رسالة برلين

تقليدان تأويليان على مستوى واحد- أنجليكا نويفرت

محمد شاويش

مقدمة المترجم:
أقيمت  في برلين في 11-12 شباط  (فبراير) ورشة عمل في الأكاديمية البرلينية البراندنبورغية للعلوم بعنوان " فقه اللغة العربية المقارن- منطورات الدراسات العربية في القرن الحادي والعشرين". نوقش في الندوة نظام بحث دراسي "ماستر" يطوّر حديثاً في قسم اللغات السامية والدراسات العربية في جامعة برلين الحرة FU. في هذا المسار الدراسي ثتائي اللغة  توضع الثقافتان واللغتان العلميتان العربية والألمانية في التدريس وفي البحث على مستوى واحد.

تميزت الأوراق المقدمة في الورشة بطرح الموضوع نفسه من منظوري باحث عربي وباحث ألماني (مثلاً قدمت بياتريس غروندلار تحليلاً للرسالة الحاتمية بالألمانية وقدم ناصر عبد الرزاق الموافي منظوراً عربياً للرسالة ذاتها (من منظور قواعد المناظرة في الثقافة الإسلامية).

النص التالي هو الكلمة الافتتاحية لجلسات الورشة التي ألقتها مسؤولة قسم الدراسات العربية في جامعة  FU   البروفسورة أنجليكا نويفرت:

تقليدان تأويليان على مستوٍ واحد- أنجليكا نويفرت  
إن مشروع "الإسلام الأوروبي" الذي يتابعه مواطنونا المسلمون في الوقت الحاضر هو تحد أيضاً لعلم الشرق. والدراسات العربية خصوصاً تقف أمام مهمتين جديدتين كلاهما له طابع مقارَن: أولاً شرح القرآن في علاقته مع التقاليد الأوروبية المؤسِّسة، وثانياً إدخال حوار بين التقليد الغربي والتقليد الشرق الأوسطي فيما يتعلق بالتعامل مع النصوص كجزء من الدراسة الأكاديمية.

في البدء شرح القرآن كنص إسلامي/أوروبي:
من المدهش أنه في كل العالم ليس ثمة معهد واحد في جامعة أوروبية يجعل من القرآن بما هو نص موضوع دراسته. بهذا ألقيت المهمة على عاتق المشروع المسمى "المجموع النصي للقرآن- تحقيق موثَّق وتفسير من منظور التاريخ وعلم الأدب"

 (Corpus Coranicum dokumentierte Edition und historisch-literaturwissenschaftlicher Kommentar)

في أكاديمية العلوم لبرلين وبراندنبورغ

(Berlin-Brandenburgische Akademie der Wissenschaften).

 ميخائيل ماركس سيقدم للمشروع عرضاً قصيراً. هذا المشروع الذي كان قصده الأصلي عام 2007 مجرد تأسيس مشروع لبحث الأسس تحول بعد هذا إلى منصة لنقاش المسائل الراهنة لسياسات الهوية: إلى أي حد هو القرآن غريب أو إلى أي حد هو أوروبي؟ أمن الممكن أن يكون نصاً يتشارك في الاهتمام به المسلمون وغير المسلمين ؟

لا زال القرآن ينظر إليه في أوسع نطاق على أنه "نص إسلامي" ]لا شأن لغير المسلمين به[. تاريخياً ليس هذا صحيحاً فإن الدعوة الشفوية عبر النبي محمد لم تتوجه للمسلمين الذين ما كانوا بعد موجودين وإنما وجهت لمن يمكن وصفهم بالأحرى بأنهم "متعلموا العصور القديمة المتأخرة" (spätantik Gebildete)، وعبر الأجوبة الجديدة التي قدمتها الدعوة القرآنية على الأسئلة الكلية للعصر في ذلك المكان حولت نفسها إلى صوت جديد مسموع في المعزوفة الموسيقية الحيوية لنقاشات العصور القديمة المتأخرة في غير اختلاف عن  تقاليد اليهود والمسيحيين المعاصرين لها. إن القرآن - منظوراً إليه بهذه الطريقة- هو ببساطة نص تفسيري آخر للعصور القديمة المتأخرة متنوعة الثقافات- تلك الحقبة التي تقدم بحماس على أنها العصر المشكِّل لأوروبا اللاحقة. إن البحث في القرآن بصفته نصاً عائداً لهذه العصور القديمة المتأخرة  يجب أن يتبع طريق المقارنة وما يهمه يجب أن يكون مقارنة المداخل التأويلية المختلفة لتقاليد الكتاب المقدس لليهود والمسيحيين  الذين كانوا منذ حين فاعلين في مجال اللاهوت  مع المداخل التأويلية الجديدة للأمة المتشكلة الجديدة حول النبي. هذا لا يحدث إلى الآن في علم الشرق وما يحدث هو أن القرآن يقرأ كحقيقة واقعة (fait accompli)، كوثيقة للثقافة الإسلامية المبنية بصورة "مختلفة" كلياً. إن القراءة المقارنة تواجه هذا التركيب الغائي (teleologisch) حين يقول عن القرآن بأنه وثيقة معيارية للإسلام بأن تعرض القرآن بما هو دراما ذات نهاية مفتوحة عرضت عبر عشرين عاماً ككتابة مشاركة في حوار مستمر بين فرق العصور القديمة المتأخرة متنوعة الثقافات.

