تلعب الثقافة دورا أساسيا في صياغة خطاب الثورة وبلورة مطامحها في التغيير الجذري، يضع شرعيتها في قلب المشروع الوطني، لهذا يتناول محرر (الكلمة) دور الثقافة في مرحلة تأسيس شرعية الثورة من خلال مناقشة للحالة المصرية ولما يدور للثقافة فيها، من أجل إرساء منهج جديد في التعامل مع الثقافة في عهد الثورة.

الثقافة والتغيير.. وشرعية الثورة

صبري حافظ

حينما اندلعت الثورة التونسية رأت فيها (الكلمة) فجرا للثورة العربية الأكبر والأشمل والأوسع. خاصة بعدما بدل الخوف مواقعه، ودب في أوصال الأنظمة القمعية العربية الفاسدة، كما كتبنا وقتها. وبعدما كبل هذا الخوف طاقات الشعب العربي لعقود طويلة. وقد صح توقعها فقد اعقبتها الثورة المصرية، التي نفض فيها الشعب المصري الخوف عن نفسه، وألقى به في معسكر النظام الفاسد الذي ارتجفت أوصاله، فبدأ يتعثر في تخبطه ورعبه. وطلع مع انتصار الثورة المصرية على الفجر التونسي ضوء النهار الساطع، الذي نشرته على الجميع مظاهراتها المليونية الجبارة والراقية معا. ثم توالت الانفجارات في الجزائر واليمن وليبيا والبحرين وسوريا والأردن والمغرب. فقد استيقظ الشعب أخيرا، وانتقل الخوف إلى تلك الأنظمة القمعية الفاسدة والفاقدة لأي شرعية أو مصداقية، وآن أوان إيقاف التدهور الذي عاشته المنطقة لعقود. جعلت العالم العربي يبدو للجميع وكأنه رجل العالم المريض في مطالع القرن الحادي والعشرين، كما كانت الدولة العثمانية رجل أوروبا المريض في بداية القرن العشرين. وعاد الأمل للنفوس في نهضة عربية جديدة، ترد الروح للإنسان العربي وتضع أقدامه من جديد على بداية الطريق إلى التقدم والحرية والعدل والكرامة.

والواقع أن شرارة الثورة التي باغتت النظامين الفاسدين في تونس ومصر، وأسقطتهما بمفاجأتها المصمية وقوتها الهادرة قد دفعت أنظمة فاسدة كثيرة أخرى إلى محالة استباق تبرعمها في بلدانها، أو إخماد شراراتها الأولى بشلالات من مياه الإصلاحات المتأخرة. فأكد هذا خوفهم وتخبطهم وحرصهم على التمسك بالسلطة بدلا من أن ينفيه، وبدت أصلاحاتهم وكأنها صحوة ميت قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، أو رشاوى تأخر أوانها، من حكام لايعرفون غير الرشى والفساد. بينما دفعت آخرين، كالقذافي المعتوه، إلى الوقوف بعناد مجنون أمام تيار الثورة الجارف في محاولة يائسة لإيقاف مسيرته، حتى ولو أدى الأمر إلى سفك دماء الشعب الزكية، أو استخدام آلته العسكرية لقتله وترويعه. دون أن يعرفوا جميعا، من لجأ للرشوة منهم في الجزيرة العربية، أو لمسعول أضغاث الكلام الأيديولوجي القديم في سوريا، أو من أصابه الجنون فاستأجر المرتزقة وأعمل في شعبه آلة القتل الجهنمية في ليبيا، أن تصرفاتهم اليائسة المعتوهة، سواء أكانت بالرشوة أو بسفك الدماء لن توقف مد الثورة الكاسح، ولن تزيد الأمور إلا دموية وتعقيدا. فالثورة لابد وأن تنتصر مهما تكاثرت ضدها المؤامرات، ومهما تفننت الثورة المضادة في مراوغتها والنيل منها. لهذا كله، ومن موقع الإيمان بضرورة انتصار الثورة، أكتب هنا عن الحالة المصرية، دعما لشرعية الثورة فيها. لأن نجاح الثورة في تحقيق أهدافها في مصر، سيكون له أثر على بقية الثورات العربية، ما تحقق منها في تونس أو لم يكتمل تحققه بعد في غيرها من سائر الأقطار العربية. ولأن الكتابة عن حالة من الحالات التي تعيشها الثورة العربية ستخرج بنا عن التنظير المجرد، والأماني المطلقة، وتدخلنا في قلب الممارسة العملية في حالة محددة، وما يتصل بها من قضايا وإشكاليات. وسأتناول هنا ما يجب أن تفعله الثورة في مجال الثقافة في مصر، في سياق ما تقوم به حكومتها الجديدة من ممارسات.

