تقدم الكلمة ديوانا لشاعر فلسطيني حديث، شاعر ينصت لتفاصيله الصغيرة ولليومي ولمفارقات العالم ولانكساره وانجراحاته. ديوان يضم مختارات من قصائد تنتمي لتجارب الشاعر في الحياة والكتابة. تقترب بنا أكثر من هذا الحراك اللافت للقصيدة الفلسطينية الحديثة، قصيدة تخلق لنفسها هوية جديدة وصيغ ورؤى جديدة.

رغوة الأحلام (ديوان)

نمر سعدي

البحثُ عن اليوتوبيا
أُصارحكَ القولَ أيُّها الآخرُ يا أخي.. يا صديقي وشاعري القريبَ إلى حافةِ القلبِ كحبَّةِ اللؤلؤِ والمملوءَ بالشَجَنِ الدافئِ كمياهِ الينابيعِ الجوفيَّةِ.. أنَّني منذُ كنتُ وأنا أبحثُ عنكَ كمن يبحثُ عن خيطِ النورِ في غابةِ الظلامِ وأتلَّمسُ نبضَ شعركَ في الريحِ الزرقاءِ العقيمةِ.. لقدْ كنتَ قنديلي في البداياتِ ونجمةَ ليلي الدجوجيِّ البهيمْ.

كنتُ أسألُ عنكَ عبثَ الروحِ وضياعها وأركضُ خلفَ سرابكَ اللا متناهي المضيءِ بماءِ السحرِ والنبوءة.. وعندما كنتُ أغرقُ في خضَّمِ ألمي وأسئلةِ وجودي أجدكَ يداً من حريرٍ خضيرٍ تمتدُّ لي كتلويحةِ الشمعِ الأخضرِ.

وكم مرَّةً شحذتُ همَّتي التي فتَرَتْ مراراً وتكراراً لكتابةِ قصيدةٍ جديدةٍ حبلى بالنورِ والحدائقِ البابليةِ.. وكنتَ لي حينها أجنحةَ النسرِ في مواجهةِ العاصفةِ الرعناءِ.. والشراعَ القزحيَّ في مواجهةِ التيار الهادر.

كانَ كلامكَ يشبهُ عطفَ وحدبَ الأبِ على ابنهِ الضَّالِ في متاهةِ الحرِّيةِ والحُبِّ الخائبِ.. معكَ أعرفُ أنَّ الحياةَ لا كما يُصوِّرها لنا الآخرونَ أنَّها أوتوبيا عادلة ملأى بالفراديس وكنتَ تضحكُ في أقاصي روحكَ سراً وتقولُ أنَّهُ ولا حتى مليونَ شاعرٍ كفرجيلِ أو هوميروس أو محمود درويش أو المتنبِّي أو ربمَّا ملارمه أو شكسبير أو يانيس ريتسوس بقادرينَ ولو للحظةٍ واحدةٍ وقفَ هذهِ المأساةَ أو تحويلَ هذهِ الحياةَ الرجيمةَ إلى أوتوبيا شاعريَّةٍ عادلةٍ تنادي بالقيَمِ الساميةِ ولكنَّكَ كنتَ تقنعني بأنَّ مرضَ الكتابةِ والشعرِ قدرٌ من السماءِ لا مفرَّ لنورسِ القلبِ منهُ ولا مناصَ لفراشاتِ الندى والأقحوانِ من نارهِ الملساءِ الحمقاءْ.

ألشعرُ إذن قدرٌ من السماءِ وعلينا نحنُ العبيدُ البسطاءُ أنْ نتقبَّلهُ نعيماً كانَ أو جحيماً.. شوكاً أو زنبقاً.. مطراً ناعماً أو أحجارَ سجيِّلْ.

أنتَ يا آخري الذي لمْ أستطع الإفلاتَ منهُ... من أغراني بهذهِ اليوتوبيا الكاذبة والخُلَّبِ كبرقِ الحياةِ... أنتَ لا أحدَ غيركَ من دفعني على مركبِ سندبادَ لأعيدَ فصولَ روايةِ يوليسَ وأعيشَ العمرَ كلَّهُ على قلقٍ كأنَّ ريحَ المتنبِّي من تحتي ومن فوقي وعن شمالي ويميني وفي قلبي وروحي.

لا تزالُ كلمتكَ ترنُّ رنيناً خفيفاً في سمعي وترسبُ في قاعِ القلبِ كالدرةِ الثمينةِ في جوفِ البحرِ الصامتْ.... أنا في شوقٍ ربيعيٍّ خاسرٍ لتلويحةِ مراياكَ المندثرةِ وأنهمرُ كالضوءِ على عالمي الداخليِّ وجسمِ الأوتوبيا.. وليذهبْ ندمُ ديكِ الجنِّ على حبيبتهِ وردَ إلى الجحيمْ... وليصيرَ شعرُهُ هلاماً لكلامي.

مرَّةً قلتَ لي ما معناهُ أنَّ القصيدةَ هيَ مركبٌ سكرانٌ من مراكبِ رامبو ربَّما يحملكَ إلى الفردوسِ أو إلى الجحيمِ.. القصيدةَ شتاءٌ من المجازِ الحُرِّ مُبلَّلٌ بالأحاسيسِ الغريبةِ والاستعاراتِ المُجنَّحةِ.. ودربٌ مسكونٌ بالنورِ والندى وعبقِ الأرجوانِ إلى الأوتوبيا الموعودةِ المُعلَّقةِ في أعلى اشتهاءاتنا الخاسرةِ.. تلكَ التي كانتْ كانت قابَ قبلةٍ من دمي ولمْ أنجحْ البتَّة باحتوائها ساعةَ احتضانِ ضبابها اللا مرئِّيْ والمخاتلِ مثلَ نهرٍ يختبئُ في السماءْ.

منذُ تلكَ اللحظةِ وأنا أبحثُ عنكَ وعنها في خلايا دمي وفي قصيدتي ورمادِ عنقائها وترابِ سمائها البلوريِّ بلا فائدة.. أبحثُ عنكما فلا أرى غيرَ ظلِّكَ رابضاً على مساحةِ الشعرِ والحدائقِ والشتاءِ... ولا أرى غيرَ تطايرِ أوراقها المُلوَّنةِ في السماءِ السابعةِ ولا أحسُّ إلاَّ بانسرابِ شعاعها من وصايا دمي وأقاصي هيامي.

نمْ أنتَ يا صديقي وهيَ هناكَ في البرزخِ اللامحسوسِ تماماً كالقصيدةِ التائبةِ المحمولةِ إلى أعلى فراديسِ انتظاري... أمَّا أنا فلا لن أحطَّ رحالَ حلمي ولن أصادقَ غيرَ ريحِ جديِّ المتنبِّي... سأصعدُ أعلى هاويةٍ فيكما وأصرخُ كالذئبِ الضاري في ليلكما الحميمِ... وأبحثُ عنكما إلى الأبدْ..... إلى الأبدْ.

 

هذيَانُ ديكِ الجنِّ الحمصيِّ الأخيرُ
مُطفأٌ مثلَ قنديلِ عينيكِ في هدأةِ الفجرِ..

فوقَ غصونِ الشرايينِ

تعدو الوساوسُ خلفي كليلِ الشياطينِ

في خطوتِكْ

تحاصرني في زوايا الكلامِ

ويخنقني شبحي المتمثِّلُ في صورتكْ

مُشعلٌ بدمي.. مُطفأٌ.. مُرجأٌ

مثلَ زرقةِ صوتكِ... كالطفلِ في اليمِّ

يا نورسَ الروحِ... يا ندمَ الشعرِ

يا شغفي بالنصاعةِ في خنجرِ الحُبِّ

يا ماءَ ضلعي وجمرةَ دمعي الحبيسِ...

نداءَ دمي في النجومِ...

 

شفاهُكِ معصيتي...

حطبُ الشهوةِ البِكْرِ

سُلَّمُ روحي إلى النارِ

في وهدةِ الندمِ المُرِّ...

وجدي المُعلَّقُ مثلَ التمائمِ فوقَ الجبالِ

وفي معصمِكْ

 

شفاهُكِ هاويتي في أقاصي سدومَ

وعيناكِ نهرا هَوانْ

وطعمُ الرمادِ المُطيَّبِ سرِّي وسرُّكِ

أحشو بهِ رئتي وعظامي لتَجهشَ بالضوءِ

إذْ ينتهي العاشقانْ

ثُمَّ أطلو بهِ ريشَ زهوي وعُرفي

لكيْ تستقيمَ الخطيئةَ...

