يتناول الباحث المغربي مفهوم الفعل المسرحي بمختلف وجوهه، ويوضح دلالة وظيفته المتشابكة بالفرجة والمتعة وبالبعد اللعبي الذي يقوم على جديّة توجّه المتفرج، وتثير اهتمامه بالموضوع. فيغدو فعل المسرح تجربة جمالية قادرة على أن تحقق للمتلقي امكانية البديل عن انكساراته اليومية.

المجد لخشبة المسرح

خالد البقالي القاسمي

لا يستطيع أي مثقف مهتم بالأداء المسرحي الراقي أن ينكر بأن كثيراً من الناس يتوفرون على حس مسرحي فطري وطبيعي، ينمو معهم ويكبر داخل وجدانهم ويتجسد من خلال سلوكاتهم وتصرفاتهم، ولكن الأصل هو أننا لا نملك القدرة على وصفهم بأنهم ممثلون مسرحيون بالمعنى الحقيقي الذي يشكل مجد المسرح باعتباره من أصعب الفنون التي عرفتها البشرية على الإطلاق.

يشكل المسرح حقيقة أحد المنابر الأساسية التي تساهم في خلق الفرجة والمتعة والتسلية والترفيه في حياة الناس، ولكن التسلية أو المتعة بالمعنى المسرحي ليست هي نفسها بالمعنى العام الذي يعايشه الناس في لحظات حياتهم المختلفة، إن متعة المسرح وتسلية المسرح هي من قبيل اللعب فعلاً ولكنه لعب يدخل في باب الجد كما أكد على ذلك "غدامر" عندما قال بأن للعب جديته، إن جدية المسرح هي التي تصنع تاريخه ومجده، إن عمل المسرحي هو من قبيل الصناعة البشرية الصعبة والراقية، فالمسرحي يساهم في جذب الاهتمام، كما يساهم في إثارة الخيال وتحريكه لدى الناس، عندما يستطيع المسرح الوصول إلى تحقيق هذه الأهداف المثيرة فإنه يكون بصدد صناعة الرأي العام وتكييفه، ويعد هذا من الأمور الدقيقة التي راهن عليها المسرح قديما، وكانت هذه المعطيات بمثابة شبكة تقويمية تعكس لنا مقدار الجودة التي استطاعت فرجة مسرحية تحقيقها في أوساط المهتمين، بمعنى أن للمسرح الحقيقي والفعال دوراً هاماً في تحقيق مجموعة من الآثار قد تكون إيجابية، وقد تكون سلبية، وتنسحب هذه الآثار على الجميع أفراداً وجماعات، إن المخرج المسرحي البارع هو الذي يستطيع بناء الفرجة المسرحية بصيغة تتلاقى فيها المشاعر وتختلط ضمن رؤية واحدة بين عناصر وعلاقات الفعل المسرحي ككل، حيث من أهم وظائف المسرح هي التنبيه، أي التوجيه نحو الاهتمام بموضوع يشكل أساساً لاهتمام المتفرج الذي يمتاز بحب الاستطلاع، فكثيرة هي الأفكار التي تدور في ذهن المتفرج عن موضوع المسرحية التي تعرض أمامه ويحب كثيرا الوقوف على المعالجة التي فضلها المخرج لهذا الموضوع أو ذاك، إنها عملية تساهم في مراكمة الخبرة من أجل تحريك العقول وتشغيلها باستمرار، والأصل هو أن كثيرا من المهتمين الفعليين يذهبون لمشاهدة المسرح الراقي والجاد من أجل الوقوف على الطريقة أو الصيغة التي ارتآها المخرج مناسبة ومهمة لحل المشكل العام المطروح على الجميع، الأشكال المسرحية عبارة عن أشكال للمشاركة الفعالة من الجميع في حل مشاكل الحياة العالقة، إنها عملية رفيعة المستوى، وطريقة مثلى لحل المشكلات المختلفة.

ولا يجب أن يغيب عن اهتمامنا بأن للمسرح كثير من الوسائل والتقنيات تمكنه من إحداث الإثارة القصوى أو العادية لدى المهتم، كما يمكنه إحداث الاسترخاء والهدوء لدى نفس المهتم، فقط يجب أن ننتبه إلى المميزات الخاصة التي ينفرد بها البعض من المتفرجين عن الآخرين، حيث يحب البعض كثيراً الخضوع لردود أفعال سريعة وعنيفة من الإثارة والوصول بالعقل إلى درجاته القصوى من التشغيل والاستخدام، كما يحب البعض الآخر الركون لدرجات دنيا من الهدوء والاسترخاء، ويستطيع الفعل المسرحي أن يقدم هذه الفرجة المتنوعة للجميع، حيث يمكنه أن يصنع الرعب والعنف، كما يمكنه أن يقدم الكوميديا الراقية، أو الأعمال الرومانسية المفعمة بالمشاعر والعواطف النبيلة، إنها في الأصل عبارة عن فروق فردية تميز بني البشر الذين يهتمون بالفعل المسرحي والذين يفضلون كثيرا أن يجدوا أنفسهم في قلب الفعل المسرحي حتى يتسنى لهم الإحساس فعليا بالنشوة التي تحدثها فنون الفرجة المسرحية، لأن المسرح بديل ممتاز للإنكسارات التي يعانيها الكثيرون في مجال الحياة المملة الرتيبة، حيث الانفعال والتخييل وسيلتان للانجذاب إلى الفعل المسرحي لتعويض الخسائر والإحباطات التي يمنى بها الإنسان في الحياة العادية.