الثقافة والقطيعة الجذرية الضرورية مع القديم:
استقبل البعض خبر تعيين الدكتور عماد الدين أبوغازي وزيرا للثقافة في الحكومة الانتقالية بترحات، وانتقد البعض هذا التعيين باعتباره مخيبا للآمال العريضة في تغيير ثقافي جذري وحقيقي. فنقطة القوة الأساسية التي تبرر أختيار عمادالدين أبوغازي وزيرا للثقافة، وهي معرفته الواسعة بشؤون الإدارة الثقافية وبخريطة الثقافة والمثقفين المصريين، بسبب عمله لأكثر من عشر سنوات في المجلس الأعلى للثقافة، مديرا لإدارته المركزية، ثم أمينا عاما له، هي للمفارقة المؤسية نقطة ضعفه القاتلة في الوقت نفسه. لأن أكثر من عشر سنوات من العمل في مؤسسة الثقافة الفاسدة التي حولها وزيرها الفاسد إلى حظيرة للاحتواء وشراء الذمم وإجهاض أي ثقافة حقيقية كافيه لتلويث أكثر المثقفين نزاهة ونقاءا. فلم يسلم أحد من الذين عملوا لسنوات طويلة مع الوزير «الفنان» بين قوسين، (هكذا كنت أشير إليه دوما في عنفوان سلطته، وليس بعد أن كنسته هو ونظامه رياح الثورة) من أدران سياساته الثقافية الحمقاء، التي حولت الثقافة إلى مهرجانات للفرجة يستمتع بها الرئيس المخلوع وزوجته التي كانت تحلي صورتها أغلفة جل الكتب التي تطبعها وزارة الثقافة كل موسم، وتتحول مكافآتها المجزية للبعض، والمخزية للآخرين، إلى رشاوى مفضوحة لإدخال المثقفين إلى حظيرته سيئة السمعة.

كما أن السنوات القليلة التي انفرد فيها عماد أبوغازي بقيادة المجلس الأعلى للثقافة، لم تتح له أن يبلور أي قطيعة وظيفية أو معرفية مع النظام السابق في المجلس، والذي أرساه جابر عصفور (وزير الثقافة في الحكومة السقطة والساقطة التي أتي بها الرئيس المخلوع في أيامه الأخيرة) وسار عليه خلفيه: علي أبوشادي ثم عماد أبوغازي. صحيح أن جابر عصفور قد قفز كفئران السفن من سفينة تلك الحكومة قبل أن تغرق باستقالته منها لـ«أسباب صحية»، وليس لصحوة ضميرية، أو لعودة وعي زائفة، وإن كان الجميع يعرف أن السبب الحقيقي لاستقالته، ليس تضعضع صحته التي لو أراد لاستخدامها في رفض الوظيفة في المحل الأول، وإنما لأن أنس الفقي قد أهانه وأحرجه وعراه أمام زملائه الوزراء.

لا أريد هنا أن أرحب باختيار عمادالدين أبوغازي للوزارة كبعض من رحبوا باختياره، أو أن أنتقد هذا الاختيار كما فعل آخرون، ولكن ما أريد أن أطرحه عليه هنا راجع لسببين: أولهما الوفاء لذكرى علاقة قديمة وأنا في شرخ الشباب مع والده النبيل بدرالدين أبوغازي، الذي عرفته أثناء عملي مع أستاذنا الراحل الكبير يحيى حقي في مجلة (المجلة)، حينما كان ينشر بها مقالاته، وشاءت الظروف بعدها أن أختبر معدنه بعد توليه لفترة وجيزة وزارة الثقافة، وفي ظروف لا تقل حرجا وحساسية عن تلك التي يتولاها فيها ابنه. وثانيهما أنني ككثير من المثقفين الذين انتقدوا الوزير الفاسد السابق وسياسات وزارته الحمقاء، أجد أن الثورة تتطلب مني ومنا جميعا المساهمة في بلورة قيمها الجديدة في مجال عملنا الثقافي من ناحية، كما أنني أتوسم فيه، كإبن لبدر أبوغازي وحفيد لمحمود مختار، قدرة على تقدير الظرف الصعب الذي يتولى فيه تلك الوزارة، ووعيا بعبء المهمة الكبيرة  والفادحة التي ألقيت على عاتقه، وهو ما دفعه قبل أسبوع إلى تلبية الدعوة التي وجهها له الفنان محمد عبلة لحضور الاجتماع الذي نظمه أتيليه القاهرة لمناقشة الورقة المهمة التي طرحها الفنان عادل السيوي حول الدور المبتغى في المرحلة القادمة للمجلس الأعلى للثقافة.

لهذا كله أريد أن أطرح عليه هنا مجموعة من الأفكار التي قد تتيح له أن يحدث قطيعته الثقافية والمعرفية والتنظيمية، وهي قطيعة ضرورية ومطلوبة، مع تراث الفاسدين: فاروق حسني وجابر عصفور. وأول ما أريد أن أطرحه عليه هو أن يعي أن ثمة شرعية جديدة هي شرعية الثورة، يجب أن تكون مصدر كل السياسات والخطط المستقبلية في الثقافة كما في غيرها من المجالات، بل وقبل غيرها من المجالات. فلايحافظ شيء على الروح التي عادت لمصر مع ثورة 25 يناير أكثر من الانطلاق من شرعيتها لبناء نظام جديد. ويستطيع من تابع أحداث هذه الثورة أن يرى كيف كانت عودة الروح التدريجية تلك تمدها بزخم متنامٍ، يتجلى في صمودها واستمرارها من ناحية، وفي التبلور العقلي الناضج والمتصاعد لمطالبها المشروعة من ناحية أخرى. ولهذا لابد من الحفاظ على تلك العنقاء التي ولدت من رماد الهوان الذي مرغ فيه نظام مبارك المخلوع مصر كلها. لابد من الحفاظ على ذلك الكائن الجميل المستحيل معا، ليس فقط من أجل مصر، ولا حتى من أجل العرب، بل من أجل العالم كله الذي بهرته ثورة مصر، وانحنى لها إجلالا وتقديرا، حيث يعتبرها معظم من كتبوا عنها في الغرب أحد أهم ثورات التاريخ وأكبرها وأكثرها رقيا وتحضرا. فقد ظل تيار الثورة في التصاعد، برغم كل مؤامرات النظام وإعلامه وخطاب مؤيديه وكلاب حراسته الغبي والمفضوح.