من أجل حوار بين تقاليد التفسير الإسلامية الداخلية وتقاليد التفسير الغربية
النقص الآخر الذي يجب بإلحاح سده في علم الشرق هو إدماج "دراسات القرآن في التقليد الإسلامي نفسه".  ليس القرآن قطعة أدبية معزولة ولكنه موسَّد ضمن تقليد تفسيري عمره قرون عديدة لكن هذا التقليد إلى الآن لم تتعرف عليه أوروبا إلا بصورة انتقائية. صحيح أن البحث مهتم بالنتاجات الموضوعية والخلفيات الاجتماعية السياسية لشرح القرآن الإسلامي وطريقته وتأويليته- ولكن هذا البحث لا يجري فحص قوة تحمله وأهميته من أجل "علم قرآن" عصري. طرائقياً يتموضع البحث الغربي في القرآن حصرياً في التقليد التأويلي الأوروبي الذي غرس القرآن في القرن التاسع عشر فيه.- إن القرآن يؤوّل في الشرق والغرب بالتالي وفقاً لمنظومتي فهم مختلفتين جداً:

في الإسلام النص في هيئته النهائية هو المقرر. إن فحص شكل النص هذا بكل وسائل نظرية اللغة للوصول إلى كل احتمالات التفسير التي يمكن تصوّرها، وأيضاً إضاءة أبعاده الجمالية هو الهدف الأول للشرح القرآني . وعبر حرصه على تكامل النص يساهم بالتالي في الوقت نفسه وبشكل حاسم في الحفاظ على الطابع المقدس للقرآن.

الفيلولوجيا الغربية (فقه اللغة) مختلفة تماماً. وقد أصبحت مع انبثاق الطريقة النقدية التاريخية في القرن التاسع عشر بالذات العامل الحاسم في علمنة التعامل مع النصوص المعيارية. في هذا التقليد الفيلولوجي الذي "يجعل من النصوص الدينية نصوصاً تاريخية" نشأ في القرن التاسع عشر البحث القرآني النقدي للغرب. لقد كان لهذا منذ البداية ذا توجه تاريخي- ولكنه مع هذا كان معرضاً دوماً لخطر أن يسيء فهم القرآن بوصفه إعادة تشكيل عديمة الابتكار لنصوص أقدم من الكتاب المقدس. إن هذا الخطر ما زال قائماً اليوم.

إمكانيات الفاعلية المشتركة: "البحث مع"
مع هذا يهتم البحث القرآني الجاد في الشرق والغرب إلى حد بعيد بشيء متماثل: وهو بالتحديد جعل النص بكل معناه بادياً للعيان. في الإسلام يجري الحديث عن "إعجاز القرآن"وهذا يعني طابعه الأدبي و الديني طبعاً الفريد. البحث القرآني التاريخي أيضاً يبحث أيضاً عن "سمة وضع منفرد" لكنها لم تتقرر غائياً من قبل المستقبل  وإنما من قبل التاريخ. سنتكلم بالأحرى عن "أولية" القرآن، تجديداته الثورية التي جلبها للثقافة الجدالية للعصور القديمة المتأخرة. إن كلا المساهمتين يمكن لهما  أن يكمّلا بعضهما كما يتكامل جزءا جسم متناظر قابلان لأن ينطويا على بعضهما. بالذات الخطوط الفاصلة التي نظر إليها إلى الآن خطأ على أنها ما يفصل ثقافتين عن بعضهما لا زال يجب  اكتشافها كحقل بحثي للمستقبل.

بفضل تأسيس المعهد اللاهوتي الجديد فإن تقاليد القرآن قرّبت أكثر من تقاليد الكتاب المقدس. وطالما اندرج القرآن مع "تفسيرات جديدة" في هذه التقاليد فليس في مقدور غير المسلم أيضاً أن لا يبالي به. إنه على العكس يستحق مثله مثل التقاليد البيزنطية واليهودية أن يعترف به أخيراً إن لم يكن بوصفه تراثاً أوروبياً فبوصفه "وصية للعصور القديمة المتأخرة".

هذا الاعتراف بدوره يجب أن يقود لوعي جديد لدراستنا وبحثنا: لا يجوز أن يبقى ببساطة مدخل وحيد – غربي – للقرآن ينظر إليه على أنه هو الملزم، وأن تظل مداخل الشرق الأوسط على الضد من ذلك ينظر إليها انتقائياً كمادة، كموضوع للبحث. إننا في حاجة لمواجهة الاثنين على مستو واحد. إن الخصائص النوعية للنظرة الإسلامية للقرآن – تماماً مثل تقنيات النص التلمودية المكتشفة من جديد في الفلسفة المعاصرة- هي تحد تأويلي للتقليد المعرفي الغربي. بكلمات أخرى: يجب أن يخلي "البحث من فوق" مكاناً "للبحث مع". لكن أمن الممكن الوصول إلى هذا الهدف بأفضل من مسار بحثي ثنائي اللغة لا يضع كلا التقليدين على مستو واحد إلى جانب بعضهما في المشهد ليس بصورة موضوعية فقط وإنما أيضاً في التشفير الخاص بكل منهما؟.

 إنه لأمر مثير للخجل في الواقع أن هذا التصوّر الذي هو وحده يمكنه أن يحقق طموحنا على نبض عصرنا الذي صاغته العولمة لم يطوّر أو بكل الأحوال لم ينفّذ في الجامعة، وإنما توجّب عليه أن يطلب من مؤسسة وقفية (Stiftung). إننا لشاكرون للمؤسسة الوقفية لفولكس فاغن (Volkswagenstiftung)لاقتراحها المتعلق "بالمسار الدراسي البحثي للماستر" ثنائي اللغة (Master-of-search-Studiengang)، وبالمثل إننا لممتنون لل DAAD لإتاحتها المجال لورشة العمل هذه كخطوة أولى على طريق افتتاحه.

 

قسم الدراسات العربية في جامعة برلين الحرة- FU