أسلوب الدراما معروف كثيرا في الأعمال والمنجزات الفنية التي تقدم للجمهور المتفرج، ولكن وجودها في المسرح يتميز بأنه مباشر وفعلي ومواجه للمتفرج ومشاعره، حيث إن الدراما النفسية عبارة عن خليط بين مكونات المسرح الإغريقي القديم الذي ساد في فترة ذهبية من تاريخ الإنسانية، ومكونات من الأفكار التي عملت على ممارسة التحليل النفسي الذي يهدف إلى العلاج النفسي الجماعي للأفراد المختلفين، ولا يعتمد هذا النوع من المسرح على النص المكتوب سلفا، بل يعتمد على قوة ارتجال الممثلين بطريقة تمثيلية درامية مثيرة لكثير من المشاهد التي تعكس صور الحياة الحقيقية في مظاهرها الأكثر صراعا وألما، إن هذا النوع من المسرح الراقي يهدف إلى عملية العلاج بالفن الرفيع، بمعنى أن الصراعات النفسية تعالج بإثارتها والحديث عنها، وليس بدفنها وقمعها وحصرها، حيث يستطيع المتفرج تحصيل قناعة راسخة بين الجميع تؤكد على تقاسم الهموم والآلام بين أفراد البشرية، حيث لا أحد بمعزل عن الإثارة والاضطراب، والهدف من الحديث عنها مسرحيا هو التخفيف من وطأتها أو على الأقل تقليص وتيرة تأثيرها.

رغم تقديم الفرجة المسرحية لكثير من الصور الانفعالية العنيفة والقوية، فإنها مع ذلك توصف بأنها آمنة، بمعنى أنها غير مؤذية، ولا تساهم في زيادة الإحباط والانفعال لدى المشاهد، إن مجد المسرح يتحقق من خلال قدرة فعل الركح على علاج متفرجيه بنفس المشاهد الانفعالية الحقيقية التي أحدثت شروخاً عميقة في نفوسهم داخل إطار الحياة الواقعية العادية، ولكن بعرضها عن طريق وجهها الآمن الذي يدفع المتفرج للانخراط فيها بمجامعه لأنها تشكل بالنسبة إليه فرصة ذهبية للعلاج النفسي الآمن، ولتفريغ كثير من الأثقال النفسية التي تكبل نسيجه النفسي. إن أهم ما يميز الفعل المسرحي هو أنه فعل هادف، بحيث إن المسرح الراقي ومع اختلاف نوعية الأعمال الدرامية التي يقدمها فإنه يظل دائماً مشغولاً بهم المعنى الدقيق والخفي الذي يقدمه للمتفرج، إن هذا المعنى هو الذي يحدث الآثار الإيجابية أو السلبية التي أشرنا إليها أعلاه، لأن المسرح الذي يبدو للبعض بأنه تسلية عادية، وترفيه عابر هو في الحقيقة عبارة عن فعل هادف ومقصود، ومبني في الحقيقة بهذه الصيغة، وسوف تتم عملية تمريره بمثل هذه الأفكار الحاسمة والمؤثرة، وعلى هذا الأساس يظل الفعل المنتظر من هذا الهدف رهينا بأهمية الأثر الذي سيتركه لدى المتفرجين، إن نجاح هذه الأعمال المسرحية التي وصفت فعلا بأنها خالدة وكان بمقدورها أن تحقق المجد والسمو والرفعة للمسرح كان معلقا بداهة بالتأثير الذي أحدثته لدى المتفرجين، وكذلك بالتغيير السلوكي والانفعالي والنفسي الذي صاحب المتفرجين في حياتهم العادية بعد تلقيهم وصفات علاجية ناجعة مبنية على أعمال مسرحية رفيعة المستوى.

ورغم هذه الأفكار التي تبدو براقة نوعاً ما يجب علينا أن نحذر، حيث هناك بعض الأعمال المتسللة والتي بإمكانها أن تكون مثيرة في وصلاتها، ولكن تظل حمولتها الإيديولوجية واضحة للعقول المتفحصة الواعية، إذ تستطيع أن تلعب دور المبرر القدري الحتمي لشروط حياتية بائسة يعيشها كثير من المتفرجين الذين سوف يصبحون منتوجاً بخساً لدعاية رخيصة تسللت عبر مجال الخشبة المسرحية، ولذلك فإن الانفعالات النفسية العنيفة، والأمراض الجوانية المزمنة لن تجد من يخفف وطأتها، ويقلل من وتيرة تقلبها، وسوف يتحول المسرح في هذه الحالة إلى أداة للتدمير النفسي الرخيص، وعلى هذا الأساس فإن المسرح الراقي الرفيع هو وحده الذي يتوفر على متفرجين مولعين يعرفون جيدا كيف يقتنصون فرص تألقه ولمعانه.