وقد أثبت الشعب المصري رقي معدنه، وعلّم العالم درسا في معنى أن تكون متحضرا بحق، وليس متشحا بقشور الحضارة وطقوسها وأدوات بطشها، وراءك آلاف السنين من الحضارة والعراقة التي تحولت إلى حدوس عميقة ترود حركة المتظاهرين برغم بساطة الكثيرين منهم. واستطاعت الثورة بنبلها ورقيها واحتلالها للموقع الأخلاقي الأسمى أن تحقق الكثير. وظل الشعب المصري على مد أيام الثورة المتتابعة واعيا بهدفه لايحيد عنه. فقد كان شعار الثورة الرئيسي هو «الشعب يريد إسقاط النظام»، وهو شعار محوري، لأنه يوشك أن يكون الشعار الوحيد، بين شعارات الثورة الكثيرة المصاغ بالفصحى، بينما جل الشعارات مصاغة بالعامية المصرية. (وأرجو هنا أن يكون ثمة من جمع كل تلك الشعارات من أجل المستقبل، ومن أجل دراسة في فكر هذه الثورة ورؤيتها) وهذه الصياغة اللغوية الفصيحة تكسبه ثقلا إضافيا دالا. وقد سقط رأس النظام، لكن لابد من إسقاط النظام بأكمله حتى يمكن بناء نظام جديد على أسس وقواعد جديدة. نظام ينطلق من الشرعية الجديدة التي أسستها هذه الثورة وأرست بتضحياتها ودمائها الزكية أركانها.

فقد كشفت  ثورة 25 يناير وهي ترد الروح لمصر، عن معدن شعبها المتحضر الأصيل، وعن قيمه التي ظن الكثيرون أنها قد ضاعت، بسبب صبره الطويل في احتمال الأذى والضيم، ومشاعر العزة والكبرياء والفداء التي توهم القهر والاستبداد أنه قد أجهز كلية عليها. وها هو الشعب المصري يطرح عن نفسه مخاوفه التي عمل كلاب حراسة النظام البائد في الثقافة والإعلام بمن فيهم من يسمون أنفسهم بالمثقفين الكبار، على تكريسها فيه. وأهم من هذا كله يكشف عن وعي ناضج باهر، وإصرار قوي على التغيير الكامل للنظام دون مساومة أو تنازلات. وهكذا تؤسس هذه الثورة شرعية جديدة، شرعية شعبية غير مسبوقة من حيث الحجم والاتساع وانضمام كل عاقل راشد لمظاهراتها المليونية. فبعد عدة ملايين في جمعة الغضب، تجاوز العدد العشرة ملايين في جمعة الرحيل، ثم بلغ العشرين مليونا في جمعة التحدي أو الطوفان، بمعنى أنه لم يمض على الثورة أكثر من أسبوعين حتى انضم إليها كل عاقل راشد في الشعب المصري، وظلت الطغمة الحاكمة معزولة، تتخبط في ذعرها، ولا تنفعها تنظيرات كلاب حراستها، ليس فقط أمام شعبها بل أمام العالم كله، وقد سقطت شرعيتها سقوطا مدويا أذهل حلفاءها وأصدقاءها قبل أعدائها.

من هذه الشرعية الجديدة، الشرعية المليونية الجارفة التي كنست  في طريقها كل ما يمثله النظام الذي أصرت على سقوطه من قيم وممارسات لابد أن ينطلق أي عمل ثقافي جديد. لابد الآن من الانطلاق من هذه الشرعية الجديدة لتأسيس نظام سياسي وثقافي جديد، يلبي مطامح الثورة، ويبلور حكما ينهض بحق على شرعية شعبية حرّة وعريضة. ويعتمد نجاح الثورة في تحويل شرعيتها تلك إلى واقع ونظام حكم على تغيير الثقافة في المحل الأول. فقد كان فساد الثقافة وفساد القيم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية هو الذي كرس كل سلبيات النظام المخلوع، وهو فساد لم تسلم منه كل قطاعات الثقافة من الصحافة حتى الكتاب وكل المنتجات الثقافية المرئية والمسموعة، وغيرها من الممارسات الثقافية المختلفة. وحينما أتحدث عن الثقافة هنا فإنني اتحدث عنها باعتبارها منظومة من القيم والممارسات الفكرية والثقافية والأخلاقية معا. وباعتبارها في الوقت نفسه الصائغة للوعي الجمعي والمعبرة عنه، والحارسة لقيمه الضميرية في آن.

