يسعى الباحث الجزائري في هذه الدراسة إلى عرض المكونات الأساسية لمنهج البنيوية التكوينية في النقد الأدبي كما بلوره المفكر المجري الفرنسي لوسيان جولدمان، ويقدم تلخيصا وافيا لكل مفاهيم هذا المنهج النقدي الأساسية: من رؤية العالم، إلى الوعي الفعلي والوعي الممكن، إلى البنى الدلالية والضامنة وغيرها من المفاهيم التي ينهض عليها هذا المنهج النقدي المتميز.

البنيوية التكوينية في النقد الأدبي

الشريف حبيلة

تقدم هذه الدراسة منهجا نقديا غربيا ترك بصماته في تطبيقات النقد العربي، لذا نرى أهمية العودة إليه من أجل الإحاطة العلمية برؤية مؤسسه، مع أن القارئ قد يجد هكذا موضوع مشبعا درسا، غير أن ما تطمح إليه الدراسة هو قراءة شاملة مبنية على كتابات المؤسس الأول للبنيوية التكوينية، والقراءات العربية لها، والتي ركز البعض منها على  جانب دون آخر من النظرية، باستثناء دراسة (جمال شحيد) التي أرادت أن تكون شاملة إلى حد ما، لذلك تأتي هذه الدراسة لتستفيد من هذا وذاك محاولة الإلمام برؤية غولدمان لفائدة القارئ العربي. وسنبدأ من حيث بدأ غولدمان، فقد أسس نظريته على النقد الذي قدمه لأستاذه (لوكاتش)، فلم يحفل كثيرا بالواقعية الاشتراكية أو النقدية، اهتم بكتاب من خارج دائرة اهتمامات أستاذه، ولم يفهم الأدب في العصر الحديث ضمن النظرة الكلاسيكية لعلم الجمال متجاوزا الثنائية التي تتناول دوما الأدب من منظور الواقعية والمثالية. ورأى بأنها لم تعد صالحة على الناقد المتمرس الابتعاد عنها. ومع ذلك يعود في كثير من الأحايين وهو يبني نظريته إلى أعمال (لوكاتش)، خاصة في تحديد منهجه البنيوى التكويني؛ وبالتحديد الأعمال الأولى"الروح والأشكال، نظرية الرواية، التاريخ والوعي الطبقي"، ففيها وجد العناصر الجمالية الثلاثة: الشكل والبنية والشمولية، مستبدلا مفهومي الشكل والشمولية بالبنية الدلالية.

إن القارئ لجهود غولدمان يجد معالم متكاملة لنقد سوسيولوجي، استند في تأسيسه إلى أعمال (لوكاتش) معيدا صياغة أفكاره بنوع من الدقة والإحكام، إضافة إلى مفاهيم جديدة أعطت مظهرا جديدا لسوسيولوجيا الرواية؛ يتميز بالمرونة في إطار المبادئ الفلسفية الأساسية للمادية.على هذا الأساس يرى أن الأعمال الأدبية تقوم على أبنية عقلية للجماعات أو الطبقات؛ وليس الفرد فقط، إذ تبنيها هذه الأخيرة وتهدمها باستمرار في عملية تعديل توجه لصورها العقلية الخاصة بالعلم؛ يرفضها الواقع المتغير؛ وتبقى تلك الصور كاملة في شكلها خامات في وعي الطبقات حتى تحظى بكاتب عظيم، يعيد صياغتها في رؤية للعالم متكاملة. ويظهر هذا في كتابه "الإله الخفي" حينما وجد علاقة تربط تراجيديا (راسين) وفلسفة (باسكال) بالحركة الدينية الفرنسية المسماة "جنسينيةJansenism "2.

لذلك دعا إلى ضرورة الاهتمام بالحركة المتواصلة من النص إلى المجتمع، ومن المجتمع إلى النص، دليلا على مدى تأثير المجتمع في تكوين العمل الإبداعي؛ فكان من الواجب تناول إي عمل باعتباره نتاج المجتمع؛ وتشكل هذه العلاقة الفكرة الأساس عند غولدمان، تكمن قيمتها في الدور الذي تؤديه الوقائع في العمل الأدبي. ويجمع غولدمان بين الفكر الماركسي والفكر البنيوي، لتحديد منهجه؛ فمن جهة تهتم الماركسية بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية، كمؤثرات في الإنتاج الأدبي، ومن جهة أخرى تهتم البنيوية ببناء النص فقط، ويظهر أنه يجمع بين الشكل والمضمون؛ أي بين بنية النص والعوامل الخارجة عنه، والمؤثرة فيه، من منطلق أن الكاتب يتأثر بالواقع الذي يعيش فيه؛ يتجلى هذا الشكل إما على هيئة توافق بين الكاتب والواقع، وإما في شكل رفض، وإما يصير تركيبا للأفكار الكامنة في ذلك الواقع. ويسجل في كتابه"من أجل سوسيولوجيا للروايةPour Une Sociologie Du Roman"، نقاطا أربعة لفهم العلاقة بين الواقع والعمل الأدبي هي:

1. إن النتاج الأدبي ليس انعكاسا ساذجا للوعي الجماعي الواقعي، بل يميل إلى بلوغ درجة من الانسجام، تعبر عن طموحات وعي الجماعة التي يتحدث الكاتب باسمها، ويمكن تصور هذا الوعي كحقيقة موجهة من أجل الجماعة المذكورة على نوع من التوازن في الواقع الذي تعيش فيه3.

