تصغي الناقدة السورية لشعرية «وحيداً كذئب الفرزدق»، وتلتقط من القصائد في قراءتها النقدية سياق حداء العلامة، وديناميكية توليد الدلالة، والكيفية اللغوية التي تدفع النصوص للتفتح والتوسع أبعد من حدود أطلال علاماتها الظاهرة.

أمجد ناصر بين ينابيع البدايات ودوام التجربة

مزن أتاسي

عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع صدر كتاب مختارات شعرية للشاعر الأردني أمجد ناصر بعنوان "وحيداً كذئب الفرزدق" اختارها وقدّم لها الأستاذ الناقد السوري "صبحي حديدي". ومن نافل القول إن أية إضافات على ثراء النقد الأكاديمي الرفيع، والرؤى ذات البصيرة المدربة على التقاط ذرى شعرية في القصائد المختارة ونبش ما فيها من مكامن الأسباب التي تجعل شعرية أمجد ناصر تعيش دائماً "هاجس الشكل وشعرية الارتقاء" كما يقول الأستاذ حديدي في مقدمته، أقول إن أية إضافات على تلك المقدمة اللامعة لا تفعل سوى أن تتبع مسار الناقد في يقينياته حول شعرية أمجد ناصر أولاً، واتفاقها معها ثانياً، وتفتح – ربما بطريقتها الخاصة – جوانب أخرى في عملية النقد الآتي هذه المرة من مصدر غير أكاديمي، عبر قارئه للشعر، أرجو أن تكون إضافته جديدة، مفيدة، ممتعة.

بدايته كانت في تجريب شعر التفعيلة التي كان له فيها فتحه الخاص، ليس أقله الاقتصاد في استخدام أدوات التطريب عدة الشعر الغنائي: الوزن والقافية ونداءات الأطلال سواء أكانت أطلال الديار أم أطلال الذات المتهاوية في سبعينيات القرن المنصرم، مقابل تجلّي "الطبع والطبائع" في ترك بصمة البدوي – كما ينوّه دائماً عن نفسه – إذ تنبثق من تلقائها وتنتظم في حياة القصيدة عبر:

1 – العلامة/ التأويل
من حيث هي "توجيه للتأويل وآلية تقود – انطلاقاً من حافز أوليّ – إلى جميع الاستنتاجات التأويلية الأبعد شأواً. ننطلق من علامة لاكتشاف مساحتها الدلالية في جملتها ولبلوغ النقطة التي تولّد فيها العلامة تناقضها"(1 السيميائية وفلسفة اللغة ص 68 أمبرتو إيكو)، لنقرأ ملياً العلامات التالية المأخوذة من مقطع في قصيدة "مديح لمقهى آخر"، الطويلة نسبياً، من ديوان يحمل العنوان نفسه ويحمل تاريخ: عمان 1977 كي نجد شاهدنا على إمكانية فتح التأويل على الكثير من الاستنتاجات الأبعد شأواً:
القصيدة
لنقل إنه الارتحال عن الوطن البدوي الصغير
انحدرت مع الإبل
مع وبرها المتعطش للعشب والشعر
صوب الحجار الكبيرة والجرف والمدن المبهمة
وطن بدوي على كتفي واقف كالشجر
ياشجر...
أنت يا واقفاً فوق كتفي المهيض
تودع "عجياننا" و"الحلال" الذي يشهق الآن مختنقاً
بالهجير
ياشجر..
أنت يا ضارباً في الغيوم البعيدة
في روح أمي

مسألة التأويل في المقطع الشعري السابق تتجاوز موضوع البيئة – الصحراوية هنا – وانغراسها في اللاشعور الذي تبدى بدوره في العلامات الدالة عليه، إلى استحضار ينابيع البدايات ليس من أجل التغني بجمالها ولا من أجل البكاء على أطلالها وليس أيضاً من أجل التغني بزمن سعيد إذ من الواضح أنها لم تكن أياً من ذلك، بل من أجل المشهد البصري الحافل بالعناصر الحسية التي تجسّد ذلك التضاد الحاد بين صورتين: الوطن البدوي الصغير الذي يحمله على "كتفه المهيض" ويختنق "عجيانه بالهجير"، والمنفى الممتلئ بأشجاره "الضاربة في الغيوم البعيدة في روح أمي" لينتهي بالعلامة/ الصرخة "يا شجر" - المفارقة لعلامة النداء الغنائي - التي تضعنا في قلب الشعور بالعجز إزاء تكويننا القاصر ونحن نرى إلى انزلاق الأوطان والأحباب إلى الزوال ولا نستطيع شيئاً سوى استعارة الشجر الضارب بعيداً في الغيوم في روح الأم اتقاء الفناء.