لابد إذن أن يدرك عمادالدين أبوغازي بداءة أنه ينطلق من شرعية جديدة تتطلب رؤية جديدة، وبنية ثقافية جديدة، وممارسات تنظيمية جديدة. تحدث قطيعتها الصارمة مع القديم بكل رموزه الفاسدة. ولابد أيضا أن يعي أنه بالرغم من عفن كل الممارسات الثقافية التي تعامل معها عن قرب لأكثر من عشر سنوات، ظلت ثقافة الشعب المصري، وبنية مشاعره (حسب مصطلح رايموند وليامز الشهير) سليمة برغم كل البطش الجهنمي الذي عانى منه الشعب المصري لأكثر من نصف قرن. ليس فقط لأن معدنه نفيس، أو لأنه شعب وراءه آلاف السنين من الحضارة والإنسانية والرقي، ولكن أيضا لأنه وجد في العالم الافتراضي وفضاءاته الحرة منابره البديلة لتلك التي استولت عليها ثقافة الفساد وانتهكتها مطبوعاتها المحلاة بصورة سيدة الحرملك التافهة، زوجة الرئيس المخلوع. لابد إذا أن يحدث قطيعته الكاملة مع الماضي، وأن يعمل في الوقت نفسه على إحداث تغيير حقيقي وجذري في الثقافة وللثقافة، لأن هذا هو أحد أهداف الثورة وضروراتها الأساسية. أقول تغيير جذري في الثقافة بكل ممارستها ومؤسساتها الثقافية، وللثقافة التي تبلورها الممارسات والمؤسسات باعتبارها رؤية ومستودعا للقيم، لا أمل بدون تغيير جذري فيهما معا لتحقيق ما تصبو إليه الثورة. فكيف يكون ذلك؟

شرعية الثورة وكيفية بلورتها:
تنهض شرعية الثورة على مجموعة من القيم والمبادئ المغايرة كلية لتلك التي كرستها وزارة فاروق حسني الفاسدة، وتبعيته هو وجل معاونيه (من جابر عصفور إلى زاهي حواس واسماعيل سراج الدين) للتوجيهات الصادرة من حرملك النظام الفاسد وقيمه المنحطة. خاصة وأن هذه الوزارة أدارت مقدرات الثقافة المصرية لما يقرب من ربع قرن، فكرست ممارساتها الشائهة المقلوبة، وسوغتها بالملكوت والرهبوت. وتمكنت من تسييد خطابها المترع بالزيف والتدليس. وتتطلب منا شرعية الثورة أول ما تتطلب تسمية الأشياء بمسمياتها الواضحة، فلا ندعو الخدمة في الحرملك دعما لدور المرأة، ولا كتابة خطب السيدة الأولى (والتي أرجو أن تكون الأخيرة، فقد سبقتها أخرى تسابق نفس الكتبة على تدبيج رسالتها) تنويرا، أو وضع صورها على إصدارات الوزارة من كتب في نوع من غسيل السمعة بالثقافة، كغسيل الأموال المشبوهة، مهرجانا للقراءة. وإنما لابد من الآن فصاعدا تسمية الأشياء بأسمائها الواضحة دون مواربة أو تزييف.

لأن التزييف لا ينطلى لو انطلى إلا على المزيفين وحدهم، ويظل القارئ المصري الحصيف مدركا ما وراءه، يراقب ما يدور مستهجنا، أو يشيح بوجهه عنه تعففا. ولكنه يعرف في جميع الأحوال حقيقة المشهد وآلياته المضمرة. وهذا هو السر في أن بنية مشاعر الشعب المصري العريض ظلت سليمة، فلم ينطل عليه تضليل المضللين. فقد كان أحدث الوافدين إلى الحقل الثقافي يعرف الدور المذموم لحرملك النظام الذي أسقطته الثورة في اختيار قياداتها، ورسم سياساتها. وكان يعرف كيف توزعت بين تلك القيادات أدوار الخدمة في الحرملك، بدءا من اختيار الملابس حتى كتابة الخطب، أو اختيار القطع الأثرية التي تهديها لمن يغدقون عليها درجات فخرية لاقيمة لها، أو التغاضي عن نهبها لملايين الدولارات من تبرعات الدول الأجنبية لمكتبة الإسكندرية. فالقيم التي تنهض عليها ثقافة الشماشرجية وخدم الحرملك هي التي حولت الثقافة إلى حظيرة، حسب تعبير أثير للوزير «الفنان» بين قوسين، وأحالت وزارته إلى واحدة من أبرز زرائب الفساد المادي والمعنوي على السواء.

ولأن الثقافة في المرحلة السابقة كانت قد انحطت إلى حضيض غير مسبوق، وتحولت ميزانياتها وجوائزها وعضوية لجانها ومجالسها، ومناصبها إلى رشاوى للاحتواء، أو شراء الذمم، كان من الضروري البداية فيما بعد 25 يناير بقطيعة كاملة مع قيم المرحلة السابقة وممارساتها ورموزها. وقد آن أوان هذه القطيعة الجذرية والثورية، لأن الثقافة، بمعناها النخبوي، وهو مجال اهتمام وزارة الثقافة، هي المعبر الحقيقي عن ضمير المجتمع، وهي مستودع قيمه الباقية. لذلك لابد أن تكون، وهذا دورها الذي على وزيرها الجديد أن يعيه، سباقة في رسم الطريق إلى المستقبل، وأن تقدم لبقية الوزارات الأسوة والقدوة الحسنة. لابد أن تكون وزارة الثقافة مثالا في وضع شرعية الثورة موضع التنفيذ قبل غيرها من الوزارات. فعلى وزارة الثقافة عبء إضافي، وهو عبء أن تكون المثال والقدوة بحكم كونها وزارة القيم الثقافية والأخلاقية والضميرية التي غابت عن الواقع العربي ممارساتها لعقود طويلة.

