مع الدراسة النقدية لمجموعة عاطف سليمان الأولى وروايته، تقدم (الكلمة) قصتين من أعماله حتى يتعرف القارئ على هذا الكاتب الموهوب الذي لم يأخذ حقه من الاهتمام والتقدير برغم رهافة انتاجه وعمق رؤاه.

قـصّـتـان

عاطف سليمان

 

1. فتاةُ العائلة

اللوتس في سـنائه
تكونُ الأرضُ وجوداً حاراً، وبعد عصورٍ تخمدُ الأرضُ، ويندفعُ نسلُ الإنسان، وتحيا ودادُ بذراعين قصيرتين وسبعِ حباتِ نمشٍ على وجنتيْها، وتكونُ جميلةً، وتغتني قسماتُها برواءٍ حتى ليُظَنَ أن شأنَ ذراعيْها هوشأنُ عدالةٍ. تتراتبُ الفصولُ، وتثلُجُ الأرضُ حيناً ويكون ذلك مما يلائم وداد، فهي امرأة صغيرة تشرئبُ بعنقها تتنسَّمُ نداوةَ البرد وتزيغُ لكأنما بفعلِ فاعلٍ يراودها، ويتحنَّنُ فؤادُها وتتقلقلُ شهواته، وتناظر آنئذٍ ذراعيْها الضئيلتين، تباعاً، ولا تراهما غريبتين ولا تراهما قبيحتين وإنما حميمتين غامضتين لهما ألفة أعضاء المرء نفسها ولكنهما، لطرفةِ عينٍ، تبدوان لها وكأنهما ليستا إلاَّ ذراعيْ أختٍ لها.

وتُقيمُ ودادُ أعرافاً لليالي الصقيع النادرة ؛ تستلُّ كراسةَ الرسم العتيقة المُغلَّفة بالفِبْرِ الأحمرِ المُجزَّع بورقها الأبيضِ المُطفأِ الخشنِ الممتعِ الثمينِ، وهي لا تتصفح كراستَها، بل تبقيها بين يديها وقتاً يطولُ ويقصرُ قبل أن تودِعها تحت الوسادة، وتذهب فتجهِّز للاغتسال.

تحمِّمُ ودادُ بدنَها وكأنها تسقيه؛ ذلك أنها تصبُّ عليه الماءَ الفاتر بتأنٍ متجنِّبةً ارتجاع الرذاذ، مصغيةً، مرتكزةً على ركبتيها وعلى أصابع قدميها، وظهرها مفرود ووجهها متبسِّم، وبترفقٍ تتجفَّف، وتُهدِّل الشعرَ وتتغاضى عن العطر وتلتف بالعباءة وتنسلُّ إلى الحديقة ضامةً ذراعيها إلى صدرها فيما أصابعها لِصق نهديها، مأنوسةً بالصقيع، مأنوسةً بنهمها إلى الصقيع، ولا تلبث قطرةُ ماء أن تنحدر من منبت شعرها وتسري على ظهرها وتتبدَّد مُحدِثةً قشعريرة تُلِذُّها، وبعد أشواطِ السيْرِ الوئيد ودوراته الضافية تتغبشُ سُبُلها لأن الوسنَ يحيقُ بها ولأن الطلَّ يُندِّي رموشَها فيما هي ترعى في نزهاتها الليلية المُغالية إلى أن يتناهى إليها زعيقٌ طائشٌ متباعدٌ لديكيْن يتصايحان فيكبحانها ويردَّانها إلى فراشها ويفضَّان سكونها، وإذْ يسكتُ الزعيقُ تنتبهُ أن صداه يصَّاعد فيها فتغمض عينيها عليه وتشطحُ "في شِغافي لغةٌ كاملة ضليلة أُنْسيتُها مع زفيري الأول أوسَلَّمتُها أوجُرِّدتُ منها، وحدهما ذراعايْ تعرفانها، ويوشك لساني في لحظةٍ أوأخرى أن ينفلت بها" وحسبَ ما يُمكن تصوُّره ؛ لا يُمسي بمقدور وداد التصرف حيال اضطرابها الناجم عن رؤاها وشكوكها غير أن تطمسَه بتلاوة آية الكرسي ثم يشتغل لسانُها بشتى السوَر الواقية فيما هي تصعدُ درجَ البيت بهرولةٍ مكبوحةٍ، وتدخل غرفتها ولسانُها يلهجُ بالترتيل، ومن تحت الوسادة تتلقفُ كراستَها، تفتحها لترسمَ وتنقلَ بحصافةٍ "ما أُوحيَّ به إليَّ". إنها ستمازحُ نفسَها بتلك العبارة هوناً، ولسوف يسطعُ عليها نورُ الصبح دائماً وهي عاكفة على لوحات لا متناهية المجازية والعُلووإنْ كانت قلما تُلقي عليها مجردَ نظرةٍ في سياق الأيام العادية.