2- السياق وديناميكية توليد الدلالة
لم يقم ناصر طويلاً في قصيدة التفعيلة، إذ سرعان ما غادرها وعدتها التعبيرية وأدواتها التوصيلية حاسماً أمره في الانتماء ومن ثم الإقامة في "قصيدة النثر" التي يتسع فضاؤها غير المحدود لروحه "البدوية" ونظرته الممتدة في ليل سماء مختلف في عمقه وتوهج نجومه عن سماء المدن التي تمتص الكثير من ذلك التوهج في أضواء شوارعها، وإذ نذهب إلى الثمانينيات نجد أنفسنا بإزاء مرحلة جديدة في نكهة التجريب نضطر معها إلى تلمّس أدوات جديدة للبحث عن ماهيّة التغيير الذي طرأ على قصيدة الشاعر الذي تطلّب شجاعة أدبية فائقة لترسيخ الصوت الجديد ودوام الإصرار على الاختلاف عن السائد في الذائقة الشعرية العربية آنذاك وتدريبها على تقبل إيقاعات جديدة نابعة من موسيقى المفردة/ العلامة المنتقاة من "روح اللغة الفصيحة الأستاذ حديدي في المقدمة" وغرسها في سياقات تمنح النص ديناميكية متنامية ومضاعفة لتوليد دلالاته المقصودة، إذ لم يعد السطر الشعري أو المقطع يفي بشروط التجربة الشعورية الطامحة إلى تلمس أفقها الإنساني، وليس إلا "وسيط النثر النبيل الأستاذ حديدي" الذي يستوعب ذلك التمدد، فتخرج العلامة من مدلولها الحرفي إلى دلالاتها التي يفجرها السياق، وبفضل هذه الديناميكية تكتسب العلامات حياة جديدة:
اتسع نطاق المغامرة فدلفنا إلى القصيدة والأرض.
اختلط كل شيء بكل شيء، فجاء الأردنيون من
أسرع المهار إلى خيام مشدودة على أسنة الحراب
التي تخطف من "عجياننا"حليب النوق وغرة
الفرس المحجلة.

في المقطع السابق المأخوذ من قصيدة "منذ جلعاد كان يصعد الجبل" علامات تشدنا إلى باطن اللغة الفصيحة: المهار، خيام، أسنة الحراب، حليب النوق، غرة الفرس المحجلة، ولكنها عبر سياقاتها تخلخل اللغة ذاتها "وتخل بشروط المواضعة لتلك المفردات" (السيميائية وفلسفة اللغة أمبرتو إيكو) كلما مرت في اسماعنا لتخلق دلالاتها الخاصة في التواصل السياقي وتمنحه نبضات عميقة تغوص في عمق حياة الشاعر الواقعية وتلبسها عكس ما وضعت لأجله.

3 – التوسيع
في قصيدته "رعاة العزلة" الموقعة في عام 1981 بيروت نيقوسيا، من ديوان يحمل العنوان نفسه، القصيدة الدرامية المتنامية في تقري تعرجات الصراع بين الذات وتباريح شوقها الخام الذي ترغب في إطلاقه على ما هو عليه من جهة وما تتبطن عليه النفس من تربية البيت والبيئة والعقل القارة في اللاشعور من جهة مقابلة تجعلنا نجري على السطور لنقف عند ذرى شعرية تنبض بومضات تسقط على مناطق مظلمة في الروح أضيئت فجأة فرأينا ما فيها من ليلها:
من سيقول إن الذي دخل "عمون" في صباح
شاسع ومرتجل، من عام الانفتاح الكبير وحمى
الأرض، وارتجف أمام امرأة شقراء تقرأ في كتاب
الجدل، سيخلع نعليه ويغسل كفيه بمياه سرية،
ويترك اسمه وعباءته، ويضم إلى صدره قرنفلة
الرفض الدامية؟