وهو عبء باستطاعة عمادالدين أبوغازي النهوض به لو حرص على الانطلاق في كل ممارساته، وعلى الفور، من شرعية الثورة. ولو بدأ ببرنامج تغيير سريع ينهض على قطيعة كاملة وواضحة مع ممارسات الوزارة القديمة، ورموزها، والمفاهيم التي قامت عليها سياساتها. وأن يبعد عنها وعن أي مركز للتأثير فيها كل من لوثتهم عمليات الخدمة في الحرملك، وكل أزلام خدم الحرملك من مثقفي الحظيرة. وهو أمر ليس سهلا، وليس يسيرا. فما أكثر من أدخلهم الوزير «الفنان» إلى الحظيرة، وما أشد ذرابة ألسنتهم، وبراعة خطاباتهم المرائية، وادّعاء الكثيرين منهم بأنهم من أنصار الثورة، وليسوا أبدا من سكان حظيرة نظام ساقط ما عادوا يتباهون، كما كانوا يفعلون حتى الأمس القريب، بالانتماء لحظيرته التي طالما استمتعوا بعلفها، وانتشوا بعطاياها، وتفاخروا بجوائزها، واستمرأو التمرغ في روثها إلى ما لانهاية. فقد شاهدت الكثيرين منهم على شاشات التليفزيون المصري وهم يتلونون كالحرباوات ببراعة من لاضمير له، ويجأرون بالشكوى بصفاقة وبلا حياء من النظام الذين استمرأوا التمرغ في أوحاله، ولكنني لا أظن أن تلوناتهم الفجة، وأصباغهم الجديدة الفاقعة ستصمد لضوء الثورة الساطع، أو ستنطلي على أحد، ناهيك عن شخص لايفتقر للذاكرة التاريخية مثل عمادالدين أبوغازي، عرف أغلبهم عن كثب.

والواقع أن أهم ما سيعين الوزير الجديد على تحقيق هذا الهدف هو أن يقوم أولا بحل كل تشكيلات المجالس التابعة للوزارة أو تجميدها، وتسريح أمنائها ومقرريها وأعضاء لجانها، وتوفير مرتباتهم ومكافآتهم، فقد عينهم نظام سقط وأجهزت الثورة على شرعيته. إذن كل التعيينات القديمة في عضوية المجلس وعضوية لجانه ساقطة لأن من قام بها سقط وسقط النظام الفاسد الذي كان يعتمد عليه. أي أن يقوم باجتثاث سرطانات المؤسسة الثقافية القديمة برمتها. وأن يبحث ثانيا عن مجموعة قليلة من الذين غرسوا في وعي كل باحث عن الحقيقية في مصر كراهية الفساد والتسلط والنهب والجهل والتبعية، ويستبدلهم بالساقطين من المنافين وسكان الحظيرة القديمة. فلا يكفي أن يتحدث الوزير عن التغيير، ولكن لابد أن يشهد الجميع أن التغيير، والتغيير الجذري يحدث بالفعل. وأن الذين زرعوا في وعي الشباب الذي نهض بثورة 25 يناير ثقافة الرفض والمقاومة والسعي للعدل والحرية، وكراهية الفساد والهوان والتبعية، (بينما كان جل أعضاء المجلس الأعلى للثقافة وجل لجانه يطبلون للنظام الذي سقط، ويهرولون لكسب رضى سيدة الحرملك الجهولة) يقومون بالفعل بالتخطيط لرسم سياسة ثقافية جديدة تنطلق من شرعية الثورة. ويعملون على رسم خريطة ثقافية جديدة لمصر.

فلو كوّن وبسرعة مجموعة تفكير Think Tank، من هؤلاء المثقفين الحقيقيين الذين لم يعمل أي منهم مع النظام القديم الساقط، وأتاح لها أن تقوم بعصف ذهني بكل القديم، ومكنها من إدارة دفة التغيير معه، وبلورة أجندته، فإن المثقفين سيرون أن التغيير يحدث بالفعل، وليس مجرد نوايا طيبة أو شقشقات لفظية جوفاء. وليس من الضروري أن تكون هذه المجموعة من المثقفين «الكبار» بين قوسين، بل من المستحب أن تبتعد عن الذوات النرجسية المتضخمة، فتضخم الذات يقترن عادة بضآلة الموهبة وركاكة الإنجاز وغياب الضمير، وأن يكون فيها عدد كبير من شباب المثقفين ومن أسهموا بحق في ثورة 25 يناير العظيمة. ثم تطرح هذه المجموعة أفكارها على جماعة المثقفين المصرييين للجدل والنقاش والتحوير. فسواء فعل ذلك أم لم يفعله، فإن جماعة المثقفين، وخاصة شباب المثقفين، تتابع كل ما يدور، وتقتله بحثا ونقاشا، وتكون رأيها فيه، وتحدد موقفها منه، أراد ذلك أو لم يرده. ومن الأفضل لأي وزير أن يكون جزءا من هذا الحراك الثقافي الحقيقي والضميري، ومشاركا فاعلا فيه، لا أن يكون موضوعه الغائب والمعزول عن حركته.