كَيْ يستقيمَ البيانْ

ها هنا تنتَهي رغبتي في بُكاءِ الكمانْ

 

مُقسَّمةٌ في جميعِ النساءِ... موحدَّةٌ فيَّ أنتِ

وضائعةٌ في خلايايَ ملءَ الفراغِ

ومرهونةٌ لزهورِ الغوايةِ في كاحلِ الأرضِ

يا وردُ يا لعنتي في الحياةِ العقيمةِ

يا ما عصى المُخمَلُ الرَخْصُ منِّي

ويا نقْصَ ما في ضلوعي من الطينِ

يا وشمَ أفعى مُطهَّرَةٍ في العُنُقْ

ويا فتنتي فوقَ أرضِ الصراطِ... وسرَّ الشفَقْ

تُسمِّيكِ أشجارُ حمصَ عروسَ السماءِ

يُضيئكِ حبرُ القلَقْ

 

مُوزَّعةٌ في الليالي التي انطفأتْ

مثلَ شمعِ الشرايينِ

مسكونةٌ بالبحارِ الأليفةِ

منثورةٌ كالغمامِ الزجاجيِّ فوقَ دموعِ الطُرُقْ

 

كنتُ أبحثُ عن وجهِ معنايَ فيكِ

فتحملني غُربتي مثلَ طيرٍ شريدٍ

إلى ما وراءَ الأفقْ

 

نداؤكِ ألفُ شتاءٍ يصيحُ بأقصى دمائي

ويطلعُ كالزنبقِ المتهدِّجِ من بحرِ رملي

ويبزغُ كالنهرِ من لمسةٍ لرمادِ بُكائي

 

ذراعايَ أُغرودتانِ تهزَّانِ ليلكِ

ذئبانِ يقتتلانِ بسهلكِ

عندَ المساءِ

هلالانِ يقتحمانِ حزيرانَ

أو خنجرانِ يلُفَّانِ خصركِ

فيما وراءَ الحياةِ

ذراعايَ أُغرودتانْ

وخصرُكِ عرسٌ لحمصَ التي

انبثقَتْ من منامي كحلمِ النبيِّ...

لحمصَ الفتاةِ التي فيكِ أحبَبتُ.. أو مهرجانْ

 

هَلْ كانَ عليَّ لكَيْ أُثبتَ برهانَ الحبِّ

الصارخِ فيَّ وفي لغةِ الأشياءِ

وفي أقصاكِ إلى أقصايْ

أن أصنعَ من جسدي منفايْ..؟

هل كانَ عليَّ مُراودةُ الجُرحِ الناغرِ

في جسدِ الليلِ بزهرٍ غامض؟

ودفعُ حياتي ثمناً للحُبّْ؟

هل كانَ عليّْ...

قتلُكِ يا توأمَ روحي

كيْ أُثبتَ لكِ برهانَ الحُبّْ..؟

 

تصحو دمائي على أطرافِ أُغنيةٍ

زرقاءَ يحملها نهرٌ إلى الأبدِ

وأنتِ ما أنتِ..؟ ما هذا التمنعُّ في

حريرِ قلبكِ إذ يبكي وراءَ يدي

أنحَلَّ مثلَ رفيفِ الضوءِ في جَسَدٍ

ناءٍ وأجمعُ طيفي منكِ في جسدِ

تصحو دمائي وأحلامي تراودها

عن ضجعةٍ في خيالِ الشاطئِ الغَرِدِ

خلَّفتُ ذاتي ورائي في سرابِ رؤىً

وجئتُ أبحثُ في عينيكِ عن أمدي

وأنتِ لا حمصُ لا قوسُ الحمامِ ولا

أشجارُ روحي ولا حزني ولا بلدي

أصبُّ عطرَكِ في كأسي وأشربهُ

ناراً تُعشِّشُّ في قلبي وفي كبِدي

أصبُّ عطرَكِ موَّاراً أربُّ بهِ

نبتَ الحشا الغضَّ بينَ النارِ والبَرَدِ

 

مُطفاٌ مثلَ قنديلِ عينيكِ

في هدأةِ الفجرِ

لا سرَّ لي في دمائكِ..

لا ظنَّ لي في الحياةِ سواكِ

ولا وجهَ لي... لا خُطىً

لا مرايا تُصادقني

ودمي فاغرٌ فاهُ يعوي

كشوقِ الغريبِ إلى اللا مكانِ ...

 

دمي.. ديكُ جنِّي الذي صاحَ

من نطفةِ الإثمِ في رحمِها

سوفَ يُوقظُ – لا بُدَّ – أنثى القصيدةِ

من نومِها.

تمَّوز 2009

 

 

قلقُ الحياةْ
متدثِّراً بعباءةِ الأمطارِ

كانَ شجارُهُ مع نفسهِ يشتدُّ

يُولمُ للذئابِ خرابَهُ العالي

ويُصغي للرياحِ بقلبهِ قبلَ انهمارِ البرقِ

قبلَ هبوبهِ

متصالحاً مع رغبةٍ عمياءَ

تحملُهُ على أمواجها

وتحضُّهُ في الوحدةِ الزرقاءِ

كيْ يبكي.....

يقولُ بأنَّ دمعاً ما خفيَّاً عاطراً

قد راحَ ينـزفُ من دماءِ نسائهِ كندىً خُرافيٍّ

وأنَّ ملاءةً في روحهِ احترقَتْ بغصنِ فراشةٍ

أو لمسةٍ من إصبعٍ 

مرجانُهُ في القاعِ ينتحبُ احمراراً صامتاً أو غامضاً....

لا شيءَ ينهرُ عن هسيسِ النارِ أعضائي

أنا بجريرتي الأولى أعيشُ مُتوِّجاً قلقَ الحياةْ

 

مُتأمِّلاً فيما وراءَ كلامِ شيخِ الحبِّ

حيثُ ينامُ في أقصى دمشقَ متيَّماً ومُقوَّماً

بالوردِ لا بالسيفِ

مفتوحاً على الدنيا كصفحةِ لوعةٍ بيضاءَ اغريقيَّةٍ...

أو فاتحاً أسوارَها في العشقِ أو أسرارَها

ومُهذِّباً في كلِّ طفلٍ أمردٍ شبقَ المياهْ

 

إنِّي أراهُ ولا أراهْ

وأشمُّ خطوَ زمانهِ المنسيِّ بالعينينِ

أُسلمهُ لعاطفتي وأضلاعي

وتسملُني بلا إثمٍ يداهْ

هو حصَّتي ممَّا يقضُّ الأرضَ والنعناعَ

سلَّمُ فكرتي المكسورُ والمنخورُ

شهوةُ ذاتهِ وهوى سِواهْ

مُتطَّهراً من نزوةِ التفكيرِ

أنفضُ عن غدي المصقولِ مثلَ أظافرِ الأفعى

رذاذَ النومِ.....

أستلُّ الحقيقةَ من جواريرِ الصباحِ

ملمِّعاً بالدمعِ والتقبيلِ.... ذُلِّ الشاعريَّةِ

كلَّ ما في أسطري المُلغاةِ من صَدأٍ 

ينامُ على الشفاهْ

 

لا قوسَ في هذا المدى العاري

يشدُّ سنا خطاكِ

إلى أديمِ الظَهرِ مُجترحاً رؤايْ

لا كأسَ يجمعُ ما تناثرَ منكِ

فوقَ صدى خُطايْ

وأنا سليلُ الحالمينَ المتعبينَ الطيِّبينَ

الذاهبينَ إلى سدومَ بحزنهم وبخيطِ نايْ

 

قلقُ الحياةِ يحضُّني في الوحدةِ الزرقاءِ

كيْ أبكي على نفسي

كما لو كنتُ إنساناً سوايْ

كانون ثاني 2010

 

 

محاولةٌ أخرى لفهمكِ
 ما عُدتُ أفهمُ أيَّ شيءٍ غيرَ ركضي كالحصانِ الجامحِ الطيرانِ

في هذا الفضاءِ اللانهائيِّ المجازِ , على كواكبَ

لا انعتاقَ ولا حدودَ لها سوى عينيكِ....