2. إن العلاقة المجودة بين الوعي وبين الأعمال الإبداعية الفردية الكبيرة، أدبية كانت، أم فلسفية، أم لاهوتية، لا تكمن في شكل تطابق تام في المحتوى، ولكنها تتجلى في نوع من الانسجام على مستوى أعلى من التطابق على مستوى البنيات، لأن الأعمال الإبداعية تكون مضامينها في صورة صياغة مجازية، تختلف كثيرا عن المضمون الواقعي للوعي الجماعي.4

3. العمل الأدبي الذي يقابل بنية فكرية لجماعة ما، بإمكانه أن يكون في بعض الحالات تماثلا دقيقا، ينطوي على علاقة بسيطة بين العمل الفكري، وهذه الجماعة؛ فالميزة الاجتماعية للعمل الأدبي تكمن على الخصوص في كون الفرد ليس بمقدوره وحده فقط تكوين بنية فكرية منسجمة، تقابل ما يسمى برؤية العالم، لأن مثل هذه البنية لا تتكون إلا من طرف جماعة، أما الفرد فبإمكانه نقلها إلى مستوى أعلى أكثر انسجاما، وتحويلا إلى مستوى الإبداع الخيالي للفكر النظري.5

4. إن الوعي الجماعي ليس حقيقة أولية، ولا حقيقة مستقلة، بل هو وعي يتكون ضمنيا ضمن السلوك العام للأفراد المشاركين في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ... إلخ.6

مثل هذه النقاط تقودنا ليس إلى الاهتمام بالعلاقة القائمة بين النتاج الأدبي، والوعي الجماعي الكائن، بل إلى ربطه بالوعي الجماعي الممكن؛ فيغدو العمل عظيما إذا عبر عن الطموحات القصوى للجماعة، التي منها استعار مضامينه كما سبق وأشرنا. وتعطي النقطة الثانية العمل استقلالية نسبية محتفظة له بخصائصه الجمالية، التي تميزه عن غيره من الأعمال، لأنه كما قلنا ليس بالضرورة أن يطابق مضمونه السطحي مضمون فكر الجماعة التي يعبر عنها، بل يوظف المجاز ليتميز عن الواقع، ويشكل عالما من العلاقات في إطار عمل خيالي. تكشف الدراسة عن مستوى آخر هو البنية العميقة التي تقترب في تركيبها من فكر الجماعة المعبر عنها، هنا تكمن أهمية المنهج التكويني، المفتاح الذي يوصلنا كقراء إلى البنية العميقة، التي يمكننا تحليلها بعد مقارنتها بفكر الجماعة، التي أخذ منها ذلك المضمون. أما النقطة الثالثة فتمكننا من معرفة طبيعة العلاقة بين مضمون الإبداع والانتماء الاجتماعي للكاتب، وهي علاقة ظلت زمنا آلية عند النقاد الجدليين، إلى أن كشف غولدمان تجوز (بلزاك) لانتمائه الأرستقراطي، ليعبر عن جماعة أخرى لا ينتمي إليها. ويمكن القول باختصار أن هذه الملاحظة التي أشار إليها غولدمان تؤكد أن العمل الأدبي ليس عملا فرديا، بل هو نتاج وعي الجماعة.

هكذا لا يمكن عزل أي عمل عن السياق الثقافي، الذي نشأ وتطور فيه، ويصير فهم أي مسألة خاصة، لا يتم إلا من خلال الإطار العام المحيط بها، وتاريخ المجتمع الذي أنتجها؛ ويصير أيضا العمل الفردي عملا مشاركا في فهم التاريخ العام؛ لأن تفاصيله تساعد على إدراك الوضع الشمولي لأي مجتمع كان. ومن هذا المنظور تتضح البنية التي يتبناها غولدمان، تلك المرتبطة بالأعمال والأفعال الإنسانية؛ يقدم فهمها جوابا عن وضع إنساني ما، لأنها تمثل التوازن الفاعل وفعله، والأشخاص والأشياء؛ فتأخذ سمة التكوينية، وهي الدلالية، وإن لم تعد إلى نشأة العمل. وهو مصطلح يحاول من خلاله غولدمان إقامة توازن بين الوضع الخارجي والوضع الداخلي الخاص بالإنسان، يتغير من جماعة إلى أخرى، ومن مجتمع إلى آخر. ويرى أن السمة الجماعية تصبغ  العمل الأدبي، تربطهما علاقة عضوية، هي نفسها يقترحها غولدمان على البنى الذهنية المتحكمة في الجماعة والفرد على السواء؛ تتميز بكونها ذات بعد جماعي، تشبه العلاقة بين العضلات والحركات، وبين العين والرؤية. من ثم يكون فهم العلاقة بين الأدب (الفرد) وتلك البنى محور عمله (الجماعة) بوساطة الدراسة البنيوية التكوينية7.

يقول غولدمان: «إن المشكلة الأولوية التي كان يتوجب على سوسيولوجيا الرواية تناولها هي مشكلة العلاقة بين الشكل الروائي نفسه، وبين الوسط الاجتماعي الذي تطور هذا الشكل داخله، أي بين الرواية كتنوع أدبي، والمجتمع الفرداني الحديث»8؛ وتكون الدراسة السوسيولوجية أسهل مع الأعمال الكبرى، من أجل استنباط العلاقات الضرورية بالوحدات الجماعية، وكشف تركيبها؛ هذه الوحدات مجموعة علاقات معقدة، مركبة لدى الفرد؛ والتعقيد السيكولوجي للفرد نتاجه انتماء الأفراد إلى جماعات مختلفة، تؤثر على وعيهم، وتشارك في تشكيل بنية فردية معقدة غير متماسكة تماما. في حين تثبت دراسة الأفراد من الجماعة نفسها، أن مختلف الجماعات قد أثرت في هؤلاء، تلتقي العناصر السيكولوجية، وتتشكل بالتبادل، فنكون أمام بنية أكثر تماسكا وبساطة9. في هذا الإطار تكون العلاقة بين الكاتب الكبير والجماعة الاجتماعية، التي تجد نفسها بوساطة الكاتب ذاته هي المنتج الحقيقي للعمل، وهي من جنس العلاقات بين عناصر المبدع، هي ذاتها علاقات بين عناصر البنية الذهنية، ينتمي مجموعها إلى نمط ذهني واحد، ويعني هذا أن العلاقة بين الأعمال الكبرى والمجموعات الاجتماعية كمنتج تثبت أن هذه الأخيرة هي المنتج الأصلي للعمل الفني10.