ولا سبيل أمام نجاح أي سياسة ثقافية جديدة إلا بأن يدرك وزير الثقافة الجديد أن شرعية الثورة تتطلب قطيعة ثقافية جذرية مع كل تصورات النظام السابق وممارساته. فقد كانت أهم ملامح النظام الذي اسقطته الثورة، هي السلطة الفردية المطلقة والتي تؤدي بطبيعتها إلى الفساد المطلق. لم يكن الرئيس مستبدا فاسدا فحسب، بل كان كل وزير نسخة شائهة من المستبد الأكبر في التسلط والفساد معا. وكان ما يمارسه الرئيس على وزيره، يمارسه الوزير على قطاعه. ففي وزارة الثقافة مثلا كان الوزير «الفنان» مستبدا صغيرا وفاسدا، يتباهى بأن أهم انجازاته هو إدخال المثقفين (إقرأ نوعية خاصة وفاسدة من المثقفين) إلى حظيرته، وإخضاعهم لرؤيته وسلطته وسيطرته كأي مستبد صغير. كان بيده تعيين كل رؤساء القطاعات وكل مقرري وأعضاء اللجان .. إلخ، وكان باستطاعته أيضا أن يعزلهم دون سبب أو مساءلة. هذا الملمح الفردي الاستبدادي الغالب للنظام الساقط قلبته الثورة بجمعية قيادتها، وبفرض السلطة لا من رأس الهرم وإنما من قاعدته العريضة، والإلحاح على تنفيذها بقوة الإجماع الشعبي. وهذا هو الدرس الذي أرجو أن يكون الوزير الجديد، وكل وزير جديد قد استوعبه.

لذلك فإن الانطلاق من شرعية الثورة يتطلب أيضا تغيير بنية التفكير والتنظيم معا في شتى قطاعات الثقافة في الوزارة. وطرح بنية جديدة تنطلق من القاعدة، وتفرز رموزها وقياداتها. وقد حضر الوزير بعض المداولات التي دارت في أتيليه القاهرة حول المشروع الذي قدمه الفنان عادل السيوي بشأن تغيير بنية المجلس الأعلى للثقافة، وهو مشروع بتغيير بنية مؤسسة واحدة مرتبكة من مؤسسات كثيرة مرتبكة في الوزارة. ولكنه مشروع يبدأ بداية سليمة، وهو أن يكون التغيير بنيويا، وأن يحرص على أن تكون مرجعية السلطة فيه ليس الفرد وإنما الجماعة الثقافية. أما الدرس المهم الذي أرجو أن يتعلمه الوزير، ويتعلمه كل الوزراء معه، من الثورة فهو ضرورة الإجهاز على المركزية المستمدة من شخص فرد. فلابد من وجود كيانات ثقافية متناظرة ومتعددة وذات قيادات لاتستمد سلطتها من أعلى وإنما من أسفل، ولا يكون همها إرضاء الوزير أو من عين الوزير، وإنما خدمة الجماعة الثقافية والتعبير عن مطامحها وصبواتها، فبذلك وحده تزدهر الثقافة، وبه أيضا تتقدم مصر في مسيرتها المأمولة نحو مستقبل أفضل.

الثقافة والتغيير: تباطؤ أم تواطؤ:
تشكو مصر كلها، بعدما أعادت لها الثورة الروح، وضخت في عروقها الأمل في مستقبل أفضل، من التباطؤ في تحقيق أهداف الثورة، والذي يستشرف حدود التواطؤ. إذ تنتظر مصر الأفعال فلاتجد إلا الأقوال والمراوحة في المكان القديم «محلك سر». فالأفعال أبلغ من الأقوال، لأن السيف أصدق إنباءً من الكتب، كما قال أبوتمام. وهناك تعبير انجليزي يقول لا يكفي أن تعلن أنك مع العدالة، ولكن لابد أن تُرى وأنت تمارس هذه العدالة. تلح عليّ مثل هذه الأفكار، وأنا أشاهد الجميع يتحدثون، في جل وسائل الإعلام المقروء والمرئي، عن أنهم مع الثورة، بما في ذلك من عملوا بجد وتفانٍ في معسكر أعدائها حتى اللحظات الأخيرة قبيل نجاحها، وكان بعضهم من عمد النظام الذي أسقطته. فلا يمكن الحديث عن نجاح الثورة بأن يتشدق أعداؤها بهذا النجاح ويمتدحونه، ويحيلونه إلى موضوع للفرجة والتسلية وتسجيل النقاط في شبكة بعضهم البعض، وهم يعملون في حقيقة الأمر على إفراغه من أي معنى أو دلالة. ويسعون لركوب موجتها لكي يحققوا كل ما ثارت عليه الثورة من الباب الخلفي. بالصورة التي تدفعني وأنا أراقب ما يدور عن بعد إلى تكرار العبارة الشهيرة «أيتها الثورة كم من الجرائم ترتكب باسمك»!