أرعى عشبَ حُبَّكِ والحقيقةِ مثلَ أنكيدو بغيرِ فمٍ....

كأنَّكِ في المدى قمرٌ تأرجحَّ بينَ هاوتينِ

نفسي , والأحاسيسِ العصيَّةِ والمُضاءةِ بالنعاسِ

وغيرِ ما يرثُ الفراغُ من الخواتمِ فوقَ قلبي ....

لستُ أفهمُ غيرَ فلسفةِ القتالِ الأبيضِ الشفَّافِ

في نظريَّةِ بروسلي الذي قتلوهُ في ذاكَ النهارِ بمثلِ سنِّي الآنَ .....

أينَ دمُ البراءةِ صاخاً بي آخذاً بالذئبِ من عينيهِ

( آخرِ جمرتينِ تمسِّدانِ حرائقي الأولى هناكَ )

 

دمٌ.... شذىً .....قُزحٌ تعلَّقَ في مدايَ

وسالَ من حزني عليهِ على ضحى هونغ كونغِ أرضِ الشمسِ .....

أفهمُ عنفوانَ الحُبِّ في ينبوعِ حكمتهِ

وفي علمِ الجمالِ يصبُّ ليلاً في كاليفورنيا كشلَّالٍ خريفيٍّ

تشرَّدَ ناعمَ الأظفارِ في الأشعارِ ....منسيٍّ ..طُقوسيٍّ ....

سأفهمُ في غدٍ معنى كاما سوطرا

حلولاً كاملاً بسوايَ , شوقاً هادراً من كُلِّ ما صوبٍ

على رمليَّتي، قدري، على ما ظلَّ من قُرويَّةِ الألحانِ في شفتيَّ

يملأني بشعرٍ صامتٍ كالدمعِ ....شعرٍ صامتٍ في الليلِ

مثلَ الحزنِ في نَظرِ الخيولْ

ما عُدتُ أفهمُ أيَّ شيءٍ غيرَ ما يأتي طواعيةً بهِ

من عالمِ المستقبلِ الماضي إلى أسمائنا الأولى

بغيرِ مجرَّةٍ ألقُ الصهيلْ

سيظلُّ من قلبي هواءٌ في معارجِهِ


ونارُ دمائهِ أبديَّةٌ تعلو إلى الأيامِ والأيدي

كما يعلو الصليلُ إلى وصايا برقِ ما أعنيهِ .....

سوفَ يظلُّ من روحي رمادٌ في بحيراتٍ تشفُّ

وراءَ ما تنفي النصاعةُ من تأملِّنا وعزلتنا الفقيرةِ

فقرَ كُلِّ حراشفِ الأسماكِ في الدنيا ...

كما قلبُ الشهيدِ يشفُّ

أو أيقونةُ القدِّيسِ , ضوءُ دمِ الأناشيدِ

التي نبتتْ على جسدي كأزهارِ الجليلْ

سيظلُّ منِّي غيرَ ما تعنيهِ أجنحةٌ وأحلامٌ مُعلَّقةٌ

على قلبي , تؤثثنُي بأصواتِ الأماكنِ والفصولْ

عشقٌ يؤرِّخُ للجبالِ وللسهولِ الخضرِ , طعمُ صبا تحوَّلَ

محضُ حُبٍّ لا يحولْ

صبحٌ توَّضأَ للصلاةِ وللحياةِ على روابي الروحِ

عنقودٌ على شفتينِ , أشجارٌ تُفكرُّ ملءَ أشرعةِ الفراشةِ

سحرُ ليلٍ لا يُقالُ جمالهُ

وغموضهُ شوقٌ يقولْ

كُلُّ القصائدِ زنبقٌ عارٍ سوى منِّي , سوى من طينِ أشيائي

ومن كَذبي ومن ناري

إلى أعلاكِ أرفعهُ لأفهمَ مرةً نفسي

بغيرِ لجوءِ ذاكرتي وأعضائي إلى القاموسِ ....

أفهمَ هجسَ روحكِ , نبضَها الحسيَّ في جسدِ الحقيقةِ

مرةً أخرى وألفَ غوايةٍ صُغرى

وأغرقُ ...

ثمَّ أغرقُ ...

ثمَّ أغرقُ في الذهولْ . 

أيَّار 2008

 

 

أُفكِّرُ بأشياءَ كثيرةٍ
(1)
أُفكِّرُ أحياناً بأشياءَ كثيرةٍ

بفلسفةِ علمِ الأحاسيسِ

بالصرختينِ اللتينِ تطلقهما عيناكِ من حنجرتي طائرٍ حبيسٍ

بملايينِ النجومِ والمجرَّاتِ... وبمصيرِ الكونْ

أحلمُ مطعوناً بشظايا الأمَلْ

فيقولُ لي صديقي الذي لا صديقَ لهُ

أنَّ ما أفعلهُ أشبهُ بجنونِ نيتشة...

 

(2)
يحدِّثني صديقي الذي اشتعلَ الثلجُ في رأسهِ

كما اشتعلَ في قلبي

في غمرةِ اليقظةِ والحلمِ

والفضيلةِ والخطيئةْ

عن همِّهِ الشخصيِّ الساذجِ كهمومِ دون كيشوت

عن أزمةِ العالمِ الاقتصاديةِ الخانقةِ

والملتفةِ حولَ عنقي أنا وحدي كأفعى شرسةْ

يحدِّثني بفتورٍ قاتلٍ عن المستقبلِ الغامضِ لطيورِ السنونو

وللشعرِ العربيِّ والعالميِّ

قالَ أنَّ الشاعرَ عصفورٌ أزرقُ اللونِ والصوتِ

ستسحقهُ كلُّ جسورِ العالمِ المتحضِّر

فهيَ لا شكَّ سوفَ تسقطُ عليهِ وحدَهُ

وهو في الطريقِ إلى مكتبِ العَمَلْ

في مدينةٍ ساحليَّةٍ حزينةٍ برتقاليَّةِ اللونِ...

فيزدادُ عجبي

فما شأنُ الشعرِ بالبطالة؟؟!

 

(3)
أُفكِّرُ بأشياءَ كثيرةٍ

وأحلمُ بتحرُّرِ القصائدِ العربيَّةِ المظلومةِ

من قيودِ الوزنِ والعبثيَّةِ التي لا طائلَ وراءها

فهيَ في نظري المتواضعِ على الأقلِّ أقفاصٌ ذهبيَّةٌ

تسجنُ الطيورَ المُلوَّنةَ وراءَ قضبانِ الصيفِ في برجِ الروحْ

 

(4)
أفكِّرُ بأشياءَ كثيرةٍ

وبكلامِ الستينيِّ الذي لا صديقَ لهُ سوى الوهمِ

وبسخريتهِ من مواجهتي الحياةَ بنشيدِ الإنشادِ

وسيفِ الرومانسيَّةِ الحريريِّ

 

(5)
يُثرثرُ عن فشلِ تجربتهِ الشعريَّةِ

التي كثيراً ما تبجَّحَ بها أمامَ أرباعِ المثقَّفينَ والشعراء

عن نجاحِ أحفادهِ في الصناعةِ الحديثةِ

أشياءَ لا أفهمُ عنها شيئاً ولا أريدُ أن أفهمَ

ولكنني أراهُ في مرآةِ قلبي

حينَ يكشفُ لي عن بكائهِ الخفيِّ

وعن دموعهِ غيرِ المرئيَّةِ وراءَ الغمامْ

 

(6)
في الظهيرةِ المُشتعلةِ كأُوارِ الجسدِ

كشبقِ العينينِ الجائعتينِ إلى النورِ

الظهيرةِ الملساءِ كفروِ قطةٍ تركيةٍ

كنتُ أغبطُ شاعراً جميلاً انفجرَ شريانُ قلبهِ

من فرطِ شلاَّلِ حبِّهِ

وماتَ قبلَ أُمِّهِ

 

(7)
كنتُ أغبطُ شاعراً لم يتحمَّلَ دموعَ أمِّهِ

فلاذَ  بموتهِ في ظهيرةٍ غامضةٍ

 