يوفر المسرح لكثير من الناس بدرجة كبيرة خبرة بديلة في الحياة العامة، وهكذا يشكل تنوع الموضوعات التي يتناولها المسرح فرصة سانحة تجعل الناس يستفيدون من صيغ طرح الموضوع وتداوله واقتراح الحلول لامتداداته، كما أن هذه الموضوعات تكسب الناس خبرة جديدة لم توفرها لهم الحياة العامة الحقيقية، هنا نستنتج بأن المسرح الراقي يورط المتفرجين في مواقف حياتية افتراضية فوق خشبة المسرح عن طريق توظيف الدراما بواسطة اللعب والتخييل والإثارة، إن التعامل مع هذه الموضوعات التي يوظفها المسرح تجعل الناس أكثر تحكما في المواقف الحياتية الحقيقية التي سبق التعامل مع بديلاتها فوق خشبة المسرح، ويبدو المسرح بهذا الطرح عبارة عن إطار تجريبي استعادي واستباقي في نفس الوقت حسب الموضوعات التي يتعامل معها، وهو يستطيع بذلك أن يكون مثيراً للغاية بالنسبة للمولعين الذين يجدون في ألقه فرصاً كبيرة للانخراط في دورة حياتية خاصة محكومة بظروف إنتاج الدراما ومتغيرات الخشبة، وبهذا فإن هؤلاء المولعين يتصورون بأنهم يعيشون حياتين مختلفتين في اللحظة رغم تشابههما في الظروف والموضوعات، ولكن الأصل الحقيقي في المسرح الراقي هو أن الأداء الذي يتم إنتاجه فوق خشبته لا يتصف بالطابع الآلي، فهو ليس تشبيها أمينا انعكاسيا بالحياة العامة ومواقفها ومتغيراتها، بل هو أداء فني رفيع مثير للمشاعر والأحاسيس، فيه محاكاة، ومنشط للوجدان، ومعرض مفتوح للطاقات التعبيرية الحركية والسلوكية والانفعالية.

إن ما سبق أن عملنا على إثارته أعلاه يصل بنا إلى نتيجة أساسية مفادها أن المسرح عبارة عن إطار اجتماعي، تتزامن في سياقه كثير من العلاقات والعلامات، لأن المسرح يخلق لدينا إحساساً عاماً بأننا نعيش مناسبة اجتماعية بارزة يساهم فيها كثير من الناس، ولذلك لا يعتبر الممثلون في المسرح الراقي هم الذين يؤدون الأدوار المطلوبة فوق الخشبة لوحدهم فقط، بل يعتبر المشاهدون أو المتفرجون هم كذلك بدورهم ممثلون مساعدون للذين يلعبون فوق الركح، أو هم مساهمون معهم في تمتين عرى النسيج الاجتماعي الذي يرتبط بالمناسبة المسرحية التي هي عبارة عن علامة فارقة في رسم ملامح الحياة العامة، فالمسرح لا يختلف عن كونه واحداً من الأحداث العامة التي يسعى المولعون إلى تدوينها في حياتهم العادية التي لا يتصورون معطياتها دون وجود المسرح، إن المتعة في المسرح لا تتحقق لطرف دون آخر، فالجميع يتمتع بالإيقاع المسرحي، كل حسب دوره، والمثير للانتباه في المسرح هو أن العلاقات بين جميع الفاعلين داخل القاعات المسرحية تبدو واضحة وشفافة لأن التعبير عن المشاعر يتم مباشرة داخل القاعات ومن ثمة يتلقى جميع المساهمين الرسالة، وتتم عملية التغذية الراجعة بسرعة قياسية، سواء عن طريق التعزيز او عن طريق التعديل، وهكذا يكون المجال المسرحي هو المجال الذي يتلقى أصحابه مكافآتهم في التو واللحظة، خلافا لباقي أنواع فنون الأداء الراقية الأخرى، ومن هنا كان التعبير المسرحي واحدا من أصعب وأعقد أنواع التعبير والأداء، ولذلك نقول إن المجد قد تحقق وتجسد فوق خشبة المسرح، ولكن يتم ذلك من خلال ما دعوناه بالمسرح الراقي الذي يهتم كثيرا بجمهوره ويركز على الاهتمام بالأفكار والمشاعر الخاصة للجمهور والشخصيات، كما أنه يقدم موضوعاته عن طريق ربطها بواسطة المحاكاة المنتجة بالصدق والوضوح والشفافية.

 

ناقد وباحث من المغرب