فالحديث الوحيد والفاعل عن نجاح الثورة لايكون بنفاق أعدائها من أقطاب اللغو والتدليس لها، ولكن بتحويل أجندتها دون تأخير أو إبطاء إلى أفعال، وصياغة أولوياتها في برامج، وتسييد شرعيتها وقيمها الجديدة في مشروعات، ونشر الخطاب الذي يرسخ هذه القيم، ويجذر الوعي بتلك الشرعية. لذلك لابد لمن قاموا بالثورة أولا، ولمن زرعوا في وعي الشباب على مر السنوات الطويلة من حكم مبارك المخلوع كراهية الفساد والهوان والتبعية، ولم تنلهم أدران التعامل مع نظامه الساقط ثانيا، أن يعملوا بدأب، على رفع راية خطابها ومطالبها المشروعة عاليا، وعلى بلورة شرعيتها وطرح أولويات هذه الشرعية بوضوح في خطاب فكري ثقافي سياسي وطني. فبدون أن يسود خطاب شرعية الثورة، والوعي بأن ينطلق كل شيء من هذه الشرعية وأولوياتها، لن تواصل الثورة مسيرتها الضرورية لتأسيس مصر الجديدة: دولة حرة لكل مواطن، يحقق فيها ذاته ويشعر فيها بكرامته. يحصل فيها على حقوقه المدنية والسياسية كاملة، كي يعطيها حقها كاملا إخلاصا لمستقبلها، وعملا على تقدمها. وخاصة بعدما تردى وضعها بصورة غير مسبوقة بين الأمم طوال عقود أربعة، حتى قبعت في حضيض ردئ، لابد من إنهاضها منه.

وقد كتبت عن ضرورة أن تقوم وزارة الثقافة ووزيرها الجديد بإحداث، تغيير سريع في كل أجهزة الثقافة، ومؤسساتها، ومنطق عملها. وعن ضرورة أن يحدث هذا التغيير قطيعته الفكرية والموقفية والتنظيمية مع النظام السابق الفاسد. لكن يبدو أن الوزير لايسمع، وأن من وضعتهم الثورة في مقدمة إدارة أمور الواقع المصري غير واعين بأنهم يصدرون عن شرعية ثورية جديدة. فما يحدث في مصر يثير العجب حقا! وينال من توهج الأمل في التغيير. ألا يدرك عمادالدين أبوغازي أنه يتعامل مع واحد من أكثر قطاعات الشعب المصري وعيا: مثقفي مصر؟ فلماذا يستهين بذكائهم إلى هذا الحد ويهينه؟ هل يتصور أن نقل أحمد مجاهد من قطاع لآخر كفيل بإحداث التغيير؟ أو أن يذهب هو، جريا على عادة ثقافة الفرجة والمهرجانات القديمة، لافتتاح معرض كتاب لمطبوعات الجامعة الأمريكية، لأنه بعنوان معرض «ميدان التحرير» للكتاب، سيقنع المثقفين بأنه مع ثورة التحرير؟ خاصة وأن المعرض الذي يفتتحه الوزير معرض تجاري ترويجي لناشر أمريكي، ليس من اللائق بوزير ثقافة حكومة الثورة أن يقوم بافتتاحه، خاصة بعدما رفض شباب الثورة مقابلة هيلاري كلينتون؛ بل كان الأحرى به أن ينأى بنفسه عن مواطن الشبهات تلك! وأن يعمل بحق على أن يرى الواقع الثقافي أنه يحدث قطيعته مع المنطق الثقافي القديم وممارساته. وأنه يبذل جهدا ملموسا للانطلاق من شرعية الثورة واحترامها.

أما لعبة الكراسي، فحدث عنها ولا حرج! فلعبة الكراسي تلك من مخلفات عهد الوزير «الفنان» الفاسد، لذلك كان طبيعيا أن تلاقي استهجان العاملين في هيئة الكتاب. لأنهم، والواقع الثقافي معهم، يطمحون إلى البداية برؤية جديدة واستراتيجيات عمل جديدة. ولأن مصر ليست عقيما، ولأن هناك الكثيرين الذين لم يلوثهم العمل مع النظام الفاسد القديم، يستطيعون النهوض بأعباء مرحلة التغيير المطلوبة، والاضطلاع بمهام القطاعات التي ليس لها من يقوم بمهامها. والواقع أن إبقاء أحمد مجاهد في موقعه شيء، بالرغم من معرفة الواقع الثقافي بأسباب تعيينه في هذا الموقع ومن عينه فيه، وبالرغم من أنه من عمد مؤسسة الوزير «الفنان» الفاسدة، أما نقله إلى هيئة الكتاب فشيء آخر، في وقت ينادي فيه الجميع بضرورة التغيير، وبضرورة أن يرى الواقع الثقافي تجليات هذا التغيير. وأن يبرهن عماد الدين أبوغازي للواقع الثقافي أنه قادر على قيادة دفة هذا التغيير، بدلا من أن يساهم بتباطئه في تعزيز رؤية من شككوا بجدارته بالمنصب الذي عين فيه، أو زعموا بأن عمله لسنوات طويلة مع النظام الفاسد القديم الذي هندسة كل من فاروق حسني وجابر عصفور، ينتقص من قدرته على تحمل مسؤوليات الثقافة الجسمية في واحدة من أكثر المراحل صعوبة وأهمية. أو أشاروا إلى أن هشاشة تكوينه الثقافي تمنعه من تحقيق القطيعة الفكرية والآدائية الضرورية والمطلوبة مع القديم. فلعبة الكراسي تلك لا تؤكد فحسب أنه ليس ثمة تغيير، وإنما استمرار جديد للتشكيلة القديمة، بل توحي أيضا بأن هناك تباطؤ في التغيير، والتباطؤ في حالة ثورة يشكو الجميع من عدم اكتمالها، هو من تجليات التواطؤ المقيتة. هذا وقد قرأت خبرا أرجو ألا يكون صحيحا، وهو تعيين أشرف زكي رئيسا لجهاز السينما، لأن هذا الخبر لو كان صحيحا، فإنه سيؤكد أن التخبط هو سيد الموقف في وزارة الثقافة، وسيرجح كفة التواطؤ على التباطؤ. ويثير لدى المثقفين شكوكا حقيقية فيما يدور في أروقة تلك الوزارة، تصل بهم إلى حد الشك في أننا لازلنا في عهد الوزير «الفنان» وفساده المقيت، وليس فيما بعد ثورة 25 يناير.