ذات ليلةٍ، في غمرةِ الصقيع، صاحَ ديكٌ وديكُ، ومن أقصى الحديقة جاوبتْ الفتاةُ وآوتْ إلى غرفتها ولسانها يلهُجُ بالترتيل، وفي التولحظتْ أن فراشَها قد مُسَّ وأن أغطيتها المصفوفة قد مُدتْ وطُويتْ، ولمحت هنالك نعليْن من الصوف، بُهتتْ وخَطَتْ لتتحرَّى كراسةَ الرسم، وفي الأثناء تفشَّى فيها الدفءُ الكامنُ في أرجاء الغرفة والذي ترشَّحَ من تَنَفُّسِ المرءِ الذي دخلَ، وتعبَّقَ من خيميائه، ولقد شعَّ وهجُ خديْها، ودَكُنَتْ عليه حباتُ النمش وانفركتْ قطرتا الندى من رموشها وبسملتْ شفتاها وتأتأتْ بصوتٍ لاهٍ وقد استنامت لبهجة الدفء مثل بيضةٍ تفقسُ حتى إنها ما عادت تجفلُ ممنْ انتهكَ حُرماتِها بل لعلها دنتْ من تخومِهِ تَحمِدُهُ وتتوهم بأنها ربما ـ ودون أن تدري ـ ظلت تقصدُ إخلاءَ الغرفة كيما يتسنى له المرورَ بها.

بمثلِ مشْيةِ طائرِ بَطْرِيقٍ اتجهت ودادُ آليَّاً شطر غرفة الأب والأم فلعلها كانت مُلمَّةً بما سوف تقصصه على نائميْها، بدقةٍ وبلباقةٍ، غير أنها تراجعتْ وآثرتْ الالتجاءَ إلى الحديقة والتطواف في أنحائها ريثما يفيقُ النائمان من تلقائهما. تهادت ودادُ وثيابُها تحفُّ بشجيرات الموز وكراستها تحت إبطها وهي تمعنُ التفكيرَ بأن أحدهم قد شاقَهُ الاستلقاء هنيهةً في فراشها فلا يلزم أن يكون أضمرَ الشرَ لها، وتستدلُّ على ذلك بكُنْهِ متروكاته من دفءٍ ورائحةٍ وصوفٍ. وقُرْبَ شجيرات الموز استحسنتْ القعودَ كي تستريح لأن الصبحَ كان ينبلجُ والديكة تتصايح، وكان الأفقُ يستضيئُ ونظرتُها تجيلُ في الأفق حين تبدَّي لها بحرٌ هائجٌ غامقُ الزرقة وفتىً مكروبٌ أشعثُ يناورُ على طوفٍ حَطَمَهُ طولُ السفر، رأتْ ذاك الفتى يحدِّق صوب الجهات يستجيرُ ويتلهَّفُ، وما أن لمحَهَا حتى شكَّلَ يديْه بوقاً وهتفَ مثل الذي يستوصيَّها بنفسها ويستوصيَّها بأمه، لقد بدا أنه يظن أنه يراها وأنه يعرفها وأنه يستصرُّخها بألفاظٍ لا تضارعها ألفاظُ، وفي الصقيعِ المتفاقم كانت ودادُ تُحرِّكُ لسانَها في فمها وتغمض عينيها وتفتحهما على مشهدٍ لا يني يتواصل.

مثلُ التي تلقتْ رسالة ؛ ولجتْ ودادُ غرفتها، وكراستها مضمومةً تحت إبطها، فأودعتْ النعليْن خزانتها، وانحنتْ لترسمَ أولتكتبَ.

2. تَعاقُبُ الإبلِ

اللوتس في منتهاه
من فوق الجبل المُطلِّ على البحر انفلتَ حجرٌ وتدحرجَ إلى السفحِ ورسخَ فوق صخور الشاطِئ فضربته الموجاتُ تباعاً؛ ضربته وتعالى رذاذُها. تبللَ، على الأثرِ، الكتابُ الذي بين يديْ وداد وترطَّبتْ صفحتاهُ المفتوحتان قدَّام عينيها، وجفلتْ ذراعاها وكانتا قصيرتيْن ومُلوَّحَتيْن بهواء البحر وكان الكتابُ الممسوكُ كتابَ سيرة عنترة وعبلة. ما أن انفلتَ حجرٌ ثانٍ من فوق الجبل المُطلِّ على البحر وتبللتْ الصفحتان مجدداً حتى تبسَّمت ودادُ، الجالسة على حقويْها، ورمقتْ الجبلَ بنظرةِ أنثى إلى ذكرٍ يماحكُهَا وينقرُهَا بإصبعه، تحبُّباً، ويضرِّجُها. تأودتْ الفتاةُ وهي تقرأ ؛ فوددتُ تقبيل السيوف..الخ، فما مكوث وداد هنالك حَدَّ البحر الجاري في الصحراوات وهي التي سمعت وقرأت ذلك، قبلاً، مرةً وألفَ مرةٍ وما كانت تتقبله إلا كمبالغةٍ وركاكةٍ وتصنُّعٍ وابتزازٍ. ذكرتُكِ والرماحُ نواهلٌ مني. نواهل. فوددتُ تقبيلَ السيوفِ. ثغركِ. دمي. ما بالها تمتقعُ مشدوهةً وهي تُرَنْدِّحُها لحالها في الكتاب المتفسِّخ بين أصابعها، وتراها حقيقيةً لا أقل، بل وترى العاشقَ الهالكَ لم يبُح إلا بالقليل تعففاً وتكرُّماً. كان لونُ وبرِ الإبلِ يضارعُ لونَ رمال الصحراء ووداد ترسمُ الإبلَ على هوامش الكتاب الذي ـ للحقِ ـ ما ترطبَ لمرتِهِ الأولى إلاَّ بدموعها.

