يسخر القاص السوري من الضوضاء والضجة التي تتسبب فيها مكبرات الصوت صينية الصنع والتي تكشف عن ذوق سقيم سواء في الأغنيات المنبعثة منها أو الأصوات التي تهدر بها كما تتضح السخرية من أحوال الحارة التي صار اسمها نعيما من كثرة الحلاقين.

حارة نعيماً

آرا سوفاليان

الديسيبيل هي وحدة قياس الضجيح والـ RMS هي وحدة قياس قوة أجهزة الصوت، ففي السبعينات كانت تجهيزات الصوت الايطالية المسماة مونتاربو هي الأجهزة المفضلة فلقد كانت الأجهزة من طراز 200 آر إم إس تكفي لإحياء حفلة في قاعة كقاعة الأمويين في فندق ميريديان دمشق أما الأجهزة من طراز 400 آر إم إس فكانت تعتبر من الكماليات.

واليوم وبعد اربعون سنة فلقد استطاعت الصين التي كانت شعبية وصارت اليوم بقدرة قادرعالمية استطاعت تأمين أجهزة صوت بقوة 1000 RMS  حيث تلتصق بهذه الأجهزة اليوم صفة أضعف الايمان، وتضعها بأسعار مقبولة بين يدي المتعيشين من ملوك الأرصفة والشوارع الذين نجحوا حتى الآن من الاختباء خلف حرفهم الغريبة العجيبة فلا يطالهم قانون ولا نظام ولا دستور.

قيلولة الظهيرة مسألة عادة أدمنت عليها منذ أيام الجامعة، وكانت القيلولة كافية لإعادة الحيوية التي كان يتم استنفاذها كل يوم وبشكل مطرد، واليوم نهضت مذعوراً في منتصف قيلولتي فلقد تمنيت أن أعرف عدد نبضات قلبي والحدود العليا لضغطي الأعظمي والأصغري فلقد وصلت بلا شك الى أرقام قياسية.

كانت أصوات مكبرات الصوت تلعلع في الشارع، وأشفقت على نافذة غرفتي الكبيرة وإطارها الألمنيوم البرونزي، أشفقت على هذه النافذة من التطاير في الجوّ، فلقد كانت تتجاوب مكرهة مع اهتزازات الصوت وتقاوم التحطم وقد احتشد تحتها وعلى الرصيف جماهير النظارة.

لم أكتف بالمشاهدة من خلف الستارة، فخرجت الى البلكون فرأيت أجهزة الصوت التي أوقعت الرعب في قلبي ممددة على الرصيف على يمين ويسار احدى المحلات في مواجهة منزلنا العامر وفي الوسط وضعت مسطبة تستند على جحشين من الخشب عليها مكبرات الصوت والميكسرات والسيب والميكروفونات وخلفها جميعاً يقف جحش وضع كلتا يديه على الأزرار ويعتمر في رأسه قبعة كاسكيت اعتمرها بالمقلوب ويرفع ثم يرفع ويرتفع مع ما ارتفع ويهزّ ويتمايل ويضع يديه على خصره فيرفع ويهزّ كالرزّ، وعلى يمينه جرّة بلاستيكية سوداء تتحرك آلياً على قواعد دوارة فتومض بما يوازي وميض عشرات الفنارات البحرية ويتمايل شعاع الضوء المبهر المنبعث منها ليرتطم بالبنايات متجهاً الى الأعلى مصطدماً بالسحب، وعلى يساره جهاز آخر يرسل الضباب والأبخرة البيضاء تارة ثم يرسل وبالتناوب الثلج الصناعي ويرشقه رشقاً على رؤوس النظارة.

وتتغير الأغنية ويطير الـ D J  فيشفق الناس عليه ليتبين انه يبحث عن سماعات الرأس ويعثر عليها ويضعها على رأسه بحركة استعراضية توحي أنه قد (جاب القط من ذيله) ويضعها على رأسه فتنغرس بالجيل وبخصل شعره المسننة المنتصبة، وعلـ وحدة ونصف يهزّ ويهزّ وتهز معه ثلة من شباب العراق وتكثر الجموع وتحدث عرقلة ويتوقف السير.

وتأتي كالغضب المستعجل وبحركة يعجز عن الاتيان بها أمهر سائق سيارة أسعاف، تأتي هونداية كادت أن تنقلب بما تحوي من الأحمال وأهمهم الآلاتية  من عازفي الترومبيت وقارعي الطبول والخشاخيش والدفوف والرق والمزاهر ومعهم حملة المزهريات بكنادرهم الكسر وشراويليهم السوداء الحالكة الضيقة من الأقدام والعريضة المبهبطة بين الأرجل مع التزود بفتحة التهوية، وصداريهم الدامسك والبروكار المطرّزة بالخيوط الملونة والمذهبة وعلى رأسهم السلوكات والعقل وبأيديهم المباركة سيوف أبو ليلى المهلهل وعنترة العبسي بن شداد وعبده وخادمه المخلص شيبوب... ورماح الشمقمق ودروع آل شيبان.