لقد أكد غولدمان: «أن الموضوعات الحقيقية للإبداع الثقافي هي المجموعات الاجتماعية وليس الأفراد معزولين، ويعترف بأن الإبداع الفردي يعد جزءا من إبداع الجماعة، وقد ذكر أنه لا حاجة أن يكون المرء عالم اجتماع لكي يعلن بأن الرواية بوصفها وقائع اجتماعية تعكس المجتمع المعاصر، وهكذا نجد بدلا من طرح الهوية بين الواقع الاجتماعي ومضمون الأدب الروائي أنه براهين بنية الوسط الاجتماعي والشكل الروائي، إذ ثمة تساوق بين الشكل الأدبي للرواية والعلاقة اليومية التي يقيمها الناس مع المنافع، ومع الناس الآخرين»11. ويذهب إلى أن الأدب لا يعكس المجتمع بطريقة شفافة، بل يفعل ذلك من خلال وجهة نظر، بما أنه ذو دلالة، ولما كانت الرواية نوع من الطموح، فهي دلالة أيديولوجية تعبر عن المحيط الذي توجد فيه. «وفي اعتقادنا أن سوسيولوجيا الأشكال الأدبية تستطيع أن تتجه إلى فحص مفهوم الأدب والأيديولوجيا التي تدعمه بعناية .. إننا لا نستطيع دراسة وظيفة الأدبي الخاصة به، والمعاناة الأيديولوجية في النص وبوساطته، إلا انطلاقا من الكشف عن حدود الأدبي في عصر معين»12.

يقودنا ذلك إلى الحديث عن المنهج البنيوي التكويني، الذي يعتبر الوصول إلى الأيديولوجي في العمل الأدبي، لا يتم إلا بتحليل البناء الشكلي دون الوقوف عند حدود الشكل، كما هو شأن بعض المناهج الحديثة، بل يتجاوزه إلى محاولة فهم الأيديولوجي والاجتماعي. هذه العملية تجعلنا نميز بين ما هو جوهري، وما هو عرضي داخل العمل؛ فيتوجب على الباحث التعامل معه ككل متماسك، لذا يبحث غولدمان عن وسيلة تمكنه من تحقيق هذا التميز،  يجدها في مفهوم رؤية العالم13.على أساس الافتراض القاضي بأن العمل الأدبي ذو طابع جماعي يقدم غولدمان منهجه، حيث يبدأ خطوته الإجرائية بتقطيع العمل إلى حد يصير فيه الموضوع مجموعة من التصرفات ذات الدلالة، وبناء على ذلك يتم البحث عن الذات الفردية، أو الجماعية التي أعطت البنية الذهنية المنتظمة دورها الوظيفي الدال، ويستوجب ذلك التركيز على النص أولا، مع الأخذ في الحسبان انتماء الكاتب إلى جماعة معينة، عن طريق كشف العلاقة بين النص والبنى الذهنية التي استمدها الكاتب من الجماعة المحيطة به. وما دام العمل الأدبي تعبير عن وجهة نظر للعالم، فهو واقعة اجتماعية تعبر به جماعة ما عن تصوراتها التي تؤثر بدورها في الكاتب، لتظهر في إنتاجه الأدبي، تكون النتيجة أن العمل الأدبي إنتاج جماعي، وليس فردي14.

تخالف هذه النظرة ما سبقها من الدراسات السوسيولوجية، التي رأت أن العمل الأدبي انعكاس مباشر للوعي الجماعي، بينما ترى البنيوية التكوينية في العمل العامل الذي من خلاله تعي الجماعة ما تفكر فيه، وتشعر به، مع معاملتها العمل الأدبي دون إدراك موضوعي لمدلولاته،؛ أي أن العمل ما هو إلا رؤية للعالم، وهو سبب نجاح البنيوية في تناول الأعمال الكبرى، بينما تنجح الدراسات الأخرى في دراسة الأعمال المتوسطة. على هذا الأساس يرفض غولدمان الدراسات التي تتناول العوامل الخارجة عن النص؛ مثل سوسيولوجيا الكاتب، وسيرته الذاتية الخاصة، فكل ذلك ليس بإمكانه تقديم أي مدلولات عن الأدب، وخطابه الأيديولوجي، وهو الأساس ذاته الذي يقدم من خلاله نظريته على أنها «نظرية معتدلة متوازنة، استطاعت أن تتمكن من النص دون أن تستغني عن الأيديولوجيا أو علم الجمال في الوقت نفسه، وقد وضح هذا التوازن في استفادة غولدمان من أستاذيه جورج لوكاتش وميخائيل باختين، إذ أخذ عن ماركس وهيجل وفرويد وآدلر وغيرهم، دون أن يفقد استقلاله وقدرته على بيان خصوصيته»15. ولكي يطبق نظريته على النصوص الأدبية، حدد جملة من المصطلحات والمفاهيم التي تحكم العمل الأدبي وهي:

أ‌ ـ رؤية العالم:

لقد صاغ غولدمان منذ عام1947 مسلمة أسست منهجه، تكمن في أن العنصر الأساس للمادية التاريخية في دراسة الأدب، هو اعتبار الأدب والفلسفة تعبيرا عن رؤية للعالم، تعبر بدورها عن وقائع جماعية، وليست فردية. في هذا المقام تكون رؤية العالم هي وجهة نظر منسجمة وواحدة تخص الواقع كاملا، وهي وجهة نظر النسق الفكري لجماعة يعيش أفرادها شروطا اقتصادية واجتماعية وسياسية واحدة؛ يعبر الكاتب عن النسق ذاته بدلالة كبرى، يتوجب على التحليل الجمالي المحايث استخراج الدلالة الموضوعية لهذا العمل، ويكشف عن علاقتها بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية؛ فبقدر ما تكون القيمة عظمى، وتحكم المنهج في أداء وظيفته يتحقق فهم العمل بذاته، ويتم إدراك رؤيته للكون التي لا تزال في طور التكوين بالكاد تبرز في وعي الجماعة.16  حيث يرى غولدمان أن الجماعة تضع البنى، التي تعطي التاريخ معنى، وهي أي الجماعة كغيرها محكومة ببنى ذهنية قبلية، تصبح في شكل رؤية للعالم، رؤية محكومة أيضا بالجماعة ذاتها التي ينتمي إليها الأفراد. إنها مجموع مركب من الأفكار والطموح والأحاسيس، التي تربط أفراد الجماعة المتعارضة في الآن مع جماعة أخرى.17