لقد مضى شهر على تعيين وزارة عصام شرف، وخرج رئيس الوزارة على الشعب يعلن له عن إنجازات وزارته في هذا الشهر ويطلب دعمه، فماذا يمكن أن يقول عمادالدين أبوغازي للواقع الثقافي عن إنجازاته في هذا الشهر غير لعبة الكراسي المرفوضة تلك، وافتتاح معرض لمطبوعات الجامعة الأمريكية، وتعيين أحد أبرز أذناب نظام مبارك الساقط لرئاسة قطاع آخر في الوزارة، وهو الخبر الذي لا أستطيع تصديقه، وأرجو ألا يكون صحيحا. فإذا لم يخرج عمادالدين أبوغازي على الرأي العام الثقافي في خلال شهر آخر، أو شهرين على أكثر تقدير، بأفعال لا أقوال، تدعمها أجندة واضحة وخريطة طريق للثقافة المصرية تكشف عن وعي بالانطلاق من شرعية الثورة وتحقيق غاياتها، فلابد أن تهب الحركة الثقافية، كي تحافظ على ريادتها ودورها النقدي في مصر الثورة، بالمطالبة بالبحث عن وزير جديد! لابد أن يكون لكل قطاع رأيه الواضح في آداء الوزير الذي يتولاه، وأن تقوم القاعدة فيه بمراجعة مستمرة لما يجرى، كي نضمن للثورة التقدم، لا التراجع، أو حتى الوقوف «محلك سر»!

ولازلت آمل أن يستطيع عمادالدين أبوغازي تحقيق ذلك، من أجله ومن أجل الثورة معا. لذلك أقول له بوضوح لا! ليس هذا هو ما تتوقعه الثورة من الثقافة فيما بعد 25 يناير. لأن الثقافة تلعب الدور الأساسي في بلورة رؤى المجتمع وقيمه، وتقوم بدور الضمير النقدي الذي يحرس هذه القيم، ويقيّم أي اعوجاج فيها، كما أنها تلعب أيضا، في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ مصر، دورا أساسيا في صياغة خطاب يعبر عن رؤى الثورة ويبلور مطامحها في التغيير الجذري، ويضع شرعيتها في قلب المشروع الوطني في مستقبل أفضل. ولابد أن يُرى وزيرها وهو يحقق ذلك لها، دون أن يرواح بها «محلك سر» في زمن هي أحوج ما تكون فيه لا للتقدم للأمام فحسب، وإنما لقطع خطوات سريعة وفسيحة في هذا الاتجاه. حتى لا تنتهي الثقافة مرة أخرى إلى ممارسات عهد الخدمة المهينة في الحرملك، ولغو الفرجة والمهرجانات. وأهم من هذا كله، لابد للواقع الثقافي بكل قطاعاته ومثقفيه أن يراقب كل ما يدور، وأن يلعب دورا فاعلا في الرقابة ونقد الأخطاء، وتصحيح أي اعوجاج. فقد أجهزت شرعية الثورة على المنهج القديم الذي يحيل كل وزارة إلى عزبة خاصة يتصرف فيها الوزير كيفما شاء، دون أن يراجعه أحد أو يحاسبه أحد، إلا أفراد العائلة الفاسدة الحاكمة. وطرحت بدلا منه موقفا جديدا ومنهجا مناقضا يقول إن مصر للجميع، مصر لشعبها وليس لحكامها. وإننا كلنا مسؤولون عما يجري فيها، حريصون على تقدمها وازدهارها. يرودنا جميعا أمل في مستقبل أفضل لها ولنا معها وبها، كل في مجاله واختصاصه، دون كلل أو ملل أو تواكل. وأن علينا ألا نترك هذا المبدأ الجديد يغيب عن أعيننا للحظة، كي تتحقق الثورة وتترسخ شرعيتها في كل مجال.