وجينا ليكون جينا ليكون... ألف السالاموعاليكون

الله يجعلو مبروك... محلك يا ابو عزات...على وششو بتشوف الخير...  وبتعمر غلتك بالألفات  

وتصدح الترومبيتات بنشاز يعجز عن وصفه اللسان ويدخل أبو صطيف يطلب المساندة فيقول:

صلوا على محمد مكحول العين - نير وغضير وعادلا وهي - أول مانبدا منقول

صلوا على طه الرسول - أول ما بدينا - على النبي صلينا - يا صلاتك يا محمد

وبالصلاة صلوا عليه- وااا علينا وااا عليه - وعلى من زار قبره - حجيت الحجاج لاجله - وعلى من حج إليه - وادللي ياعيني - على عريس الزيني - وادللي ياغاليه - لاطلع لك العالية - يا بنات ويا بنات - لالاعبك لعب البنات - يم الشعور المجدلات - يلي شعرك شعر الخيل - مسا الخير ومسا الخير- الله يمسيكم بالخير - الله يمسي حارتنا - ياللي شملة حملتنا

حملتنا عالشيخ رسلان - شيخ رسلان يا شيخ رسلان - يا حامي البر والشام - مسا الخير جمعية - إسلام ومسيحية - إسلام توحد الله - والشب يولف صاحبة - لاصاحبه لالاعبه - لالاعبه بالجودلح - جودلح يا جودلح - زيزفون يا زيزفون - زيزفون خيم علي - ما بناخد إلا الصبية - ما بناخد إلا الغلام - يا غنيم يا غنام - لا تروح درب الشمال - يعمل فيك شال مال - بياخدك التركملي - يعمل فيك كان مانِ - يعمل فيك العجايب - يعمل من جلدك رباب

للشيوخ والشباب - للشباب التايبة - والشيوخ الشايبة - يلي ع ربها تايبة - يا سباع البر حومي - اشربي ولا تعومي - اشربي من بير زمزم - زمزم عليها السلام - يا سلام اضرب سلام - محمد زين محمد زين - محمد يا كحيل العين - واللي يعادينا نحاربو - بالسيف نقطع شواربو - ما في مين يغسلو - والعزابي يا دلو - صابونتو بجيبتو - الله يخليلو ميمتو - حامل بقجة قمصانو - وداير على جيرانو - روح تجوز روح روح - حاجة تبصبص عالأسطوح - لاتاخد بنت البلكون - لو لبست لك كل يوم لون - خود البنت المستورة - ولو كانت فكحة وعورة - اسمر يا بو الجديلة - دخيل عيونا الكحيلة - عريس الزين يتهنا - يطلب علينا ويتمنى - عريس الزين يا غالي - ويا مسهرني الليالي - عريس الزين ما بيعو

لو جبلي الدهب غالي - شن كليلة شن كليلة - الله يعينوا على هالليلة - من هالليله صارلوا عيله - شو هالليلة ما أحلاها - للحبايب بنتمناها - طقي وجني حيص بيص - نحنا في معنا عريس - ويا فشك ما لك غليان - سمعني الصوت الرنان - وان هلهلتي هلهلنالك - حطينا البارود قبالك - وان هلهلتي يا نشمية - واحد منا يقابل مية.

وهنا يتوقف أبو صطيف فلقد شطح به الخيال ونسيَّ أن الموضوع لا يتعلق بعريس ولا يتعلق بعرس بل يتعلق بإفتتاح محل، وحتى لا يبرد الجوّ يسارع أبو حدّو ليعملّ جوّ فيصرخ بأعلى صوته :

صلوا على محمد مكحول العين - نير وغضير وعادلا وهي

وتزمجر الترومبيتات ويقدح أصحابها بكل ما أوتوا من قوة كل مقامات النشاز التي عرفوها من قبل ومن بعد ... وتبدأ أهزوجة جايي تسمبل ورايي ... وتدخل الميدان حاصوده يجرّها جرّار ماركة دجلة والفرات يصل الى ساحة الاحتفال فيتعطل ويطير غطاء الراديتير في الهواء وتخرج سحابة من البخار تكتب في الجوّ عبارة مبروك الافتتاح ابو عزات، ويصل حملة المشاعل يقفون رتل على اليمين وآخر على اليسار ويمرّ أبو عزات ومن في بطانته من الأوانس والعوانس حملة الجاكيتات الفرو والقباقيب الصدف،  تحت السيوف المشرعة ويتجهون الى جالب الجاتو عشر طبقات في اشارة واضحة الى الكرم الحاتمي الذي يتمتع به ابو عزات... وتتصاعد صيحات التطييبات والتبريكات والزلاغيط من الألاعيط وتتولى العنّوسات توزيع صحون الكاتو ويخرج ابو عزات من المحل ويتوجه الى النظارة وبيده اليسرى  ابريق القهوة العربية  وبيده الأخرى الفناجين الصينية  ليسطّر اسطورة في الكرم يعجز عن تسطيرها الطائي ابا حاتم لو قدر له ان يعود الى هذه الأرض الفانية مرة أخرى.