بهذا المفهوم تتجاوز الرؤية للعالم العمل الفردي ـ الذي يزيد تمثيله لها كلما تطورت إمكانات المبدع المعرفية القارة في اللاوعي ـ فتصبح أساس رؤية الجماعة التي يصفها الكاتب وينقلها من وعي قائم إلى وعي ممكن في العمل الأدبي، وهي عند غولدمان وسيط بين الجماعة والإبداع، أكبر من أن تكون مجرد إنعكاس لرؤية العالم. إنها نسق من الأفكار والمشاعر كما سبق الذكر. نقرأ هذه الفكرة في كتابه "الإله الخفي" حيث تظهر رؤية العالم أداة مفهومية : «إنها على وجه التحديد هذا المجموع من التطلعات والعواطف والأفكار، يجمع أعضاء جماعة ـ هم في الغالب أعضاء طبقة اجتماعية ـ ويضعهم في مقابل جماعات أخرى، وهو لا شك تخطيط وتعميم المؤرخ؛ لكنه تعميم فكرة حقيقية لدى أعضاء جماعة تعمل على تحقيق وعي الطبقة بطريقة أكثر أو أقل وعيا وارتباطا»18. وبذلك يكتسب العمل الأدبي وظيفة داخل المجتمع، وهي إعطاء رؤية كونية، تكون أكثر انسجاما وارتباطا، كلما كانت تلك الوظيفة ذات أهمية أكبر. والانسجام قيمة جمالية تدفع بالاجتماعي ليكون منسجما وواقعيا بالقوة؛ هنا نكون إزاء فكرة ارتباط الحكم الجمالي ارتباطا وثيقا بالتحليل الاجتماعي؛ هكذا يؤسس غولدمان جمالية علم الاجتماع.19

يعتبر مفهوم «رؤية العالم» عنصرا أساسيا في تشكيل البنيوية التكوينية نظريا، وإجرائيا، يعرفهاغولدمان في موضع آخر بقوله إنها: «تقييم البنى الفكرية الواقعية إلى أقصى حد للاتحام القوى الواقعية والعاطفية والفكرية، وحتى المادية، لأعضاء جماعة ما؛ إنها مجموع نهائي للقضايا والحلول التي تظهر في المستوى الأدبي عن طريق الخلق بوساطة الكلمات، وعالم مرتبط بالكائنات والأشياء».20 ثم يستنتج من التعريفين الأول والثاني نقطتين هامتين:

1. الرؤية للعالم تتعدى كونها رؤية فردية.

2. الرؤية للعالم هي النوع الأدبي والأسلوب والتركيب والصور والتقنيات الفنية، التي وظفها الكاتب من أجل التعبير.21

ويمكن القول أن مفهوم الرؤية للعالم نمط من التفكير يحكم في شروط معينة جماعة من الناس، تعيش الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ذاتها، تتميز بالشمول، وتتضمن طموح الجماعة، وعناصرها العاطفية والفكرية، إنها جزء من طبيعة العمل الأدبي. ويضيف غولدمان عنصر الانسجام ـ أساس جميع أعماله ومنهجه ـ  معتبرا إياه من العناصر المشكلة للقيمة الجمالية في العمل الأدبي، ويتفرد بكونه مقياس للأعمال العظيمة.22 ومن ثم فإن عنصر الرؤية للعالم يحضر أكثر في الأعمال العظيمة أدبية أو فلسفية، لأنه يتميز بالانسجام، حاملا قيما جمالية وفكرية؛ فلا يكون الكاتب عظيما إلا إذا حقق عمله الانسجام على مستوى الرؤية، مادام شرطها في تجاوز الوعي الجماعي. إن الرؤية للعالم هي وسيلة الباحث في إدراك الانسجام الكلي، الذي يميز الأعمال العظيمة عن الأعمال المتوسطة، الأقل انسجاما في تمثيلها للرؤية للعالم، فيكون الحكم على العمل انطلاقا من مدى تحقيقه لهذا الانسجام. ولإدراك الرؤية للعالم عند كاتب ما، يتعقب غولدمان جميع أعماله، باعتبار أن الكاتب يمر بمراحل، يتطور فيها، وينضج، وبالتالي رؤيته للعالم، إلى أن تكتمل في صورة ناضجة؛ ولو اقتصر الباحث على بعض الأعمال فقط، فإن رصد الرؤية للعالم عند هذا الكاتب، ستكون ناقصة، غير واضحة. نفهم من هذا أن الرؤية للعالم تتخذ من الواقع وتكوين الكاتب مرجعا لها، تشمل مختلف العناصر، كالواقع والنفس وتكوين الكاتب، واللغة، والعلامة، يكون تحليلها مزيجا من الطرائق؛ لذا تتقاطع البنيوية التكوينية مع كثير من العلوم الحديثة، إضافة إلى المناهج النقدية، من هنا تستمد قيمتها كوسيلة لتحليل العمل الأدبي.

هذا المفهوم جعل غولدمان يتجاوز رؤية (ماركس) القائمة على الانعكاس المباشر والبسيط، وبما أن وعي الفرد ووعي الجماعة متداخلان، فإن الرؤية للعالم المنسجمة تشكل ذروة الوعي الممكن، يكون خطاب الكاتب الفرد وخطاب الجماعة المنتجة عنصرا أساسا في تكوين هذه الرؤية، أو عنصرا مساعدا. هنا تكمن خصوبة النص بالنسبة للمحلل في ميدان سوسيولوجيا الأدب. إن الناقد وهو يرصد الرؤية للعالم يهتم بالعناصر الجوهرية في النص، ودلالة العناصر الثانوية، وينظر إلى العمل نظرة شمولية، لا تقصي أي عنصر عاطفي كان أم اجتماعي أم فردي أم نفسي، فكلها كما أوضح غولدمان تؤدي إلى تكوين الرؤية للعالم، ومن ثم فإن «كل عمل أدبي عظيم هو تعبير عن رؤية للعالم، التي هي ظاهرة الوعي الجماعي الذي ينير المفاهيم أو الأحاسيس في وعي المفكر أو الشاعر، اللذان يعبران عن ذلك في الأعمال التي يدرسها المؤرخ، مستعينا بالأدوات المفاهمية، وهي الرؤية للعالم، المعبر عنها في النص، إذ تسمح له باستنباط ما هو أساسي في العمل المدروس، إلى جانب دلالات العناصر الثانوية في مجموع العمل».23