تواءمَ عنترةُ مع ضلالِ ما طُلِبَ منه، ودَعَكَ الأرضَ بخطىٍ ثقيلة، فهوعنترة يسعى لإحراز النوق العصافير، ألف منها، عشر مئات منها ؛ مهر عبلة ذات الردفيْن والوجنتيْن والرحيق. إنه يدرك أنهم دسَّوا له ـ رغماً عنهم ـ مجداً حين طالبوه بذلك المهر حتى وإنْ عجز عنه، وهو لن يعجز ولكن عليه أولاً أن ينسى عبلةَ للحظةٍ، لا بد ـ للحظةٍ ـ أن ينساها إلى حدِّ المحْو كي يخلو فيؤمن ويقدرَ على التعهِّدِ ويقدرَ على العزمِ؛ سأهشُّ إلى حَرَمَكِ يا عبلة ألفاً من بهائم الملك النعمان دفعةً واحدةً دونما هوادة ولا تأخير، وفي تلك اللحظة نفسها، وفيما هومضطجع، رأى الإبلَ تتدافعُ، عشراتٌ عشراتٌ، على راحة يده، بل وحدَّقتْ الإبلُ إليه بعيونها الجاحظة وحفَّتْ بأخفافِها غضونَ يده. لقد ذكرتكِ. لقد نسيتكِ. استيقنتْ ودادُ أن عنترةَ طالما وَجَسَ أنه محواً سيمحو عبلةَ من قلبه ـ للحظةٍ ـ للحظةٍ لا غير ولضرورةٍ لا رادَّ لها، إلا أن ذلك كان لا يني يدينُ قلبَه، لقد التقطتْ ودادُ الإشارةَ المخبوءة وهي تهوِّش بنعليها الصوفيين في ماء البحر؛ ذكرتكِ ... وبيضُ الهند تقطرُ في دمي، هذي إشارته. حين مالتْ الشمسُ على وداد حضَّها قلبُها على تقليبِ النظر إلى حيث سيارتها الفولكس، الخنفساء، نَظَرَتْهَا فما رأتْهَا ؛ ذلك أنها سُحِبت منهوبةً وهي عنها غافلة، وسَاخَتْ ودادُ.