(8)
آهِ يا يهوذا خُنتني مرَّتينْ

وها أنا أتفتَّتُ كالملحِ

وأنفرطُ كسنبلةِ القمحِ

على مدخلِ سدومْ

ها أنذا أموتُ موتاً بطيئاً على عمودِ النورْ

 

(9)
لا أريدُ أن أشمَّ كلاماً هلاميَّاً بلا لونٍ ولا طعمٍ ولا رائحةْ

عن وصولِ الغربِ إلى المرِّيخِ ونومِ الشرقِ في زوايا الكهفِ المظلمِ

لا أريدُ أن أغمزَ وألمزَ بمعلَّقةِ طرفةَ ابنِ العبدِ ووصفِ الناقةِ

وبأشعارِ امرئ القيسِ ووصفِ المعشوقةِ

وبكبرياءِ المتنبِّي وزهوِ شعرهِ

أريدُ فقط أن ألعنَ الثرثرةَ

وأبعثَ قبلةً ساخنةً إلى جون كيتس

 

(10)
لا أريدُ أن أهذي كالمحمومِ في ليلةِ الكوكائينِ

التي أغرقتْ رمبو والوحشَ الذي أفلتَ من مختبرِ العالمِ

 

(11)
تحفُّ جسدي القصائدُ الرجيمةُ الملعونةُ

وقلبي يتدَّلى من شرفةِ الكونِ الفضِّيةِ

كشالٍ مطرَّزٍ بالقُبَلْ

 

(12)
سأثبتُ لكَ يوماً أيُّها الآخرْ

أنَّ حياتَكَ لا حياتي

مطروحةٌ بجانبِ الطريقِ كالمعاني المُستهلكةِ

كقشرةِ موز

 

(13)
أُدرِّبُ القلبَ على الطيرانِ العصيِّ على الريحِ

والمقصلةِ الصدئةْ

أُدرِّبُ الروحَ على الهبوطِ والمشيَ في شوارعِ القدسِ

وأزقَّةِ أثينا الجميلة

أدرِّبُ الروحَ على السباحةِ في فضائكِ

 

(14)
وحدي أُكلِّمُ الصمتَ وظلَّ الشجرةِ العجوزْ

وحدي أقاتلُ مع سبارتاكوس

وأُصلبُ فوقَ شعلةِ المجدِ الوحيدةِ

في الطريقِ إلى روما

 

(15)
ما شأني بمخمورينَ على أرصفةِ المدنِ الكبرى

ما شأني بأحلامِ راعي الغنمِ المسكينِ المكسورةِ فوقَ رأسهِ

ما شأني بالعالمِ الغبيِّ الذي يسيرُ بسرعةِ الضوءِ إلى الكارثةِ

ما شأني بسقوطِ جمهوريَّةِ الشعرِ

وما شأني أخيراً بقلبِ الحبيبةِ الثلجيِّ

 

(16)
تجربتي مغموسةٌ بدمِ الطفولةِ الأبيضِ وبدموعِ أوفيليا

ومنقوعٌ حبِّيَ العربيُّ بهواءِ سمرقندَ الطازجِ كالرصاصِ الحيِّ..

كجمرةِ الكتابةِ.. كالعذابِ.. كالماءِ.. كالأنثى

 

(17)
لماذا تتداخلُ قصائدي الصوفيَّةُ

بموسيقى الصباحْ؟

 

(18)
لماذا تتشابكُ فكرتي برقصةِ مارلين مونرو

وبأغاني البيتلز

فما شأنُ مقامِ الحجازِ بأنظمةِ الحكمِ في أمريكا اللاتينية

 

(19)
أُحاولُ أن أتنفَّسَ محارَكِ المعجونَ في قدميَّ

ولكنني آهِ لا أستطيعْ

 

(20)
أُحاولُ أن أمشي على عينيَّ أو على أضلاعي

أُحاولُ أن أشدَّ قلبي شراعاً لصاريةٍ في بحرِ المساءْ

أُحاولُ أن أتحوَّلَ إلى صفةٍ وراثيَّةٍ للحمامِ الزاجلِ

 

(21)
أُحاولُ كلَّ ما هو مستحيلٌ

أُحاولُ إرضاءَ الحديقةِ العامَّةِ

ومعانقةَ الوردتينْ

بالشفاهِ وباليدينْ

أُحاولُ أن أهمسَ في آخر الليلِ

" آهٍ كم أتعبني اللورد بايرون "

 

(22)
أُحاولُ حلمَ الربيعِ العصيِّ..

أُحاولُ البسمةَ المعلَّبةَ

أُحاولُ إضاءةَ مساحاتِ عينيكِ

أُحاولُ ما لا أستطيعْ

أحاولُ كتابةَ قصيدةٍ عصماءَ في مديحِ التبغِ

 

(23)
أُفكِّرُ بالقلبِ فيكِ

وأستلُّ أحجارَ طفولتي من وادٍ أخضرَ الصبحِ

وأرشقُ الشمسَ القاسيةَ بها

أُفكِّرُ بالقلبِ فيكِ وأحملُ ما تبَّقى من قُبلاتي وأرحلُ

كالمغولِ إلى الأسطورةِ

في باطنِ هذا الشرقِ

أو باطنِ هذا الحُبِّ...

 

(24)
سئمتُ من مطاردةِ الحريَّةِ سأمي من وجهِ ممثِّلٍ عربيٍّ

قضيتُ عمري كلَّهُ في متابعةِ أفلامهِ الفارغةِ

ومغامراتهِ الرومانسيةِ التافهةْ

 

(25)
الضوءُ الأخيرُ يتساقطُ كنقاطِ الماءِ من أقواسِ قزحٍ

ومن أجنحةِ طيورِ المُحيطِ

وأنا من تعبي وحزني أسقطُ تحتَ الضوءِ الأخيرِ

كشمشومَ عندما انهارتْ عليهِ

أعمدةُ الحكمةِ السبعةْ

آب 2009

 

 

كعبُ آخيل
لو أنَّ سهماً طائشاً للحُبِّ
أخطأَ مرتقى كَعبي
لكنتُ فرحتُ أكثرَ بالحياةِ
لو أنَّ بسمتَكِ المضيئةَ لم تُنِرْ قلبي
كما القمَرِ الغريبِ
لما مشيتُ كأنني أعمى إلى موتي البطيءِ
لو أنَّ طيرَ جمالكِ المقهورَ
أفلتَ من رؤايَ
وقالَ لي كلاَّ...
لو أنَّكِ كنتِ في ذاكَ الصباحِ
رفضتِ حبِّي دونما معنى...
لكنتُ شُفيتُ من مرَضي
ومن تبغي الرخيصِ
وحكمتي السوداءِ...
 
ممهوراً بماءِ الحزنِ
من ولهٍ أُطوِّحُ بالوصايا أو أناشيدِ البطولةِ
في الطريقِ لعارِ قسطنطينةِ البيضاءِ..
 
حينَ أراكِ من خلفَ الندى
أبكي كعصفورٍ شماليٍّ
وأجهشُ مثلَ ينبوعٍ خرافيٍّ
يشقُّ الحلمَ في عزِّ الظهيرةِ
وارتعاشاتِ الأصابعِ في الضحى...
 
لو أنَّ سهماً طائشاً للحبِّ ضلَّ طريقهُ
المحمولَ فوقَ الريحِ والفصحى... وأجَّلني
لكنتُ فرحتُ أكثرَ وانتصرتُ على رمادِ اليأسِ
نصراً كاذباً في الوهمِ مثلَ فقاعةِ الصابونِ
في ثبجِ الفضاءِ تضيءُ كالدمعِ المكابرِ
هالةَ الكلماتِ في قلبي وحولَ رؤايَ...
 
يقتسمُ الرذاذُ خطايَ
حينَ تمشِّطينَ الفجرَ بالألحانِ والأمواجِ
أو تستنبتينَ خميلةَ الرغباتِ
من قدميَّ في السهلِ الفسيحِ...
 
لو أنَّ سهماً طائشاً للحبِّ أنذرَني وحرَّرني
من الأسماءِ والأشياءِ
كنتُ حملتُ كالذئبِ المراهقِ طائعاً ندَمي
وروحي في السرابِ.. وخبرتي
_ تلكَ التي من أجلها أشقى _
وجمرةَ فكرتي
أو أغنياتي.. أو رمادَ الحبِّ
تنعفهُ البحيرةُ في شراييني..
وتجمعهُ أصابعُ شهرزادَ...
 