ب‌ ـ  الوعي الفعلي والوعي الممكن:

الوعي الفعلي هو الذي ينجم عن الماضي بجميع أبعاده وظروفه، حيث تحاول كل مجموعة اجتماعية فهم الواقع انطلاقا من ظروفها الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والدينية؛ بينما الوعي الممكن هو ما تطمح طبقة اجتماعية إلى بلورته بعد تعرضها لتغيرات مختلفة، دون أن تفقد طابعها الطبقي.24 يخضع الأول في وجوده للحاضر خلال مرحلة معينة، أما الثاني فمجرد إمكانية، ترتبط بالمستقبل؛ إنه ذروة ما قد يصله وعي جماعة مع احتفاظها بطبقيتها. ويمكن القول أن الوعي الممكن يتضمن الوعي الفعلي ويزيد عليه؛ بمعنى أنه يتكون منه، ويتجاوزه ليصير شموليا، لذا يرى غولدمان أنه العنصر المحرك لتاريخ الإنسان.25 وبالتالي فالوعي الممكن هو محرك فكر الجماعة، يشكل حاضرها ومستقبلها فـ«النتاج الأدبي ليس انعكاسا بسيطا لوعي جماعي واقعي، ومحدود، بل الحد الأقصى  للمستوى الذي وصل إليه انسجام أفكار خاصة لجماعة أو أخرى، وعي وجب إدراكه كحقيقة متحركة، موجهة لتحقيق حالة معينة من التوازن؛ وفي هذا المجال يكون ما يميز السوسيولوجية الماركسية عن السوسيولوجيا الوضعية أو النسبية أو الانتقائية، هو اعتبارها المعنى المفتاح، لا يكمن في الوعي الجماعي الواقعي، إنما في الوعي الممكن، الذي يسمح وحده بفهم الوعي الأول».26

انطلاقا من هذا الطرح تصبح أشكال الوعي لدى طبقة ما تعبيرا عن رؤيتها للعالم، يجسدها العمل الأدبي للطبقة ذاتها أو غيرها، فينقلها من الوعي الفعلي المعاش، إلى الوعي الممكن؛ وليس باستطاعة أحد القيام بذلك سوى الكاتب العظيم، ويكون الحد الأقصى من الوعي الممكن لدى طبقة اجتماعية هو دائما رؤية للعالم متماسكة نفسيا، تعبر عن نفسها دينيا أو فلسفيا أو أدبيا أو فنيا، بشرط أن يتحقق التماسك الداخلي المنتج لبنى فكرية منسجمة. يفضي ذلك إلى الحديث عن الانسجام الذي تناوله (لوكاتش) معتبرا العمل الناجح جماليا هو ما دل عن معنى منسجم، في شكل مناسب، يتحقق بتطابق الفردي مع الجماعي، فتعمل كل جماعة على أن تكون لها رؤية للعالم منسجمة ومترابطة؛27 إلى جانب الانسجام هناك الشمولية، التي تتخذ عند غولدمان بعدين: واحد أيديولوجي والآخر علمي. وتتحقق اعتمادا على أسس موجودة في الواقع، بفهم تناقضاته وخصائصه واضطراباته الأيديولوجية، حينها تكون الرؤية للعالم ناجحة، تتجاوز بشموليتها النظرة المحدودة والرؤية الجزئية. ترتكز هذه الخاصية أي الشمولية على التجربة الاجتماعية والتاريخية، الناجمة عن الممارسة والصراع الطبقي، لا تتوفر إلا إذا أخذ الناقد في حسبانه طموحات الطبقة الاجتماعية المحرومة، التي تعد الفاعل والمحرك للتاريخ.28

ج ـ البنية الدلالية:

لكي يحدد غولدمان مفهوم البنية الدلالية، يستند على المبادئ العامة، التي قدمها (جان بياجيه)، في حديثه عن البنية، إذ يرى أنها لا توجد إلا عندما تجتمع مجموعة عناصر في بنية شاملة تتخذ خصائص لبنائها، مع توفرها جزئيا أو كليا على سمات البنية الشاملة، وعليه ينظر إلى العمل الأدبي باعتباره بنية دالة «ترتبط كمجموع عناصر في وحدة شاملة بعنصر الفهم، في علاقتها بالموضوع المدروس، وبعنصر التفسير في علاقتها بالبنيات الأكثر محدودية، والتي هي نفسها العناصر المشكلة لها».29 ومن أجل دراستها يقوم بتجزئتها إلى بنيات دلالية، لا تفهم إلا بكونها هي ذاتها ضمن دراسة بنية أخرى أكبر منها، ودراسة هذه البنية الكبرى تشترط بدورها، وضعها ضمن بنية أخرى أكبر، على علاقة بها، وهكذا.30 ويجنب هذا العمل الدارس الوقوع في فخ التفصيل، فلا يجد البنية الدلالية بل معنى، مجرد تركيب غير واع لبنيات مشابهة، لذلك كان عليه رصد البنيات الدلالية المتماسكة. بناء على ذلك يعتبر غولدمان البنية الدلالية من المفاهيم الأساسية، المؤسسة للبنيوية التكوينية، يتمكن من خلالها الباحث من فهم الصيغة الشمولية للظاهرة الاجتماعية، التي يعبر عنها الأدب، إذ المقصود بهذا المفهوم، هو المعنى الدلالي للبنية الدالة على وعي الجماعة. هذه البنية لا يمكن تواجدها في فكر أعضاء الجماعة، إنما تتواجد في وعيها الجمعي، وفي وعي بعض أفرادها المميزين، فينتج عن التطابق بين الإمكانات البشرية الفردية والوضع التاريخي ما يسمى بالعبقرية، وهي المسألة التي تقاس بها الأعمال الأدبية والفلسفية.31