سيقولُ لها الملثمُ ـ إنْ جاء ـ: أُعيد سيارتك إليكِ. ببشاشةٍ سيقول ذلك. وستردُّ ودادُ: أعدها إذاً إليَّ! وسيقاطعها هو: على أن تعطيني شيئاً آخر. وستنْعطبُ هي: ما هو؟! ولا يجيءُ الملثمُ، وإنما تسلكُ نحوها امرأةٌ تبدوعجوزاً لولا خطراتها وقامتها الرخيَة وتقتربُ وتقولُ لها إن سيارتها فُكِّكتْ وبيعتْ، وإنه، للحرص، ينبغي عليها أن تسارعَ بالوصول إلى الطريق لاستيقاف سيارة قبل حلول الظلام، فتجاوبها ودادُ باطمئنانٍ بل وبانشراحٍ: لا يهمُّ يا أختي. فتدنو المرأةُ أكثر كثيراً، ويبينُ وجهَها الحلو والمُزيَّن زينةً محفليَّةً، وتقولُ بصوتٍ سمحٍ وفاسقٍ: إذا كنتِ هاربة نأويكِ. ولا تردُّ ودادُ على الفور لكأنها حقاً هاربة. إن كرباً يمضُّ فؤادها. فتعاجلها المرأةُ وهي تهيِّمن: أنتِ لستِ هاربة ولكنه هو هارب. ومرةً أخرى لا تردُّ ودادُ على الفور لكأنها حقاً ليست هاربة وإنما هو هارب. ولأن المرأة سكتت هي أيضاً فقد اضمحلت سطوتُها هوناً. كانت تديمُ اقترابَها الحثيث حتى صار بمستطاعها أن تلمسَ كتفَ وداد من وراءٍ، ولم تفعل، غير أنها مدَّتْ يدَها فبانتْ ذراعُها وسيمةً تحت وشاحها الأسود، ومسَّدتْ الكتابَ المُرطَب والمنتفخ والممسوك بين يديْ وداد، مسَّدتْه وضغطته وحايلته وكأنها تحلب ضرعاً، ثم نطقت اسماً وعادت فهمست به في أذن وداد ؛ مُحمد. كانت ودادُ تُنهْنهُ وتدمعُ منذ مُسَّ كتابُها، وقبل حتى أن تسمع الهمسةَ التي رُنِّم فيها اسمُ سِرِها. كلُّ لحظةٍ هي لحظةٌ أخيرة وهي أولى. ووداد تتشبث ـ فجأةً ـ بكتابها، ويزايلُها كربُها، وتبتسمُ من صميم مَبْكَاهَا فتسطعُ دموعُ كربها في المقلتين المبتسمتين، وتتململُ وتُظْهِرُ المرأةَ على ذراعيها القصيرتين؛ أطلعتها على عاهتها بأريحيةٍ وربما بطيشٍ استغربتهما هي نفسُها، وقد أذعنتْ المرأةُ لما تقدمُه الفتاةُ فلمستْ كتفَها بيدها الوسيمةِ لمساً شفيقاً. استنامتْ ودادُ إلى خاطرٍ أَسكرَهَا، وهي تتلقى اللمسة الشعائرية من المرأة، مؤداهُ أن صاحبةَ اليدِ هذه تمُتُّ بالقُربى إليها، فهي مُطَّلِعة على مُهجتها لا كعرافةٍ وإنما كأختٍ بمقامِ قرين، وشَاقَهَا أن تسألها عن اسمها حين تهمُّ برفعِ يدها عن كتفها ويُؤذَنُ بالكلام. وداد!؟ ولقد رفعتْ صاحبةُ اليدِ يدَها وارتبكتْ أيّما ارتباكٍ وهي تستلُّ مظروفاً صغيراً من حمَّالة نهديها وتبرزه صوب وداد مُفسِّرةً لها أن الشبابَ عثروا عليه في سيارتها أثناء تفكيكها، واتفقوا على أن يعيدوه إليها. ها هو. وودادُ، مبهوتةً، تمققُ عينيْها في ذلك المظروف الذي لا يزال في حوزة المرأة، وتخشى أن تتلقاه، ويتأتَّى لها ـ والحال هكذا ـ أن تستذكرَ عنترةَ مضطجعاً وألف ناقة ترعى فوق كفه بينما لا يملكُ لقمةً يخربشُ بها شدقيْه، ولمَّا تسلَّمتْ المظروفَ أخيراً من المرأة حَشَرتْهُ رأساً في كتابها ونظرت إلى منتهى البحر وإلى الجبل المُطلِّ على البحر ومن ثمَ نظرتْ إلى حيث كانت سيارتها، ولا تشاءُ المرأةُ التي لبثت صامتةً ومُنكِّسةً نظرَهَا أن تنصرف دون كلمة سلام فتمدُّ يدَها، يدَها الوسيمة، ثانيةً إلى الكتاب الممسوك وتمسِّده وتحلبه وتقولُ قولاً صريحاً وهي تتلعثمُ من أثر الخفر: اِعلمي أن عنترةَ طَالَمَا كان يفترعُ عبلةَ وهما صبييْن لا يزالان، وما خطرَ له أن يسبُّها حتى حين أُهينَ. اِعلمي.

حَسُنَ في ظن وداد أن تفضَّ المظروفَ حالاً في حضور المرأة إكراماً وإفشاءً للألفة، فضلاً عن أنه قد يوافقُها ـ في الأثناء ـ زفيرٌ تنطقُ خلاله تساؤلَها. اسمي وداد، وأنتِ؟ عائشة. وأسفرَ فَضُّ المظروفِ عن بروز رزمةٍ من عشرِ أوراق مالية لها رائحة الأوراق المالية وخرفشتها، ولكنها غير معروفة لكلتيهما بل وتبدو زائفةً بمقاساتها الكبيرة نوعاً. أَعُثِرَ عليها في سيارتي صدقاً؟ أَ يتدحرجُ الآن حجرٌ آخر من الجبل؟ تحدِّقُ ودادُ في الجبل المُطلِّ على البحر ولا تُسَائِلُ، أمَّا عائشة فتعاجلُهَا، متخابثةً، بحنانِ صديقةٍ قديمةٍ: مهركِ. مهركِ يا امرأة. لقد أخفتْ ودادُ عن عائشة أنها، على الفور، حذقتْ كوْنَ الأوراق المالية الصقيلة إنما نُقِشتْ وكُتِبتْ، بروعةٍ، بيدِ إنسانٍ، وأن حروف اللغة المسكوكة عليها ليست ـ على الأرجح ـ إلا حروف لغةٍ طالما شطحتْ بأنها كانت تلغو بها في سالف الأيام. ثم استُردتْ مني. يا لعائشة حين تزرُّ عينيها وهي تغمزُ وتؤشِّرُ لوداد لتنظرَ رسماً مُنمنماً خافتاً مثل علامةٍ مائية على صفحة الأوراق يصوِّر فتاةً واقفةً تتعرى بفحشٍ أمام فارسٍ جالسٍ في شقاءٍ على صهوة جواد. شوفي! ويا لوداد حين تتغانج مبهورةً بالرسم الذي لا يكِنُّ والذي لا تتعدى مساحتُه قدرَ إظفرها، ومسحورةً بإلهامه وجلائه حتى إن كتابَها المرطب انزلقَ من زمام إبطها وتدحرجَ واِنغمرَ في مياه البحر وانجرفَ لولا أن طَالتْهُ اليدُ الوسيمةُ، وانتشلته.