لو أنني لم أنتبهْ من يقظتي
في مثلِ ذاكَ الفجرِ
أو كفكفتُ في دعةٍ رذاذَ التبرِ
كنتُ نجوتُ من جسَدٍ نبيذيِّ الكلامِ
يُزوِّجُ الأشجارَ للماضي
ويُولمُ رغوةَ الازهارِ لي
في أوجِ هذا الحزنِ
أو ضحكِ الفراشاتِ الطفيفِ
 
كأنَّ في قلبي رمالاً مُرَّةً خضراءَ
تصعدُ من جروحكِ أنتِ
إذْ تفترُّ فاكهةً معلَّقةً على قوسِ الغمامِ...
كأنَّ في شفتيَّ جمراً تائباً
وخميرةً عمياءَ تبحثُ عنكِ
في ولهِ المحبِّ
وفي خطى المستضعفينَ
وفي السرابِ القُرمزيِّ.. وفي الغيابِ
وفي إشاراتِ القرنفلِ واليبابِ
وفي الفراغِ وظلِّهِ الممدودِ بينَ حمامتينِ
ولعنتينِ تضمِّخانِ الليلَ بالعنَّابِ...
 
لونُكِ طافحٌ وأنا فقيرٌ مُعدمٌ
لا شيءَ لي لا ضوءَ
لا ظلٌّ ولا فُلٌّ هناكَ يُطوِّقانِ دمي
وينكسرانِ في لغتي
كعصفورينِ من عصرِ الضبابِ...
 
لو أنَّ سهماً شعَّ من أقصى نعاسكِ
أو يديكِ
لكنتُ أنهيتُ التأمَّلَ في الوجودِ
أو اتكأتُ على حرابي
في المدى الخاوي
كأني آخرٌ لأناكِ
أو حقلٌ من الدُفلى
وماؤكِ طائعاً يجري على جسدي
يزيدُ ليَ اشتعالي.
 حزيران 2010

 

مجموعة قصائد

بماذا أُواجهُ نفسي؟
بماذا أُواجهُ هذا الحنينَ

الذي يتوالدُ في الصدرِ مثلَ النجومِ الصغيرةِ

أو يختفي ما وراءَ جبالِ الأنينْ؟

بماذا أُواجهُ نفسي التي اندثرَتْ

في ابتساماتِ نيسانَ

مثلَ الفقاعاتِ..

واحتشدَتْ بالينابيعِ أو بالمزاميرِ

أو برياحِ السنينْ؟

أسُلُّ الصدى من دمي صارخاً

وأبُلُّ الضلوعَ التي يبسَتْ في براري الفراغِ

وأخلعُ عن كاهلِ القلبِ نهراً بنرجستينِ

وحلماً سفيهَ الرؤى والظنون.

********

 

رغوةُ الأحلام
ماذا ستفعلُ بالقليلِ من القصائدِ

والرمادِ العنبريِّ

وغابةِ الشرفاتِ

والرغباتِ

بعدَ شتاءِ نومكَ في الأعالي

أيُّها المنسيُّ...؟

 

قلبُكَ موغلٌ في الصخرِ والماضي

وفي ماءِ الحريرِ وفي الغيابْ

ماذا ستفعلُ بالربيعِ الحرِّ

بالحبرِ المدمَّى في فضاءِ عروقكَ الخضراءِ

بالصمتِ الجميلِ

بما تناسلَ منكَ أو من رغوةِ الأحلامِ

في يومِ الحساب؟

***********

 

تحملينْ
تحملينْ

وجهَ عصفورةٍ دوَّختها العواصفُ

في وطنٍ غامضٍ كالأنوثةِ

أو كالسماءِ....

ووجهَ ملاكْ

فكيفَ تصبِّينَ ماءَ الهلاكْ

على نظراتِ التأمِّلِ أو مفرداتِ البكاء؟

تحملينْ

ما سيكفي بلاداً من المخملِ الرطبِ

يكفي شعوباً من الشعراءْ

تحملينْ

في خفايا دمائكِ

أكثرَ من ألفِ قنبلةٍ للحنينْ.

**********

 

 

الرجوعُ حافياً
أمسِ كنتُ أبحثُ عن أفكارٍ جديدةٍ

لقصيدتي التي تخفقُ الآنَ فوقَ نصاعةِ الأوراقِ

كالوليدِ الغضِّ...

بحثتُ في قريتي البريئةِ

وفتَّشتُ الأرصفةَ والحدائقَ العامةَ

وناطحاتِ السحابِ في المدنِ الحديثةِ

فلم أجدْ إلاَّ أعقابَ سجائرِ الآخرينَ

وتفاهةَ أحلامهم المرميَّةِ

في الزمنِ القبيحِ كجبالٍ من القمامةْ

وفي النهايةِ لم أرجع حتى بخفَّيْ حُنينْ

أو حتى بخُفيَّ أنا.

***********

 

كُلُّ هذا الفراغ
هل لكفَّيكِ زهوُ الخيولِ

وقسوةُ ما في الذئابِ؟

لعينيكِ أحزانُ آبٍ

وكُلُّ رمادِ البريقِ المعطَّرِ..؟

هل لخطاكِ نعاسُ الطيورِ المشجَّرُ

في غابةٍ من مياهٍ ومن قزَحٍ

غارقٍ في المساءِ المُقعَّرِ..؟

هل لفمي كُلُّ هذا الفراغِ الذي يتطايرُ

مثلَ الفراشاتِ من فجوةٍ في كلامي..؟

************

 

يذبحني فمُها كالهلال
كيفَ تُفلتُ أطرافُهُ من هسيسِ النمالْ؟

ودغدغةِ الموجِ أقدامَ حوريَّةٍ في بحارِ الخيالْ؟

شاعرٌ قابعٌ في مهبِّ المحالْ

كيفَ تُفلتُ أحزانُهُ من يدينِ شتائيَّتينِ

كآخرِ ما في دمائي من الشعرِ...

أوَّلِ ما في يدي من سؤالْ؟

 

قمحُها صارَ ينمو على جسدي كالطحالبِ...

يذبحني فمها كالهلالْ.

***********

 

جسدٌ / نهرٌ
جسدٌ من الفوضى الأليفةِ...

قُدَّ من أعلى فصاحتها..

كما يتنفَّسُ الحبقُ المُجفَّفُ

في عروقِ الأرضِ

يشهقُ في أقاصي القاعِ

يبدؤني بأوَّلِ قُبلةٍ حجريَّةٍ بيضاءَ...

يختمنى بلعنتهِ ويختمُ

ما على قلبي من الأسرارِ...

 

نهرٌ مفعمٌ بحريركِ المنسابِ كالأفعى

على مائيَّةِ التفَّاحِ

مُكتملٌ كجيدِ الظبيِ فيكِ

وعنفوانِ الخيلِ

مُكتهلٌ كوجهِ الشمسِ

أو كحقيقةِ الأبنوسِ

مُنفصلٌ عن الأشياءِ والأسماءِ

ليسَ سواهُ في الدنيا

يُعيدُ ليَ اتِّزاني.

**********

 

أحدِّقُ في قلقٍ
أُحدِّقُ في قلقٍ ناصعٍ أوَّلَ الليلِ

يهربُ منِّي الكلامُ الخفيضُ كسربِ السنونو

أدورُ على عدمي

أتمزَّقُ مثلَ النجومِ الطريَّةِ

ينتفضُ البرقُ فيَّ...

هنا قلقٌ لا يؤدِّي إلى أيِّ أيقونةٍ

أو هواءٍ أخيرٍ

وحيداً أُفكِّرُ في آخرِ الليلِ

إنَّ الحياةَ هلاميَّةٌ في اعتقادي البسيطِ

وأكبرُ من أنْ تُفسَّرَ بالقولِ

لسعتُها أسفلَ القلبِ...

أو روحُها في الربيعْ.

 

 

هيَ شهقةٌ أخرى
أنا سرُّ هذا الليلِ
نزوةُ قلبهِ الغجريِّ
مهجةُ نايهِ المرميِّ مثلَ السيفِ في الأضلاعِ
زرقةُ نارهِ الملساءِ
زهوةُ صوتِهِ المحمولِ فوقَ شقائقِ النعمانِ
مثلَ وصيَّةِ الغرقى الحواريِّينَ .....

