هذا شاعر مغربي من مدينة الريح والأسوار، لا يكل من البحث عن ذاته وروحه بين تفاصيلها.. عن حلم قصيدة تبحث عن هويتها وعن لغة تتوسع من الظل كي تشكل مسارها الخاص.

مثلما يتمزق الظل

يوسف الأزرق

وصفات ملونة للموت وحيدا
المادة تجلس على كرسي أخضر

و الروح بلزوجتها البنفسجية

تتحلل في عروق الشمعة الصفراء 

ليست الفكرة أن تغمض عينا

و ترمي الأخرى في ظل ناشف

بل أن تُخَلص الأحمر من أوهامه القاتمة

و أن تُعري الأبيض من ملابسه المتفحمة

و أن تَهبَ الأزرق مركبا تسكنه الريح

فالألوان مجرد خطأ لشاعر

سقطت منه قصيدة

على عين فجر مهدد بالإفلاس

كلما اقتربتُ من الدولاب الرمادي

تصرخ بألم رسائل سوداء مغلقة و حذرة

لن أفتحها ولو تواطأت معها

كل الفصول  الجارحة

والهتافات الغادرة.

أتوجه لغرفة ضيقة 

تسكن فيها روائح أُحبها

بصمت مخلوعة طفولته

أتحاور و أتبادل أفكارا وجودية مع طيف حكيم

لأتمكن من اعتقال بحار شرسة

أرقص بدون توقف على موسيقى ثملة

و أتحطم مليون مرة

لأراوغ الأمكنة التي لا تغريني

مَهما

ضعُفت حبالي و تقطعت أوصالي

وتهدمت أشرعتي

سأصافح الموت بيد بيضاء

و أركل الحياة برجل مزينة بالمسامير

 

 

رؤيا
حيث النبع أدمع قصائده الأولى

جانب واحة خضراء و مضيئة

تتجول كائنات لاتشبهنا

وتتفهم  غيابنا

وينشد النور مساراته الخلابة

هناك أتتبع جرحي المشبع

بأول الكلام و أنين النجوم الساطعة

حيث العربات تطير بدون أجنحة

والغمام الشاهق

يوزع جذور البهاء على عواصف صغيرة

حيث الحلم يرضع من نهد اللغة الخلاقة.

والجنات المرصعة

بأصداف الندى المحموم

تراود النساء القابعات في ركن بارد

حيث التجليات تعاتب الكآبة

و النوافذ تحضن

ليال فائضة بالقبل

و السعادة تجري بفرح

ويدها ممسكة بالقناديل المجرورة

بضفائر البدر

هناك أصيح في  ظلي القصير :

الأفق لا يغمرني بحصصي من التعب

والقوس العالق في عنقي

يمزق طفولتي الزرقاء

فاشهق بكل الاعترافات اللاصقة

في كفك

حتى تتناسى أنك كائن

مفتون بالخطيئة

ولا حُضن  لك

سوى الأغاني الذائبة في ظهر الغبار

 

 

أسئلة موجعة
هل الذاكرة لا تتعب من دروبها الملتوية؟

هل الزمن الذي ينهش لحمي

 لن يتعب من القتل؟

هل الورود البلاستيكية السابحة

في شروقي المنطفئ تحس بغربة الرمل؟

هل الأيادي المتشابكة

حول عنقي ستُهَرب عروقي لليابسة؟

هل الموج العاري الذي يغني في لساني

سيُغرق المتاهات التي تنام في العتبة؟

هل المحارات الباكية والأحجار المصدومة

ستتمكن من قطع أوردة الحنين؟

هل ستتذكر المقبرة المرسومة

على ذراعي أن تسقي عظامي بموت جديد؟

هل المرآة المتجمدة على رصيف مشقوق

ستهاجر لأرض العزلة ليهدأ النزيف من تفكيكي؟

هل الشواهد  الباكية و الأخلاف الصاعدة

والأضواء الرمادية ستُعري الكون ؟

هل القوارب المكسورة ستُسامح النورس؟

 

 

رغبة
سفن مرهقة من السفر تلاحقها ريح رمادية

و البحر يتفرج بسخرية ويدخن شساعته بنهم شديد

بعيدا...على غيمة حجرية

أجلس متأهبا لافتراس شفة متعطشة للعناق

أراقب الطيور الجائعة تغازل نسيما شبقا

فتنتفض مساحات فجري اللافح

لأنزل بخطوات عنيفة 

على سرير تحمله النجوم 

أرتدي قميصا أرجوانيا  يمتص جلدي

بذراعي اليابسة والمتحرقة للغور 

أرسمك بضربتين من فرشاتي النحيفة

لأرتمي عليك وكلي هتافات و جسور هدير

يتدلى العراك من رحم الخيوط اللزجة

....