في سويداء قلبها لم تُرِدْ عبلةُ لعنترة أن يرضخ لمهزلة النوق العصافير، أرادت منه أن يشقَّ مخدعها، أرادت له أن يأخذها أخذاً، أن يداهمَهَا ويُظْهِرَ لأهلها شراسةً. لقد مجَّتْهُ وحنقت عليه حين تناهى إليها أنه يَهُمُّ بالانطلاق لقنصِ الألف بهيمة فعوجتْ فمَهَا يُمنةً ويُسرةً وهرولتْ ـ ووراءها رفيقاتٌ ـ لتعترضه ولتستوقفه وهو فوق صهوة حصانه، ولتشلحَ له ثيابها على الملأ ولتطعنَ، في تتالٍ، سُرتَهَا بإبهامها لكي تخزيه، ولتولولَ في وجهه باستصغارٍ وبهياجٍ أنها باتتْ امرأةً ثيباً. يا عنترة. وأنها وُطِئتْ، منذ نصف يومٍ واحدٍ فقط وُطِئتْ. ياعنترة. فانزلْ وارجعْ لأني غدوتُ امرأةَ غيركَ. كان عنترة قد محاها محواً وانطلق فعلاً. فما لحقتْ عبلةُ والصبايا الراكضات وراءها إلاَّ بغبار حصانه الآفل، فوقفتْ عبلةُ تلهثُ في الخلاء، وبدافع المهانة وبدافع الغضب وبدافع الحسرة شلحتْ ثيابها وزمجرتْ. لقد ذكرتكِ والرماح نواهلٌ مني. زمجرتْ عبلةُ مثل لبؤة ولكن الصبايا ظنن أنها تقصد توديعه وأن حشاها يئنُ عليه، فأمسكن بها يعابثنها ويمازحنها ويخمشنها، وهي بينهن تترنح وتعضُّ لحمَ شفتها السفلي وتدميها.

يهبُّ نسيمُ الأصيل في البحر مُشعْشِِعاً رائحة اليود، وعائشة في الأمام تخطووتخطرُ وباليد كتابٌ يقْطُرُ ماءً مالحاً، وعلى نهجها تغذُّ ودادُ السيرَ ؛ قدماها تأْلَمان لأن نعليْ الصوف لا يحميانهما، وباليدِ رزمةُ المال. مهركِ يا امرأة. مهري أنا! ممنْ؟ هه؟! عائشةُ تمسُّ الكتابَ ذلك المسَّ وتمسحُ عليه مسْحَ كاهنةٍ. لا بد أن يموتَ الحبُ مرةً ويدورَ فإنْ انبعثَ فهوحبٌ. يأتلق الجبلُ بالغروب ويشِعُّ صهْدَه وألوانَه ولكن ما من حجرٍ يتدحرجُ من لدنه، وتلتفتُ عائشةُ، الإمامةُ، إلى ورائها بعد ما استخلصتْ من جيبها شطيرةً مُدهنةً محشُوَّةً بمعجون البلح، وتضعها في يدِ وداد من غير أن تتوقف. آه كانت جائعةً. كانت جائعةً جداً لتشعرَ أن رائحة فمها قد ساءتْ، تقضمُ الشطيرةَ الشهيَّة وترجِئُ ما انبثق بخُلدِها. هي تعرفُ محمداً! وصلتا في الآخر إلى الطريق المرصوف حيث ستنتظرُ ودادُ لوحدِها ريثما تمر عربةٌ تقِلُّهَا، وعائشةُ تصافحُها وتهمُّ بالانسحاب وبسمةُ مؤازرةٍ تتغشى طلعتَها. هذا الحسنُ لا يُعقل. خُذي كتابكِ يا أخت. حشرتْ ودادُ رزمةَ المال بين أوراق الكتاب المُرطَّب، وأمسكته. لقد نسيتكِ. لقد ذكرتكِ. ستعودين. سأعود.