أجد نفسي إزاء المقطع السابق، أسيرة اللغة الباذخة في "حرارتها البدوية" على حد تعبير الأستاذ حديدي بحيث لا أستطيع الفكاك من إغواء التأويل الذي يقودني صعداً وبلهاث المنتظر وصول قمة ما تجعل النص ينفتح ويتوسع أبعد من علاماته وأبعد بكثير مما توقعت أن أصل إليه "ونقصد بالتأويل ما كان يريده بيرس عندما يعترف أن كل مؤول سواء كان علامة أو تعبيراً أو متتالية من تعبير تترجم تعبيراً سابقاً لا يترجم فحسب من جديد الموضوع المباشر أو مضمون العلامة ولكنه يوسع من مفهومه" (السيميائية وفلسفة اللغة أمبرتو إيكو ص 109)

4- التناص
لعلّ قصيدة "مرتقى الأنفاس" من ديوان – أيضاً – يحمل العنوان نفسه (1997 )، تجسيد رائع لما يمكن أن يحمله التناص من طبقات للمعاني تشد بعضها بعضا ويفتح واحدها الطريق إلى الآخر الأعمق الثاوي في قاع الثقافة التي شكلت هذا الثراء: المعجمي، والدلالي، والبلاغي، بحيث يتجلّى نضج التجربة وبراعة التوصيل "لقصيدة النثر" التي شقت طريقها في "سياقات تحد ليس البتة رياضة يسيرة"(صبحي حديدي المقدمة ص20) شكلاً ومضموناً، وليس التناص سوى تجارب الحياة وخلاصاتها، ونصوص ثاوية في ظلام الذاكرة تجد لها طريقاً، أو ذريعة تتسلل من خلالها إلى سطح الوعي فتجدد حياته و"هناك نصوص لا تزال تولّد معان جديدة ولا تزال تتمرّس عليها عمليات التأويل في جدلية متواصلة وكان الكلمات الظاهرة ليست إلا قناعاً يخفي سراً باطنياً لا ينكشف إلا لمن امتلك القدرة على حل شيفرته، وقد لا يمكن هذا إلا للرب وحده" (المرجع السابق إيكو ص24):
في يقظة الأسير أمام الليل الحارس
سمعت وقع خطىً
تردد أنفاس
حفيف ثياب
مسني طائف من رياشٍ فلمحت طيفك
يهرق نوراً على الطرف المظلم ويعد بسهر
يبسط آلاءه على من تصطفيه التباريح من بين
لاهين،
تخففت من متاع المكين على الأرض وقلت إني أنا
الأخف من العرجون أقتفي دون مّنة ما تركه
مرورك حافية على الأعشاب، لا بخائنة العين
ولكن بكدح الفؤاد أضرب في مناكبها معرضاً
عما يرفعه القائفون إلى منزلة الأثر

نحن أمام خيال حسي أولاً يقودنا عبر تشكيلاته السمعية البصرية إلى الرؤية القلبية ، والاستعارة هنا هي "أداة معرفة إضافية وليست استبداليّة" (المصدر السابق ص237)، استعارة حلمية لكنها – وللمفارقة – ليست سوى آلية استيقاظ وتحفيز لجذر الوعي عبر الحواس، والاستعارة الجيدة هي "الاستعارة التي لا تسمح بالتوقف الفوري للبحث، بل تفضي إلى اختبارات مختلفة متكاملة ومتناقضة" (المصدر السابق ص297)، وهي استعارات مفتوحة على أفق تأويلي شاسع يختلط فيه الإيروسي الدامغ، بالصوفي الشجن، وهي استعارات شاعرية بحسب التراكيب المتتالية: يقظة الأسير، وقع خطى، تردد أنفاس، حفيف ثياب، مسّني طائف... إنه ينبوع خيال ثر يختلط فيه الحسي بالذهني، والمتماثل بالمختلف، إنه مقطع يحمل إعجازه الخاص ودلائل خلوده. أمجد ناصر في تلك المختارات "الفاتنة" يرينا الوجود بطرق أخرى.