وحدي ما من امرأةٍ تعاقرُ لعنتي الفصحى
بصاريتينِ من عاجٍ وبلَّورٍ إضافيٍّ
وسنبلتينِ ذابلتينِ من شمعٍ صبيبِ الدمعِ
في تمثالها الصخريِّ والمائيِّ.....

وحدي ما من امرأةٍ تحاورني بطعنتها
وراءَ مجاهلِ الياقوتِ والأبنوسِ واللغةِ الحميمةِ
والندى والزعفرانِ... وكُلِّ ما في الأرضِ من نوستالجيا
إلاَّ وضمَّتْ حزنَ أنكيدو إلى غدِها وغابَتْ في الضبابْ

مُبتلَّتانِ كزهرةٍ عينايَ بالشمسِ الغريبةِ
مثلما يبتلُّ قلبُ الليلِ بالأشعارِ أو بالنارِ
أو تخضلُّ بالأقمارِ عاطفةُ الترابْ
وأنا كهمسةِ نجمةٍ تعبى تصفِّقُ باليدينِ على حنانِ العشبِ
تشعلُ قُبلةً حرَّى على ماءِ السحابْ

هيَ شهقةٌ أخرى على أعتابِ سيفِ الوجدِ
قبلَ تصحُّرِ الكلماتِ.. قبلَ ضياعِ معناها
وسرِّ اللحنِ في الأسماءِ والألوانِ في اللغةِ النبيَّةِ
واكتمالِ فراغِ أحلامي
ونقصِ زهورِ أيَّامي
وحُبٌّ آخرٌ هيَ....
لا يفسِّرني بغيرِ بهاءِ نرجستينِ ذابلتينِ تائهتينِ
في عينينِ من قُزَحِ السَرابْ

هيَ ما يقولُ الشعرُ حينَ يقولُ لي... ودمي الخجولْ
وأنا على نارِ الصليبِ أعانقُ المَلَكَ الوحيدَ
وشاعري الممهورَ باللعناتِ والوردِ الرجيمِ... وبالجحيمِ
وبالسؤالِ المُرِّ... أو بحقيقةِ الإنسانِ
مسكوناً بأضواءٍ وموسيقى مُدوَّنةٍ
أُفتِّشُ في دمِ الأزهارِ والرؤيا.. وأغرقُ في غواياتِ الغيابْ

هيَ للتأمُّلِ في الحياةِ وسرِّ جدواها بلا عدمِّيةِ الأشياءِ
بحثٌ موغلٌ في صخرنا الممشوقِ عنكِ
وعن خطى قدري المُشتَّتِ والمُفتَّتِ مثلَ سحرِ المُستحيلْ

هيَ رعشةُ النغَمِ العراقيِّ
انتباهُ غوايتي من نومها المغسولِ بالتحنانِ.. سهلٌ أخضرٌ..
أبدٌ بلا حدٍّ... سديمٌ عاشقٌ... ورؤى مسيحٍ مُرهفٍ
وخطايَ في الماءِ الذي ينسلُّ من صوتي كعاطفةٍ...
أنا وحدي بدونكِ.. والجميعُ الآنَ يأتلفونَ في وعدي
وينكسرونَ كالماسِ العنيدِ
على يديَّ.. وفي معارجِ صَبوتي المُلغاةِ
من قلبِ الروبوتِ.. وفي وريدي
وأظَلُّ دونَ نداءِ قافيتي.. ودونَ هوائها المكسورِ
أدفعُ صخرَ أحلامي لهاويةٍ معذَّبةٍ
مُخصَّبةٍ بـجمرِ دمي وهالاتِ الجليدِ

هيَ نزوةٌ حيرى.. جناحا طفلةٍ في عالمِ الأحلامِ
قلبٌ مُشبعٌ بدموعِ فصلِ الصيفِ
رمحٌ واجفٌ في الريحِ
وقتٌ واقفٌ يبكي
وبوصلةٌ تشيرُ إلى الجهاتِ الستِّ في صدري وفي عينيَّ
أشعارٌ مسافرةٌ بغيرِ حقائبٍ
ويدٌ تُلوِّحُ فوقَ أعتابِ الضبابِ الحيِّ
تشربُ ضحكةَ الفرحِ الخفيِّ
ودمعةَ الشعرِ الحبيسةَ والشقيَّةَ
من قصائدِ سيلفيا بلاثِ...
-
الغرابةُ في صميمِ الحُبِّ ترشدني إلى معنايَ..
بردٌ في دماءِ الليلِ في عصَبِ الهواءِ وفي المساءِ ...
وكُلُّ ما في الأرضِ ينشجُ باسمكِ المُبتلِّ بالأزهارِ والمرجانِ
حتَّى الشاعرُ المغرورُ تيد هيوزَ
بالعشرِ الأصابعِ والفؤادِ وباللسانِ
وبالعيونِ يشيرُ نحوَ الذئبِ فيهِ
ولا يقولُ بأنَّ ذئبَ الحُبِّ والأشعارِ
مُتَّهمٌ بقتلكِ يا أميرة

هيَ شهقةٌ.. وأنا وراءَ الوردِ والنعناعِ والليمونِ
عطرٌ مُبحرٌ في الأرضِ تنهشهُ الأفاعي والذئابُ
على مدى الفردوسِ
نهرٌ من ظباءٍ ضائعاتٍ في مطاوي البيدِ...
أضلاعي مُكسَّرةٌ كصاريتينِ من شغفٍ ومن حُمَّى
وجسمكِ في ندى لهبي جزيرة

 

 

مفخَّخةٌ بالحجارةِ  والوَرد
                           إلى فرجينيا وولف

(1)
أراكِ تحملينَ خلفَ خرَزِ الظهرِ هلالاً من فراشاتٍ

وباقاتٍ من الأزهارِ والخبزِ.. وتذهبينَ كالعروسِ

نحوَ النهرِ والبياضِ

يا شفَّافةَ الخطى كتقبيلِ الطيورِ بعضها لبعضها

هناكَ كنتِ تلمعينَ تحتَ سرِّ الماءِ كالزمرُّدِ المهتاجِ

في ظُفرِ ذئابِ الموتِ أو في قلبِ ماءِ الليلِ..

هل أكملتِ في الصباحِ شربَ الشايِ؟

أو كتابةَ الوصيَّةَ السريَّةَ

القصيدةَ / العنقاءَ؟

هل أعددتِ كوكباً صغيراً سابحاً هناكَ في مجرَّةٍ عمياءَ

لاستقبالكِ المنظورِ والمكسورِ مثلَ شهوةِ النارنجِ والرخامِ؟

هل أحرقتِ في مدفأةِ الصقيعِ أضلاعَكِ؟

هل غزَلتِ من دفءِ شرايينكِ معطفاً يُذيبُ الثلجَ

وانتعَلتِ جمرَ الحبِّ في متاهةِ القطبِ ؟

وهل روَّضتِ أحلامكِ في نهايةِ المنامِ

أو غفرتِ للحياةِ

أو كتبتِ ذنبَها على المياهْ؟

 

(2)
يصرخُ الماءُ فرجينيا ما الذي تفعلين

في الصباحِ المشَبَّعِ حتى أصابعِ أقدامهِ بعبيرِ النعاسْ؟

كانَ عشبٌ حبيبٌ يُتوِّجُ حلمَكِ أو كاحليكِ

وأنتِ مفخَّخةٌ بالحجارةِ والوردِ مثلَ الهلالِ المقدَّسِ

منذورةٌ لضحى المستحيلْ

قيلَ ما قيلَ عنكِ بأنَّكِ كنتِ تمدَّينَ روحكِ

فوقَ الضبابِ الكثيفِ كحبلٍ من القلَقِ المعدنيِّ

وتحضنكِ الهاويةْ

 

(3)
يصرخُ الماءُ فرجينيا والسماءُ خلاسيَّةُ الجلدِ

والماءُ مشتعلٌ بتلابيبِ قلبكِ حتى الجنونْ

آهِ فرجينيا ما الذي تفعلين؟

صرختي في الليالي غبارٌ مضيءٌ على شجَرٍ واضحٍ

ودمي آخرَ النهرِ يُقعي كذئبٍ قتيلٍ

وأحلامُ جسمي وحولْ

تعرِّي كحوريَّةٍ من ذنوبِ الكتابةِ والندمِ المشتهى

ودعي الماءَ يجري إلى المنتهى

ثُمَّ غوصي إلى قاعِ عقلكِ وانتظري سمَكاً طيِّباً

في الظهيرةِ يأتي لكيْ يصطفي شمسَ عينيكِ

كالدُرَّةِ الذاويةْ

 

(4)
يصرخُ الماءُ بي في المنامِ

وفي يقظةِ الدمِ عندَ حدودِ الكلامِ

فيهرعُ قلبي بأوتارهِ كرياحِ السنونو

يُبلِّلها مطرُ القافيةْ

 

(5)
الهواءُ النظيفُ يعذِّبُ روحَكِ بالذكرياتِ

ويستنبتُ العشبُ دمعَ أصابعكِ المخمليَّةِ

فوقَ الطريقِ المؤدِّي إلى موتكِ العبثيِّ كفخِّ الطيورِ..