وتعودُ عبلةُ مع صاحباتها مُنكَسةً، تمشي على مهلٍ وتتعللُ وتقعى على الأرض بين شوطِ مسيرٍ وآخر. لم تعُدْ تزمجر وإنما تندُّ عنها تنهُّدات، وتهشُّ عن وجهها وشعرها غباراً زوْبعه حصانُ صاحبها، وتمسحه بأناملها وتتذوقه خلسةً بطرف لسانها وبشفتها السفلى المُدماة. لقد غُيِّب الذي أتتْ تطارده ولكأنما فاتَ أوانُ أن تكرهه، فهي لوقتها تحنُّ إليه، وتتعالقُ، وتدمعُ، وتتئدُ، وتحبُّه. يا بنات! زمجرتْ بالتياعٍ لمرةٍ أخيرة، وطأطأتْ مثلُ ملكةٍ تُشْهِدُ ربَها على سريرتها ؛ ستُعوِّض الفتاةُ فتَاها عمَّا ألحقته به، عمَّا كان سيكون، عمَّا لم يكن، هي التي طَاحتْ وراءه لتناكده وتخزيه وتهدُّه، أشهدتْهُ أنها مُنشئةٌ لبدنِها ما قد يعوزه من حسنٍ، وأنها ستُحلي وجهَهَا وجيدَهَا. جَمالي لن يُعقل. سيجهرون بأن جَمال عبلته لا يُعقل. أشهدته أنها خارجةٌ إلى الفتى ما أن يتناهى إليها أنه يقترب عائداً، يحلُّ سيورَ السفر، مهزوماً أوهازماً، وستتريث إلى أن يتحلَّق الرجالُ والنساءُ طراً ليستمعوا إلى أخباره، وفي لحظةٍ ستطلُّ هي، باستنارةٍ ستطلُّ، وبنهديْن يرتجَّان ستهرولُ إليه، وتدنومنه، وتميسُ له، وتتدللُ، غيرَ آبهةٍ بهم، غيرَ آبهةٍ بهن، غيرَ آبهةٍ بنفسها، وترقصُ حوله ولِصقه، نشوى مثل ناقة ومثل فرس، مثل جندب ومثل حيَّة، وستمكُرُ فتُفشِي ولا تُفشِي ليشهدَ الرجالُ أيةَ فتاةٍ أخذَ الفتى وتشهدَ النساءُ زيْغَ ما هُنَّ عليه.

لا تني عبلة تجرجرُ قدميها وتهشُّ الغبارَ، وصاحباتها يدفعنها مازحاتٍ صاخباتٍ، وما أن آبتْ إلى دارِ أهلها حتى افترشتْ مخدعَها وهجعتْ ساجيةً ومهمومةً. يا إلهي أَ هذا هوالحب؟ إنها منهوكةٌ ولكنها تحسُّ حالَها عفيَّةً بأشدِّ مما ينبغي لإنسانٍ، حتى إنها تترجى أن تمرض لوهلةٍ، لليلةٍ أولليلتيْن، لعل قلبها يغتذي على ما حلَّ به ولعل روحها تُنكِصُهَا بشراً سوياً.

تبتعدُ عائشةُ وتلوحُ في ابتعادها عجوزاً لولا خطراتها وقامتها الميَّادة، وعلى طريق السيارات تقفُ ودادُ تتطلع وتناجي، يغصُّها عسلُ البلح المعقود في ريقها وهي تمسِّدُ كتابَها على شاكلةِ عائشة بانتظار سيارة تنجدُهَا. خليليَّ أمسى حبُ عبلة قاتلي. الطريقُ ساكنةٌ في نورِ الغروب، وفي نورِ الغروب ودادُ واجمةٌ. ما مِن جبلٍ يُنظَر وعبلةُ عيانةٌ وعنترةُ مستوحدٌ يتشممُ في الصحراء جهةَ مراعي الملك النعمان، وقلبه يحدِّثُه أن عبلةَ غاضَبتْهُ بل كرهته وطاردته لتنهشَ كبدَه من حشاه وِفْقَ حبٍ يموتُ ويدورُ، وأنها بلبلتْ بدنَها بمشيئتها وفقَ حبٍ يدورُ وينبعثُ، وأنها تتحرقُ لهفةً إلى موتٍ معه، بدداً وحبوراً، بموجب حُبٍ ينبعثُ ويعلوعن حدِّ الحياة. وللوقتِ تقومُ عبلةُ من مهلةِ المرض بشحوبٍ صافٍ بهيٍّ فتضعُ في عنقها ثوبَ حدادٍ وفي طلعتِها طلَّةَ حزمٍ وجلالٍ. إلى أن يرجع! فلا يجرؤُ أبٌ أوأخٌ أن يسائِلَها في أمرها ولوبنظرةٍ، فيما ينجرحُ عنترةُ ألفَ جرح إذْ يحفُّ بالحسك وهوشارد بأخبار زمنٍ عاشه حين - للحظةٍ - نسيَّ عبلةَ ومحواً محاها. فانزلْ وارجعْ لأني غدوتُ امرأةَ غيركَ. يعتصرُ الكبدَ من حشاهِ ويربتُ على الحصان ويتشممُ النسائمَ ويتخيَّرُ مسلكَه. حُبُ عبلة. لاتٌ وعُزَّى. خليليَّ. وتنتبه ودادُ إلى قرقعةٍ تألفها. لا أصدِّق! تقتربُ الفولكس الخنفساء وتقتربُ وتفوتُ بمحاذاتها، ببطءٍ استعراضيّ. شافتْ ودادُ سيارةً مغسولةً ومُنظَّفةً ومجلوَّةً، وعلى مقعد السائق يجلسُ رجلٌ يبدوعجوزاً يلفُّ رأسَه بعمامةٍ ويغضُّ بصرَه عن ذاتِ الذراعين القصيرتين، التي لوَّحَتْ له بالأوراق العشرة، فانعطفَ وعادَ وأوقفَ السيارةَ ونزل منها، فبادرته لائمةً وهي تهزُّ ما بيدها من أوراق: ما هذه؟! فُوجئتْ هي نفسُها بنبرة التبجيل في صوتها، وردَّ هوبدماثة: هذه نتفٌ من مهوركِ. وزهدَ عن قولِ: شففتهَا ونقلتُهَا عنكِ. فاستجوبته وهي تكاد لا تعرف أيَّ سؤالٍ تسأل: وجدتموها في سيارتي؟ وردَّ هوبتلعثمِ المضطرِ إلى الإبانة: وما هي أيضاً إلا وديعة تُعادُ وقتَ تُطلب. سكتَ كلامُه وسكتَ كلامُها. سِجلُ مهوري؟ أنا؟ أَ تُراها عرفته هوالذي يبدوأكبر بعشرين سنة عن حقيقته؟، هو- من غير ما نظرٍ إلى ذراعيها - كان مثل الذي لم يفارقها لطرفةِ عين. عسلُ البلح المعقود في ريقها يغصُّها وهي تسأله بترددٍ ظانةً أنها تكرر سؤالَها: أَ تعيدُ سيارتي إليَّ؟ ومثل الذي كان قد محاها محواً جاوبها وأحكمَ عقدَ العقدِ: إذا أنتِ افتديتها. أومأتْ له بعينيها موافقةً فيما كانت عيناه عالقتين عند نعليْها الصوفيين الملطخين بالرمل والغبار، أعياهُ خفقانٌ ووهنٌ، وإذْ مدَّ يدَه ليتناول وديعته تضرَّجتْ ودادُ كحَالِهَا هنالك تحت الجبل. أعرفُ هذه الكف. في كفهِ شهدتْ النوقَ البيض رشيقةً تمرحُ مرحَ غزالاتٍ. أعياها خفقانٌ ووهنٌ، وهالَها أنها لا تقدر على أن تعافَ الأوراق لتردَّها، ولكنها عزمتْ وجَهَدَتْ فأفلتتها في يده وسحبت يدها ودارت حول سيارتها وتهالكت خلف مِقودِها وتنشَّقتْ العبقَ المكنون فيها وأوشكت على التحرك، لحظتئذٍ مالَ عليها واستأذنها هامساً متلعثماً: أوراقُكِ! فما تخصُّ إلاَّكِ. وأسقطها بجوارها، ومضى، وزالَ. لا جبلَ يُرى، غابتْ شمسٌ، وحلَّ مساءٌ. إلاَّكِ. إلاَّكَ. يا بنات!