وتتصف هذه البنيات بحركية، تجعلنا ننظر إلى الأعمال الأدبية على أنها بنيات غير ثابتة، بما أنها تعبير عن نظام وانسجام لموقف أنساني ما، إنها بنية دلالية غير ثابتة يوجه الأفراد إليها وجدانهم وفكرهم وسلوكهم، تتمظهر أكثر في العمل الأدبي.32 تؤدي دراستها إلى كشف الوحدة الداخلية ومجموع العلاقات الأساسية داخل النص؛ إذ يصعب فهمها منفردة بعيدا عن الكل الذي يوحدها مقدما المعطيات التي تشكل رؤية ما للعالم يتضمنها النص. إن مفهوم البنية الدلالية يحقق أمرين؛ الأول يؤدي إلى فهم طبيعة النص، ويكشف عن دلالته، فهو أمر خاص بالفهم، ويمكن الثاني البنية الدلالية من إصدار حكم على القيم الفلسفية، أو الأدبية، أو الجمالية، ليصبح الفهم ذا بعد معياري. ولا تتضح هذه البنية إلا إذا ربطت وبشكل عميق ببنيات أكبر كالبنية الذهنية والرؤية للعالم الخاصة بالطبقات الاجتماعية والبنية الاجتماعية والاقتصادية، التي تنتجها حقبة تاريخية ما. لذلك تتميز الأعمال الأدبية ببنية تجمع عددا من العلاقات الضرورية بين العناصر المختلفة المكونة للأثر، على الدارس النظر إليها في الكل الذي هي جزء منه، وهو ما يحدد وحدة طبيعتها ودلالتها الموضوعية «إن مفهوم البنية الدلالية يعني دراسة البناء في ضوء دلالاته المختلفة، إنها ذات منظور واسع، لا يغفل التحليل الداخلي للنتاج ضمن البنيات التاريخية والاجتماعية، كما لا يغفل دراسة السيرة الذاتية ونفسية الفنان كأدوات مساعدة، ويعو في المقام الأخير إلى إدخال النتاج في علاقة مع البنيات الأساسية للواقع الاجتماعي والتاريخي».33

يدفعنا ذلك إلى الحديث عن عمليتين مهمتين في الدراسة السوسيولوجية عند لوسيان غولدمان هما الفهم والتفسير، نعرضهما ضمن الشروط الخاصة بالمنهج البنيوي التكويني:

1. الفهم والتفسير:

نتجت عما تقدم منهجية مهمة في رؤية غولدمان وهي الفهم والتفسير، وهما مصطلحان متكاملان، يختلفان من حيث الدلالة عن الاستخدام العادي لهما؛ يعد التفسير أوسع من الفهم «يبدو الفهم بالنسبة لنا طريقة ذهنية، تكمن في الوصف الدقيق ما أمكن لبنية ذات دلالة»34؛ أي وصف العلاقات المكونة لبنية دلالية، مع التقيد بالنص دون تخطي حدوده. بينما التفسير هو إدراج بنية دلالية ضمن أخرى أكبر منها، تكون عنصرا مشاركا في تكوينها، بعبارة أخرى هو إنارة البنية الذهنية للنص في ضوء عناصر خارجية.35 ويوضح غولدمان دلالتهما قائلا: «الفهم قضية خاصة بالتماسك الداخلي للنص، يفترض تناول النص حرفيا، كل النص، ولا شيء غير النص، نبحث داخله عن بنية دالة شاملة؛ أما التفسير فهو قضية خاصة بالبحث عن الذات الفردية أو الجماعية».36 يتوجه الفهم إذا إلى كشف البنية الداخلية للنص، ويهتم التفسير كمرحلة ثانية بربط النص كبنية ببنيات أوسع منه للكشف عن كيفية تكوينها، وتشمل هذه البنيات الحياة النفسية للمؤلف ورؤيته للعالم المتأثرة بجماعته، وهي جميعها تمثل طابع تفسيريا. ويمكن اعتبار الفهم والتفسير طريقة واحدة تتناول بنيتين مختلفتين، فكرة يؤكدها غولدمان في قوله: «يجب الآن أن نذهب إلى أبعد من ذلك؛ إن الفهم والتفسير ليسا عمليتين ذهنيتين مختلفتين، ولكنهما عملية واحدة موجهة إلى معطيات مختلفة .. ويكفي أخذهما كموضوع دراسة بنية شاملة ليصير ما كان تفسيرا فهما، وعلى البحث التفسيري العودة كذلك إلى بنية أكثر اتساعا».37

وإن تعذر الفصل بين الفهم المحايث والتفسير خلال الدراسة، فإنه من الأهمية بمكان الفصل بينهما عند عرض النتائج، حيث الفهم وحده المحايث في النص موضوع الدراسة؛ بينما التفسير لا يتصف بذلك، وتجدر الإشارة أن كل عملية تربط  النص بما هو خارج عنه، تشكل طابعا تفسيريا، إذا نظرنا إليها من هذه الزاوية.38 وينتقل الباحث إلى التفسير بمجرد البدء في دراسته التماسك الداخلي للنص، ومحاولته فهم نموذجه البنيوي. ويرى غولدمان أنه مهما وضحنا الاختلاف القائم بين الفهم والتفسير خلال البحث، وبين الطريقة التي تظهر عليها العلاقة بينهما في نهاية البحث، فإنهما ـ الفهم والتفسير ـ يتعززان خلال البحث بشكل متبادل، إذ يجد الباحث نفسه مضطرا للعودة باستمرار، تارة إلى التفسير، وتارة إلى الفهم والعكس؛ في المقابل يتوجب عليه أثناء عرض النتائج الفصل بدقة بين الفرضيات الفهمية المحايثة للعمل، وبين الفرضيات التفسيرية المفارقة له.39

2. تركيب البنية وتفكيكها:

ينظر غولدمان إلى البنية بصفتها حركية بعيدا عن المفهوم السلبي، الذي يصفها بالسكون، لذا فدراسة أي مجموعة من الأفعال البشرية، تكون من زاويتين متكاملتين، تركيب البنية، من أجل الكشف عن بنية جديدة، وتفكيك البنى القديمة التي تحققت في الماضي، ومثلت طموح الفئة الاجتماعية نفسها. يهدف التركيب إلى تحقيق التوازن والاستمرارية عند الفرد والمجموعة، مع مراعاة العنصر الخارجي، وهو محيط الإنسان، والعنصر الداخلي، وهو سلوك الجماعة، لأنهما يشاركان في تغيير المفاهيم والأفراد، والمواقف.40 «هذا يستوجب، من بين أشياء أخرى تركيبا بين الماضي والمستقبل، بين القديم والجديد، إلا أن هذا التركيب لا يكون حلا وسطا مستمرا أو رجعيا؛ بل هو على العكس استئناف لقيم الماضي للإنسانية والحقيقة من منظور القوى الجديدة التي تخلق المستقبل، إنه استئناف يستطيع وحده العثور على الكلية التي هي القيمة الجوهرية لكل حياة أصيلة للفكر».41 إذا فالعملية تكون بالتوجه نحو تركيب بنية جديدة مغايرة للبنية السابقة عنها، ليصبح الوضع القديم المتماسك والمعقول مفككا، وغير معقول لاحقا. إنه الانتقال من بنية قديمة إلى أخرى جديدة؛ أي تفكيك بنية، ثم تركيبها لتخلق وضعا جديدا.

3. النوايا المعلنة للكاتب:

يدرس غولدمان هذا العنصر بالنظر إلى الكاتب على أنه ليس مادة مواتا تماما؛ إنما يتضمن علاقة إنسانية فنية تتمثل في نية الاتصال بين العمل الأدبي والقارئ المحتمل، لا يكون فيها التلقي سلبيا صامتا، حتى لا تجعل من الكاتب مادة مبهمة، ويحول القارئ شيئا غير متفاعل، إن العلاقة هنا «ليست بين إنسان (الكاتب) وشيء (القارئ غير المتفاعل) أو بين شيء (الكاتب) وشخص (القارئ العادي المتمتع بنوايا حسنة)، وإنما بين شخص وشخص (كاتب/ قارئ)، أي أنها فاعلة وإيجابية».42 هكذا يكون العمل الأدبي كفعل اتصال في ذاته، من منطلق أن الكلام له مرجعية وصدى، يجعلانه يتجاوز العزلة، فيكون كل تلق هو فعل ونشاط ومشاركة، رؤية تجعل من التفاعل الجماعي محور العمل الأدبي المنتمي للجماعة التي أنتجته، وهي علاقة الخلفية الثقافية والفنية لتلك الجماعة، ذلك أن الشخصية الأكثر قوة كما يؤكد غولدمان «هي التي تتطابق بكيفية أفضل مع حياة الفكر، أي مع القوى الجوهرية للوعي الاجتماعي في مظاهره الفعالة والمبدعة»،43 بشرط أن يتصف العمل الأدبي بالفاعلية والإيجابية، ومن ثم نحصل على قارئ فعال، حينما يفهم الواقع من خلال العمل الذي يتلقاه.

4. البنية الضامنة والمضمونة والبنية المستقلة:

يلخصها غولدمان في قوله: «إن المعرفة الفاهمة والمفسرة لوقائع الوعي ولدرجة تلاؤمها أو عدم تلاؤمها، ودرجة حقيقتها أو خطئها، لا يمكن الوصول إليها إلا بإدراجها ضمن كليات اجتماعية أكثر اتساعا نسبيا، وهذا الإدراج وحده يسمح بفهم دلالة تلك المعرفة وضرورتها».44 ويعتبر هذه المقولة من أسس الفكر الجدلي، باعتبار أن التغير التاريخي يحدث تراكما عبر تاريخ البنية، أي يضيف بنية جديدة على أخرى قديمة مع تسليط الضوء على البنية الجديدة. وتتمظهر البنية الضامنة في ثلاثة أشكال هي تاريخ الأدب وسيرة الكاتب والفئة الاجتماعية التي يرتبط بها العمل الأدبي المدروس.45

5. تجزئة الموضوع المدروس:

وهي مرحلة في البحث مهمة إذ تعتمد أي دراسة ذات قيمة علمية على تحديد الموضوع المدروس وعلاقته بالنتائج المتوصل إليها، فلا ينطلق الباحث من مواضيع محددة فتأسره، وتكون هي بدورها النتائج، يعمل على التدليل عليها، وهذا خطأ منهجي؛ لذلك عليه أن يبدأ من فرضيات دون اعتبارها نتائج أو مسلمات إنما تعد موضع شك، والمقياس هو المعنى؛ «يجب أن نذهب دائما من الفكرة بأن كل واقع إنساني مؤلف من علمية هيكلية ذات دلالة وأن التجزئة الصحيحة للموضوع:

أ. بإمكانية فهم المعاني التابعة لأكبر عدد من المعطيات التي لم تفهم حتى ذلك الحين كأنها جزء من المسألة.

ب. بمجرد أننا إذا اعتبرنا أن البحث متقدم بدرجة كافية فإنه يقدم لنا عندئذ مجمل عناصر الموضوع المدروس تقريبا وعلاقات التقارب والتباعد التي بينها46. مانريد الوصول إليه من خلال عرض رؤية لوسيان غولدمان في موضوعنا هذا، هو تأكيده على العلاقة بين الرواية والوعي الممكن للجماعة التي تتخذ المبدع وسيلة تعبر من خلاله عن نفسها، ومن ثم فكل دراسة تربط بين الرواية والواقع الراهن للجماعة، إنما تقع في خطأ منهجي، لأن العمل الأدبي كما بين غولدمان هو تعبير عن طموح الجماعة التي ينتمي إليها أي الوعي الممكن لها. إن غولدمان في تأسيسه للنقد السوسيولوجي المسمى بالبنيوية التكوينية، ينطلق من فرضية «أن العلاقة بين حياة المجتمع والخلق الأدبي لا تتصل بمضمون هذين القطاعين من الواقع الإنساني عموما، وإنما تتصل بالأبنية العقلية أساسا، أي يمكن أن يسمي المقولات التي تشكل الوعي الإمبريقي لمجموعة اجتماعية بعينها وبالعالم التخيلي الذي يخلقه الكاتب».47