سماؤكِ عيناكِ

أرضُ الخطيئةِ تنبتُ مثلَ السنابلِ فوقَ خطاكِ

ويبزغُ نجمٌ وحيدٌ لبسمتكِ الصافيةْ

على صفحةِ الماءِ

أيتها المرأةُ / اللغزُ

أيتها القبلةُ الحافيةْ

 

(6)
تتنفَّسينَ هواءَكِ المنقوعَ مثلَ سفرجلِ الإسفنجِ

بالأوهامِ والرؤيا

فتأخذكِ الإشارةُ نحوَ حبٍّ ما.. وتخذلكِ العبارةُ

في الكتابةِ عن شتاءٍ مرَّ مثلَ البرقِ في عينيكِ

ثُمَّ طفا على أطرافِ روحكِ

مثلَ جسمكِ في البحيرةِ...

 

أينَ تأخذكِ الكتابةُ من دخانِ اليأسِ

وهيَ حقيقةٌ بيضاءُ نورانيَّةُ المعنى؟

وأينَ وراءَ هذا الليلِ يحملكِ الضبابُ

أو الجنونُ أو الحنينُ إلى سماءِ اللهِ؟

كيفَ تضمِّدينَ بقبلةٍ عمياءَ روحَكِ في الصباحِ؟

 

بنجمةٍ مشقوقةٍ كالأقحوانةِ فوقَ خصركِ

تَنهضينَ من الرمادِ وتُكملينَ روايةَ الأمواجِ...

 

ما أبهاكِ نائمةً

كأنَّكِ في المياهِ فراشةٌ بيضاءُ يصرعُها النعاسُ..

 

تأمَّلي فرجينيا ما حلَّ بالقَمرِ المريضِ

وبالرخامِ القُرمزيِّ حيالَ صمتكِ

كيفَ في الريفِ البعيدِ تفتَّحتْ أزهارُ موتكِ..

يصرخُ الماءُ الوحيدُ الآنَ

لا تُلقي بنفسكِ في سراجِ حقيقةٍ بيضاءَ

لا تُلقي بنفسكِ في السرابْ

 

(7)
تمشينَ هادئةً على جمرِ الصقيعِ

تمسِّدينَ هناكَ أطفالاً هلاميِّينَ.. هادئةً

وتحتشدينَ بالنورِ الخفيفِ

وتهبطينَ إلى فضاءٍ غائمٍ بالزرقةِ الخضراءِ

تنحلِّينَ في النهرِ العظيمِ كذَّرةٍ من فضَّةٍ

وتواصلينَ الحلمَ هادئةً...

وهادئةً كحبَّةِ حنطةٍ بخميرةِ الأشواقِ تندلعينَ

 

آهِ كأنَّ روحَكِ لم تزَلْ فينا..

كأنَّكِ لم تذوبي في خضَّمِ اللهِ..

ضلعُكِ مهدُ آلامِ النساءِ

المثقلاتِ بحبرهنَّ وعطرهنَّ وصخرهنَّ إلى القيامةْ

 

(8)
تمشينَ هادئةً وحالمةً بحبٍّ ما

فتخذلكِ العبارةُ في الكتابةِ عن شتاءٍ مرَّ

مثلَ البرقِ في عينيكِ

ثُمَّ طفا على أطرافِ روحكِ

مثلَ جسمكِ في البحيرةِ...

ها هنا تتوزَّعينَ إلى نساءٍ أخرياتٍ واثقاتٍ

بالجمالِ وبالحياةِ وبالصدودِ

تأمَّلي فرجينيا ما حَلَّ بالقَمرِ المريضِ

وكيفَ في الموتِ البليغِ تفتَّحتْ أزهارُ صمتكِ

كيفَ تنسلِّينَ من طُهرِ الرمادِ الآنَ

ساحرةً كعنقاءٍ وعابقةً برائحةِ الطيورِ أو البحارِ..؟

 

الآنَ تكتملُ الأنوثةُ فيكِ

حتى لا نرى امرأةً تعذِّبها المحبَّةُ في ثيابكِ...

بلْ حمامةْ.

كانون ثاني 2011

 

 

رمادُ الكوابيس
دمي مُصابٌ بدوارِ الحمام

عينايَ بحيرتانِ داميتان

يداي تتقصَّفانِ كغصنينِ يابسينِ من الصفصاف

عاجزتانِ حتَّى عن رفعِ صليبي وحملهِ عدَّةَ أمتار

وفمي مصابٌ بالخرَس

فزبانيةُ مؤسسةِ الرعبِ الوطنيِّ تطاردني بالمسدَّساتِ المسلولة

كأنني العربيُّ الوحيدُ الذي يعيشُ في هذهِ البلادِ التي قدَّسها الربُّ والحاخام

وبالرغمِ من أنني أتحدَّثُ لغةَ شعبِ اللهِ المختارِ لا أقولُ بطلاقةٍ

ولكن بمستوى لا بأسَ بهِ

أجدُ نفسي مصاباً بالخرَسِ وبالصمَمِ

عندما أجادلُ موظفةً بسيطةً تعملُ في هذهِ المؤسسَّةِ

وفي صباحِ أحدِ الأيامِ الرماديَّةِ يحتشدُ رأسي بالعواصفِ والأمطارِ والدموع

فأنا منذُ خلقني اللهُ لا أفلحُ في العثورِ على أملٍ ملائمٍ لحالتي النفسيَّةِ أو الجسديَّةِ

لا أنجحُ إلاَّ في العثورِ على خازوقٍ عظيمٍ يرفعني على بابِ الجحيمِ الأرضيِّ

منذُ تيتَّمتُ وأنا أعيشُ على هامشِ موائدِ اللئام

بشعورِ المطاردِ أو مجرمِ الحربِ أو اللصِّ أوالمارقِ أو الصعلوكِ

أذكرُ مرَّةً قبلَ عامٍ ربمَّا أو أكثر

كيفَ انقضُّوا على بيتي كأنهم خفافيشُ نهارٍ مسعورةٍ

في ذلكَ اليومِ أرعبوا حتى الجمادَ والنباتاتِ المنـزليَّةَ

وعندما اتصَّلوا بي أُصبتُ بالبكَمِ وتحوَّلَ الدمُ في عروقي إلى شرابٍ أحمر

يلمعُ كليزرٍ في ليلٍ بهيم

بينما وحشٌ يكادُ يموتُ من العطشِ يرقبهُ من علٍ كالبومةِ

التي تستعدُّ للانقضاضِ على فريستها الساذجة

 

في الحقيقةِ اليانعةِ كعينيِّ إبليس

أنني لا أُفرِّقُ بينَ أيِّ انسانٍ وآخرَ

على أساسِ مذهبٍ أو عرقٍ أو قوميَّةٍ أو دينٍ أو لغةٍ أو لونٍ أو شكلٍ

ولكنَّ البشرَ الملعونينَ السفهاءَ يدفعونني إلى  التفريقِ بينَ الأخِ وأخيهِ

والزهرةِ وأختها والزوجِ وزوجهِ

وسبِّ آباءِ الجنودِ المرتزقةِ الذينَ اندفعوا كالكلابِ المسعورةِ

للدفاعِ عن قرَفِ البيروقراطيَّةِ على حسابِ إراقةِ دمي

على رصيفِ المدنِ القاسية

ورفعي على صليبِ الفقرِ

في الحقيقةِ الطالعةِ من دمِ الشاعرِ المسكينِ كألفِ شمسٍ ربيعيَّةٍ زرقاءِ

أنني لا أسعى إلى زعزعةِ الاستقرارِ السياسي أو الاقتصادي في هذهِ الكرةِ المأفونة

ولا أدعمُ المنظَّماتِ السريَّةَ أو الثوريَّةَ بأيِّ شكلٍ من الأشكالِ

فلماذا أعيشُ كما كانَ يعيشُ محمَّدُ الماغوطُ في أواخرِ حياتهِ

على فتاتِ الكوابيسِ والأحزانِ والعزلةِ والأحلامِ واليأسِ والجنون

 