ويتم تشنيف آذان النظارة بمعزوفة هزّي هزّي هزّي هزّي محرمتك ساعة 6 أومي كلّمي معلمتك فتنبري مجموعة من الخادمات الأثيوبيات وتشكلن حلقة رقص تتوسطها أجملهن وأكثرهن حسن ونضارة وجمال فتخلع نعليها غير آبهة بنظافة الأرض حيث لا يمكن هنا التفريق ويتطوع ابو عزات ويعطيها محرمة حمراء تلوح بها وجموع النظارة سكارى.

وتغيب حلقة الاثيوبيات من حولها وتعود مرتدية تنانير قصيرة ملونة وبيد كل واحدة مقشة بمقبض طويل وقشّاطة بلاستيك جديدة.

وينتحي ابو صطيف وجماعته جانباً يريدون ان ينتخي ابو عزات ويحاسبهم لأن لديهم عرس في خان تعلبة وحفلة طهور في خان أرنبة ولكن ابو عزات كان يماطلهم وانتهت المسألة بمشاجرة ويبدوا انهم طلبوا أكثر مما اتفقوا مع ابو عزات عليه ... وتدخل هنا الـ D J  وأطلق العنان لأجهزة الصوت فكان آكون الأفريقي قد تولى تشنيف آذان النظارة... واختفى ابو عزات وصعدت القوات المجوقلة مع ترومبيتاتها وطبولها ودفوفها وخشاخيشها وزماميرها الى الهوندايات وتبعهم حملة المشاعل... وسلب الـ D J لب من سلب لبهم في أول الحفلة... فارتديت ملابسي اريد المغادرة ولكن... هيهات يا بو الزلوف... السيارة عالقة بين الجماهير وليست هناك ادنى امكانية لإخراجها لأن الحارة مطوقة بالجماهير الغفورة والمتسكعين والعواينية، ... وصدر تحذير من الاذاعة الرصيفية أن إحذروا النشالين فلقد تم نشل سيدة جاءت مع بناتها بهدف الفرجة فتم نشل راتبها وبطاقتها الشخصية ودفتر العائلة... ويبدوا انها جاءت وهي تتمنى ان ينشل عريس أحد بناتها ولكن فضّل العريس نشل ما هو أهم وأهون وأجمل.

ووجدت نفسي في الشارع وسيارتي عالقة... فوقفت على الرصيف المقابل أتحدث مع حلاقي الذي ترك محله ونزل ليتفرج... قلت له:

ـ محل ايش هادا يللي صاحبو أبو عزات؟؟؟

ـ حلاق نسواني

ـ لعمى !!! حلاق !!! صاروا عشرين حلاق!!!

ـ اذا بدك تجمعلون الرجالي فصاروا أكتر من 40 حلاق ومشان هيك آعدين عم نخصّي عجول كلياتنا قلم قائم يعني كل عشر حلاقين بيطلعلون راس واحد!!!... جماعة النسواني هنن صالون مازن وصالون لجين وصالون شادي وصالون نجاة وصالون عامر للحلاقة النسائية الحديثة وصالون الذكريات ... لا أعرف اسم صاحبه الذي يبدوا انه معجب بالسيدة ام كلثوم رحمها الله، وصالون جورج وهدا لقبو بيكاسو وصالون باسل وهادا ما بتضاين الصبغة على راس المرا عندو اكتر من اسبوع من كتر ما بيقلل صبغة و بيكتّر اوكسيدان وصالون ربيع وهادا معلم وايدو خضرا بس لطّيش درجة أولى وبحاسب حسب الزبونة على مبدأ شعب واحد فحص مو واحد، وصالون الياس وهادا خواجه...وكلهون الله وكيلك بيفهمو بكل شيء... تاتو ونانو وبيديكور ومانيكور وبيحقنوا بوتوكس وكلوروكس وبشدوا صدور وبكبرو صدور وبيصغروا صدور وبيشفطو دهون وبضخخوا دهون وبيشيلو الشعر باللايزر وبيزرعوا شعر بالغرين دايزر وبنفخوا شفاف وبطقوا براغي وبيكسروا مرايا وبيعملوا حمامات مغربي ومساجات أندلسي وساونا ماليزي  وحمامات زيت وزعتر،  وجماعة الرجالي أكتر منهن بكتير

ـ بتعرف صافي؟؟؟

ـ شو؟؟؟

ـ لازم نكتب عرض حال مع تظلُّم واسترحام لوزارة التربية.

ـ لوزارة التربية؟؟؟ مشان شو لوزارة التربية؟؟؟

ـ منشان  ربنا يهديهون لجماعة وزارة التربية بركداً... بنزلوا علامات القبول بالجامعات فبينقص عدد الحلاقين في سوريا ... لعمى جرمانا عم تكون فاضية يوم الاثنين.

وحارتنا التي كان اسمها الوحدة صار اسمها حارة نعيماً من كثرة الحلاقين...

arasouvalian@gmail.com