و بعد رجوع الطوفان متعبا من عد  ضحاياه

سوف تجمع السماء زرقتها بلهفة غير مفهومة

فيستحيل الصمت رمادا في كف الشتاء

 

 

حسرة
كانت تنتظره و تعض أظافرها من شدة الارتباك

لم يسبق لها أن تكلمت معه

إلا في أحلامها

جلست في مقهى بعيد

وهي شاردة  كرصيف

مرت ساعة بطيئة كأنها عام بكامله

وعندما همت بالمغادرة

ظهر الخريف بكامل أناقته الرهيبة

ومتدفقا كنهر متوحش

أمسك بيدها وقبلها على خدها

نظرت إليه بعينين دامعتين

وارتمت على صدره 

فرحة و مشتعلة

لم يقل شيئا

اكتفى بابتسامته التي تفتت الصخر

و قرأ لها قصيدته الأخيرة

"  رحيل"

وضعها على الطاولة و انصرف

أخذت القصيدة و دعكتها بعنف

فانساب من جوفها

مساء حزين و موجع

في تلك اللحظة أدركت الغيمة الهرمة

أن الزمن غدر بعنفوانها

و أن الفصول التي وثقت بها 

تعشق الخيانة الخاطفة

 

 

قرار
لأن الضباب لم يخبره بسر حزنه الغامض

جدد ثقته بالحجر واليابسة

و أصبح متسكعا بين دروب نتنة

ليستعيد حاسة الشم التي فقدها ذات غروب

قرر أن ينقطع عن  الكتابة والبحر و الكلام

قطع أجنحته السرية بمقص قديم

و ذاب في ساحة المدينة

بعد كل شيء 

وقبل كل شيء

فقست انتظاراته أصدافا برية

و رسائل صفراء كوجهه

الرمل المتبقي على جبينه 

سيستحيل رمادا

و قسوة خطواته ستغرز في ظله

رماحا ليطوي الليل بين أعضائه

و يختبئ من العاصفة

والناس و المحطات الأليمة

كلما اتخذ قرارا حاسما تحرقه دهاليز حمراء

و تقطع جسده الشفاف سكاكين الغواية والرفقة الحاقدة

....

لم يبقى له سوى الموت مؤقتا

حتى يرهف السمع لمراياه المتحللة

بإكسير الحب المنزوعة حواسه

هكذا فقط...سيتجلى موته الأكبر 

ويوقظ ألوانه المنتصبة  دوما

و يغدو فارغا من الحريق

وممتلئا بالجداول الدامعة

 

 

تمرد
الصباح مختنق ولا يستطيع

أن يكنس الشوارع بضوئه البهيج

سيترك المدينة مظلمة

و الطرقات موحشة والساحة كئيبة

سيتسلل بين أضلع الغابة

و ينتقي جحر أرنب بري

هكذا سيلوذ لغربته اللذيذة

ويتأمل الكون بعينين حذرتين

حتى تنطق الأغصان بأسرارها الصغيرة

و يتجول الهواء برفقة الأفاعي الضخمة

سيأخذ غفوة طويلة و مريحة

بعد ذلك سيعيد للخواء نشيده العادي

فالسكون الذهبي يشحنه قوة متجددة

للتناغم مع خفقات الوجود

 

 

انحدار
دائما يسقط في نفس الحفرة

الحفرة التي ردم فيها ضحاياه و صباحاته

بمعوله المسنون 

يتوغل أكثر

حتى يصل لنبض الأرض

هناك...يتلو صلاته الأخيرة

و ينتظر بشغف

قدوم  جحافل الموت

بلباسها الأسود و عيونها المشتعلة

لتفتت أوجاعه و تقدمه وجبة شهية 

لحفرة مقبلة

هناك سيمضغ ذاكرته المتسخة بالمستنقعات القذرة

و الفئران الكريهة والقصائد التافهة

هناك سيحفر حفرة جديدة في ذراع المقبرة  

و يستمع لشكاوي الجثث و قصائدها الجديدة

ويختبئ مؤقتا من زحف البراكين

 

 

ضياع
الخطيئة المحلقة في أرجاء المنزل المهجور

مصابة بمرض الشك 

تركت الجسدين غائبين تماما عن الوجود

و فكرت مليا بتخطيط مراوغات مناسبة

تضمن لها دائما الانتصار

اللذة بداية الغواية

اللذة لها وجهان 

كلاهما مبهم الملامح

لذلك قررت الخطيئة

أن تصب برميلا من الضياع 

على السرير

حتى يكون المقبل قاتلا

و تتحطم الجبال والجسور والبنايات الحديدية

و يستيقظ الجسد الأول قبل الثاني بألف عام

 

 

صديقي "رامبو"
حيث تتجلى قوافل النور المختمر

و على شاهدة قبرك الذي يوجد في اللامكان

أقرأ عليك أشعارا  ضبابية

ُتذكرك بالصداقة التي جمعتنا

ذات وجود آخر

وبتسكعاتنا اللذيذة في أطراف العالم 

طفولتنا البسيطة مع جارتنا العجوز

التي كانت تروي لنا حكايات الأولين

لم نكن نهتم بحماسها المفرط ولا بصوتها المخيف

و هيئتها المقرفة

كنا نزقين ننتظرها أن تنهي خرافاتها

  لتعطينا قطعا من رغيف ساخن مشبع بالربيع

نلتهمه ممزوجا بضحكاتنا الشقية

أتذكر ذات فجر أزرق

عندما توغلنا في غابات الضواحي

و تهنا 

حرستنا النجوم والأغصان الشاهقة والغيوم المنتفخة

قضينا ليلة كاملة بين أرجاء العشب الغزير

و طاردنا سناجب سريعة

لنجد أنفسنا أمام دب هائل الحجم و بني اللون

تجمدت أطرافنا و أحسسنا بالرغبة في البكاء والصراخ

لكن قدوم العاصفة الصديقة

أنقذنا والريح  همست في أذننا بقدرنا العجيب

آنذاك تفرقنا 

....................

تأجلت ولادتي

وأنت تعجل موتك

لكن بريق أعيننا ظل لاصقا

 في ضلع مركب لا يمل من السفر.

 

شاعر مغربي، مدينة الصويرة

مارس 2010