يصنع من شفتيه فم منفاخ صغير. يجمع ما تبقى من هواء في رئتيه و ينفخ.على الزغبة ينفخ برفق. تطير.  قليلا تطير ثم تسقط غير بعيد من حافة المرآة.

حين تستبد بالمرء هواجس سوداء تنبت أرجل صغيرة للمصائب. يؤمن أحمد بالله وبالقدر خيره وشره غير أنه لا يعرف لم تظلم الدنيا أمام عينيه حين يرى ذلك الشيء الغريب.

 ينزع سرواله ليتأكد بأم عينيه من حجمه الحقيقي.  كيف له أن ينبت هناك؟  كيف له أن يظهر هناك بالضبط. في وسط الجسم قبل أن يكمل دينه؟ كيف؟

ولكنه نبت. على الرغم من رغبات أحمد و نواياه نبت. وحين أطل الشيء الغريب برأسه عزم على أن ينمو ببطء لكن باستمرار. لا يدري أحمد ما الذي جاء به إلى أعز منطقة لديه. إلى المنطقة المتشحة بالسواد. لم يكن له ليشتري دولابا بابه مزينة بمرآة لو خبر الأمر. جوفه دولاب محشو بأسرار لا يعرفها غيره والمرآة والله الذي يرانا.

المرآة حواء.

المرآة شيطان.

 حواء مرآة.

ينزع عينيه منها. يطيل النظر إلى وسط جسمه. لم يأت منكرا من قبل كي ينبت ذلك الشيء الغريب هناك. بالضبط بالقرب من  قلمه.

يبدو قلمه خائفا من حجم  الشيء الغريب الذي يدنو منه بإصرار وترصد.

يقرب  أصبعه منه. ما يشبه كٌلًة صغيرة بدأت حصى و امتدت. تبدو الكلة جسما غريبا يتحرك تحت الجلد في صمت. يرفع أحمد عينيه نحو المرآة. ينظر إلى نفسه بسرعة. من المؤكد أن أفكارا سوداء ستمر في رأسه.

-قد يكون ورما خبيثا، يقول في نفسه.

لن يخلع تبانه. سينظر إلى الكلة  ببلاهة و خوف. ثم ينظر  إلى المرآة التي تنظر إليه. وقبل أن تكتسح الأفكار السوداوية رأسه  سيداعب قُنًة قلمه بلطف. سيفكر في  كل الفتيات اللواتي رآهن يلجن أو يخرجن من باب العمارة  ثم يترك نافذة رأسه مفتوحة كي تخرج منها الهواجس السوداء التي تنغص عليه صلاته. لا بل حياته كلها.

ثم سيتدثر.

سيتدثر بسرعة و يفتح النافذتان و الباب ويخرج إلى الشارع كما لو أنه سوي ككل الناس الذين يمرون ويضحكون ويشربون و يجلسون في المقهى.

سيتدثر الآن. بسرعة سيتدثر كما لو أنه يهرب من عيون لا مرئية و لا معدودة تراقبه. غير أنه لسبب ما سيترك رأسه فقط عاريا.

غدا سيجمع أحمد ما يوجد في حوزته من شجاعة و يتعرى أمام الطبيب. سيتعرى ليتأكد من طبيعة ذلك الشيء الغريب. ليس مقبولا دينيا أن يُري المرء عورته للآخر غير أنه سيفعلها. سيصلي ركعتي الصبح ويزور أقرب طبيب. سيتسلح فقط بإيمانه. من الممكن أن يخبره الطبيب بقرب رحيله الأبدي. وسواء قال الطبيب ذلك أم لم يقلها فإن المرء  سيرحل غدا أو بعد غد.  سيرحل سواء بفعل أي شيء غريب أو بفعل الشيخوخة أو فقط بفعل شيء غير منتظر. سيرحل  فقط عندما تسقط ورقته من الشجرة. عندها لن يهتم أحمد للفقيه وهو يغسله الغسل الأخير ولا للٌطٌلبة و هم يصلون عليه صلاة الجنازة.

 

دجنبر 2010