أحلمُ فقط بكتابةِ قصيدةٍ واحدةٍ ليست جميلةً ولا عصماءَ

بقدرِ ما تعبِّرُ بصدقٍ مرهفٍ عن حالتي

وأنا مستلقٍ على كنبةٍ من أوجاعِ الحياةِ

أستمعُ إلى أغنيَّةٍ تركيَّةٍ عذبةٍ لا أفهمُ شيئاً من كلماتها

أحلمُ فقط بحياةٍ تشبهُ حياةَ تشي جيفارا

أحلمُ كما كانَ يحلمُ عشَّاقُ القرونِ الوسطى

بعاطفةٍ محترقةٍ وسذاجةٍ بالغةٍ

كما يحلمُ إبليسُ بالجنَّةِ

وأتخيَّلُ ذراعينِ من النعناعِ تعانقانِ وحدتي

وبحيرتينِ من الزمرُّدِ كعَينيِّ امرأةٍ في لوحةٍ من لوحاتِ رفائيل

تستقبلانِ جسدي التائهَ والمصابَ بألفِ نابٍ وسهمٍ وقوسٍ

وشظيَّةٍ من شظايا الحبِّ

 

كأنَّ كوابيسَ السامريِّ كلَّها تعشِّشُ في دمي

وتحشو قلبي برمادها غيرِ المرئيِّ.

 

 

كأنَّ سماءهُ من فضَّةٍ
كأنَّ سماءهُ من فضَّةٍ، إلى الراحلِ قبلَ أوانهِ.. وليد منير

(1)
لا غيمَ في يدهِ ولا رؤيا تُعذِّبهُ
ليطلقَ طائراً من قلبهِ نحوَ السماءِ
وراءَهُ تعوي الذئابُ وتستبيحُ صدى خطاهُ
ورفَّةَ الحلمِ البريءِ...
مسافراً أبداً ووجهتُهُ السرابُ
وظلُّ فاتنةٍ تُخاتلُ حزنهُ
المزروعَ في عينيهِ كالينبوعِ والحبَقِ السخيِّ...
مُضَرَّجاً بالياسمينةِ أو بنارِ العشقِ
في أبهى صعودٍ نحوَ هاويةٍ
مُدَلاَّةٍ على صدرِ القصيدةِ...

آهِ يا ابنَ النيلِ والبُرديِّ والنخلِ المعانقِ
في الفضاءِ وفي الدماءِ خلاصَهُ ورصاصَهُ
وأنينَ تربتهِ ومثوى روحهِ في الطينِ...
كيفَ تجُرُّ من نجمٍ إلى نجمٍ دماءَكَ
والسهامُ تقدُّ قلبكَ قبلَ كعبكَ
يا ابنَ حَتشَبْسُوتَ ؟
تيَّاهٌ مقامُكَ في السماءِ..
عصيَّةٌ ريحُ الجنوبِ..
ودُرَّةٌ تهوي إلى عينيكَ
من قمَرٍ توضَّأَ بالنحيبِ عليكَ..

ها قلبي وحيدٌ بعدَ جذوتكَ النديَّةِ
مرهقٌ كعويلِ سُنبلةٍ
دمي يبكي وتحتشدُ الزلازلُ في يديَّ
كما احتشدْتَ بسكرةِ ابنِ الفارضِ المثلى
وحكمةِ شاربِ الكأسِ المقطَّرِ من عبيرِ
سعادةٍ علويَّةٍ.. سُقراطَ

يوجعُكَ التأمُّلُ في حياتكَ
أو مماتِ الأقحوانةِ وهيَ تذوي
قابَ قُبلةِ عاشقٍ من روحكَ الظمأى
وتوجعُكَ الشموسُ على مداخلِ أغنياتكَ
في مدارِ العشقِ تبصرُ روحَ موسيقاكَ
وهيَ ترفُّ في أعلى المجازِ رفيفَ قبَّرةٍ...
وتُدركُ روحَ شيخكَ في المعرَّةِ
أو مضاجعِ ميسلونَ..

كأنَّ قلبكَ كائنٌ أعمى
يجُسُّ الآخرينَ بناظريهِ وحكمةِ الصوفيِّ
يا ابنَ الشمسِ
خفَّاشٌ يهبُّ على انتباهكَ في الضحى العُلويِّ
ينهشُ ما تبَقَّى من زهوركَ
قربَ قوسِ الماءِ
أو نافورةِ الحنَّاءِ
والدمِ... قربَ قوسِ الذُلِّ والتنكيلِ والتقتيلِ
في الزمنِ اللعينْ

(2)
أُسمِّيكَ غيتارةً ترتقُ الأرضَ بالعشبِ والحُبِّ
في ذروةِ الجدبِ
أو في ربيعِ الجنادبِ
في عالمٍ من عواءِ الكلابْ
أُسمِّيكَ فيضَ هيولى يمُدُّ على فسحةِ النورِ
ظلاًّ ظليلاً وصوتاً خضيلاً
ويفتحُ في قَمَرٍ حالمٍ في جناحِ الفراشةِ
مليونَ بابٍ وبابْ

(3)
أسألُ ذرَّاتِ المطرِ الهاطلِ
عن وجهكَ مثلَ الملهوفِ يُنادمني ندَمي
أحلمُ أني أركبُ مركبةً من موجٍ وحريرٍ ورياحٍ
تحملني نحوَ كواكبَ أبعدَ من روحي عنِّي
أحلمُ أني خارجَ جسمي الآنَ
وخارجَ دائرةِ الموسيقى
أسقطُ كالنجمِ أو الخلخالِ الفضيِّ
وحيداً من قدَمِ القمَّةْ
أتبعثرُ مثلَ الضوءِ الثلجيِّ
وتأكلُني الظُلمةْ

(4)
عقربُ الموتِ كانَ أشدَّ سواداً من الفحمِ
أو من ضمائرِ من أنكروكَ
وكانَ يعضُّ تويجاتِ قلبكَ
من دونما رحمةٍ
بينما كانَ تاريخُ مأساتكَ الملحميَّةِ
يمتدُّ من قُبلةٍ مُرَّةٍ في الصعيدِ البعيدِ
إلى فسحةٍ في أقاصي بكاءِ النخيلْ
عقربُ الموتِ يصرعُ أنثى الغمامِ وراءَ ثيابكَ
يستنهضُ الشعراءَ اليتامى
ويأخذهم من تلابيبِ أنهارهم
نحوَ هاويةِ المستحيلْ
ويقولُ الذي لا أقولُ
يقولُ الذي لا تقولْ

(5)
لا غيمَ في يدهِ
كأنَّ سماءهُ من فضَّةٍ عمياءَ..
يُوجعُهُ التأمُّلُ في الحياةِ
وفي مماتِ الأقحوانةِ وهيَ تذوي
قابَ قُبلةِ عاشقٍ من روحهِ الظمأى
على قلَقِ البحارِ ينامُ كالمسكينِ
كيفَ يشاءُ مقتولاً
لنرجسهِ مقامٌ باذخٌ في الصحوِ
طفلٌ حينَ يحلمُ في الصباحِ
وحينَ يبكي فوقَ صدرِ الليلِ
تزدحمُ الحدائقُ في يديهِ
رأيتهُ ينحلُّ في نورِ التجلِّي
كاشفاً لي سرَّهُ
ومُضرَّجاً بالياسمينةِ أو بنارِ العشقِ
في أبهى صعودٍ نحوَ هاويةٍ
مُدلاَّةٍ على صدرِ القصيدة.
تشرين ثاني 2010