يتمسك غولدمان بمبادئه الجدلية التي نلمحها في دراساته التي تركز على الوعي الممكن كوسيط بين الرواية والواقع الاجتماعي. وهي النقطة التي فتحت عليه بعض الملاحظات من طرف أصحاب سوسيولوجيا النص الأدبي، خاصة تركيزه على الأسس الفلسفية التي تحكم علاقة الرواية بالوعي والواقع، رغم تأكيده على دراسة النص الروائي من الداخل، وتحليل بنيته الداخلية كمرحلة أولى في منهجه، وهو ما سماه بالفهم، لأنه لم يطعم هذه المرحلة الشكلية بأدوات إجرائية تنضج الفهم، وراح يستسلم للحدس الخاص في الكشف عن البنية الدالة للنص. وفي الحقيقة كان غولدمان يتبع خطى أستاذه (لوكاتش) عموما، مع تجاوزه بإدراج الدراسة الداخلية للنص كمرحلة من مراحل دراسة الرواية، دون ربطها بما هو خارج عنها، حيث أرجأ ذلك إلى مرحلة لاحقة هي مرحلة التفسير، وإعطاء الأسبقية في التحليل لدراسة البنية الداخلية للنص الروائي يعتبر تقدما كبيرا في إطار النقد الجدلي نحو الاهتمام بخصوصية الإبداع الأدبي، وإدراك ضرورة التعامل معه بأسلوب يخالف تعاملنا مع أنماط الفكر الأخرى كالفلسفة والأيديولوجيا، وكل هذا جعل المنهج البنيوي المطبق على الرواية خاصة تصورا نقديا شديد المرونة، والاحتياط في التعامل مع الإبداع، ولعله السبب في جعل رولان بارت رغم ميوله النقدية المخالفة، يرى في منهج غولدمان أكثر المناهج مرونة ومهارة  في التاريخ الاجتماعي والسياسي.48

                                                              

قسم اللغة العربية وآدابها جامعة تبسة ـ الجزائر   

الهوامش:

1. جمال شحيد : في البنيوية التركيبيةدراسة في منهج لوسيان غولدمان، دار بن رشد، بيروت ط2/1982 ص 75 2–

رمان سلدن: النظرية الأدبية المعاصرة تر جابر عصفور ص 66.

2. الجنسينية مذهب ديني خاص بأتباع جنسين(1585-1636) أسقف (إريس) الذي آمن بالجبر، وأنكر الإرادة الحرة للإنسان، وقد تأثر الفيلسوف (باسكال 1622-1662) بهذا المذهب، وصار مشابها له، أنظر المرجع السابق ، الهامش ص67.

3. Lucien Gold;an Pour Une Sociologie Du Roman ID Gallmard p.41

4. Ibid

5.  Ibid, p.42

 6. Ibid

7. جمال شحيد: في البنيوية التركيبية دراسة في منهج لوسيان غولدمان، ص78

8. لوسيان غولدمان: مقدمات في سوسيولوجيا الرواية، تر بدر الدين عكرودي، دار الحوار والتوزيع، سورياط1/1993 ص21

9. المرجع نفسه ص232

10. المرجع نفسه ص232

11. جان إيف تادييه : النقد الأدبي في القرن العشرين تر منذر عياشي ص 130

12. جان لوي كابانس : النقد الأدبي والعلوم الإنسانية، تر فهد عكام، دار الفكر، سوريا ط1/1982 ص85

13. صالح سليمان عبد العظيم: سوسيولوجيا الرواية السياسية، الهيئة المصرية العامة للكتاب_د نة ط) 1998 ص54

14. لوسيان غولدمان : مقدمات في سوسيولوجيا الرواية، تر بدر الدين عرودكي ص334

15. مدحت الجيار : النص الأدبي من منظور اجتماعي، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية (د ن ط) 2001 ص55

16. جان إيف تادييه: النقد الأدبي في القرن العشرين تر منذر عياش ص128

17. ميجان الرويلي وسعد البازعي : دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، الدارا البيضاء ط2/2000 ص 43

18. Lucien Goldman : Le dieu caché, Ed, Gallemard 1959, p. 26

19. جاك لينهارت: دفاعا عن جمالية تستلهم علم الاجتماع، محاولة لبناء الجمالية لدى لوسيان غولدمان، تر فهد عكام، الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العرب دمشق ع 112 آب 1980 45

20. Lucien Goldman: Le dieu caché p349

21. Ibid.

22. Lucien Goldman: Le dieu caché p28                                              

23. جاك اينهارت : دفاعا عن جمالية تستلهم علم الاجتماع  ص45

24. جمال شحيد: البنيوية التركيبية ص40

25. المرجع نفسه : ص 41

26. Lucien Goldman:Pour une sociologie du roman p41

27. جمال شحيد: في البنيوية التركيبية ص 43

28. المرجع نفسه ص 43- 44

29.  Lucien goldman: Marxisme et sciences humaines, Gallmard 1970 p21

30.        Ibid, p. 19   

31. جمال شحيد: في البنية التركيبية ص80

32. محمود علي البدوي: علم اجتماع الأدب ص 182

33. المرجع نفسه: ص183

34. لوسيان غولدمان : المنهجية في علم الاجتماع الأدبي، تر مصطفى المنشاوي، دار الحداثة، بيروت ط1/1981 ص16

35. جمال شحيد : البنيوية التركيبية ص 84

36. sciences humaines p62 Lucien Goldman: Marxisme et

37. Ibid p65-66

38. لو سيان غولدمان : المنهجية في علم الاجتماع الأدبي ص 18

39. لوسيان غولدمان : المنهجية في علم الاجتماع الأدبي ص 18

40. المرجع نفسه ص 24

41. لوسيان غولدمان : البنيوية التكوينية ص28

42. جمال شحيد: في البنوية التركيبية ص86

43. لوسيان غولدمان : النيوية التكوينية ص19

44. – المرجع نفسه:ص 36

45. جمال شحيد في البنيوية التركيبية ص89

46. المرجع نفسه ص90

47. لوسيان غولدمان : علم اجتماع الأدب، تر جابر عصفور، فصول في النقد، ع 2 يناير1981، ص102

48. حميد لحميداني : النقد الروائي والأيديولوجيا ص71