فتقتْ عبلةُ ثوبَ حِدادها من طوقهِ وانسلتْ منه ودهستْهُ، وبتأنٍ تحمَّمتْ ولبستْ وتزيَّنتْ، وأوفتْ نذورها وعهودها وتلاينتْ، فبُهِتَّ الأهلُ ولغطتْ الخلائقُ إلاَّ عنترة الذي بانَ تائهاً وعجوزاً في ثوبه الأخضر الحريريّ المُعطَى من صندوق الملك، وتبسَّم لمَّا رأى النوق العصافير وقد سُقيتْ ماءً وأُكرِمتْ وأُنيختْ حول العرس بتعاليم من العروس. مهري أنا! وفي التونُحرتْ وسُلختْ سبعون ناقة وشُبحت في النار، ولغَّ الخلائقُ في لحوم وشحوم النوق العصافير، وحين هبَّ نسيمُ الليل في الهزيع الأخير زُفَّت عبلةُ إلى عنترة، واختليا في مخدعها المُعبَق بدخان اللُبَانِ والمُرِّ المجلوبين من عُتاد الملك. ما من أحدٍ يعرفُ أن خلوتهما ليست الأولى، وعبلةُ تلكزُ عنترة مكراً وتدللاً لأن خلوتهما للوقت تُحرسُ وتُباركُ من الخلائق الصاخبين حول الدار، وصرخت امرأةٌ: جمالكِ لا يُعقل يا صبيَّة!

جسَّ عنترةُ المخدعَ العالي المُزيَّن بنقوشٍ والمُعطَّر بخلاصاتٍ ووجدَ دعائمَه قد زِيدت بحصافةٍ، فيما عبلة تتنمَّرُ وهي تعاينُ الجراحَ الجديدة على جسده. يا ويلي. جِراحُ مُرتَزَقٍ. تطلعتْ إلى عينيه بفراسةٍ فما شعرتْ إلا بنفثةِ بردٍ وهي تعاودُ وتديمُ النظرَ إلى لوثةٍ مخبوءةٍ في بياض عينيه. عينا قَاتِل. لم تصرخ عبلةُ ولكنها تراختْ وارتجفتْ وتصلَّبتْ يدُها على عنقها وهي تحاول تقيُّؤَ لحم النوق العصافير. فَهِمَ عنترةُ دون مواربةٍ وأدركَ كذلك أن جزءاً منه لم يرجع معه وقال لها متلعثماً إنه قَتَلَ هناك مثل ما قَتَلَ هنا، وإنه طابَ لقلبها وهوقَاتِل بل ولأنه قَاتِل، وإنه طال ما عزمَ أمرَه على المكوث هناك أبداً وإرسال المهور والأنصبة مع رسولٍ، ولكنه في الآخر عدَلَ عن ذلك وجاء. لم يبتغِ تبريرَ نفسه بل ربما إشهارَ عبلة أنها محقَّةٌ وأنه مُتفهِّمُها. لم تجادله هي، ولم تقل له بفمها إنه يغالطُ ويدسُّ، ولكنها رمقته بنظرةٍ اصفرَّتْ لها شفتاه الداكنتان، ونطقتْ في وجهه لأول مرة في خلوتهما وهي - بغلاظةٍ - تعيد التدثر بسراويلها: وما كان حالُ شعرك هناك؟ فاحتْ رائحةُ إبطيْه لمَّا انمحى من لسانه ما يردُّ به، ووقف ووضع ثوبه الأخضر على كتفيْه، غير أنه استخزى من الخروج إلى الخلائق ليسرِّي عن نفسه معهم ويتشمَّم نسمةَ هواء، ولم يتجاسر كذلك على الدنومن مرقَد عروسه فرجع ونضى ثوبَه ورقد على الأرض وتوسَّد نعليْ عبلة المبللتين بماء سِقاية النوق العصافير. ولقد ذكرتكِ. فارجعْ. اضطجعتْ عبلةُ وهي تجهش كاتمةً وجهها في وِسادتها. كان هوعنترة، وكانت هي عبلة، وكانا رجلاً وامرأةً أعيَاهما خفقانٌ ووهنٌ. وبعد صمتٍ هَمَّ على مرفقيْه وهمسَ مخاطباً وِجْهتِها باستغفارٍ: لوتعرفين ؛ أوجعني الحسكُ ولم توجعني السيوفُ. لعلها لم تسمعه ولعله هوالذي أعفاها، ولقد تعفَّف عن البوح: لا تحسبي النوقَ مهراً لك وما هي إلا قربان إليك. تمتمَهَا بشفتيْه فحسب وصكَّها شعراً في سريرته ودَارَاهَا، وحملقَ في راحةِ يده أمداً حتى سطعتْ قبسةُ نورٍ، لا تتعدى مساحتها قدر ظفره، وشالتْ قربانه. سمعَ فرسَه تصهلُ أولكأنه سمعها فاسترسلَ يغني بصوتٍ خفيضٍ أغانٍ وجيدةٍ سمعها هناك وما دريَّ أنه حفظها ؛ غنى عنترة مثل ريح الشمال وغنى مثل ريح الغرب، وهومتكيءٌ على مرفقيْه يحكُكُ نعليْ عبلة، وعبلة تنصتُ وتشرئبُ وتتزحزحُ اقتراباً من ذلك الرجل الغاضُّ بصره عنها لئلا تفوتها كلمةٌ ولا نغمةٌ لأن صوته صار أبعد وأخفض ولأن صخب الخلائق باتَ مشتداً. أمَا من أحدٍ يشهَدُنَا؟! صَدُحَ غناؤه ورقَّ، فنشجتْ عبلةُ وتصافتْ وتخالصتْ وغفرتْ وحنَّتْ وسبَّتْ عنترةَ هياماً وبإبهاميْها تملَّصتْ من ثيابها وسراويلها ووثبتْ عليه وقد تهلَّلتْ له وأشرقتْ. يا بنات.

في غرفتها المطلِّة على شجيرات موزٍ وليمونٍ، وأمام مرآتها، حصرتْ ودادُ آثارَ الأصابع الخمسة ليدِ عائشة على كتفها. ستعودين. سأعود. نظَّفتْ نعليها الصوفيين وجففتهما بتمعنٍ، وضحكت وهي تقلِّد بكسوفٍ، بينها وبين نفسها، صرخةَ عبلة. يا بنات. كانت، بلا شك، تفكر بذلك الرجل الذي زالَ وهويقول لها: إلاكِ. حدستْ أنها تَجدُّ وراءه وتحرصُ على ألاَّ تجدَه تمامَ الوجود، وربما كان هوكذلك يَجِدُّ وراءها ويحرصُ على ألاَّ يجدَها تمامَ الوجود. ما أكفانا بأن نمرَّ عرضاً في طريق بعضنا البعض. كانت ودادُ، التي خطرَ لها أنها واشجتْ ذلك الرجل في ما رسمَهُ ودوَّنَهُ في الورقات العشر، قد حرقتْ عودَ صندل وفردتْ ورقةً لترسم. ما هذا الذي أرسمه؟ تعاقبتْ الإبلُ، وكان لونُ وبرِ الإبل يضارعُ لونَ رمال الصحراء، ورويداً رويداً دانتْ لها لوحتُها ؛ فتكشَّفَ لها أنها انكبَّتْ لتستكْنه أولئك الخلائق المصطخبين حول العرس، ومن عمق لوحتها لفتتها عينان سوداوان كعينيها بالذات ؛ كانتا كأنما تومئان لها. ما بالنا نلتقي، ما بالنا نجهرُ باللُقيا.

عاطف سليمان                  atif_sol@yahoo.com